الاثنين، 23 أكتوبر 2017

مقابلة الشيخ خالد بن تونس مع مجلة ميموريا

مقابلة الشيخ خالد بن تونس
مع مجلة ميموريا




الشيخ خالد بن تونس، القائم بالوساطة والمفعم بالنشاط و رسول السلام
بقلم ليلى بوكلي
نشرت في 13 ديسمبر 2016
    بعد ظهر يوم جميل، من صيف سنة 2016، انظم إلينا الشيخ خالد بن تونس، الذي كان يربطنا به موعد، في إحدى قاعات فندق الجزائر، جاءناببساطة الكبار، وحليق حلاقة نظيفة، ويرتدي ملابس أنيقة، وتعلوه إبتسامة عريضة، و لا يوجد في مظهره، ما ينبي، أن هذا الرجل المولود سنة 1949، في مستغانم، هو الشيخ السادس و الأربعين، في سلسلة الطريقة العلاوية، سوى الصفاء الذي ينبعث منه.
     أخبرنا الشيخ بن تونس، أنه من أجل تعزيز ثقافة السلام والعيش معا، قرر كل من، الجمعية الدولية الصوفية العلاوية، المنظمة غير الحكومية الدولية، عيسى، والمؤسسة المتوسطية للتنمية المستدامة، جنة العارف، وبرنامج (MED 21إنشاء "جائزة السلام"، التي تحمل إسم شخصية عظيمة في التاريخ الجزائري، ألا وهو الأمير عبد القادر. في 21 سبتمبر من هذا العام، سيتم منح الجائزة لثلاث شخصيات مختارة، في ثلاث فئات: الضفة الشمالية، والضفة الجنوبية، وباقي العالم. وفي هذا العام، منحت جائزة الضفة الشمالية، للمدير العام السابق لمنظمة اليونسكو، السيد فيديريكو مايور (اسبانيا). وبالنسبة للضفة الجنوبية، عادت الجائزة إلى الأخضر الإبراهيمي (الجزائر)، الوزير السابق، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، والوسيط الدولي للأمم المتحدة. بالنسبة للفائز الثالث، عن فئة "باقي العالم"، اختار المجلس التنفيذي للجائزة، السيد ريمون كريتيان (كندا)، السفير الشرفي لكندا، رئيس المرصد الدولي لرؤساء بلديات العيش معا. أضاف الشيخ بن تونس، سيتم منح الجوائز، في حديقة مؤسسة جنة العارف، وتقع في مستغانم، بحضور جمهور من الشخصيات السياسية والدبلوماسية والعلماء، قدموا من مختلف أنحاء العالم، وإن العديد من الشخصيات، تحوي أسمائها أو تصل مهمتها، بالأمير عبد القادر. نذكر منهم، إدريس الجزائري، الحفيد غير المباشر للأمير عبد القادر، و(جوشيا روبرت بوب)، رئيس بلدية القادر الأمريكية، والعديد من الباحثين الذين تصبوا أعمالهم و ترتكز، على شخصية الأمير .
    تحدثنا أيضا، عن مرور (سرفانتس)(1) بمدينة الجزائر، والتراث الإسباني، المتواجد على الخصوص بوهران. لم يتوانى الشيخ بن تونس في استحضار، تجربة التسامح، المقدَّمة في زمن إسبانيا المسلمة، ورحب بالمبادرة الاسبانية لإحياء الذكرى السنوية 900، لشعيب أبي مدين الأندلسي، و سيدي أبي مدين بالنسبة للجزائريين، هو مؤسس إحدى أهم الطرق الصوفية في بلاد المغرب و الأندلس، في مدينة (كانتيلانا)، البلدية الواقعة في منطقة إشبيلية، أين ولد، سنة 1126. سيدي بومدين عاش أيضا في بجاية من 1160 إلى 1198، و توفي عندما وصل إلى مشارف تلمسان، و أصبح الولي الأكبر لهذه المدينة. ذكرنا ابن العربي، مسلم أندلسي آخر، من أصل عربي، ولد في مرسية، درس الفقه و علوم الشريعة، وتبحر فيها، وامتاز في الشعر، و الباطنية، و هو أحد مشائخ الصوفية. إن ابن عربي، هو مدار الفكر الميتافيزيقي في الإسلام، وأحد أهم المنادين بـ"وحدة الوجود". أثّر مؤلفه الهائل، والذي اعتبر قمة الباطنية، في (دانتي)، في (الكوميديا ​​الإلهية)(2). يؤهل ابن العربي(3) سيدي بومدين إلى مصف "شيخ المشائخ". عند الحديث عن المرأة، تطرقنا إلى رابعة العدوية، الأَمة المحررة، شخصية كبيرة في الروحانية الصوفية. ولدت هذه الصوفية، في البصرة، غنت الحب الإلهي، وقالت، و هي تحمل، دلو مليئ بالماء في يد، وجذوة نار في اليد الأخرى "إني ذاهبة لحرق الجنة، و إطفاء جهنم، حتى يختفي الحجابَين، عن أعين سالكي الطريق، و يبقى مرغوبهم وجه الله تعالى". تعرف هذه المرأة عند الصوفية باسم "أم الخير". يقال أنها كانت تغلق مصاريعها في الربيع، دون التفكير في الزهور، مفضلة التيهان، في تأمل خالقها. قمنا باسحضار جلال الدين الرومي، الصوفي الفارسي الملتزم، شاعر عاطفي، داعية الحب، و مبتكر الرقص النشوي لدراويش المولوية، و هي إحدى أهم الطرق الصوفية، التي كان قد أسسها في مدينة قونية التركية. قال الرومي عن الزهور "الحديقة والزهور داخلنا، في القلب". وأتذكر أني قرأت للرومي، أنه كان ينادي بجهاد موجه نحو الداخل، كان هدفه محاربة الأنا، وهزيمته. فكرة جميلة، ولكن لا يتقاسمها جميع البشر، وهذا بالفعل، في القرن الثالث عشر.
    ونحن نمضي قدما في المناقشة، قمنا باكتشاف شيخا عصريا، ذي ثقافة كبيرة، وبروح ليبرالية، يحركها إيمان راسخ، في المستقبل وتطور البشرية. في الوقت الذي، يلقي فيه التطرف جيرانه، لم نفوت الفرصة، و سألناه، هل سنكون قادرين يوما ما، من وضع رؤية راشدة، حول إنتماءاتنا و معتقادتنا و خلافاتنا، و حول مصير الأرض؟ وهذا أمر شائع في وسطنا. سألناه، هل وصلت البشرية، إلى عتبة عدم الكفاءة الأخلاقية؟ واتبعها مناقشة. و عندها تطرق الشيخ خالد بن تونس إلى القمة الأولى، للعمل الإنساني، الذي انعقدت يومي 23 و 24 مايو 2016 في اسطنبول. قال، أن ثلاثة مقترحات تدعمها الجزائر، تم إعتمادها. إعطاء للإنسانية، صفة، شخصية قانونية، و حقيقة حسية؛ شخصية الإنسان والإنسانية، هما كتلة واحدة؛ من الضروري أن تدرج كل دولة، في برامجها ثقافة السلام، بحلول عام 2030. وأبلغنا، أن كندا، هو أول بلد، طوّر برمجيات وطرق التدريس، في هذا الصدد.
    قبل أن يجيب عن أسئلتنا، أخبرنا الشيخ بن تونس، أن جائزة الأمير عبد القادر، ستقدم لنا دعما في إنجاز رغبتنا في "العيش معا"، وأبلغنا بلقائه مع رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، السيد بيتر تومسون، للدفاع عن التوصية الـ 18 للمؤتمر الدولي للأنوثة، من أجل ثقافة السلام، المنعقد في وهران سنة 2014. في تلك التوصية، تطالَب الأمم المتحدة بتقرير "يوم دولي للعيش معا"، من أجل  مصالحة الأسرة البشرية في تنوعها، وتوسيع دائرة الأخوة من أجل عالم من العدل والتضامن.

    بعدما أثرينا بتعليم جديد، و اقتنعنا بأننا خالطنا رجل ذو مصير مفرد، تعين علينا أن نخرج من هذا الاجتماع، مع الرغبة في معرفة المزيد عن الطريقة الصوفية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ

ميموريا: عُين الشيخ بن تونس، شيخا لطريقة صوفية، و هو في سن الـ 26، و هذا في حد ذاته تحدي هائل، قبلتموه في نهاية المطاف. هل كان الاختيار صعبا؟
الشيخ بن تونس: إذا عدنا إلى الوراء، إلى أكثر من أربعين عاما، وإذا كنا نعتقد أن للقدر كلمته يقولها، في مسار ودور، كل واحد منا، في هذا العالم الزائل؛ فنَعم، كان هذا الاختيار صعبا. علاوة على ذلك، فهو يبقى لي حتى الآن؛ إذا نظرنا في التحديات، وحجم المهمة، من أجل تبليغ والحفاظ، على تعليم روحي حي، وإعطاء رسالة من الأمل للأجيال القادمة، مواجهةٌ للأزمة العميقة، الذي يمر بها الإسلام اليوم، في هذا العالم الذي يعيش، في خضم التحور.

ميموريا: ماهي الحظوة الحالية للعلاوية في الجزائر؟
الشيخ بن تونس: كما تعلمون، مسّ إشعاع الطريقة العلاوية، منذ سنوات 1920، العديد من البلدان في المغرب و المشرق. وكانت واحدة من أولى الطرق الصوفية، الحاضرة في أوروبا. وكان الشيخ العلاوي، حاضرا في افتتاح المسجد الكبير، في باريس في يوليو 1926. أما عن حظوتها في بلادنا، فأعتقد أن الأخبار تؤكد أنها لا تزال وسطا، للحفاظ على ثقافتنا، و مكانا للقاء و العودة إلى الأصالة، للعديد من الجزائريين، من الدوائر الفكرية والسياسية والدينية والفنية، وبالتالي فهي تتجاوز الإطار التقليدي الضيق للمريدين.

 ميموريا: هل يمكننا أن نقول أن الزاويا والأولياء، الذين شجبوا لفترة طويلة، ثم أعيد تأهيلهم، من طرف رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، قد خسروا بعض الشيئ، المشهد في الجزائر؟
الشيخ بن تونس: على مدى تاريخ بلدنا، لعبت الزوايا دورا هاما في الهوية، والروابط الاجتماعية، والحفاظ على التربية الإسلامية التقليدية. وفي هذه الأماكن ظهرت المقاومة، وازدهرت روح الفتوة،  لرجال ونساء، ناضلوا ضد قبضة الاستعمار، مثل الأمير عبد القادر، والمقراني، وبوبغلة، وثورة القبائل، مع الطريقة الرحمانية، التي قادتها إمرأة، لالة فاطمة نسومر، و ثورة أولاد سيدي الشيخ، وحتى الحركات التي أدت إلى تحرير الجزائر.
    لا بد لي من القول، أن القوة الأخلاقية، التي يمثلها هؤلاء الرجال والنساء الصالحين، وكذلك التعليم الذي كانوا يمنحونه في هذه الزوايا، قد أضعف تدريجيا. وعلينا أن نعترف أن فكرة الأولياء (أو الطرقية) نفسها، قد شوهت. ويرجع ذلك إلى تدهور المجتمع الجزائري ككل، وما زالت آثار هذا التدمير محسوسة اليوم. إن الإجتثاث من الجذور والجهل والإفقار وفقدان القيم الأساسية، قد زاد من إبعاد الجزائريين عن أصولهم. إن ثقافة الأجداد التي شكلت الأساس، الذي استند إليه الصرح الاجتماعي، والتي أعطت هويته واستدامته، عن طريق الحد من العداوات والمواجهات، وتوحيد الشعب والنخبة معا، في إطار متماسك ومتناغم؛ تم تهميشها تدريجيا.
    وفيما يتعلق بأحداث العقد الأسود في بلدنا، يجب الاعتراف بأن دور الزاوية، في صون الوحدة الوطنية، والحفاظ على إسلام الانفتاح والتسامح والمصالحة، أمر لا يمكن إنكاره. لكل زاوية، طريقتها الخاصة، ووفقا لوسائلها، تُحافظ و تديم هذه الحالة النفسية والذهنية. أما بالنسبة للسلطات وخاصة رئيس الجمهورية، فقد فهموا أن الزوايا مع مدارسها القرآنية، تستقبل فئات مختلفة من سكان البلاد، وتشكل منابر هامة، لنشر الأفكار الإيجابية والبناءة، ومفاهيم الإسلام المعتدل، فضلا عن أنها أسوار، ضد التطرف العنيف والمتشدد.

ميموريا: إلى أي مدى يمكن للتعليم الصوفي، مساعدة البشرية على تخطي أزماتها؟
الشيخ بن تونس: نحن في قلب المشكلة التي تحرض العالم، ولا سيما الأمة الإسلامية. إن التصوف، عبر كل العصور، وطيلة تاريخ العالم الإسلامي، وخاصة في أوقات الأزمة؛ عند غزو المغول، ونشوب الحروب الصليبية، وانتشار الإسلام في آسيا وأفريقيا، وفي ازدهار الحضارة المغولية الرائعة، ووطأة الاستعمار، وما إلى ذلك؛ كان عاملا في اللجوء إلى الحفاظ، على الرسالة الروحية والعالمية للإسلام المحمدي. لم يتوقف أبدا عن التذكير، من خلال كتابات وتعليم مشائخه، بقلب الرسالة النبوية، والأخوة البشرية، واحترام الآخر، أوساط مناقشات الأفكار، والمدارس التي ظهرت طيلة الخمسة عشر قرنا. وهذا يعني أن الدين هو في المقام الأول، وسيلة لتثقيف وإيقاظ الضمائر الإنسانية، حول التصرفات والسلوكات، التي تميز علاقتنا مع الآخر، و مع الذات والآخر، ومع الإلهي، وإن جوهر الرسالة الدينية، هو عدم اتباع، بلا تبصر، المبادئ أو القواعد، ولكنها تدعو الإنسان إلى الإحسان. الذي يعرفه الإسلام بمقام الإحسان. في الواقع إذا كان الإسلام هو القانون، الذي يدير علاقاتنا في المدينة، وإذا كان الإيمان هو قناعة شخصية، عميقة و باطنية، لا يمكن لأحد أن يحكم عليها، فإن الإحسان هو تتويج، يطرأ نتيجة، سلوكنا و أفعالنا، وتغير نظرتنا للعالم، الذي سيؤدي بنا إلى السلام الباطني للنفس، وللاعتراف بالآخر، كونه مخلوق أراده هو (الله). وهذا التعليم، ألذي يصبو للقيم العالمية النبيلة، يدعونا إلى المصالحة مع أنفسنا، ومع جميع أفراد الأسرة البشرية، ويصبو إلى العدالة والمساواة وكرامة الإنسان. وإنه يُلخص في هذا الحديث النبوي "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". ويفهم الأخ هنا، كل بني آدم، كما أكد النبي صلى الله عليه و سلم "كلكم من آدم و آدم من تراب".

ميموريا: ليس للصوفيين نزعة الظهور، ولكن الزمن قد تغير، ينبغي عليهم القيام بذلك، مقابل الجهادية العدمية، لوجود إسلام آخر، يحترم الحياة و يحبب الخير؟
الشيخ بن تونس: يحذرنا التصوف من الأنا النرجسية، التي تسعى بشكل دائم، وراء التشريفات والمجد الزائل لهذا العالم. يعلمنا قبل كل شيء، أن نكون على دراية بقصورنا و نقائصنا، حتى لا نقع في فخ الأنانية والغطرسة، ويسمح لنا بالقيام بخدمة القريب، حبا في الله، وليس استغلالا للمخلوقات، قصد زيادة أصولنا وسلطاتنا. إن محبة وعبادة الله، تمر من خلال أعمالنا، في خدمة الإنسانية، وفعل الخير، وتمنيه للجميع، والعمل دون تحقيق أي رغبة، أو من أجل الجزاء، في الدنيا أو الآخرة، ولا كونه واجبا أخلاقيا أو دينيا. ويكون الشغل الشاغل، هو رضوان اللهعز وجل. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "الخلق عيال الله أقربكم إلى ربه أحسنكم إلى خلقه"(4). نحن بعيدون عن هذه الصورة العدمية(5) المخزية، الملصقة بظهر الإسلام، والمنتشرة عبر وسائل الإعلام العالم بأسره، نتيجة الأفكار المؤذية، و الأعمال الضارة، سببتها أقلية ضئيلة، من أولئك الذين يدّعون أنهم أبطال الإسلام.
     اليوم، مواجهةٌ لأفكار الوهابيين الجدد، والسلفيين والجهاديين، فعلى كل المجتمع المسلم، في مجمعه، أن يدرك المخاطر، الذي تشكلها هذه الآفة، التي تدمر دولا بأكملها، كعاصفة هوجاء، تزرع الفوضى و تُحدث انقسامات في المجتمع، وتطرد الملايين من الناس، و الشيوخ والنساء والأطفال من منازلهم، وتعذب و تقتل، وحولت إلى غبار، أماكن العبادة والثقافة، لجميع الأديان دون تمييز، وتغرق العالم في ظلمات الهمجية، من خلال سلوك يشوه، ويخزي الـ 1400 سنة من التاريخ الإسلامي. إن إنجازاتهم لا تقوم، إلا بتشويه سمعة الإسلام. ولتفنيد ذلك، يكفي الرجوع إلى الوثائق والاتفاقات، وأقوال النبي صلى الله عليه و سلم، وخلفائه: عهد المدينة المنورة، في العام الهجري الأول، وكتاب النبي صلى الله عليه و سلم إلى مسيحيي نجران، الذي يضمن، بشكل لا لُبس فيه، حقوق المسلمين وغير المسلمين، ويدعو مجمل المجتمع البشري، إلى العيش معا:
- المساواة في المعاملة أمام الشريعة.
- حماية دينهم من أي انتهاكات.
- حماية شرفهم و الفرد و الممتلكات.
- إمكانية تعيين أي شخص، من قبل الدولة الإسلامية، لأعلى المناصب الإدارية، شريطة أن يكون لديه المؤهلات المطلوبة.
- لهم سلطة تعيين ممثليهم الدينيين والسياسيين، بطريقة مستقلة تماما، دون تدخل خارجي.
- احترام قدسية أماكن عبادتهم، و تخصيصها بالحماية الكاملة.
    اتبع خلفاءه، صلى الله عليه و سلم، من بعده، نهجه. فقد عزز أبو بكر الصديق رضي الله عنه، هذه القوانين، من خلال منع أي لجوء إلى العنف، في حالة نشوب حرب أو نزاع، ليس فقط، ضد الأشخاص والنساء والأطفال و الشيوخ؛ ولكن أيضا قام بحظر، حرق وقطع الأشجار، وقتل الحيوانات أو تدمير أي مكان للعبادة. و الخليفة الثاني، عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، قام بمنع فرض الضرائب القسري، عن طريق اللجوء إلى الجلد أو الإكراه، وأنشأ نظام الكفالة، بواسطة بيت المال، لكل شيخ عاجز، حتى ولو لم يكن مسلما. وقال "أوصي الخليفة من بعدي، بذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم".(6)

    أما عثمان ابن عفان رضي الله عنه، الخليفة الثالث، فقد سجن عبد الله ابن عمر. قام هذا الأخير، بإعدام ثلاثة أشخاص، تورطوا في المؤامرة، التي أدت إلى اغتيال والده، مسيحيان و مسلم واحد. وفقا للشريعة، كان يستحق الموت، وطلب عثمان مشورة صحابة النبي صلى الله عليه و سلم، و أن ينظروا في مسألته. أكد جميعهم، أنه ينبغي إعدامه، نظرا للجريمة التي إقترفها. ولم يفرج عنه، إلا لما، شمله عفو، أصحاب الحقوق، أُسر الضحايا....
    أما بالنسبة لعلي رضي الله عنه، فقد أصدر مرسوما قال فيه "من يستفيد من حمايتنا، هذا الدم، يستحق دمنا، وسعر الدم هو مساويا لسعر الدم، الذي يعود لنا".
    وقد تم احترام هذه النصوص التأسيسية، إلى حد ما، حتى نهاية الخلافة العثمانية، ولم تضعها أي سلطة شرعية، موضع الشك. لقد آن الأوان، للمثقفين والمؤرخين والمعلمين والدينيين، أن يستفيدوا من هذا التراث، و يُعلم لأطفالنا، لإشراكهم في الحق المقدس، في احترام لكل حياة، الذي تركه لنا أجدادنا. آملُ، أن تكون هذه النصوص التأسيسية، يوما ما، جزءا من تربية السلام، التي حملها الإسلام الخالص، ونفهم أنها، ليست بأي شكل من الأشكال، مناقضة لحقوق الإنسان، التي صاغها الكثيرين، لاحقا بالغرب.

 ميموريا: صراع الحضارات، كذبة، مادام كل شيئ كان في المقاسمة، منذ قرون؟ هل تعزو هذا الشر، بعيدا عن الأحكام المسبقة و الظلامية، عند البعض؛ إلى العولمة؟
الشيخ بن تونس: أسال صراع الحضارات الكثير من الحبر. هذه هي الذريعة، التي تقوم عليها مدرسة الفكر، التي وضعها المحافظون الجدد الأمريكيين، بطل الرواية الرئيسي، هو البروفيسور صمويل هنتنغتون، عضو سابق في مجلس الأمن القومي، لإدارة الرئيس كارتر. أثار هجوم 11 سبتمبر 2001، صدمة عاطفية، لم يسبق لها مثيل، وألقى بهذه الأطروحة إلى الأمام، لتصبح تفسيرا جديدا لتاريخ العالم. هذه الرؤية، التي تقسم العالم إلى صراع مبارزة، بين الثقافات والحضارات، أصبحت مقترحا لتبرير حرب شاملة ووقائية لأمريكا، المصابة في كبريائها، القوة العظمى، الحاملة للحلم الأمريكي. والباقي نعرفه. لمعاقبة الإرهابيين الأشرار، أيقظت إدارة بوش، آلية عنف، لا تزال قائمة حتى اليوم، بفعل موجة الصدمة، تزرع الخراب والخوف والفزع، إيذانا بحرب جديدة، على نطاق كوكبي.
    أين ستتوقف هذه الصدمة المتطرفة، التي يدفع ثمنها، الكثير من الأبرياء، من جميع البلدان اليوم؟ عندما يريدون أن يفرضوا على باقي العالم، مُثل قيم، ثقافة واحدة؛ سيؤدي بنا الأمر، إلى خراب جميع الثقافات، لأن الثقافات، بحكم التعريف، تحمل في طياتها، شهادة وإرث جميع جوانب تنوع، الحضارة الإنسانية، من فجر الإنسانية إلى اليوم. إن معارضتها أو تقييدها سيقودنا إلى إنكار، أنها خصبت بعضها البعض، عبر مراحل التاريخ. بل على العكس من ذلك، يجب بذل كل الجهود، حتى تبقينا صامدين، و نثبت أن تنوعها العقائدي والثقافي والفلسفي والذِواقي والمعماري، ليس هو سوى الجوانب المتعددة لإنسانية واحدة و جمعاء. إن إنكارها هو الموت الحتمي، لقِيم الأجداد والعبقرية الإنسانية. إن صراع الحضارات خرافة، وخداع، يغذي الكراهية والرفض، وأسوأ ما يمكن أن يحدث لإنسانية، في أوج تحورها. إنها في الواقع سوى صدمة الجهل.

ميموريا: في الوقت الذي غالبا ما يرتبط فيه الإسلام بالعنف، من خلال خطأ، من يدّعونه، فإن فكرة العيش معا، كما هي مقترحة في الأمم المتحدة، مبادرة ولدت في مؤتمر الأنوثة، الذي انعقد في وهران عام 2014، هي أكثر من أي وقت مضى، تفرض نفسها. أين وصل دعم هذه القضية، قضية السلام في العالم؟
الشيخ بن تونس: هذه المبادرة، التي ولدت في المؤتمر الأنوثة الدولي – الكلمة للنساء – المنعقد من 27 إلى 30 أكتوبر 2014 في وهران، هي الأولى من نوعها. والواقع أن هذه هي المرة الأولى، التي يعرب فيها المجتمع المدني عن إرادته، ويود أن يعيش في سلام، وإعلان، يوما دوليا للسلام و العيش معا، وأن توضع ثقافة السلام، كركيزة تربط مستقبل الأسرة البشرية. وتحقيقا لهذه الغاية، قدمت إلتزامات في مؤتمر القمة العالمي الأول للعمل الإنساني، يومي 23 و 24 مايو 2016، الذي نظمته الأمم المتحدة في اسطنبول.
    وتلتزم المنظمة غير الحكومية عيسى، بتعبئة جميع الجهات الفاعلة المعنية، من أجل أن يكون اليوم الدولي للسلام (21 سبتمبر، المرسم من طرف الأمم المتحدة)، هو اليوم الدولي للسلام والعيش معا، بحيث يتم الاحتفال به، في مدننا وبلداننا، من أجل تقديم، من خلال إلتزام مُواطني، رؤية مشتركة، لمجتمع المصير، وتتمكن مؤسساتنا من الانضمام إلى حركة معترف بها، على الصعيد الدولي.
    وتلتزم المنظمة غير الحكومية الدولية، عيسى، بإنشاء أكاديمية السلام. ويتمثل دورها في استحداث وتعليم أساليب تعليمية، وأساليب لتطوير ثقافة السلام، في جميع قطاعات المجتمع.
    وتساهم المنظمة غير الحكومية الدولية، عيسى، في تعزيز ضروريات العيش معا، من خلال ثقافة السلام. وهي تعمل على تيسير، فهم مبادئ المساواة بين الجنسين، وعدم التمييز، ومكافحة الفقر، وتمكين التقدم الاجتماعي والثقافي. و هي تعارض بقوة، الأصولية، والصراعات الدينية، من أجل خلق عالم أكثر عدلا، وأكثر تضامنا، وأكثر أخوة، خدمةٌ للإنسان. أخذت المنظمة غير الحكومية الدولية، عيسى، المبادرة مع مؤسسة البحر الأبيض المتوسط ​​للتنمية المستدامة، في الجزائر، وبرنامج (ميد 21) في فرنسا، لخلق جائزة الأمير عبد القادر، لتعزيز العيش معا والتعايش السلمي، في البحر الأبيض المتوسط ​​ والعالم.
    وقد احتفظت الأمانة العامة، بهذه الالتزامات، وستقدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، من أجل الحصول على دعم، أكبر عدد ممكن من البلدان لهذه المبادرة. ويجب أن يضاف إلى ذلك، اقتراح مؤتمر قمة اسطنبول، بأن يجعل تدريس ثقافة السلام، حقيقة واقعة في علم التربية، وبرامج جميع البلدان، بحلول عام 2030.
    وتوضح هذه الالتزامات وتؤكد، على أن السلام ليس غياب الحرب أو الصراع، بل هو حالة كينونة. ضمير يُزرع ويجنى، في أذهان البشر، لأنه هنا، يولد العنف والكراهية، وكراهية الأجانب، والظلم وسوء الفهم، التي تكون سدا منيعا، ضد وحدة الأسرة البشرية. في 30 سبتمبر الماضي، تلقينا ترحيبا من رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، السيد بيتر تومسون، الذي يدعم مبادرتنا، والعديد من قادة بعثات البلدان، هم أيضا على استعداد لدعمها.
    ويتمثل أحد الأهداف الأولى، التي حققتها هذه المبادرة، هو تحقيق جائزة الأمير عبد القادر، لتعزيز العيش معا، والتعايش السلمي، في منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​وفي العالم. والثاني هو الحصول على إنشاء كرسي الأمير عبد القادر، من قبل اليونسكو. والثالث هو انضمام مدينة الجزائر، إلى المرصد الدولي لرؤساء البلديات من أجل العيش معا، إلى جانب العديد من المدن الكبرى وعواصم العالم. والرابع هو الاحتفال بمهرجان العيش معا، في عدة مدن في جنوب فرنسا: كان، مرسيليا، الخ. والأخير هو بناء أول دار السلام، بالتعاون مع بلدية مدينة ألميرة، من أجل الشباب في هولندا.
    ومن الواضح أن هناك مهمة هائلة في انتظارنا، في نشر وزرع ثقافة السلام، وجميع الفوائد التي يمكن أن تحققها، في العلاقات الإنسانية، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، من أجل ازدهار الأجيال المقبلة وتنميتها. لا سلام دائم، بدون تنمية مستدامة.

ميموريا: أصوات الحرب أقوى من أصوات السلام، كيف تنوي عكس هذا الاتجاه، وإظهار أن ثقافة السلام لا تزال أكثر ربحية وفائدة للجميع؟
الشيخ بن تونس: دعونا نذكر الحقائق. التكاليف الضخمة، البشرية والاقتصادية للحرب، تقودنا إلى أن نسأل أنفسنا هذا السؤال الجوهري، الشرعي والمعقول، ألم يحن الوقت الآن، لإعادة النظر، في نتائج هذا السباق المجنون والقاتل، الذي يلحق الفوضى والخراب؟ ألم يحن الوقت اليوم، بأن تنهض البشرية جمعاء، جماعيا وفرديا، وتعلن رفضها واشمئزازها، لجميع أولئك الذين، لصالح مصلحة سياسية أو اقتصادية، يدعمون و يغذون الصراعات المدمرة في العالم؟ كشف الأمين العام للأمم المتحدة، السيد بان كي مون، في تقريره، الموجه إلى مؤتمر قمة العمل الإنساني العالمية في اسطنبول، أن هذه النزاعات تتزايد باستمرار، ويبدو أنها أصبحت معيارية اعتيادية، ولا أي متدخل يستطيع فكها لوحده. "بعدما تراجعت في أواخر سنوات التسعينات، حتى أوائل سنة 2000، ازداد عدد الحروب الكبرى، و انتقل من 4 حروب في عام 2007، إلى 11 حرب في عام 2014. وصلت التكلفة الاقتصادية والمالية للصراعات والعنف، وفقا بعض التقديرات، إلى 14.3 تريليون دولار، أو 13.4٪ من قيمة الاقتصاد العالمي.
    بالنسبة لثلث الحروب الأهلية الحالية، تتدخل فيها أطرافا خارجية، تدعم طرفا واحدا على الأقل، من أطراف النزاع. يجعل تدويل الحروب الأهلية، يجعلها أكثر فتكا ويطيلها. وبين عامي 2012 و 2014، زاد عدد قوات حفظ السلام، غير قوات الأمم المتحدة، بنسبة 60 ٪، ويعمل ما يقارب، من ثلثي قوات حفظ السلام، وما يقارب من 90 ٪، من البعثات السياسية الخاصة، التابعة للأمم المتحدة، يعملون في بلدان، تعيش في صراع مكثف، أو يعملون من أجلها. ويستخدم أكثر من 80 ٪، من التمويل الإنساني الذي تطلبه الأمم المتحدة، لتلبية احتياجات حالات الصراع".
    لكل واحد منا، أمام ضميره، أن يقيس مدى الكارثة، التي نشاهدها جميعا، دون استثناء، اليوم أو غدا. و يتساءل، من المستقيد من هذا الوضع. وإذا كان السلام هو عاملا من عوامل الازدهار، التي لا يمكن إنكارها، لغالبية الناس، فإن الحروب الحزبية، لا تثري إلا أقلية، تحافظ عليها وتزدهر بها، على حساب المصائب التي تسببها. على كل واحد وواحدة منا، أن يتخذ الجانب الخاص به.

ميموريا: هل هزت عصرنة الهياكل الاجتماعية، التيار الصوفي، على الصعيد الوطني؟
الشيخ بن تونس: كل هذا يتوقف على ما نسميه بالعصرنة. كل ما هو عصري اليوم، سيكون غدا قديما. أما بالنسبة للروحانية، فهي ليست قديمة ولا عصرية. رافقت دائما، و في كل العصور، تطور الإنسان. ما يهز في الواقع هو الهيكل التقليدي للمجتمع. وهذا ينطبق على بلدنا، وكذلك على بقية العالم، وبشكل رئيسي المجتمع الإسلامي، الذي لم يتمكن من إيجاد، توازن، بين التقليد والعصرنة. إنه يتردد و يتحير و يتساءل، بين التيارات المتاحة له، إما أسلمة العصرنة، أو عصرنة الإسلام. ويخلط الجانبان بين ما هو، من قبيل، التقدم الطبيعي لأي مجتمع، في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، وما إلى ذلك؛ و بين العودة إلى الأصول، مجتمع السلف، للحفاظ على الهوية الثقافية والدينية لمجتمعنا. إنه خيار مستحيل، ونقاش، حسب رأيي، محكوم عليه بالفشل. الإسلام هو قبل كل شيء، رسالة روحية، عالمية، وريثة جميع الشرائع النبوية، منذ فجر التاريخ، وتكيفت مع جميع العصور. وهو يقوم على مبدأ واضح لا لبس فيه، وهو التوحيد. وهذا يقودنا إلى رؤية توحدية، للخلق وللإنسانية، بجعل الإنسان خليفة الله في الأرض. ولكن ماذا يعني أن يكون خليفته؟ إننا نفهم بالفعل، أننا لسنا هو، وإنما شيئ آخر. إن سموه المطلق، صيّر المخلوقات، التي هي نحن، أن تكون غير قادرة، على معرفة أنفسنا به، بشكل تام، بدون حضرته، ويجعلها غير ممكنة الوصول إليها، ومفقودة.

    قال الله تعالى "و هو معكم أينما كنتم". سورة الحديد، الآية 4. تتمكن حميميته من أن تنكشف إلينا، في حال إذا ما جسدنا و أطلنا، على الأرض آيات خلقه، التي ليس لها نضير، وأصلية. إنها مراحل متعددة من التطور البشري، قادت البشرية الحالية، من طور الإنسان العاقل، إلى (هومو فيبر الإنسان الصانع) في العصور الحديثة، و ربما ينبعث في المستقبل، كائن كامل، هو (هومو كرياتور الإنسان الخالق)، واثق من نفسه ومسؤول، يكون على استعداد، للإستجابة للمراد الإلهي.

    دعونا ندرك أن كل شيء ينبثق منه في فيض لا ينضب. قال الله تعالى "إن ربك هو الخلاق العليم". سورة الحجر، الآية 86. وذلك من دون أن تنفذ الإمكانات اللانهائية التي يخفيها. لنكون حذرين من الحلول النهائية، والردود الجاهزة والمطَمْئِنة زورا، لعالم بروميثيوسي(7) الذي ادعى أنه وجد، من خلال التقدم العلمي وتطبيقاته التقنية، الترياق الشافي الشامل، الذي بدل، أن يفضي إلى إنسانية مسالمة ومتحررة من رغباتها الوهمية؛ أفضى إلى إنسانية مشوشة ومضطربة، بسبب الضعف الشديد، حيال وضعها الأرضي، والشكوك الذي تكتنف مستقبلها.

ميموريا: في إحدى محاضراتكم، تابعتم موقفكم، على أن توليف الأديان، هو أفضل أساس لأخوة دائمة؟ هل يمكنك أن تقول لنا أكثر؟
الشيخ بن تونس: الأمر بعيد عني، في أني أبادر و أدعي ظهور، دين جديد، سيكون توليفة لجميع الديانات القائمة.
    قال الله تعالى "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ". سورة المائدة، الآية 48. إن مضادة الإرادة الإلهية التي أرادت هذا التنوع، هو بالنسبة لي، إنكار الثراء الذي تحويه. لنتصالح مع بعضنا البعض، حتى نتواجد حول قيم مشتركة، و متقاسَمة، مع الوقوف احتراما لكل واحد، وتعزيز كرامته، من أجل تجنب خطر تبشير، يعزو نفسه إلى حصرية الحقيقة، ويريد فرضها على الآخرين، باعتبارها الطريق الوحيد و الفريد للخلاص. لنجتنب اتخاذ الدين إيديولوجية، تعمل في خدمة أجندات سياسية، تُشعِل وتغذي الصراعات، التي لا نهاية لها.

ميموريا: كلمة أخيرة، الشيخ بن تونس؟
الشيخ بن تونس: كان البعض يتوقع موت الإله(8)، أي نهاية الأديان. ومع ذلك، يبقى هذا عكس ما نشهده في بداية القرن الحادي والعشرين. وهذه الظاهرة تؤثر عمليا، في جميع القارات. كيف يمكننا أن نفهم ونحلل هذا الإحياء الديني، وخاصة مع العديد من الشباب، الباحثين عن هوية جديدة، تؤدي بهم في بعض الأحيان، إلى ارتكاب أعمال عنف مرعبة، ويفضلون الموت عن الحياة. ولا توجد لدى المؤسسات الدينية الرسمية، ولا السلطات السياسية، ولا المثقفين، في الوقت الراهن، إجابة واضحة وموضوعية، على هذا الواقع الجديد.
    ماذا لو كانت الإجابة معنوية وأخلاقية وروحية؟ نحن لسنا مدعوين لاتخاذ خطوة خارج أنفسنا، من أجل اكتشاف أن الحضرة الإلهية، قد اتخذت قلب كل الكائنات، سكنا لها.
    ورد في كلمات (هنري لو سو)(9) "إن السر الموجود في قلب الإنسان، هو السر الموجود، في قلب كل إنسان".
    قال الله تعالى "نحن أقرب إليه من حبل الوريد". سورة ق، الآية رقم 16. إنها كلمات لا تقدر بثمن، في عصرنا، وفيه، نحن أقدر على إقامة أسوار، بدل بناء جسور، حيث أنانية، كلٌ لنفسه، تحكم المدينة، مثيرة مخاوف وموجات الرفض. كيف نزيل مخاوفنا، التي تظلم حياتنا؟ كيف نزرع الأمل في قلوب أطفالنا؟ كيف نجد في أنفسنا، طريق السلام، الذي يؤدي إلى المحبة؟ كيف نخرج من سجن الأنا، من خلال حرية العطاء الذاتي؟
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). هو ميغال دي سرفانتس (15471616)، شاعر و روائي إسباني، صاحب رائعة "دون كيشوت دي لا مانشا".
(2). دانتي أليغييري (12651321)، شاعر و كاتب إيطالي، له مؤلف "الكوميدية الإلهية".
(3). ابن العربي الحاتمي، فاسمه "العربي" بالتعريف، و للتفريق بينه و بين القاضي ابن العربي، قام المشارقة بتنكير إسمه إلى ابن عربي.
(4). و في حديث قوله صلى الله عليه و سلم "إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا". حسنّه الترمذي.
(5). العدمية، هي نظرية تقرر أن ليس يوجد شيئ على الإطلاق. نظرية تنكر الأخلاق الجماعية.
(6). وصية عمر بن الخطاب عند موته. قال أمير المؤمنين، أبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنه:
    أوصي الخليفة من بعدي، بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم،
    وأوصيه بالأنصار خيرا، "الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم"، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفى عن مسيئهم.
    وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء الإسلام، وجباة المال، وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم.
    وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم، ويرد على فقرائهم.
     وأوصيه بذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم.  أخرجه البخاري، في باب قصة البيعة. 
(7). بروميثيوس هو شخصية أسطورية يونانية، و تعني الشخص الذي سرق النّيران من أوليمبس و أعطاها للبشريّة. مثال عن شخص بروميثيوسي، هو الذي يتمرد دائما مجرد القيام بما يفعله الجميع.
وفي المعنى، تسعى الطموحات البروميستانية، إلى الطبيعة المثالية، و حلم بِناء إنسان. انظر إلى مثال شخصية فرانكشتاين، التي تجسد هذه المطامح.
(8). وغالبا ما يتم تلخيص فلسفة (نيتشه) بهذه العبارة. إن تحدي فلسفة (نيتشه)، هو "عكس جدول القيم"، ويبقى يتلقى الإنسان تفكيره من نفسه، وليس من الله.
(9). هنري لو سو (1910- 1973)، هو راهب بنديكتي فرنسي، شخصية باطنية من المسيحية الهندية، التي ساهمت كثيرا، في الحوار بين المسيحية والهندوسية.