الثلاثاء، 30 نوفمبر 2010

أسباب عيش الإسلام، الطريق الوسط


الطريق الوسط


    في كل زمان، حاول الإنسان تفهم و التفكير في مصيره، بهدف إعطاء معنى لحياته، و موته المحتم، و يجيب على القلق الحاصل حول استفهامات ما بعد الموت.

   فمهما غصنا عميقا في تاريخ الإنسانية، سنجد آثار معتقدات و طقوس، لأن الإنسان مدفوع بحاجة جبل عليها، إلى ربط تفكيره ببعد مقدس أو ديني أو روحي. أَوَ ليس هذا الإرث الإنساني المتوغل في القدم هو تعبير عن بحث متواصل لمعرفة ما لا يعرف؟ فالإنسان ضمن رؤيته الجزئية للحقيقة، عبد عناصر الطبيعة و خلق أصناما و ألّه رجالا و ابتكر طقوسا سحرية و تصورات و ديانات... و لكن أوَ ليس الإنسان في واقع الأمر، هو فيض رغبة متواصلة لتحقيق التوحيد المتسامي في ذاته؟ و هو رباط يصل حياته بالأبدية متجاوزا الموت؟ تلك الأبدية التي هي منبع كل كشف و تجل.

    إن الدين، فيما يملك من جوهر، الروحانية، لا يكون له معنى إلا إذا أعاد ربط الإنسان بحضرة الإطلاق. فهو يدعوه من خلال تجربة حية و حميمية، توفق بين الروح و الجسد، إلى التيقظ على الحقائق اللطيفة. فإنها تسمح له ببلوغ توازن و انفتاح كينونته.
  
    .... بالنسبة للتصوف، لا يكون للإنسانية معنى إلا بالإعتراف، و تجديد العهد الأولي المبرم في الأزل بين الإنسان و الله. « ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ». القرآن الكريم.

    .... تحتضن الروحانية كل المجالات التي تمس الإنسان و المجتمع. يمكن أن تتصرف في الكل، في الوقت نفسه، بواسطة السياسة، و الإجتماع، و الإقتصاد، و العلمي إلخ. كل ما يهم الكائن و المجتمع يهم الروحانية.
    إن حقل الروحانية هو حقل السياسة، و هما مظهران يلتقيان و يكتملان في الفعل و التربية المدنية للشخص. إذا كانت السياسة تعني إدارة شؤون دنيا الناس (في الخارج)، فالروحانية تهتم بإرادتها في الباطن. فهي تدفعنا لاختيار مسلك الخير، والوحدة، والأخوة. و ليس غرضها إقصاء السياسة، بل  تسعى إلى إعطائها معنى، وأن تخلع عليها صفة الإنسانية.

    .... عندما نرى في التاريخ، الحياة التي عاشها أكابر الرجال الروحيين، الذين سجلوا الإنسانية، لم ينجر أي واحد منهم نحو الأعمال الدنياوية لهذا العالم، حتى لا يرتبط و لا يدرس إلا القيم الروحية التي تهم الآخرة.

    كلهم بدون إستثناء دعونا إلى العمل الصالح، و تحسين الوضع البشري بالنيات و الأعمال. بشرط أن نتحلى أولا بالقيم التي نفرضها على الآخرين. إنها طريق الوسط، و تربية الإيقاظ، اللتين تقودان الإنسان إلى التناغم الزمني و الروحي، و تسموان به إلى الشعور الكوني.

    من المحقق أن التجربة الروحية للإنسانية تبقى تحدي كبير للقرن الواحد و العشرين. تسجل هذه الرغبة في بحث و توق الكائن الإنساني لمثل أعلى.

    .... بعد عدة تجارب، و لقاءات، و ندوات، أقيمت في جو غالبه فكري، نستنتج أن تقدم الحوار الديني يتم بخجل. و هذا، حسب رأيي، بسبب أن المؤسسات التي تمثل الديانات تبقى متحفظة.

    يجب أن يستند أساسها على العدالة و الأخوة، و التضامن بين الناس في احترام الإختلافات. هذا ما يمكن أن نقدمه من الجهتين كتعليم يهدف إلى عدالة و تضامن أكبر؟


مقتطفات من مجلة «Panoramiques»، سبتمبر 2003.                                                     

أسباب عيش الإسلام، التصوف


التصوف


    التصوف هو الطريق الباطني للإسلام. هدفه معرفة الله. و الأكثر من ذلك، هو الشعور به تعالى، و تذوقه. لا علاقة للطريق الذي يوصل إلى المعرفة باللاهوت أو الفلسفة. هو أولا، قضية عمل مطبق على النفس، و تربية إيقاظ نحو الحضرة الإلهية.

    ....يأخذنا السفر بعيدا عن قواعدنا، فهو يتيح لنا أن نترك ما قد يكون أحيانا أصبح أثقل من اللازم، و يحبسنا كمعطف من الرصاص يمنعنا من التطور، يقودنا نحو إخواننا الذين يشكلون مرايا لواقع ذواتنا. جميع الأشياء، حتى تلك الأكثر تناقضا و الأكثر بعدا، تلتقي في نقطة واحدة، هذه النقطة هي المركز فينا. أن نسافر، يعني أن نرحل بناء على إدراك مفاده أن كل شيئ إلهي. و إذا كان هذا الوجود الإلهي في داخلي، فإني سأدخل مع الشجرة و الحجرة و مع الأناسي. العالم أجمع عبارة عن مرآة... الإختلافات رحمة. و من ثمّ التسامح الواسع الذي يطبع المتصوفة: فهم لا ينظرون إلى الآخر ككافر، بل كمخلوق من مخلوقات الله، أرسله إلينا كي يكون مرآة لنا. في أعقاب وفاة الرومي، بكى الجميع، يهودا و مسيحيين و مسلمين. نفس الشيئ حدث عند وفاة جدي، الشيخ عدة بن تونس. كان يرى في كل كائن مخلوقا من المخلوقات الإلهية، له واقعه الخاص و عطره الخاص و موجبه الخاص.
    تلعب الموسيقى المٌرفقة بالغناء أو بدونه، دور كبير في التصوف. عند كل ساعة من النهار، و كل لحظة من الحياة، و كل إحساس، فإنها تتوافق مع سماع. يقول الصوفية أن لما خلق الله الكائن « الآدمي » من الطين، لم ترد الروح أن تسكن هذا البدن، إعتبرته سجنا. حتى بعث الله ملكان يلعبان على أنغام الموسيقى لافتتانها. لهذا تجلب الموسيقى للروح نوع من السكر، و السمو، يدعو الإنسان إلى ترك عوائده.
    .... لا يعلن الصوفيون أنفسهم صوفيين ، بل الآخرون هم الذين ينعتونهم كذلك ، لأن تربية اليقظة ليست خاصة بالصوفية، بل نجدها لدى جميع الباحثين عن الحقيقة. إن التصوف ليس مدرسة و لا فقها، بل سلوكا. و الحال أنه مرسخ -هذا ما يجعل خاصيته مقارنة بالطرق الروحية الأخرى- في التقليد الإسلامي. و أقول كذلك أنه قلب الإسلام. على العموم، يَطلبُ بأن يكون المرء مرتبط بتقليد ظاهري، هذا يعني أن عليه دراسة تعليما عاما. هي مسألة سلامة.
    .... إني متأكد من أن إنسان الغد، سيكون مرتبط بتقليد، و لكنه يشعر أنه وريث لكلها. إذا عرفنا كيف نسير الحداثة، يمكن أن ننفذ إلى الكونية. يقال أن في آخر الزمان، يكون للطفل نفس حكمة رجل صلى و ذكر طوال حياته. و يقال أيضا: « أنه سيلعب العجل مع الأسد و الأفعى مع الطفل ». و لكن يقع هذا أولا ببواطننا.

      مقتطفات من «Actualites des religions»، عدد 9، أكتوبر 1999.


الأحد، 28 نوفمبر 2010

من أسباب عيش الإسلام، الهدف الرئيسي



  هذا واحد من أوائل مقالات الشيخ خالد بن تونس المنشورة بمجلة "أحباب الإسلام" ،الناطقة بالفرنسية التي صدرت سنة 1982 بفرنسا.


الهدف الرئيسي


    السؤال الذي يطرح اليوم، هو معرفة ما إذا كان ضمن أتباع الديانات، المؤمنين بوحدانية الله، المقرين برب العالمين خالق الكون، توجد إجابة، على الأسئلة و المعاناة التي أرهقت البشرية بأسرها، و على الفراغ الروحي للإنسان المعاصر، الذي أصبح لعبة حقيقية في أيدي شهوات و معبودات مجتمع مبني على مبادئ و قوانين إنسانية تتغير باستمرار، و لا تستند على أي قيم روحية.

    تبقى هذه الأخيرة أبدية، و لا يطرأ عليها التغيير، لأنها لا تخضع لضغوطات جماعات، أو أحزاب، أو مصالح، أو إمتيازات محافظ عليها، أوهنت و ظلمت الناس. هي نفسها (1) بالنسبة للجميع رئيسا أو مرؤوسا.

    إذا كان يتواجد اليوم، إلا عدد قليل من الممارسين، بيد أن الكثير من الناس لا يريدون سوى الإعتقاد، و أن يكون لديهم الإيمان في شيئ، في قدوة حقيقية تحييهم من جديد، و تعطيهم الثقة في أنفسهم و في أبناء جنسهم، و تمنحهم معنى لوجودهم، و تحررهم من القلق و الشكوك، و تعطي للحياة اليومية دفئ إنساني، و الأمل في أيام أفضل.

    نشعر بهذا من خلال الموجة الحالية، و الولع المفاجئ لعامة الناس بكل ما هو مخالف للمألوف و غير عادي و غريب. لسوء الطالع، لم يتوانى أناس عديمي الإحساس و المصداقية عن إستغلال هذا الإهتمام، و تدنيس الحقيقة، و تقليصها و حصرها في المجال الإقتصادي.

    و إنما هو علامة. بينما، في هذه الوضعية، فإن الأسوأ جانب الأفضل. ها هو المشكل الحقيقي لعصرنا. إلى من نتوجه، من نُصدق؟ من هو صادق فيما يعظ به، يُعلم، و يدافع عنه، كونه يمثل الطريق الصحيح لخلاص البشرية؟ من يحمل هذه المبادئ الأساسية، مفاتيح المعرفة و العلم الصحيح الذي يحتاجه قلب الإنسان، هذا الغذاء الروحي اللازم لحياته كما الماء و الخبز؟

    لننظر اليوم إلى أتباع الديانات. فالكثير منهم مشغول بنزاعات مدارس، يحصل بينهم تناقض، يكررون غالبا نفس العبارات المفرغة. لا يفهمون رمزيتها الميتافيزيقية، و غنوصية الحقائق المنزلة، و يكرسون أنفسهم لما هو مادي على حساب ما هو روحي، الذي يمثل الحقيقة الوحيدة التي تبرر وجودهم، و جعل من مؤمني القرون الماضية حاملي للرسالة الإلهية من عصر إلى عصر. 

    في بعض الحالات يصلون إلى حد المواجهة بعنف، العمل الذي تمنعه كل الديانات. حينئذ سنندهش و نقول: أين هي الأخوة، و العفو، و الحكمة، و المحبة التي توصي بها كل الشرائع و النصوص الدينية؟ 

    إستنتاج محزن للحالة التي توجد فيها حاليا الديانات، أضعفت بتفرقها، و غرقت في الماديات، و أنكرها أبنائها الذين خاب ظنهم، فتوجهوا نحو إلحاد متزايد.

    لم يعرف أصحاب الدين كيف يبلغون بلغة عصرية،  بفكر حي، الحقائق التي تلقوها. تمكن منهم الإهمال للمبادئ، و عدم بدل مجهود لفهمها، و عيشها بكليتها، معتقدين أن المطلوب هو تبليغ القول المنقول في الكتابات و الكتب المنزلة، ناسين أن الحقيقة تُنقل من قلب حي إلى آخر. إنشغلوا بالأمور الثانوية عن الأمور النافعة: الممارسة، و الطقوس، و الكلام، و الفقه. إنشغلوا بفلفسة ما هو في الحقيقة وسيلة و ليست الغاية المنشودة. لأننا إذا بحثنا عن جوهر الرسالة المحتوى في الديانات.... سوف نجد في كل ديانة منها، إلا الرغبة في تقريب الإنسان من الله. للأسف، نسي أغلبهم هذا الهدف الأساسي، و أشغلوا أوقاتهم في محادثات تافهة و غير مجدية. فاليوم هي تفرق بدل أن تجمع، و تبعد عن الطريق المؤدية إلى الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). أي القيم الروحية.

مجلة "Les Amis de l’Islam"، عدد 3، درانسي، 1982.

  

أسباب عيش الإسلام


أسباب عيش الإسلام

    صدر كتاب الشيخ خالد بن تونس" أسباب عيش الإسلام "  سنة 2003، و يجمع مقالاته و حواراته و ندواته، نُشرت بين سنتي 1982 و 2003. و يتوجه إلى كل من يشعر بإلحاحية فهم الإسلام و روحانيته، ليس فقط لإزالة سوء التفاهم، و لكن كذلك لإيجاد الرابطة الأصلية بين الإنسان و خالقه.

   جاء في غلاف الكتاب:

    عكس الأحكام التقويمية الواسعة الإنتشار، يوجد إسلام ذو بعد سلمي، و أخوي، و إنساني، يتجذر في قلب الرسالة القرآنية. يعود الشيخ خالد بن تونس، شيخ الطريقة الصوفية العلاوية إلى قلب التقليد النبوي للتذكير بالعلاقات بين الإسلام و الغرب، و دور المرأة في الإسلام، و أسباب الأصولية، و الإرث الديني للجزائر، و كذلك الدور الروحي للإنسان، و معنى الصلاة و الصيام... بكلمة صادقة و حرة، يُبين كيف أن التصوف، الطريق الباطني للإسلام، جمع الظاهر و الباطن في أساس التجربة الإنسانية.




الاثنين، 22 نوفمبر 2010

من كتاب علاج النفس، الشمس ستطلع من الغرب

الشمس ستطلع من الغرب

    من ناحيتي، أفكر صراحة، أن لو بقيت الحضارة الإسلامية على هذه الديناميكية المزدهرة، لانتهى المسلمون ربما إلى الإغترار بتفوقهم، و لأصبحت الحضارات الأخرى إما محتقرة أو تحت سيطرتهم. و الحال أن الله أراد هذا التنوع في الحضارات كما يقول القرآن.
"و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون". (المائدة، 48).

    طبعا أن هذا إلا رأي شخصي. و مع ذلك أبقى أتساءل عن الأسباب التي أدت فجأة بالعالم الإسلامي إلى توقيف إشعاعه الفكري. من الصعب حتى اليوم الفهم لماذا توقف الاجتهاد دفعة واحدة في البلدان الإسلامية، في حين أن البلدان الغربية استمرت رغم المآسي التاريخية في البحث عن فهم جديد و نقدي للنصوص المقدسة. في هذا السياق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس  من مغربها". 

    الأمر متوقف على المسلمين لإعادة إطلاق هذه العملية، بأخذ المثال من الباحثين الغربيين و أن يساهموا في تحقيق إنسانية مطمئنة، و شاهدة على حقيقة التوحيد. يقول القرآن.
"لله المشرق و المغرب". (البقرة، 115).

    و عليه، لم يجعل الله المرجعية خالصة لهذا أو لذاك. إن المشرق و المغرب مفاهيم نسبية. نحن دائما مشرقا أو مغربا بالنسبة لشخص آخر. و لكن عندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم أن "تطلع الشمس من مغربها"، فهو يلمح إلى انعكاس دوري كامل، أين تكون العلامات الأكثر جلاءا مرئية بالغرب. ستعيش الإنسانية نهاية طور الذي يسجل نهاية عالم، و بذلك ميلاد آخر جديد. يمكن أن يكون لانعكاس مسار الشمس معنى أكثر مجازا لا يعارض في شيء المعنى الحرفي. يُعلّم التقليد الصوفي أن الإنسانية تعيش حسب دهور، و أن تناوب الأطوار يستمر حتى "تظهر الشمس" رمزيا في أنفسنا. سيكون لهذا الانعكاس الدوري إرتدادات فلكية – يترجم فيزيائيا بتبدل الأقطاب المغناطيسية –، و تحدث كذلك على مستوى النفس البشرية. في كتاباته الروحية، يرى الأمير عبد القادر في هذه العلامة الوقت الذي فيه الروح "فطلوعه من مغربه هو انكشافه و إشراقه من محل غروبه و انحجابه و استتاره. و هي النفس، فإنها حجاب شمس الحقيقة و مغربها، و طلوعها من مغربها الذي هو النفس معرفتها منها: من عرف نفسه عرف ربه". هكذا الغارب يصبح الشارق و الغرب يرجع شرقا. التجديد الذي ستعرفه الإنسانية، سيأتي من هذا التبديل الدوري الذي سيحدث على كل مستويات المظاهر. يستطيع الشخص أن يعيشه دائما في أي وقت من حياته. و لكن على مستوى الإنسانية، يوجد قانون الأدوار (الأطوار) الفلكية الذي يُحدث هذا الانعكاس. الله وحده يعلم متى سيكون.
« يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَاعَةِ أَيَانَ مُرْسَهَا قُلْ إِنَمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجْلِّيَهَا لِوَقْتِهَا إِلاِّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَمَوَاتِ و الأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَة يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيُّ عَنْهَا قُلِ إِنَمَا عِلْمُهَا عِنْدَ الله و لَكِنَ أَكْثَرُ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ». (الأعراف، 187).

    رغم كل الأعباء التي تمنع الحضارة الإسلامية من إحداث تحولها، نتحقق بقوة بوجود حركة هائلة حول الإسلام في بلاد الغرب، نأمل أن تقوده إلى نهضة حقيقية.

من كتاب علاج النفس، الصفات الإنسانية و الصفات الإلهية

الصفات الإنسانية و الصفات الإلهية


    يتمثل سلوك طريق الروح في تحويل تدريجيا ميولات النفس الأنانية إلى خصال إيجابية، مع الأمل بعدها، بلوغ رفع حالة الشعور الإنساني، إلى الحال الرباني. تكتمل عملية التحول الروحي، التي تترجم بيقظة الشعور، عندما يصل السالك إلى المنبع، الذي يصدر عنه النور الأصلي، كما يصفه القرآن في قوله تعالى.

"الله نور السموات و الأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، المصباح في زجاجة ، الزجاجة كأنها كوكب دري". (النور،35).

    ترمز المشكاة إلى قلب الإنسان، الذي يسكن به نور المصباح. بقدر ما كان زجاج المصباح مصقولا و شفافا، بقدر ما نشر قلب الإنسان حوله النور و الرحمة.  حتى هذا الإنسان يصبح في عيون الناس نموذجا، يجسد في هذه الدنيا أصلنا الرباني. ما وجد الإنسان على سطح الأرض إلا ليشهد، على وجود حضرة الله في نفسه و في الخليقة. بل أكثر من ذلك، حيث يؤدي إراديا وظيفته المتمثلة في قبول استخلاف الله في الأرض، كما يذكرنا النص القرآني بذلك. اختار الله الإنسان، و اصطفاه للخلافة، مهما كانت التصرفات السيئة التي قد يتهم بها.

"و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يفسك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك. قال إني أعلم ما لا تعلمون". (البقرة، 30).

    دور الإنسان هو تمثيل الله و خلافته في هذه الحياة. و مجرد وجود الإنسان، هو دليل في حد ذاته، على وجود الله. تشهد الحقيقة الإنسانية على الحقيقة الإلهية.  يقول ابن عربي في هذا السياق.
"التجلي من الذات، لا يكون أبدا إلا بصورة استعداد المتجلي له، و غير ذلك لا يكون، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، و أنت مرآته في رؤيته أسمائه، و ظهور أحكامها و ليست سوى عينه. و ما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف، فوجودنا وجوده. و نحن مفتقرين إليه من حيث وجودنا، و هو مفتقر إلينا من حيث ظهوره لنفسه".

    لقد وجدنا، لنشهدد بأن الله موجود، سواء كان ذلك بأفعالنا المستحقة أو بإسرافنا، ببعدنا أو بقربنا منه. في الحقيقة، إن ما نعتبره صفات إنسانية محضة، ليست سوى، صفات الله مستعارة. يميل الإنسان إلى نسبة تلك الخصال إلى نفسه، كأنها ملازمة لذاتيته، أو ثمرة إرادته الفردية، في حين أنها من أصل رباني، و منحت لنا تفضيلا، لننتفع بها.

    بما أن الوجود الزمني للإنسان نسبي، و قائم على صفات ربانية مستعارة، و خاضع لكائن أحق بالوجود منا، جعل الوحي القرآني، مهمة الإنسان في استخلاف الله في الأرض. لو أخدنا اسم الله "العالِم"، الذي يعني الذي يحمل كل المعارف، هو كذلك صفة إنسانية. و نفس الشيء بالنسبة للحكيم و الملك، و أسماء أخرى، هي كلها صفات يستطيع الإنسان أن يعيشها، و لن تكون أبدا بصفة مطلقة، بل فقط على سبيل الإستعارة. فالله وحده هو الملك و الحكيم في المطلق، أما الإنسان فإنه لا يستطيع أن يعيش الأسماء التسعة والتسعين إلا بصفة نسبية في وجوده الزمني، عدا الاسم المائة الذي يحصل عليه الشخص بفنائه في محيط الله. الله يملك مطلقا كل الأسماء الحسنى، و للأبد.

    لكي نتواجد، علينا أن نستعير الصفات الإلهية. لقد وهبها الله لنا لكي نتمكن من التحقيق، و نستخرج كلية ثمرة وجودنا، و في نفس الوقت، نشهد على وجود الله. كلما أثبتنا وجودنا و وجود الخليقة كلها، شهدنا أن "لا إله إلا الله". و لولا شهادة هذه الحقيقة الأحدية، لن تكون الصفات الإلهية مؤثرة في الإنسان. الذي يقوم بتجربة العدم. عدم كل شيء.

سيدنا سليمان صلى الله عليه و سلم

سيدنا سليمان صلى الله عليه و سلم


"و لقد أتينا داوود و سليمان علما و قالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين.  و ورث سليمان داوود و قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير و أوتينا من كل شيئ. إن هذا لهو الفضل المبين". سورة النمل، الآياتان 15 و 16.

    كُلف غالبية الأنبياء في المقام الأول، بمهمة روحية. و لكن سيدنا سليمان تلقى، كما  تلقى سيدنا داوود، السلطة الزمنية و السلطة الروحية. كان في نفس الوقت ملكا و رسولا.
        كشف سليمان للبشرية أن أباه داوود، و هو نفسه، يعرفان منطق الطير، أي لغة العالم اللطيف، الذي تكشف و تبرز المعنى الباطني للأشياء.
    كان لدى كل الأنبياء ذكر. أما بالنسبة سليمان، فكان يردد باستمرار، الحمد لله و الشكر لله. يتوافق هذا الذكر مع حاله و هو حال الحمد و الرحمة. كلما حمده أكثر، حصل أكثر. هكذا، فإنه كان مستغرقا في محيط الحمد و الإمتنان، و لم تغويه أبدا السلطة الزمنية.


 النملة
"و حشر لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فهم يوزعون. حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون. فتبسم ضاحكا من قولها و قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ و على والديّ و أن أعمل صالحا ترضاه و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين". سورة النمل، الآيات من 17 إلى 19.
    حسب التقليد، فإن الله أعطى لسليمان السلطة الكونية. لم يكن فقط ملكا على الناس، و لكن على كل الخلائق، و العناصر، و الجن (كائنات من نار، تملك حقيقة مختلفة عن التي للإنسان، و تمتلك هبات عليا).
    لماذا عكرت النملة صفو تصور سليمان؟ هل يمكن لكائن عادل، نبي، أن يعتدي على حياة كائن، مهما كان صغيرا؟ و لكن الله أراد أن يختبر صاحب السيادة المطلقة، بتفكير نملة. بدل أن يستاء سليمان،  و هو الرجل الصالح، إبتسم و احترم حياة النمل و أوقف جيشه ليفسح الطريق لهم. كان يمكنه بصفته المزدوجة، ملكا و رسولا، أن يجره العمى، الذي يلهم السلطة المطلقة و قدرتها. و لكنه يعلم أن كلاهما لا تمثلان إلا القليل، عندما لا يكون الله مانحهما و لاسيما أنه لا يرضى بهما.
    علاوة على ذلك، يفسر مجاز النبي-الملك سليمان مع عالم النمل، أن لدى الإنسان المحقق، يوجد على الدوام و بشكل طبيعي، توازن تناغمي، في صلته، بلامتناهي الصغر و لامتناهي الكبر، و بعبارات أخرى، بالعالم الأصغر و العالم الأكبر. 

ملكة سبأ 
"و تفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين. لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو لياتيني بسلطان مبين. فمكث غير بعيد. فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبأ بنبأ يقين. إني وجدت إمرأة تملكهم و أوتيت من كل شيئ. و لها عرش عظيم. و جدتها و قومها يسجدون للشمس من دون الله و زين الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون". سورة النمل، الآيات من 20 إلى 24.

    قضى سليمان يوما في استعراض الطيور التي جاءت لتحييه. فقط الهدهد كان مفقودا، فقد ذهب للبحث عن نقطة ماء للجيوش. و لكنه تاه باليمن، أين تعيش ملكة سبأ، بلقيس. أعلم الهدهد سليمان بما رأى. فتوجه إليها بواسطته برسالة مجاملة، و لكنها حازمة، لحثها هي و شعبها على ترك أصنامهم و الرجوع إلى الله.
"قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم. إنه من سليمان و إنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو علي و اتوني مسلمين. قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون". سورة النمل، الآيات من 29 إلى 32.
    مدركة ما في الرسالة، قامت ملكة سبأ بالتشاور مع الوجهاء و المستشارين، لمعرفة أي إجابة تقدم إلى هذه المجاملة لسليمان.
"قالوا نحن أولوا قوة و أولوا بأس شديد و الأمر إليك فانظري ماذا تأمرين. قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة. و كذلك يفعلون. و إني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون".سورة النمل، الآيات من 33 إلى 35.
    إنها ديبلوماسية محنكة، ردت بإرسال إلى سليمان سبيكة من ذهب، و سبيكة من فضة، و ياقوتة حمراء، إضافة إلى أربعين فتاة، و أربعين فتى، يرتدون نفس الزي، بشكل أنه يستحيل معها، التمييز بينهم. لم يكن لهذا المرسول سوى هدف واحد، هو إمتحان حكمة و فطانة سليمان. هل هو مترفع عن الخيرات المادية؟ و هل لديه نزاهة و بصيرة نبي، أم شراهة ملك؟


الإهرامات
     لم ينخدع سليمان. فقبل وصول مبعوثي الملكة، أمر ببناء هرمين، واحد من ذهب و الآخر من فضة. واحد موجود على اليمين، و الآخر على يسار العرش. ثم أجلس شعبه على درجاتهما ليثبت ترفعه عن الخيرات المادية. عندما رأى الرسل هذا المنظر فهموا، أن همة النبي الملك، توجد فوق الثروات المادية. لم يجرؤوا على تقديم السبيكات. أخذ سليمان الياقوتة الحمراء، الحجر الأكثر صلابة و قدمه إلى أحد علمائه الذي إخترقه بواسطة ألماسة، حجرا كان ما يزال مجهولا في ذلك الوقت.
    يفسر هذا الرمز العميق، درجة تحقق الكائن. فالدرجة التي بلغتها الملكة تعادل الياقوت الأحمر و التي  بلغها سليمان تساوي الماسة. بعلمه و معرفته بلغ حالة صلبة في مطلقه، و أيضا صرفة، لا تتغير في تجليها كالماس.
    أما الفتيات و الفتيان، جردهم من ملابسهم و نظفهم. بمعنى آخر، عراهم و كشف حالهم، مبينا بالتالي قدرته على فحص القلوب. فهم سليمان الحالة الباطنية و الحقيقية للملكة. رأى أنها أرادت أن تمتحن حاله و تتأكد من خصاله الخلقية الممتثِلة، و المسبغة بالرحمة الإلهية. فأجاب الرسل بطريقة لاذعة.
"فلما جاء سليمان قال أ تمدونن بمال فما آتاني الله خير مما أتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون. ارجع إليهم فلناتينهم بجنود لا قبل لهم بها و لنخرجنهم منها أذلة و هم صاغرون". سورة النمل، الآياتان 36 و 37.
    عندما تلقت الملكة الرسالة انطلقت فورا إلى القدس (أورشليم سابقا) لإطاعة لسليمان. و قرر هو بدوره أن يمتحنها.


العرش
"قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك و إني عليه لقوي آمين. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر. و من شكر فإنما يشكر لنفسه. و من كفر فإن ربي غني كريم". سورة النمل، الآيات من 38 إلى 40.

    كان من عادة سليمان أن يجلس على عرشه من الضحى ليحكم بين الخلق. إقترح عفريت – كائن من نار أقوى من الجن – على سليمان أن يأتيه بعرش سبأ في يوم واحد. و إن العارف ليقوم بهذه المهمة في طرفة عين.
    ما هو مستحيل بالنسبة للأناس العاديين هو ممكن للذين لديهم علم من الكتاب (علم الإسم الأعظم). علم أعلى من كل العلوم، بالطاقة و القوة التي يمنحها لمالكه. يعمل بسرعة الضوء، بطريقة آنية. يقول التراث، أن سليمان كان يملك أربعة كتب تعالج هذا العلم، أتلفها قبل موته. و لكن كان للجن متسع من الوقت لقراءة الكتاب الأول، الذي يخفي فن و هبات السحر.
   ظهر العرش الأثري، آنيا، لسليمان، الذي لم يفتخر بهذه المعجزة، لأنه يعترف هنا "بتأثير رحمة الله". يعلم سليمان أن الإنكار لا يضر إلا بصاحبه، بينما الإمتنان إلى الله، فهو مصدر كل خير و عجائب رائعة. لهذا لم يتوقف عن حمد و شكر الله.
"قال نكّروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون. فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو. و أوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين". سورة النمل، الآياتان 41 و 40.
   يرمز الإنتقال العجيب لعرش سبأ إلى القدس (أورشليم) إلى اللقاء بين سلطتين، الزمنية و الروحية. حسب الأسطورة، كانت ملكة سبأ مألهة من طرف رعاياها. أدت يمين البتولة لكي تعتلي العرش. يبقى أنها كانت تعيش صراع باطني عميق، كيف توافق بين المحافظة على يمينها و البحث العميق عن المحبة التي تتطلبها طبيعتها كإمرأة؟ فاللقاء مع سليمان المعروف بحكمته الكبيرة، ينبغي أن يسالمها، بإعطائها إجابة مرضية على استفهامها الباطني المؤلم.
    عند وصولها إلى القدس (أورشليم)، لم تكن الملكة متأكدة من أن هذا العرش لها. على المستوى المجازي، فهو (1) مقر نفس بلقيس، التي حوّلها اللقاء  مع سليمان، و هي لم تكن بعد، واعية بالتمام.


أرضية الكريسطال
    لتعليمها أكثر، دفعها سليمان إلى إرتكاب خطأ. إستقر على فسحة ماء مغطاة بالكريسطال الشفاف، و دعا الملكة للإنضمام إليه. خدعها التأثير البصري، فرفعت سدى، حاشية فستانها خوفا على تبليله. تحققت فجأة، أنها لا تستطيع أن تميز بين الصح و الخطأ، و أن علمها محدود جدا مقارنة بعلم سليمان. فضلا عن ذلك، جعلها تكشف ما كانت تخفيه عن أنظار الكل، أرجل مشوهة بزغبات بشعة. كشف سليمان أمام أعين بلقيس، و أعين الجمهور، عيب كانت تخفيه، و هذا ما حررها و سمح لها بأن تتقدم في معرفتها. و الحجاب الذي حجب عنها الرؤية، بالتالي رُفع. و أصبحت تعيش حالتها التي هي عليها، و تعترف بتواضع أنها كانت مخدوعة بحواسها. مُدركة عِظم سليمان، أسلمت لله من خلاله، مرآة كينونتها.
   سليمان، بصفته المعلم، أدخلها إلى باطنها لتكتشف الجانب المظلم من أناها. قادها إلى الصفاء المطلق، للذي للكريسطال، و بالتالي حضّرها لكي تبلغ حالة الماس. بدون أسى، تخلت ملكة سبأ التي عبدت إحدى صفات الله (الشمس)، عن الياقوت الأحمر الذي أصبح بدون قيمة، و حصّلت في الأخير على المعرفة. لُقنت و تحررت كلية من طرف سليمان، و اتحدت معه في تناغم و مسالمة النفسٍ (المبدأ المطاوع)، و الروحٍ (المبدأ الفعال). و ليكتمل هذا التقرب، فقد كُرّس في الهيكل، بيت الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). أي العرش.