الثلاثاء، 27 سبتمبر 2016

جَـنْيُ الأمـل

جَـنْيُ الأمـل


بسم الله الرحمن الرحيم

    "احفظوا صورة هذا الجسد. ينبغي خدمة الإنسانية، و التفكير فيها، و رؤيتها بمثابة جسد مُوحّد. تعمل جميع خلايا الجسد، من أجل صالح هذا الجسد. الوحدة و الإخاء... هذا هو الميراث العريق، الذي ينبغي علينا إيصاله، إلى باقي الإنسانية. توحيد الله ليس سوى وحدة الجنس البشري. ينبغي أن نعمل لهما معا. لا نستطيع أن نفصل هذه الإنسانية."

    الشيخ خالد بن تونس، أثناء الجامعة الصيفية، للكشافة الإسلامية الفرنسية، عام 2015.

    كلما خطى أهل الحق خطوات إلى الأمام، و إلا و تجد أذيال الشر تتبعها، و تلاحقها، محاولة منها تحطيم ما بنوه، أو على الأقل التشويش عليهم، أو الصد عنهم، تاركة الساحة لفوضى عارمة، و عقول حائرة و نفوس تائهة و قلوب عليلة. تسعى قوى الضلال جهدها، للنيل من قوى الخير، و تحاول أن تكون لها سدا منيعا، مستعملة كل أنواع الحيل و المكر. بعد كل عمل ناجح و أمل قائم، يجود به الله سبحانه و تعالى على الشيخ خالد بن تونس، و إلا و يتعرض طريقه لعوائق و شدائد، تثير الشكوك في البعض، و تهين عزم البعض الآخر، و لكنه بعد كل هزة، يقوم و ينفخ فيمن حوله روح الأمل، لاستجماع الأشلاء، و إعادة المياه إلى مجاريها.

    هزت فرنسا أحداث دامية ليلة 14 يوليو 2016، بمدينة نيس، الواقعة على الساحل الجنوبي الفرنسي، على ضفاف البحر الأبيض المتوسط. تجمع عشرات الآلاف من المحتفلين بالعيد الوطني الفرنسي، في أحد الشوارع، و فجأة صدمتهم شاحنة مجنونة، خلفت عشرات الضحايا و الجرجى، و ساد إثرها جو من القلق و الخوف، و كذا الحقد و الكراهية، اتجاه من أفزع المواطنين في عيدهم. من المؤلم بمكان، أن ينسب مرة أخرى الإعتداء إلى مسلمين، تلك الأقلية، التي تحاول أن تثبت لنفسها و للمجتمع، أنها تركيبة مواطنة بكامل الحقوق و الواجبات.

    خلف هذا الحادث شرخ في مشروع الشيخ خالد بن تونس، أو أنه حاول زعزعة تلك الروح التي يبثها الشيخ قدس الله سره. في كل مناسبة أكد الشيخ خالد بن تونس للمسلمين الأوروبيين، أن يعتبروا أنفسهم مواطنين بكامل الحقوق، و لا يعيشون على الهامش، و شجعهم على ممارسة واجباتهم اتجاه أوطانهم الأوروبية، و حذرهم من العزلة و التقهقر، مواجهة لذلك التيار، الذي يحاول بما أتي من قوة، ضرب الإسلام، و إلصاق كل مضرة بتصرفات المسلمين.  

    قال الشيخ خالد بن تونس في محاضرته الخالدة، يوم ألقاها بجنيف، بقاعة باليسكو، بتاريخ 09 10 2010، عنوانها - من أجل إسلام السلام- " بعد صدمة 11 سبتمبر 2001، التي سببت موجة صدمة، لا تزال تثير موجات متتالية من السخط و الإحتقار، و رفض الإسلام و حضارته، و رسالته الأصيلة الشاملة. كل مسلم أينما تواجد، شعر أنه مصاب في كرامة إيمانه. أصبح رغما عنه، إرهابي محتمل نريد اخفاءه في الظل، و على استعداد ليطفو على السطح، في أي وقت، لتنفيذ ضربة." في هذا الجو المشحون و المتوتر، يحاول الشيخ خالد بن تونس، العمل على نشر رسالة الأخوة و المحبة، و ثقافة العيش معا، و إحلال السلام في قلوب الناس، و خصوصا يريد الإبقاء على الأمل، و التذكير بالطاقة التي يحملها السلام، الذي هو إسم من أسماء الله الحسنى.

    بعد الحادثة، صدر بيانا، يحمل توقيعي الشيخ خالد بن تونس، و السيد حميد دمو رئيس الجمعية الصوفية العلاوية، المنظمة غير الحكومية – عيسى –، جاء فيه " تندد المنظمة غير الحكومية الدولية – عيسى- بشدة بالهجوم المروع، الذي أصاب مدينة نيس مساء يوم 14 يوليو، و الذي كلف حياة العديد من الضحايا الأبرياء... و أمام هذا العمل الحقير، و الذي لا يطاق، فإننا نتوجه ...بالتعازي الخالصة، و التأكيد على التعاطف العميق و الصادق"....أضاف البيان " نحن أعضاء المنظمة غير الحكومية الدولية عيسى، أصبنا في أعماق أنفسنا، لأنه من خلال هذه الهجمات القاتلة، نحن جميعا مستهدفين. يستهدف هذا العمل الشنيع و اللاإنساني، القيم الإنسانية و العالمية، التي تجمع العائلة البشرية على تنوعها، وذلك بهدف خلق جو من الرعب، لنشر الكراهية والفوضى... إن كنه مجتمعاتنا، هو المستهدف.  و خلص البيان "فإننا ندعو إلى العمل معا، للدفاع عن قيم الإخاء و التضامن، من أجل حياة أفضل معا".

    لم يتوقف الشيخ عند هذا الحد، فبعد الحادثة مباشرة، عاد أدراجه من الجزائر، و بكل عزيمة و قوة، خرج مخاطبا مواطنين، ينتمون إلى مختلف النحل و المعتقدات، تجمعوا بمدينة كان الأخوية، القريبة من نيس، و صاح فيهم بالكلمات التالية:

     "إن الأمر يتعلق بتوحيد الأسرة البشرية، و أن نجعل منها جسدا واحدا، بحيث يشكل فيه كل مجتمع  عضو من الأعضاء، عضو يكون كاملا، مع نفس الحقوق و نفس الكرامة. إن الذي علينا القيام به، هو أن نتبادل و نلتقي و نكتـشف بعضنا البعض، حتى تعرف الأجيال القادمة أننا لم نتنازل.

    شاركتُ في 28 مايو الماضي في القمة العالمية للعمل الإنساني بإسطمبول. إنها المرة الأولى، بموافقة جميع الدول الممثلة في الأمم المتحدة، أصبحت الإنسانية شخص اعتباري. إذن، إذا تم الإعتداء على الإنسانية، فإنه يمكنها أن ترد كونها إنسانية، و ليس بصفتها وطن أو دولة. إن الإنسانية جمعاء قادرة على الرد. اليوم أصبحت  كائنا إعتباريا، قانونيا، قادر على مقاضاة كل من يصيبه. كانت النقطة الثانية، هي إختيار و إدراج في سياسات الدول، العيش معا. إن أولى الدول، التي بادرت إلى إدراج العيش معا، في ديبلوماسيتها، هي كندا، قامت بإنشاء أول مرصد دولي، للعيش معا، في كل مدنها.

    ينبغي أن نتذكر شيئا أساسيا، و هو أن لا نلقي بالذنب على مجتمع، مقارنة بمجتمع آخر.

    أُجري إستطلاع من طرف معهد دولي كبير، و هو معهد جالوب (1)، المعروف عالميا، و أظهر أن، في 35 دولة مسلمة، 93% من المسلمين يقولون لا للإرهاب، لا لقتل الأبرياء. و عندما سئلوا لماذا تفعلون هذا، أجابوا، إن الأمر يتعلق، وفقا لما جاء في ديننا. إن ديننا هو الذي يعلمنا عدم إيذاء الأبرياء. إذن هم 93% من المسلمين، هم معنا اليوم.

    عُدت بالأمس من الجزائر. إلتقيت بأعضاء من عدة مدن، من العاصمة و المدية و تلمسان و وهران و مستغانم، إنها عشر مدن، جاءوا إلي، و طلبوا، أن أنقل التعازي إلى مدينة نيس. و لدينا كشاف شاب، فقدَ افراد من عائلته، فقدَ الأب و الأم و طفلين.

    نحن جميعا على متن نفس القارب. لا مفر، إلا بتوحيد قوانا و طاقاتنا و محبتنا و صلواتنا و أعمالنا، حتى نجعل من مجتمع الغد، مجتمع للعيش معا و للإحترام و تقديس الحياة، و التبادل المثمر بين الناس.

    اللهم بارك في هذه الجمعية، و احمل أصواتنا إلى القاصي و البعيد، و جِد لها قلوب واعية..

    قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "أفشوا السلام و اطعموا الطعام و صِلوا الأرحام و صَلّوا بالليل و الناس نيام". أي صَلوا بالليل، صلاة المنعزل، حيث يكون كل شخص منفردا بضميره. إنه يضمر للآخرين تعبده و كثرة صلاته. ففي العزلة نخضع للمسائلة، كل شخص بما اقترفت يداه من عمل.

    شكرا جزيلا." (2)

    و مما يثلج الصدر، هو إسراع عدة شخصيات دينية و علمية و غيرها، من المجتمع الفرنسي، من شتى المعتقدات، لها وزنها، إلى إصدار عند نهاية أجتماعهم، بيانا، جاء فيه

    "نحن الذين نجني الوحدة، بعيدا عن الإختلافات العقدية، إننا نرفض التنازل، و مستمرين في بناء جسور، في حين يريد أعداؤنا تدميرها، و إقامة أسوار.

-        جنب إلى جنب، مع كل المجتمع المدني، ينبغي أن نستمر في الإلتزام بنفس الثابت، و دائما بقوة أكبر، ندحض التعصب و الإقصاء.
-        معا، نحن أقوى.
-        معا، نعمل من أجل خير الإنسانية."

    أما عن صدى رسالته الأنسية (3) و تلقفها من طرف الناس، فيلخصه هذا السؤال، و رد الشيخ خالد بن تونس عليه:

    السؤال، طرحه أحد المسيحيين بفرنسا، فقال صاحبه "سيدي الشيخ، فيما يخص الإحسان، لم أسمع أبدا، أن متدينا مسلما شجب الإسلام الهُزئي و العنيف، و إن أي إنسان إنه لعنيف، حسب رأيي، و غير متدين، و إنني لم أسمع عن أي شخص ينتقذ، أو يدين العنف المرتكب من طرف إسلاميين مزعومين. شكرا."

    و أجابه الشيخ خالد بن تونس:
    "أشير إليك سيدي، أننا نصرح بذلك، و نقوم بجهود، و لكننا لا نجد آذان صاغية، لأن الصعوبة اليوم، تكمن في أن الصحافة، في الجهتين، سواءا في الشرق أو في الغرب، تخصص عمليا 99.9 % من إعلامها لهذه الفئة من الإسلام. نحن مندهشين، لأنه لا يوجد أي توازن في هذا المستوى. هل سمعت أن شبانا عبروا شارع "شون ديليزي" بباريس (4)، شباب مسلم من الكشافة الإسلامية، حملوا شعلة الأمل، و كانوا ألوفا، و لم يتواجد هناك أي صحفي و لا أيّة كاميرا. لماذا؟

    قمنا بتجمع للعيش معا (5)، كان بينا، يهودا و كاثوليك و بروتستان و بوذيين و مسلمين، فهم قاموا بطواف، و كانت الإنطلاقة من المسجد نحو الكنيس، و منه إلى الكاتدرائية، و منها إلى المعبد البروتستاني، و لحق بنا البوذيين عند نهج -لا كروازات-. هل سمعت بهذا؟ نقوم بذلك منذ ثلاث سنين. نحن في مدينة كان، مدينة الإحتفالات. أستطيع أن أذكر لك عدة أمور. أئمة و خاخامات يلتقون من القارات الخمس (6)، محاولة منهم للتخفيف عن ما يحدث بالشرق الأوسط، و لا يصدر أي سطر عن ذلك. إذن توجد أمورا كثيرة، و لا نفهم، أيمكن مواصلة السير بهذا الشكل، و ندعي أن المعلومة صحيحة؟ عندما نطرح بأنفسنا هذا السؤال، يكون الرد، أن الصحافة ليست هنا للكلام عن القطارات التي تصل في وقتها المحدد."من نفس المنظور، كانت دعواهم، حسبما صرح به الشيخ خالد بن تونس "أننا أناس طبيعيون و الصحافة لا تخوض في الأمور الطبيعية".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). هي مؤسسة جالوب الدولية لاستطلاع الرأي، تجري عملها بانتظام في  أكثر من 140 دولة. جالوب لاستطلاعات الرأي، حصلت على شهرتها، من الإشارة إليها، في كثير من الأحيان في وسائل الإعلام، بوصفها كمؤسسة موثوق بها، وموضوعية لقياس الرأي العام. تأسست سنة 1947. تاريخيا، قامت جالوب، باستطلاعات لقياس الرأي العام، و تتبع المواقف الجماهيرية، في كل من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، و مواضيع القضايا اليومية، بما فيها قضايا، غاية في الدقة والحساسية أو حتى المثيرة للجدل.
    استطلاعات جالوب مشهود لها بالدقة، في التنبؤ الصحيح، بنتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة.

(2). رسالة الشيخ خالد بن تونس، من مدينة كان، يوم 17 07 2016.

(3). الأنسية Humanisme هي حركة فكرية، تطورت في أوروبا خلال عصر النهضة، ظهرت بإيطاليا في القرن الـ 14 و انتشرت في أنحاء أوروبا، خلال القرن الـ 16. الأنسية هي سلوك فلسفي يجعل من الإنسان القيمة السامية، و تدعو كل شخص إلى أن يتحلى بإمكانية انشراح إنسانيته، و قدراته الإنسانية. يرتكز الشغل الشاغل لها حول الدراسة الإنسانية، و استفاد الباحثين مما تركه الإغريق و اليونان حول القدوة العريقة، و استمر الفلاسفة و العلماء في البحث و تحديد معالم الإنسان الكامل، مثال الإنسان الشريف.

    الأنسية تعني كل فكر يضع أول أولياته، تطور القدرات الجوهرية للإنسان.

    عربيا اختير مصطلح "أنسية" لترجمة كلمة Humanisme، و هو نادر الإستعمال، و كثيرا ما يستعمل مصطلح "إنسانية" لترجمتها، هي و كلمتيHumanité  و Humanitaire.

    الأنسية الحقيقية  لكل الفلسفات التي عنت بحياة الإنسان، هي التي جعلت من الإنسان مركزا و المقياس و الغاية السامية لكل الأشياء، و تنطبق بشدة لمعرفة و شرح دوما، على نطاق واسع، الطبيعة البشرية، و ما لها من شمولية، و تشجع تحت وطأة القلق، التجديد القائم حول التقاليد، و تدافع عن القيم الإنسانية أينما وجدت، و إن هذه القيم يطالها تهديد كبير.

(4). قامت الكشافة الإسلامية الفرنسية سنة 2011 بمبادرة جديدة، بهدف تشجيع المواطنين الشباب، على التسجيل في القوائم الإنتخابية، حيث شكلت قافلة، جابت التراب الفرنسي، في الفترة الممتدة بين 7 مايو و 24 سبتمبر 2011، حملت إسم، شعلة الأمل المواطن، على غرار القافلة التي نظمت سنة 2007. ختمت القافلة رحلتها في اليوم الموعود، بولوجها العاصمة الفرنسية، و خصت باحتفال رسمي، حيث عبر الشباب المسلم، بحضور جملة من الرسميين و الجنود، أشهر شارع في باريس، و هو شارع "شون ديليزي"، وصولا إلى قوس النصر. تم تشكيل طوق أمني، و منعت السيارت من دخوله، و حُبس المارة عند حافتيه، و هي سابقة في البلد، لأنها عنت جماعة إسلامية. تم تقديم دعوات للصحافة و القنوات التليفزيونية، و للأسف لم تلبي كبار القنوات الفرنسية، مفضلة الكلام عن الإسلام الهزئي العنيف، مديرة ظهرها لثقافة السلام و العيش معا.

    رابط يشير إلى الحدث، بإحدى الصفحات الفرنسية:


(5). يشير إلى مهرجان  العيش معا بـ "كان"، الذي سيعرف هذه السنة طبعته السادسة، و التي ستقام بحول الله سبحانه و تعالى، يومي 19 و 20 نوفمبر 2016.

(6). يقصد المؤتمر العالمي للأئمة و الحاخامات من أجل السلام، و قد سبق للشيخ خالد بن تونس أن شارك فيه. على ما يبدو أقيمت منه ثلاث طبعات، سنوات 2005 و 2006 و 2008. أسفر منذ المؤتمر الأول، عن ميلاد اللجنة الدائمة للحوار اليهودي الإسلامي.