الاثنين، 31 يناير 2011

التصوف قلب الإسلام، التراث الصوفي، البيعة

البيعة

    من بعثة الرسول صلى الله عليه و سلم، و المرء يصبح مسلما بمجرد نطقه كلمة الشهادة « شهادة التوحيد »، و هي « لا إله إلا الله محمد رسول الله ». و من وجهة النظر التاريخية دائما، فإن الأتباع الأوائل – من الصحابة رضوان الله عليهم – عندما بايعوا الرسول صلى الله عليه و سلم مدّ لهم يده الشريفة فوضعوا أيديهم في يده. قال تعالى: « إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ». القرآن الكريم.

    لقد جرى هذا العهد على الوفاء و نشر الدعوة تحت الشجرة(*)، و يعود تاريخه إلى الوقت الذي كان الرسول صلى الله عليه و سلم، يريد فتح مكة المكرمة التي هاجرها، لقصد أداء مناسك الحج، لكنه، و في الوقت الذي كان قويا بالقدر الكافي من السلاح، آثر التفاوض كي لا تراق الدماء سدى، و قد فوجئ أصحابه، رضوان الله عليهم، آنذاك و انزعجوا انزعاجا شديدا عند إطلاعهم على بنود تلك المفاوضات.

    قبل كل شيئ، فالرسول صلى الله عليه و سلم، قد عومل فيها من قبل أعدائه كمواطن عادي، دون أن يعترفوا له بأية أهلية روحية.

    ثم اتُّفق على أنه صلى الله عليه و سلم، لا يُسمح له بدخول مكة لإقامة مناسك الحج في تلك السنة، و لكن يُسمح له في السنة القادمة فقط.

    و أخيرا، إذا ما هرب شخص يقيم في مكة نحو المدينة وجب إرجاعه إلى المكيين، في حين أنه إذا غادر مدني المدينة مُتوجها إلى مكة فلن يرد إلى جماعة المسلمين.

    كل هذه الشروط اُعتبرت من قبل أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم، مهينة، حتى إن البعض منهم قد استولى عليه الشك، فحدث اهتزاز داخل الجماعة، و ظهر الخلاف بين أولئك الذين كانوا يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه و سلم، يعلم ما يفعل، و أولئك الذين صمموا على أنهم لا يستطيعون قبول تلك التسوية. و في تلك اللحظة نشأ ارتباط متين بين الرسول صلى الله عليه و سلم، و أولئك الذين كانوا أوفياء له، و رفعت منزلتهم أكثر من الآخرين، لأن الشك لم يساورهم. و هذا يعني أنهم كانوا يحظون بسمو باطني، و نحن لدينا لائحة لهؤلاء الصحابة، لكن البعض من بين الآلاف الحاضرة لعبت دورا مهما جدا في الإسلام، من غير أن يكونوا قد بايعوا الرسول صلى الله عليه و سلم، في ذلك اليوم، لأنهم لم يكونوا بعد مستعدين.

    و منذ ذلك اليوم، و من ذلك المكان المحدد بدقة، و المعروف عند المؤرخين، بدأ العهد على الوفاء للرسول صلى الله عليه و سلم. إنه عهد يرمز إلى ارتباط الإنسان ببعد آخر، لا بمجرد الإنتماء إلى جماعة. فالمبايعة هي طاعة تامة للرسول صلى الله عليه و سلم، الذي يمثل يد الله عز و جل. و قد جاء في القرآن: « إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ». القرآن الكريم. و الرسول صلى الله عليه و سلم، ما هو إلا مظهر رباني، فكل من يقوم بالمبايعة فلا يبايع الشيخ، و لكن بواسطته و بواسطة الرسول صلى الله عليه و سلم يبايع الله عز وجل. هذه المبايعة لا توجد إلا عند الشيوخ الصوفية، و لا توجد عند بقية الأمة الإسلامية، و هذا هو تاريخ المبايعة التي ما زالت قائمة الى يومنا هذا، و هو معروف بشكل ضئيل جدا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*). إشارة إلى قوله تعالى: « لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم و أثابهم فتحا قريبا ». القرآن الكريم.


الأربعاء، 19 يناير 2011

الأخوة كإرث، التولية، إعادة بنية الطريقة


إعادة بنية الطريقة

    سمحت لي تجربتي الخاصة بأن أتحقق من أن لهذا التعليم صدى كبير جدا، لبناء الذات و حرية الشخص...

    قدرتُ أنه من الضروري أن أحفظ و أصون تقليد الطريقة، و الدخول مباشرة في العصرنة، ببناء منظمة مستقلة تماما، و فعالة تستجيب لمتطلبات العصر. لقد قلتها لبعض الشباب، بأنّ هذه الفكرة بعيدا عن أن تتفق عليها الآراء.

    بسرعة، فهمت الورقة الرابحة التي يمثلها الشباب، و ضرورة إعادة التفكير في تأطيرهم بطريقة جديدة كلية، حتى يتحصلوا على قواعد صلبة، تدمج الرؤية، و المهمة، و الفعل. يجب أن يراجع التعليم من جديد سواءا كان على المستوى الباطني، أو المستوى الظاهري. بعبارة، يجب عصرنته، و إعادة بنيته بتكوين مسؤولين. إنطلاقا من هذا، فقط يمكننا أخذ منطلق جديد. و هنا، في حين تخيل مُشنعينا نهاية الطريقة، عرفنا إنطلاقة جديدة...

الأخوة في الميراث، التولية، التوحيد



التوحيد

    ذوات أيام، بدون توقع مني، ينطلق حوار مع كل الخليقة، رابطة دائمة بيني و بين البيئة، تمنحني إحساس قريب من النشوة، سعادة كبيرة ممزوجة بشعور بالحرية القصوى. يبدو لي أني في اتصال مع نسيج من حرير صافي جدا، و كل شيئ منطقي من حولي، و كل عنصر من العالم، يبدو أنه مغمور بمحبة كبيرة، تعيد إرتباطه بتناغم، مع البقية. أرى أن الكل في مكانه، و لا شيئ سيتم تحويله في نظام الكون. و لكن عاجلا ما تزول النعمة، و أرجع إلى مرارة حقيقة قاسية. يبقى أن هذه اللحظات القاسية، مهما كانت مظلمة، فهي لا تُنسى، و تصبح التجربة التي أرتكز عليها عند مفترق الطرق في أوقات الشك. إبتداءا من هذه الوحدة التي أعيشها بدقة، تكبر ثقتي، و تصبح مصدر لكل إختياراتي.

   في أحد الأيام ، عندما كنت في زيارة للفقراء بهولندا، رأيت الرسول صلى الله عليه و سلم في منامي، ليلة السبت يقول لي: « يوم الإثنين أريد أن أراك بمسجدي بالمدينة، عند صلاة العصر ». كيف لي أن أصل إلى العربية السعودية في غضون ثمانية و أربعين ساعة؟ إلا أن الفقير الحاج بن ثابت (1) هاتفني  يوم الأحد صباحا ليخبرني أن شركة طيران قد وضعت رهن إشارتي تذكرة سفر لهذه الوجهة. و بالمدينة وصلت إلى مسجد الرسول صلى الله عليه و سلم عند الآذان. و يومين بعد ذلك، زرت المقدم. و هو أحمد ناشر يمني، يبلغ من العمر 114 سنة. خدم قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لخمسين سنة، لكنه أقام بمستغانم سنتي 1931 و 1932. و كم كانت دهشتي كبيرة لما علمت أن أبي، المهدي الصغير، الذي كان عمره أنذاك أربع سنوات، قد تسلق كتفيه. عدت من المدينة مزودا ببركته، و بشال، و خاتم من فضة كهدية منه. أليس الأثمن هو هذا الرباط المكتم و غير المرئي الذي يمنح الحاضر بعده اللامحدود؟ في منزله رأيت قطة و فأرة تحتسيان اللبن في نفس الصحن...

    كيف نفسر هذه الظاهرة لمن لم يسبق له أن عاشها؟ لقد حدث هذا، هذا ما في الأمر. و حدث هذا مرة أخرى. و كم من مرة. عندما إكتشفت المنزل الذي نعيش فيه اليوم مع زوجتي، أحسست كم أنا سعيد أن أعيش فيه. و جاءني الجواب مني: « إذا أردته يمكنك ذلك ». لم يكن لدي الإمكانيات، و رغم ذلك تمكنا من الإستقرار به، بعد بضع سنوات. يبدو هذا سحري، و لكن لم يكن شيئا من ذلك. إن ما نسميه « سحر »، ما هو إلا الحياة المكشوفة في صفائها الكبير. لأنها بمستوى القوة التي تسكنها. ألم  يبينه الرسول صلى الله عليه و سلم: « إن للمرء همة لو تعلقت بالثريا لجذبتها ».(2).


    يمكن أن يحدث هذا النوع من الأمور لأي شخص شريطة أن يكون صادقا في سيرته. ليست رغبتي ما تحقق هنا، و لكنه التأكيد البسيط لحالة كينونة معينة، في الرضى بما يحدث. كان الذي، كان يجب أن يكون. كل ما يحدث في حياتي هو في مكانه. في الطريق، كلما إقتربت من الوسط، كلما قلّ إحتياجي للتدخل، و أمكن للحياة أن تتوضح بواسطتي...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). أصبح مقدم زاوية باريس، معوضا المقدم سيدي طاهر بن عراب، المتوفي.
(2). ورد هذا المعنى في حديث: « لو كان العلم معلقا بالثريا لتناوله قوم من أبناء فارس ». أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة، و الشيرازي في الألقاب عن قيس بن سعد.

الأخوة كإرث، التولية، الطريق الصوفي

    عند عودته إلى الجزائر، لحضور جنازة أبيه الشيخ الحاج المهدي بن تونس، فوجئ الشاب خالد بن تونس بقرار كبار فقراء الطريق و حكمائها، بتعيينه شيخا خلفا لأبيه، فرفض، و ادعى القصور، و لكن القدر قد إختاره، و عندها أحس بتغيير كبير بذاته و تبدلت أحواله، وعاش الشهور الأولى بآلام حادة و حمى كبيرة. شيئا فشيئا ، انتقل من حال إلى حال، و زال العناء و أخذ مكانه الطمأنينة و السلام.


الطريق الصوفي

    قال بعض الصوفية: « عندما تسير في الطريق إحذر أن تزعج أي حجر ». إن الحياة مجعولة من حركات، و كل إنسان يجسد هذه المفارقة، بأن يكون في نفس الوقت حاملا للأبدية و للتحول. فالطريق الصوفي بسلوكه، يتم تدريجيا. كل إكتشاف يطلب آخر، و آخر، و هكذا و دواليك. ننتقل من حيرة إلى أخرى، متحققين من عظمة و لطافة الغيب الذي لا نعلم عنه شيئا، و رغم ذلك، كان دائما حاضرا. تأخذ هذه الآيات القرآنية التي قرأتها آلاف المرات بدون أن أجيد فهمها، فجأة معنى، الواحدة تلو الأخرى. فَتح و حالة شعور جديدة، تبشران بفهم آت. لاشيئ متناهي في اللامتناهي، هذا ما حققته مع مرور الشهور. و بسرعة أصبحت عدة « وسائل » ضرورية للترقي في الطريق، و للنجاح في المهمة التي آلت إلي.

    كنت أنتهز لياليَ لأسبح في العزلة « قم الليل إلا قليلاً ». القرآن الكريم. فالليل مناسب للتأمل، و الدعاء، و الصلاة. يَهدأ العالم، و تقلّ التداخلات، مهما كانت حسية، أو نفسية، أو فكرية، مُسهلة سيرورة الخشوع و الصدق. من هنا، أصبحت أدرك جيدا كل يوم، أهمية إنعزال المشايخ بانتظام عن العالم، ليتحضروا أكثر لبعض مظاهر الحضرة « و هو معكم أينما كنتم ». القرآن الكريم. في الصمت و السلام، تحققت كم هو سهل، الإستفادة من البركة عندما تطرح أي مسألة عليّ...

    تلعب الرؤى دور كبير في تعليمي. إذا كنت مشغولا بمسألة، لا أتوان عن طلب الإجابة بواسطتها، حتى أتحصل على إشارات دقيقة حول العمل الذي يجب القيام به. كما علمني الحكماء، إستطعت أن أميز العديد من أنواع الرؤى، التي قد تكون إجابة سهلة لمسألة معطاة، أو حكم منذر، أو كذلك السفر في أنواع من أحلام اليقظة، التي تفيد بشكل عام...

    أعتمد كذلك على الذكر، الذي يمدني بقوة يقين عند لحظة إختيار وجهة. تذكر بعض أسماء الله في ظروف خاصة.

    و هنالك الأسفار. فمنذ أن عُيِنت شيخا للطريقة العلاوية، لم أتوقف عن السفر. سواء كان ترفيهي أو « مهني »، فهو دائما سياحة تحرض بحثا داخليا، و معرفة نفس، و إذا معرفة الله.

    يا لها من فرصة لمعرفة الإنسان حدوده، و قبول نقائصه، و إكتشاف خصاله؟ السفر سلوك فيما يسمح للغيرية بأن تدرك. و مصدر انفتاح، و إغناء، و يشارك في تمديد شساعة الفضاء. بفضله إكتشفت التقاليد الأخرى، البوذية، و الهندية، و الجنوب أمريكية، و اليابانية، إلخ..، حتى رجال الصحراء، طوارق تنيري، و الطاسيلي، الأغنياء في فاقتهم. تمنكت من رسم الخريطة الغير مرئية لأحد المجتمعات، ذو شعور، يكون فيه التقليد الكوني قائما بلغة وحيدة، إنها للملقنين. في مستوى معين تتوقف الحواجز، و تبقى فقط نوعية القِسمة. و هذا ما  يرضي الرسل. قال الشيخ عدة بن تونس: « إذا اجتمع يوما يهودي صالح، و مسيحي صالح، و مسلم صالح، لا يجدون شيئ  قط يفرقهم. بالعكس إذا ذكر كل واحد منهم كلام رسوله، لا يجدون سوى كلمات تساعد و تقوي الصداقة، و الأخوة، و المحبة ».(*).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*). مجلة المرشد ( النسخة الفرنسية، فقد كانت تصدر هذه المجلة باللغتين العربية و الفرنسية)، أكتوبر 1949.
 

كتاب الأخوة في الميراث


كتاب «الأخوة في الميراث»
قصة طريقة صوفية

    هو أحد مؤلفات الشيخ خالد بن تونس، بمساعدة برينو سولت، صدر سنة 2009، قبيل فعاليات مؤتمر المئوية العلاوية الأولى بمدينة مستغانم الجزائرية. 

    إفتتح الشيخ خالد بن تونس الكتاب بعنوان فصل، الطفولة الروحية، قال فيه:
    « يوم 5 جويلية 1962، كنت الوحيد الذي يحمل العلم وسط الحشد، ربما كنت أنا كذلك الحشد نفسه. غزا كل الأطفال المرتدين الأبيض الشوارع منذ الصباح. أطفال، و رجال، و المقاومين الذين عادوا منذ أيام إلى المدينة. على أبواب المنازل، كانت النساء توزع الحلوى و المشروبات. كان عمري ثلاث عشرة سنة، و أنا من أختير ليحمل أول علم جزائري فوق بلدية مستغانم.

    إن عمري ثلاث عشرة سنة، و لم أنم منذ ثلاثة أيام، و ثلاث ليال، مأخوذين بالبهجة التي غمرت كل الأحياء. ولجت الفرحة كل شارع، و كل بيت. تكونت أفواج و لعبت الموسيقى حتى الفجر. المستقبل لنا. في قلب الحشد كنت أعيش بالبطيخ الأخضر و كوكا كولا. فمن وجدني نائما على حائط بارتفاع ثمانية أمتار عن الأرض؟ لا أعلم؟ كان يمكنني أن أسقط. منهكا هناك، مكان تواجدي. لا أتذكر. ذكرت فقط في نفسي وطء خطواتي في الشوارع، و الفرحة الطافحة، و ثقل العلم بذراعي. أخضر، أبيض، أحمر. نحن أحرار. عمري ثلاث عشرة سنة، و هذه ألوان الحرية، و أنا فخور لأني أخترت أن أحملها في شوارع مدينتي، مسقط رأسي.

    كوني اصطفيت لمنصبي هذا فذلك ما تم عند ولادتي سنة 1949، لأن جدي من جهة الأب، الشيخ الحاج عدة، الذي كان يقود وقتها الجماعة الصوفية العلاوية، كفلني كإبن له، في بنوة مدونة في سجلات الحالة المدنية بمستغانم، و هو ما جعل مني في نفس الآن إبنا و " أخا " لأبي، و كوني اصطفيت لمنصبي هذا فذلك ما سيتم مرة أخرى سنة 1975 عندما توليت خلافة الشيخ المهدي بن تونس، والدي الحقيقي، على رأس هذه الجماعة ألتي أنتمي إليها. لكن الفرحة لم تكن وقتها في الموعد. فكانت معركة طويلة تعين علي أن أخوضها مع نفسي لتقبل مصيري، و القيام بمجهود لفهم ذلك. أجل، إنه مصير كان فيه إستقلال الجزائر بمثابة الحدود الرمزية ما بين عالمين. من جهة، طفولة مباركة و أحلام بالحرية؛ و من جهة أخرى، إنكشاف الأوهام والعبور البطيئ إلى النور ، أي إلى الحرية الحقيقية الوحيدة، حيث كل حدث له موقعه و مبرر وجوده المستحق ».

    هذا الكتاب هو سرد تفصيلي لحياة الشيخ خالد بن تونس. طفولته، و شبابه، و أصل الطريقة، و محنة أبيه الشيخ الحاج المهدي بن تونس، و توليته، و حياته الخاصة العائلية، إلخ....

    جاء في غلاف هذا الكتاب: « يعتبر اليوم الشيخ خالد بن تونس أحد الوجوه البارزة في التصوف، و قبل كل شيئ هو الوارث لحركة روحية تمتد جذورها إلى زمن الإشعاع الباطني للإسلام في القرون الوسطى. يروي هنا مع الكاتب و المتخصص في الديانات برونو سولت، القصة الأسطورية الإنسانية لآباءه.

    لإنعاش و إخصاب الميراث العريق للتصوف، أسس والد جدته الشيخ العلاوي (1869-1934)، سنة 1909 بمستغانم طريقة جديدة، تمتاز بانفتاحها على الديانات الأخرى و على العصرنة. لم تمنع عمومية المؤسس من أن تشك فيه الإدارة الفرنسية، إذ هو كذلك وطني. شارك إبنه و حفيده، خليفتَـيه بفعالية لتحرير الجزائر، قبل أن يصطدما بحزب جهة التحرير الوطني السلطوي و المعادي للدين.

    لما توفي أباه قبل أن يدرك الخمسين سنة، كان خالد بن تونس يعيش حياة جديدة بفرنسا. بدون أي توقع، عينه مجلس الحكماء للطريقة العلوية شيخا. أعطى لهذه المهمة بعدا دوليا، مشجعا الحوار بين الديانات، و الإهتمام بالبيئة، و التعليم، خاصة مع الكشافة الإسلامية لفرنسا.

    تبين لنا، هذه الحكاية التاريخية الأخاذة، و المثارة بالقفزات الفجائية لتاريخ الجزائر، إسلام محبة كوني مجسد حسيا في الحياة الإجتماعية و العصرنة ».

    قدمنا وقائع مهمة من حياته، جلها من هذا الكتاب، في الفقرة: « الشيخ خالد بن تونس الإنسان» بالرابط:

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  صورة الكتاب « الأخوة في الميراث »، طبعة ألبان ميشال بفرنسا، أبريل 2009، و هناك طبعة جزائرية صدرت في أكتوبر 2009،  من مؤسسة الحبر/ البرزخ. ثمن النسخة في حدود 650 دينار جزائري.


السبت، 15 يناير 2011

منهجية التعليم

    مقتطف من حوار صحفي، أُجريَ مع الشيخ خالد بن تونس، يعبر فيه عن منهجية تعليم الشباب و الأطفال، الجيل الصاعد.
     «....نحن أمام جيل ربما هو أكثر تطلبا، و لا يرضى بأن يتلقى العلم كما هو، و يقوم بأمور، بدون أن يتساءل عن مقصدها و مغزاها ».
    و عندها أضاف الصحفي هذا السؤال: « ماذا تقدم الطريقة في هذا الإتجاه؟ ». فرد عليه الشيخ بما يلي:
     « لا نستطيع اليوم أن نفرض على شاب عمره 18 سنة، أو 25 سنة، بكل بساطة، أن يذكر عددا من الأذكار يوميا، و يقيم عددا من الصلوات، و يصوم مقدار كذا من الأيام. لا، ليس هكذا، يجب التكيف. فاليوم، هناك ضرورة للشرح، و ضرورة للتعليم، و ضرورة يقظة، و لهذا أقمنا ملتقيات تكوين، و ملتقيات لعلاج النفس، تسمح بالبحث في عمق هذا الإرث الروحي للأشياءِ، التي تعتبر ضرورية للحياة اليومية، و في علاج يرافقنا، و هذا ليس فقط لمن هو مرتبط بالطريقة، إنه لكل شخص ».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقتطف من حوار صحفي طويل أجري معه عنوانه: « من هو الشيخ خالد بن تونس و لأي تصوف يدعو؟ ».
الجريدة المغربية

« La Chronique » ، بتاريخ 25 09 2010، عدد 450.
.

مداخلة الشيخ خالد بن تونس باليوم الدراسي حول الورد

بسم الله الرحمن الرحيم

    نظمت الجمعية الدولية الصوفية العلاوية، المسماة إختصارا (عيسى)، يوم دراسي حول الورد، يوم الجمعة 31 ديسمبر 2010 بمدينة (نوجون-سير-واز)، بفرنسا.

    ينسب ورد الطريقة العلاوية الدرقاوية الشاذلية، إلى الإمام أبي الحسن الشاذلي، المتوفي سنة 1258 بحميراء بمصر، فهو من صيغه على الشكل المكوَّن من آيات و أذكار. يذكره مريدو هذه الطريقة صباحا و مساءا. أتت كلمة ورد من الجذر وَرَدَ، أي ورد الماء، لكي يستسقي، على صورة الماء، رمز الحياة. فتلاوة الورد وسيلة للمريد، لشرب ماء التنزيل  (الكشف، الفتح).

    قُدمت في هذا اليوم مفاهيم حول أهمية الورد، و كيفية ذكره، و مركباته، و ختم الشيخ خالد بن تونس الملتقى بمداخلة إليكموها:


مداخلة الشيخ خالد بن تونس
في اليوم الدراسي حول الورد

بعد بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم

   
    سررت بمشاطرة اليوم الأخير من السنة معكم، و أن نتمكن إن شاء الله، من أن نعيش معا الدقائق و الساعات الأولى من السنة الجديدة 2011. و الموضوع المختار هو دراسة ورد الطريقة العلاوية الدرقاوية الشاذلية. إذ هو يستفتيني دائما حول الطريقة التي نبلغ بها تقليدنا اليوم، إلى الأجيال القادمة، و كيف نُفهمها أهمية و دور تقليد حي. كيف نُبلغ إليهم شيئ حي، ليس فقط كلمات أو أفكار، و لا حتى مفاهيم، و لكن شيئ حي. و لتبليغ الحي، يجب أن يتم الأمر من حي إلى حي. و أبدا لن يتم بشكل آخر. إذا كنتم تحبون شخصا ما، تقولونها له، و لكن بالشكل الأكثر عمقا، بكل ما تشعرون في قلوبكم. عندما تقولون لشخص نحبك، على كل حال ستبحثون في أنفسكم عن هذه الطاقة، و القوة، و القدرة، حتى تشهد كلماتكم، و تعبر بدقة، بما تشعرون. فالورد من ناحية ما، هو التعبير عبر كلمات، و عبر آفاق عن طريقتنا للشهادة، بما نشعر بأعماق أنفسنا.

    كان لديكم يوم دراسي، و قُدّم لكم تاريخ الورد و مكوناته، و تحصلتم على مطوية صغيرة، عُملت من أجل هذا اليوم، فلا أضيف لكم ما قد سمعتموه طيلة اليوم، و لكنني رأيت أن هناك بعض الأسئلة، و سأحاول أن أجيب عن من لها علاقة بهذا (الموضوع). الأمر الأول الذي أثر فيّ، هو أسئلة الأطفال. و السؤال الذي كان حول الهدية. لكي أصلي أنتظر الهدية. لقد عُبر عن ذلك أمامنا كلنا، و قال الأطفال، يخدعنا آبائنا بالهدية، ليدفعونا إلى الصلاة، إنه السؤال الأول الذي سجلته. و السؤال الثاني هو لماذا الثياب؟ لماذا أرتدي ثياب مغايرة عندما أصلي؟ و أسئلة أخرى، مثل لماذا أذكر وردي، عندما لا أرى الحاجة إليه؟ فالورد لا يزودني بشيئ، و لا أشعر بالحاجة و الضرورة إليه. و كذلك لماذا يصلي الله على الرسول صلى الله عليه و سلم؟ و لماذا أختيرت بعض مفاتيح السور في الورد من المشايخ؟ لنجمع كل هذه الأسئلة، وندخل في عمق الأشياء.

    ليس الورد إلا التعبير الأكثر عمقا فينا عن إرتباطنا بما يعطينا حياة. بمعنى آخر، سابقا جعلت الإنسانية أسلافها كمصدر يربطها بماضيها و حاضرها، و وجودها. كان الإنسان يتوصل بأهله، و بأجداده. كان للإنسان عقيدة الأسلاف لكي يعيش حاضره، مُرّه و حلوه. روحيا، فالورد عبارة عن إرتباط بنسب روحي، فهو ليس رابطة دم بأجداد نتواجد بفضلهم اليوم، بعملية بيولوجية. من ناحية نحن مدينون لهم بالحياة. في العائلة الروحية، تتخطى هذه البنوة بنوة الدم، بواحدة هي أكثر لطفا، إنها البنوة الروحية. تُحدث هي نفسها الزمن و الفضاء، و تأخذنا إلى أبعد من ذلك، إلى أصول عملية الخلق نفسها. أي توصلنا إلى الأول. فإني غير متواجد بإسمي، أو بنبل عائلتي، أو باستحقاق قبيلتي، أو شعبي المختار، أو أجدادي الذين كانوا أمراء و ملوك و سلاطين. سيوصلني وجودي بواسطة مشايخ، و نسب روحي إلى الإرتباط بمنبع الحياة، و سيصبح هذا الورد، إمكانية كي يُفهمنا من نحن؟ من أنا؟

    عندما أستغفر الله. فمفهوم الإستغفار- من جانبي دائما -، فنحن نفهمه في الدرجة الأولى، كما فسره الذين من قبلي، تطهير للذنوب و السلبيات التي أحملها للتمكن من الإرتباط روحيا بهذه السلسلة التي تسقي الروح، و مصدر تغذية لها، و ماء للحياة يروينا روحيا، و يُدوِّم الحياة بنا.


    ماذا يعني الإستغفار في عالم مثل عالمنا اليوم، إنعكست فيه الأمور، و أصبحت الكبائر بالعكس، شكل ترقية يتحصل عليها الإنسان. و أصبح هذا الأخير يقوم بالكبائر في وضح النهار و يجهر بها. و بات هذا الأمر عاديا في مجتمع اليوم، و ربما أكثر، شيئ مرغوب فيه، و رغبات شرعية. إذن لماذا طلب المغفرة في مجتمع مثل مجتمعنا اليوم. هنا تتدخل الروحانية – نتكلم روحيا -، و تقدم لنا مساعدة، لأننا لسنا خائفين من الذهاب إلى جهنم، و لسنا راغبين في الجزاء من الله، و رغبتنا الوحيدة هي البقاء أحياء محركين بالروح، و بهذه البركة النازلة، بواسطة سلسلة متواصلة حتى مصدر الحياة، ألا و هي الرسلية. سيأخذ الإستغفار معنى آخر، لا أستغفر من أجل ذنوب أصبحت اليوم في جهة ما، رغبات شرعية، في مجتمع أبطل القداسة، إلى حد جعل من الذنوب قِيم. أقول هذا لأننا نعيشه كلنا، و إذا لم نفهم هذا سنعيش في تفريق، وتمزيق مستمر. عندما يسألنا شبابنا لماذا نذكر الورد، فهو لا يمدنا بشيئ؟ عندها هل يجب أن نشعرهم بالذنب، و نقول لهم، أن الله سوف لن يغفر لكم؟ هل سيسمح لهم هذا الكلام، بأن يعوا أهمية الورد، و اللطائف التي سيزودهم بها؟ لست هنا لأشعر أحدا بالذنب، إني هنا لتلقي شبابنا تعليم حي، من حي إلى حي.

    يرجع وردنا إلى الإمام الشاذلي، فهو أول من جعله على شكل صيغة. الورد موجود قبله، فهو قد صاغ الأذكار على شكل ورد، و أضاف الشيخ العلاوي– كما قيل لكم - سورة الواقعة، و زاد الإمام المهدي بن تونس – الحمد لله و الشكر لله -. كان الورد قبل الإمام الشاذلي، و الرسول صلى الله عليه و سلم هو معلمه و مبلغه الأول، و وراءه كما يؤكد القرآن، الله من يطلب أن نستغفره عندما يقول: « إستغفروا ربكم ».القرآن الكريم. إن الله من يطلب منا أن نطالب بمغفرته، مثال، أنا سأذهب إلى الحاج بن ثابت، و أقول له: إذا أردت أن أغفر لك إطلب مني المغفرة. إذن سيكون مفهوم المغفرة رحمة. سأتوجه إلى الشاب الذي طرح السؤال حول الورد، و أفهمه الأمر، لكي أقربه مني، و بما جاء في القرآن الكريم: « إستغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا و يمدكم بأموال و بنين و يجعل لكم جنات و يجعل لكم أنهارا ».القرآن الكريم. يظهر لنا الله هنا الإستغفار كعنصر نتلقى به معاشنا، و نعمل على سقوط المطر من السماء لتزداد ثرواتنا، و يمدنا كذلك بذرية و نسل. ماذا يعني الإستغفار هنا؟ إذا لم يكن إلا رابطة بمصدر الحياة – الرحمن الرحيم -. و باعترافي سأعمل بشكل ما، على إستمرار الحياة بالمعنى الروحي للكلمة، و بالمعنى المادي لها، ما دام بطلبنا الإستغفار من الله يسمح بسقوط المطر، و ما دام بطلبنا الإستغفار من الله يزيد في الثروات، و ما دام بطلبنا الإستغفار من الله يسمح لنا بالحصول على ذرية. فلا نعود عبئا كالذي أخطأ و هو أمام الملك الكبير الذي يعاقب - الدركي الكبير -، و يطلب منه العفو. و للعفو هنا علاقة بالله تسمح لنا بإنماء حياتنا، و حياة الآخرين، وحياة الأرض، و حياة الخليقة. ليس للإستغفار هنا مفهوم الشعور بالذنب مثلما له في الدرجة الأولى. لا أعلم إن كنتُ أفهمت جيدا. ليس للإستغفار مفهوم إثارة الذنب، الذي نريد أن ندرسه لأبنائنا، ما دمنا نمدهم بالهدية لكي يصلّوا، و يذكرون الورد. هي لعبة غير جيدة. لأننا لا نعلمهم بأنهم عندما يستغفرون الله، فإنهم يستغفرون لبعضهم بعضا. فالذي يمكنه أن يستغفر الله، يغفر له إخوانه. إذا بدأنا ندرك، مفهوم المغفرة بين الناس، و الأمم، و الأقوياء، و فيما بين الآدميين، ( مِثل)، المغفرة بين الزوجين، فرجل يمكنه أن يسامح، و إمرأة يمكنها أن تسامح، فهذا زوج متماسك، و إذا لم يسامح الزوجين بعضهما البعض، فالعائلة إنتهت. و في مجتمع، و في علاقات العمل، عندما لا تتواجد إمكانية العفو عن عامل أخطأ في عمله، فهذا يعني أن العقد قد إنتهى. و إذا لم تعمل دولة على إحداث قوانين تعفو و تكفر عن من أخطأ، و إذا ارتكزت فقط على العقاب، و يغيب بها مفهوم المسامحة، فهذه مؤسسة لا تعمل. فإن مفهوم الإستغفار الذي يدعونا إليه الله، و يريد أن يوصله إلينا، و يريدنا أن نعيشه، لا علاقة له بمفهوم إثارة الذنب، بل  بالعكس يريد أن يُقوّمنا، كي نتصرف بطريقة لائقة مع إخواننا، ما دمنا نتصرف مع الخالق نفسه. هل يجب أن تكون لدينا هذه الحالة من الشعور التي تسمح لنا بأن نعيش هذا؟

    بعد الإستغفار، توجد الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم. فما دلالتها، بأن نطلب من الله أن يصلي و يسلم على الرسول  محمد صلى الله عليه و سلم؟

    سبقني أحدهم، وذكر كيف نفسر في التقليد هذه الصلاة على الرسول صلى الله عليه و سلم، و سأل أحدهم لماذا إلا الله من يصلي على الرسول صلى الله عليه و سلم، فكانت الإجابة، أنه الوحيد القادر على ذلك. فإذا رجعنا إلى التقليد الروحي، فلا يقف الأمر عند تبليغ صيغة فقط، فهو ذو معنى، و دلالة، و إشارة. ما معنى الرسلية؟ و نرى هنا أن التصلية تتحول إلى رحمة. فصلاة الله على الرسول صلى الله عليه و سلم رحمة. إذا رُدّتِ هذه الرحمة بعناية و سلام، فإنها تعود إلينا كرحمة، لأننا دائما في الدائرة، دائرة الحي، أين كل عمل، و كل كلمة هي حية، و تعمل، و تعود إلى من صدرت منه، و تعود كل فكرة إلى من برزت منه، و كل شيئ يعود إلى منطلقه. إذا أنا نذرت، و شعرت بأن تكون هذه الرحمة الإلهية في الرسول صلى الله عليه و سلم، و لماذا الرسول؟ لأنه أسوتي. لقد جعلته أسوتي، في هذه السلسلة المستمرة للرسلية ، و حكماء الإنسانية. أتوقف لبعض الوقت، في جهة ما، و لكي يتوجه تعبير فكرتي، و رغبتي نحو نموذج إنساني. لأن عندما أقول: « اللهم صلي و سلم على سيدنا محمد... »، أصيغها بفكرة. فيما مضى، ربما صيغوها في قدوة أخرى. و في تقاليد أخرى يمكن صياغتها في قدوات آخرين، لا يأخذون الرسول صلى الله عليه و سلم، رسول الإسلام كأسوة، و لكن نبي آخر، أو ربما لا يكون نبيا، قد يكون صنم ( طاغوت)، صوّره الخيال الإنساني و رسمه. عبد آدميين مثلنا أصناما، عبدوا أشكالا. مرت العبودية بمراحل متتالية.

    و نحن اليوم في هذا التقليد بالضبط، لدينا قدوة روحية، و هذه الأسوة في الرسول صلى الله عليه و سلم. لأن بتوجيه هذه الرحمة نحوه، سيصبح مُرشِح يسمح لنا بتلقيها بالرحمة المحمدية، لأن « و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ». القرآن الكريم. هو نفسه رحمة مُرشح (فِلتر) رحمة، فعندما يتلقى من الله هذه الصلاة، و هذا السلام، يرسله إلينا، نحن المرسل الأول بمُرشح الرحمة الأنسية للكائن الإنساني الذي هو عليه، فنتلقاها في سلام و رحمة. ترون أن كل عملية الورد، هي على الدوام، في حالات نكون فيها الفاعلين و الشهود، فاعلين و مُرسِلين و مُتلقِين. لا يتواجد الورد أبدا في الأفقية، فهو في الدائرة على الدوام.

    عند ذكر « لا إله إلا الله ». فقد ذكر أحدهم من قبل هذا الحديث القدسي: « لا إله إلا الله حصني و من دخل حصني نجا من عذابي ». يغير مفهوم لا إله إلا الله الصيغة و الإدراك كلية، لأنها تصبح حماية، و نجاة في العالم الآخر. نعقد اليوم تأمينات إتقاءا لحالة حدوث مكروه؛ حادث أو مرض، فنحن مؤمنين. و تأميننا في « لا إله إلا الله »، هو أن أتموضع في تلك الوضعية، و تصبح لا إله إلا الله بالنسبة لي طريقة لحمايتي من كل ما أجهل، من كل ما هو إلهي و لا أعرفه، و من الغيب الإلهي. قد يفاجئنا هذا الأخير حين لا نتوقعه، في الظواهر الوهمية للأشياء، ما دام هو الظاهر، و في الأشياء التي أقدر أنها لا تذكر، لأنها آخر ما يذكر « هو الأول و الآخر »، لأني لا أرى سوى الأمور الأولى، و الأمور الأخيرة ربما أجهلها، لأنها بالنسبة لي لا تستحق الإهتمام، و بالكاد تذكر لأنها الأخيرة. ربما هنا تختفي حقيقة تفوتني، قد تجلب لي الخير فأهملها، أو تأذيني فأتلقاها، لأنني في الوهم. إذن تصبح « لا إله إلا الله »، بالنسبة لي حماية و ضمان، تسمحان لي على الأقل في حياتي أن أحتمي من جهلي، و قصوري في المعرفة، و مراوداتي، و من الكثير من الأشياء التي أفعلها بدون إرادة.

    إلى هنا نصل إلى شكل لرؤية الورد، يفرض علينا إذا أردنا أن يستمر و يبقى حيا، أن لا نبلغ أمورا هي حقا جميلة، و لكن ولى عليها الزمن، و المهم هو تبليغ أمورا بسيطة و حية حتى يفهمها أطفالنا. فإذا كنا وفيين للتقليد فلأنه حي، التقليد الرسولي حي، تقليد هؤلاء المشايخ الذين يجعلون بنوة هذه السلسلة حي.

    سأذكر لكم إحدى الحالات، و أنهي بها. أثناء السياحة الأخيرة التي قمنا بها إلى تركيا، و كانت هدية حقيقية، أتتنا تلقائيا، لأننا لم نكن ننتظرها. ما دمنا نقلنا رفات إيفا دوفيتراي مييروفيتش إلى مقبرة كونيا بتركيا، لأنها إمرأة وهبت حياتها لترجمة أعمال جلال الدين الرومي، و الكل هنا يعلم ذلك، فبفضلها تمكن الفرنكفونيين من إكتشاف جلال الدين الرومي. فقد كانت المناسبة. و المفاجأة الثانية، هي أن السفر جاء في الوقت الذي جرت فيه الملاقاة الكبرى السنوية لكونيا، و كان هناك الآلاف من الأشخاص، حجاج من العالم بأسره. و الأمر الثالث، هو السياحة إلى إسطمبول. و هذه التي أريد أن أتكلم عنها، لأن لها علاقة بالورد، وردنا هذا. زرنا مسجدا صغيرا، مقارنة بالمساجد الكبيرة لمن يعرف إسطمبول، و جوامعها الجميلة، و الرائعة، و الواسعة. و هذا مسجد صغير و متواضع، و بجانبه ضريح لسيدي محمد ظافر. أخذونا إلى هذا المسجد، و المعلومة الوحيدة التي كنا نملكها هي أنه شيخ شاذلي. لم نكن كثيرين، كنا عشرة لزيارة المكان. دخلنا و زرنا الولي ثم المسجد الصغير المبني بالخشب، إنه رائع، أُنهي من ترميمه مؤخرا سنة 2010. و شرح لنا الإمام بعدما أرانا المسجد، أن السلطان عبد الحميد الثاني، كان يأتي هنا للتعبد، و ما زال يتواجد المكان الذي يجلس فيه، و المكان المخصص للوزراء، و كذلك للعائلة. و لكن لماذا إختار خليفة المسلمين بأسطمبول مكان متواضع و صغير، هو جميل، و جوهرة، و لا علاقة له بمسجد أيا صوفيا؟ فالسلطان، بالأحرى، يذهب للتعبد بأيا صوفيا. شيئا فشيئا، بدأنا نبحث فاكتشفنا ماذا؟ أولا، كان هناك جو داخل المسجد يجذبنا، جو هائل. إستشرت الأتراك الذين كانوا معي، لأني لا أتكلم التركية، و طلبت منهم أن يقولوا للإمام، إن كان بإمكاننا إقامة حلقة ذكر، و كانت صلاة العصر قريبة. فقال: إنتظروا، لم تقم حلقة ذكر منذ سنة 1923، قوموا بها، و لكن لبضع دقائق، سأغلق الأبواب حتى لا يرانا أحد. – و عندها ضحك الشيخ خالد بن تونس و هو يروي الحادثة -. هل تدركون ذلك؟ إرتبط الأمير عبد الحميد الثاني بسيدي محمد ظافر التونسي، إذ هو شاذلي درقاوي الطريقة. و عندما أصبح سلطانا إستقدم شيخه، و بنى له هذا المسجد، حتى يزوره في الخصوصية، و يذكر معه. منذ 1923، و الذكر متوقف، و كان يجب أن يعود شاذليين درقاويين إلى إسطمبول ليعيدوا تشكيل الحلقة التي أقيمت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. و الحلقة أقفِلت. لأن إبن سيدي محمد ظافر، إرتبط بمن؟ لقد توفي سيدي محمد ظافر سنة 1903، و ترك إبنا، و هذا الإبن إلتقى بالشيخ العلاوي سنة 1911 و إرتبط به. بعدما إنطلق الورد الشاذلي من جديد، وعدنا الإمام، أنه من الآن فصاعدا سيقام. هذه هي أهمية الورد بين الأحياء و الأموات. لماذا هذه الصدفة؟ لماذا لم نزر كل تلك المساجد الجميلة الموجودة بإسطمبول، و نذهب إلى هذا المسجد. لم أكن أعلم أية قصة، أؤكد لكم – ثم توجه إلى يونس جوفروا قائلا: يونس أنت كنت تعرفه -، أما أنا فلم أكن أعرفه، إنه أول سفر لي، و أكتشف هذا المسجد، و قصة هذا الولي المدفون به. إكتشفت كل هذا بالتتالي، و بالإرتباط الذي يوصلنا بطريق اللطف. بالنسبة لي، بهذا يفيد الورد، و يُذكّر بمصدر الحياة، و بهذه الدائرة. فهو ليس شكلا لإثارة الذنب، و لا وسيلة للبحث عن الكشف. لا تنهمكوا، فالورد وقاية لما هو أساسي، حتى تدوم الحياة، و تستمر، و تكون هذه الفرحة دائما بنا، و تُحفظ هذه النار، و يدوم هذا النور الداخلي، حتى  و لو ينقص، فإنه لن يزول أبدا، يبقى دائما هنا. أشكركم جزيلا، و السلام عليكم.