الجمعة، 13 مارس 2015

علاقة الإنسان مع الله

علاقة الإنسان مع الله


للشيخ خالد بن تونس

    إن عمل الإنسان الفاضل، من أجل خير المجتمع، في حضن الإنسانية، يصبح ضرورة تحفز سعيه و حتمية تقرر صلته بالله، و ليس فقط واجب أخلاقي و ديني.

    من الضروري أولا، أن نفحص مكانة الإنسان في الخلق، و نفحص المعنى المعطى لمفهوم الخلاص، لكي نفهم في الأخير، نطاق أعمالنا، و نقدر أهميته، في الحياة الدنيا.

    لا يؤكد الإسلام على التجسيد أو على تجلي المطلق، أو ينص على طبيعة الإنسان الساقطة و الناقصة و المذنبة، في صلة الإنسان مع الله. بدلا من ذلك، فإنه ينظر إلى الإنسان، كما هو عليه في فطرته، و إلى الله جل و علا، كما هو عليه في حقيقته المطلقة.

    صحيح أن الإنسان، في وضعه العاجل، كائن ضعيف أناني و غير عادل، يكون عادة، أسير رغباته و شهواته و عواطفه الحيوانية، و غالبا، ما يكون جاهل بحقيقة كينونته، التي تجعل منه آنية الضمير الإنساني.

    بأي شكل من الأشكال، لا يتجاهل الإسلام ضعف و قيود الطبيعة البشرية، و لا يعتبر الإنسان رغبة منحرفة، و لكن بالأساس، ككائن تلقى الأمانة من تلك الحضرة الإلهية.

    في هذا، فهو خليفة الله في الأرض. إذا كان جوهر الألوهية منيع و مطلق، بالمقابل، فهو بِصفاته قريب من كل الخلق. بها (1) يتقرب الإنسان منه. في ذلك، فهو على صورة خالقة، كمرآة تعكس بشكل واعٍ، هذه الحضرة الإلهية.

    هذه الفطرة، هي في المقام الأول، ذكاءا، يمكنه أن يميز الحق من الباطل، و يؤدي إلى التوحيد بشكل طبيعي. ثم بعد ذلك، تكون إرادة، يمكنها أن تختار، بشكل حر، بين الصواب و الخطأ. و أخيرا هي قوة الكلمة، التي يعبر بها عن الصلة بين الإنسان و الله، و أيضا بينه و بين أقرانه.

    إن العقل و الإرادة و الكلام، في جوهرها صفات إلهية، عهد بها الله إلى الإنسان، و بواسطتها يسعى إليه. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "إنما الأعمال بالنيات". في الواقع، إن النية هي التي تؤسس، قيمة الأعمال، مؤدية بالإنسان نحو الخلاص، أو أنها تبعده عنه.

    هي تتغذى و تعتمد و تنبني على شعوره. في الحقيقة، إن العقل لا يكفي وحده، فالأمر يتطلب بأن يكون مخصبا بالشعور، الذي بدوره بحاجة إلى هداية، لكي يولد و ينمو. هنا تتدخل التعاليم الروحية و الدينية، التي رافقت الإنسانية منذ الأزل. أنزل الله تربية الإيقاظ، بواسطة الأنبياء و الحكماء و الرسل، التي غذت و أنمت شعورنا الفردي، حتى تحقق في الشعور الكوني.

    عندما يصل الإنسان إلى هذه المرحلة النهائية، فإنه يتوحّد و يبلغ التوازن الكامل لشخصيته، و من هنا تأتي أهمية تربية اليقظة. فكلما ازداد شعورنا، كلما ترقت كينونتنا.

    إن عمل الإنسان الفاضل، من أجل خير المجتمع، في حضن الإنسانية، يصبح ضرورة تحفز سعيه و حتمية تقرر صلته بالله، و ليس فقط واجب أخلاقي و ديني. فهو خلاص للنفس، في هذه الدنيا، دون انتظار جزاء آجل في الآخرة. إنه طريق المحبة غير الأناني، الذي يؤدي إلى السلام و الإخاء، و السمو نحو الألوهية، منبع الرحمة، التي تمنح بشفاعتها للإنسان، نعمة الخلاص الأبدي.

    بالمقابل، إذا كانت فكرة الخلاص، مرتبطة بمنح مكافأة في المستقبل، و الخوف من العقاب الأبدي، فإن هذا سيُكيف سلوكنا، باتباع، بلا تبصر، معتقد أو أدبية، باعتبارهما السبيل الحصري للخلاص. و من ثم، تصبح مرجع وخيم العواقب، يواجه حرية الآخر، و الإحترام الواجب لمن هو مختلف عنا، و لا يفكر مثلنا، و لا نملك نفس المعتقد.

    لا يجعل منا مفهوم الخلاص، كائنات أخوية منفتحة للشمولية، بل بالعكس، كائنات تفكر في أن الذين لديهم نفس معتقدنا، أنهم هم على حق و يستحقون الخلاص. بهذا الموقف، فإننا نفقد الإعتراف برحمة الله الواسعة، التي تستوعب في حضنها جميع المخلوقات.

    يسمح هذا التنوع و هذه الإنقسامات للإنسان بالتساؤل و بالبحث. في مجال الإيمان، فإن الحقيقة دائما ثابتة. تنكشف لنا من خلال التجربة العميقة المعاشة في صميم الفؤاد، و بيقين راسخ في صِلاتنا بالله. لكل تقليد منهجه. هذا التنوع مقصود، حتى يتلقى كل الناس الحقيقة، وِفقا لثقافاتهم و عقولهم.

    قال محمد صلى الله عليه و سلم "حدثوا الناس على قدر عقولهم" (2)، و قال الله تعالى "و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة". سورة المائدة، الآية 48. دائما و في كل مكان، زعم رجال أنهم على حق، و جعلوا الآخرين يعانون، الذين لم يكونوا متفقين معهم. على الرغم من الإبادات الجماعية، فإنهم لم يتمكنوا من إيقاف مصير الإنسانية.

    إن الوحي الذي جاء به كل نبي، يُحفز و يوقظ الإنسان لكي يستعيد الكونية المندرجة فيه. لا يوجد أي عداء بين الأنبياء، و لا يوجد أي معارضة بين الرسائل السماوية، و لكن استمرارية مثالية في وئام. فلنتخلى عن ادعاءاتنا التي تجعلنا نعتقد أننا الوحيدين الموجودين على الطريق الصحيح. إذا كانت الرسالة هي نفسها عالمية، فإن الإنسان بأنانيته، يقوم بتحويلها و التقليص منها و جعلها جافة، مُستليا عليها باستغلالها من أجل تحقيق مكاسب شخصية.

    إن الخلاص و وسائل الخلاص، تصبح مجالا مخصصا للبعض، مُقصية البعض الآخر. إستحوذت عليها "نُخب"، و إذ أنهم يستغنون عنها أو يقيدونها، تعسفا، إستنادا إلى تفسيرهم للنصوص المقدسة. على الرغم من أن هذا الإجراء، يستند أحيانا على النوايا الحسنة.

    لا يُتحصل على الخلاص بوصفة سحرية أو عقائدية أو طائفية، يمنحها أشخاص "علماء" أو "مستنيرين". هو رحمة عظيمة، يمنحها الرحمن إلى كل مخلوق يعود إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). أي صفاته.
(2). عن عبد الله ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلا كَانَ فِتْنَةً عَلَيْهِمْ". رواه مسلم.