الاثنين، 8 يونيو 2015

حجب و كشف

حجب و كشف

    عقد الشيخ خالد بن تونس يوم 28 12 2014 جلسة بمقر جمعية كاثوليكية تدعى شِنيلي بفرنسا، و على إثرها ألقى كلمة، داخل قاعة، تضم حضورا من مسيحيين و مسلمين، كشف فيها عن وجه آخر من مدلول محور من محاور مؤتمر الأنوثة الدولي الذي انعقد بمدينتي وهران و مستغانم في الفترة الممتدة بين 28 أكتوبر و 01 نوفمبر 2014، و هذا المحور هو "حجب و كشف"، بالفرنسية "voilement et dévoilement" الذي خُص بمواضيع ثرية و معرضا سيجوب مختلف مدن العالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    سيداتي سادتي، أصدقائي الأعزاء. أولا أنا سعيد بوجودي معكم، لقد إحتفينا بأعياد الميلاد، و أعلمكم أن السنة القادمة، سيتصادف موعدا أعياد الميلاد و المولد النبوي، و سيكونان فعليا في نفس اليوم. هذا لإفادتكم.

    .... يقول تقليد من التقاليد الصوفية، أنه عندما أراد الله خلق الكون أخذ قبضة من نوره، و قال لها كوني.. (1). خلق هذا الكون محبة، للتأمل من خلاله، بمأن الكون ليس هو إلا مرآة الألوهية.

    لنرجع إلى التقليد الصوفي، الذي هو قديم، و يعتبر مدرسة الفكر الروحي للإسلام، و حتى أن القليل من المسلمين يعرفون ذلك. إذا كان المسلمون لا يعرفون عنه سوى القليل، فما بالك بالآخرين، الذين لا يعرفون عنه إلا شذرات.

    يرجع هذا التقليد الروحي، من خلال سلسلة متصلة من المشائخ، إلى المنبع، و هو رسول الإسلام، سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم، فإليه يعود أصل هذه المدرسة، و هي لا تتميز بالإيمان، فبالنسبة للصوفية، الإيمان في متناول كل واحد، فاليقين هو ما يجب الحصول عليه، بالتجربة و بطروءه على الشخص، و بكيمياء تحولٍ و تحقيق، حتى نعيش يوميا نوعا من الصقل المستمر  لنفسنا الأنانية، و نتحرر و نلجأ نحو الذات الباطنية، أو ما نسميه الفؤاد، و بالنسبة للبعض هو الضمير. يُغذَى الضمير على الدوام بالحضرة الإلهية، إلى أن يبلغ درجة يعكس فيها هذا النور، و يكون المرآة العاكسة له، و نكون عندها بشكل ما، موضوع التجربة و الشاهد، لأننا شهود على أنفسنا، و إنّ الأمر يكون متعلقا دائما بذاتيتنا، و لا مجال للمقارنة بالآخرين.

    كيف نعكس فينا النور الإلهي؟

    سعى الإنسان دوما نحو الحقيقة، منذ فجر التاريخ، و عندما نسأل مشائخ صوفية، يقولون أن التقليد قديم، قِدم الإنسان، و قد بدأ السعي وراء الحقيقة مع الباحثين الأولين، الذين رافقتهم الطمأنينة و الحكمة. و إننا نعطي للحقيقة إسم آخر، هو الحنيفية السمحاء. و الحنفاء هم الذين تعلقوا بهذا الطريق الوسط، و اجتنبوا الأطراف، و لم يخوضوا باطنية نعتها السكر، و إنما سعوا في بحث مستمر عن الحقيقة، أساسه التجربة المعاشة، و حاموا حول شيئ نشعر به في أعماق أنفسنا، يقوم بتحويل حقيقتنا الذاتية الفردية إلى حقيقة كونية، في شهود، و تأمل، و هو إدراك عميق في أنفسنا، فلهذا أننا نتكلم كثيرا عن حجب و كشف.

    أحيانا هو سبيل لحجب و كشف الأحوال و المقامات. توجد أحوال متعددة، أما المقامات، فهي ما قدمه لنا الأنبياء عبر تاريخ الإنسانية. و إننا لنذكر أن فلانا بلغ المقام الإبراهيمي، و فلانا بلغ المقام العيساوي، و فلانا أدرك المقام الموساوي، و غير ذلك، حتى بلوغ المقام الآدمي، و هذا ما يعني، إعادة عيش كل مسار هذه الدائرة، الذي ينطلق من نقطة متجذرة في الفضاء و الزمن، و يقوم بالدوران حول نفسه، و يرجع إلى أصله الحنيفي. لهذا هو دين الحنيفية. لا نقول ذلك لأنه الأحسن، أو أنه يحوي الحقيقة، و لكنه يُحصِّل فينا حقيقتنا الإنسانية و الروحية.

    ينطلق الصوفية من مبدأ يقول، أن للإنسان مظهران، مظهر معروف و هو الإنسان البيولوجي و الجسدي، الإنسان العاقل، الواقع تحت تأثير غرائز أصوله. علينا أن نأكل و نشرب و ننام و ننجب، و غير ذلك، فهذا مما يتصف به الإنسان المعروف و البيولوجي. و لكن هذه ليست حقيقة ما نسميه الإنسانية فينا. فالمسمى الإنسانية التي فينا، هو شيئ آخر، إنه الجزء المخفي، و الإنسان المجهول فينا. كيف نكتشف ذلك الإنسان المتواجد في أعماقنا، الذي هو أصل ميلادنا؟

    عندما يجيئ الطفل، يجيئ حسب الفطرة، و إن هذه الفطرة هي النفس الأصلية، التي بها كل إنسان يولد في هذا العالم. يكون كصفحة بيضاء، غير مُطوع بعد ، بما يتلقاه من ثقافة المحيط الذي يولد فيه، و ثقافة والديه ، و ما يَحصل عليه من التعليم و التربية. كل هذا متعلق بالمظهر الخارجي. عندما نولد في هذا العالم، نولد بحسب الفطرة، نفسا صافية كلية، و أصلية. عندما تنمو هذه النفس الصافية ستحصل على تربية و تكوين و ثقافة الوسط الذي ولدت فيه، و هذا ما سيحدد طريقة رؤيتها للعالم و فهمه، و لا يمنع هذا من أن يُحجب المظهر الأول الأصلي الحنيفي ، بالإضافات الخارجية، كلما تقدم نمونا. إذن إننا نُعلم أبنائنا و نبصرهم بالخير و الشر. نحن من يحدده بالنظر إلى الأصل الصافي الذي يولد به الطفل، و إنه لحَجب. شيئا فشيئا، سنقوم بحجب هذه الحقيقة الأولى المحضة النورانية الأصلية بحُجُب. لا ننسى أننا نقول في التقليد، أنه طريق ضروري، يجب أن يحجب كي يكشف لاحقا. نغطيه بحُجب حتى نخفي حقيقته الأولى، و عندما يصل إلى نضج معين، فإن المرء بنفسه سيجرب ما هو الكشف شيئا فشيئا. سينتبه و يقول، لقد قالوا لي أن هذا الشيئ أبيضا، و لكنه ليس كذلك، و سيرفع الحجاب و يرى أن ما كان لديه و هو صغير إثباتا، سيتغير مع الوقت إلى شيئ آخر. و هذا الشيئ الآخر هو ما، سيجربه و يعيشه بنفسه، و منه كل التعليم الذي سمح لذاتيتنا بالتواجد بواسطة الحَجب.

    نحن لدينا وطن و نسب و دين، و نتصف بلون، و نملك فلسفة و ثقافة و غير ذلك، و سيجعل منا هذا، أناس لديها أسماء، لم تخترها على الغالب، و لا أحد يدعي أنه بُرمج لينشأ في بطن أم فرنسية أو صينية أو روسية أو أمريكية أو عربية أو سوداء أو صفراء. جاء كل واحد منا إلى هذا العالم من خلال علاقة كائن بكائن، أي في إطار مبدأ التوحيد. عندما يلتقي رجل و إمرأة فإنهما يشكلان مبدأ التوحيد، الذي هو نفسه يثير الحياة. حتى يثبت العكس(2)، ربما سنصل إليه يوما، و العلم يقوم بتطورات مذهلة. و لحد اليوم، فإنه بالتقاء كائنين تنتقل الحياة. تفيد الإشارة أن مبدأ الأنوثة و مبدأ الذكورة يلتقيان لتتشكل وحدة الكائن، الذي يسمح لعملية الحياة بأن تستمر، و بدون اللقاء لا يتم الإخصاب، و لن توجد الحياة. إن الكائن الخارج من مبدأ توحيد الزوجان، يعطي لنفسه ذاتية، و إن هذه الذاتية تتلقى لباس ثقافي و ديني و فلسفي، يخفي قسرا بداخله تلك الحقيقة الأولى، كما تخفي ألبستنا جسدنا. تغطي ألبستنا جزءا من جسدنا.

    كل ما نتحصل عليه عبر كل حياتنا، عن طريق والدينا و مدارسنا و جامعاتنا، و من خلال كل ما نتعلمه هي ألبسة. على مستوى التوحيد الذي نحن عليه، فإنها تلبس الإنسان و تعطيه لونا و شكلا، مخفية بذلك سوءته أو حقيقته الأولى التي جاء بها إلى العالم. إن هذه العملية ضرورية لإثبات الذاتية التي نحن عليها، و إثبات فردية كل واحد منا. يعرف فلان بفرديته و بلونه، و بلون عينيه و كرمه و بطباعه التي ستشكل حقيقتنا البشرية. أما الحقيقة الربانية الروحية التي تسكننا، فهذه تبقى مخفية. و إنه علينا القيام برحلة نحو البحث الأول، و هو الذي كنتُ عليه عندما ولدت في هذه الدنيا. جئت بماذا؟

    بالنسبة للطفل و حتى بالنسبة للجنين، فالعالم يتلخص عنده، في الأم، التي وهبته الحياة، فهو يعرف صوت و رائحة أمه، و إنه يعيش معها، وطوال فترة الحمل يتقاسم معها نفس الجسد، مع تشكيل جسده. إذن يوجد هنا وحدة نفْس، كمَثَل الخلية الأولى. إن الخلية الأولى، هي من سيحدد ما سنكون عليه، و إنها واحدة و وحيدة. عند الإخصاب تكون موجودة خلية واحدة، و هنا يظهر مرة أخرى مبدأ التوحيد. نمر كلنا من هذا الطريق. تنقسم هذه الخلية إلى إثنين ثم أربعة فثمانية، و شيئا فشيئا، يتشكل الكائن في بطن أمه، في هذا المحيط، في هذا الماء الأصلي، الذي تحمله الأم بداخلها، و إنه يسمح للجنين بأن يكبر، و يجد المساحة التي تناسبه، و الحرارة و الغذاء اللازمان، كمثَل تلك الأوقات الفردوسية للخلق الأول، عندما كان آدم و حواء في الجنة، في تلك البيضة الكونية، عندما كانا لا يخشيا من سوءتهما، و يعيشان سرورا و سعادة، و لم يطرأ على بالهما أي تساؤل عن كيفية العيش، أو عن إرتداء الزي، و لا كيفية الزراعة و التجارة، و كيفية التعبير. كانا كما يكون الجنين في بطن أمه، الذي لم يكن يطرح أي تساؤل، مادام أنه محمول ببطن أمه، كما كان في الأصل آدم محمول بالعناية الإلهية، و بتلك المتناقضات.

    لغويا، لنلقي نظرة على مصطلح الرحم. فالرحيم، هو إسم من أسماء الله تعالى الحسنى، و الرحم هو أيضا جنس المرأة. لهما نفس الإسم. الرحم الإلهي و رحم الأنثى. لهما بالضبط نفس المصطلح. حمل الحي الأبدي الخليقة، و أنشأها بلا توقف، و أوجد الحياة على الدوام، و كلنا جئنا من هذا المنبع، الذي هو الحي، و هو إسم من أسمائه تعالى.

    عندما نحصل على تلك المكانة و الشخصية، و نبلغ مستوى تفكير و تأمل مناسبين، يمكننا العودة إلى البحث، و عندها يكون أمامنا خيارين، و هما، إما القيام بهذا البحث، و معاودة الغوص في أعماق النفس، و رفع الحُجُب المتوالية و المتراكمة، و اكتشاف الأصل الرباني و الروحاني الموجود بذواتنا، و إما الإستمرار في حَجب أنفسنا، و سيبقى البحث عندها قائما، و لكنه يأخذ شكلا آخرا، سيظهر البحث عن السلطة و المال و التشريفات و الرفعة. نحن دائما نلتمس بحثا و طمأنينة و سلاما. شئنا أم أبينا، يرغب كل كائن في هذا الأصل. التأويل و الحركة ناشئان من حركة باطنية و عميقة أو من حركة ظاهرية، أكثر فأكثر تشتتا. يختار المرء هذه الأخيرة، و يضع فيها كل جهده، باحثا خارج ذاته سُدى، ما هو موجود في أعماق كينونته. هذا تناقض.

    تكلمت الفلاسفة و الحكماء و الأنبياء و الكتب السماوية و الكتب المقدسة عن البعد الداخلي للسعادة و السلام، و تحذرنا من النفس الأنانية، التي تريد على الدوام بناء ذاتيتها بما هو ظاهري، بالزائل و السراب. سراب السلطة و المعرفة و الثراء، و السعي الدائم وراء شيئ لا ينتهي أبدا. لأنه يوجد دائما عدم رضاء باطني، و لم نستجب للطلب الملزم الآتي من باطنيتنا. هذه الباطنية هي الضمير لدى البعض، لأننا لو نزعنا الضمير من كائن، فإنه سيصبح حيوانا عاقلا، و لا يمنع من أن ما يحدد كائنا ما، هو سمو ضميره، حتى يصل بأن يمتلك القدرة، و يرى بباطنه، الضمائر التي تحيط به، أنها متوحدة. ضمائر العالم الحسي، و ضمائر العالم ماوراء الحسي. كلما سمت الضمائر و كبرت، كلما انفتحت كينونتنا و تحررت، و لم تعد أسيرة شهواتها، و لم تبقى أسيرة جوارحنا. سيصبح كائنا متحررا من ثقافته، مع امتلاكه لها، و يتحرر من دينه، مع الرسوخ فيه، و يكون متحررا من نزواته، على الرغم من أنه يأكل و ينام و يشرب كبقية الناس. لن يصبح إنسانا لاحسيا و منغلقا، بل فقط غير متمسك بها، و يجعل مسافة بين ما هو ضروري و بين ما هو أساسي. إن الضروري هو ما كان موجودا في الحياة، و في الرضاء بالأشياء التي نتحصل عليها و نتقاسمها، و في ما جادت به الحياة التي نعيشها، و إن الأساسي هو بالنسبة له، المركز الذي يجد به مبدأ التوحيد، و كذا الألوهية، و يكون فيه وجودنا كامنا في التجانس.

    لنأخذ رمزية المسيحية. ما هي الأفقية و العمودية؟ الأفقية هي توازن العالم الظاهري و عالم الشهادة، و إن الرغبة في تحقيق الألوهية هي بدون نهاية، و من الواجب موازنتها بشيئ آخر، و هو العمودية. كلما كانت أفقيتنا أكثر دقة، كلما كان لزاما على عموديتنا مساعدتنا على الإرتقاء، و إلا ستكون أفقيتنا أمرا سخيفا، لأنها ستعيقنا. سيصبح كل شيئ متشابه، و لا شيئ سيمتاز بطبيعة أو مزاج، يسمح لنا بالسمو، و رؤية الأشياء بوجهة نظر أخرى، تكون متميزة، و تتمتع بنوعية و ليس بكمية. تكون ذات نوعية على المستويات الإنساني و الروحي و الإلهي. ما هو نصيبنا من الإنساني و الإلهي، و نصيبنا من الإنسان المعروف، البيولوجي، و من الإنسان المجهول، الذي هو الإنسان الروحي؟

    من الثابت أن لا أحد يستطيع أن يفر من كيمياء الثنائية، و إن الجمع بين الإثنين، يسمح للعالم بأن يكون على ما يرام. السالب و الموجب، و الفرح والحزن، و السعادة و الشقاء، و الضحك و البكاء. كل شيئ في عالمنا في ثنائية على الدوام. لا نستطيع فهم و تخصيب الثنائية، إلا بخوض تجربة باطنية حميمية، و نبلغ مرحلة سمو، ثم نجعل من الثنائية مبدءا للتوحيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1).  جاء بهذه الرواية "لما أردت أن أخلق الخلق قبضت قبضة من نوري فقلت لها كوني محمدا ثم خلقت من نور محمد كل الأشياء".


(2). أي الإستغناء عن لقاء الرجل و المرأة لإنجاب الأطفال، و هذا ما يحاول العلم الحديث تحقيقه، من خلال محاولات كالتلقيح الإصطناعي، و أطفال الأنابيب، و مشاريع جريئة أخرى.