الخميس، 28 مارس 2019

المولى نصر الدين خوجة

المولى نصر الدين خوجة


    إليكم مداخلة الشيخ خالد بن تونس، في صبيحة اليوم الأول، من النسخة 15 للملتقى الدولي المتوسطي، ملتقى الثقافات الثلاث، الذي عقد بمدينة فالينسيا (إسبانيا) أيام 22 و 23 و 24 مارس 2019، والذي اختير شعارا له هذه السنة "طريق الحرير: طريق المعرفة والتجارة والسياحة والتعاون".


    حاضر الشيخ خالد بن تونس في الحصة الأولى، التي عرفت باسم، الحرير الشباب والمستقبل، بموضوع "المولى نصر الدين: شخصية صوفية عالمية".

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    سيداتي سادتي. أصدقائي الأعزاء. إننا نلتقي للمرة الثانية في هذا اللقاء "الملتقى"، هذا اللقاء الدولي للتبادل، الذي يسمح لنا بالتعارف، بشكل أفضل. هذه المرة، من خلال أسطورة وثقافة وتعليم، يوجد في التعليم الروحي الإسلامي، يمثله إنسان، يسمى نصر الدين خوجة.

    إن القصص المروية والمدروسة منذ أجيال، منذ القرن ال 13 الميلادي، عبر العالم الإسلامي، تركت أثارا لا تمحى، في ذاكرات جميع الشعوب. في البداية، كانت تركيا، أين يقال عاشت هذه الشخصية، في القرن ال 13، ومن هناك جابت هذه القصص العالم، قاطعة المسافة، من البحر الأبيض المتوسط إلى الصين.

    بماذا تركت هذه القصص أثرا في الأذهان؟ عندما نقرأ قصص نصر الدين خوجة، نرى أنه يمثل النقيض، وتضاد للخلق الحسن، وسيّد التفسير الخاطئ، وذلك لتقويم التوجه، لدى القارئ. إنه المهرج والمجنون والأناني والمتباهي، وكل ما يمثل الوصف السلبي. إنه المناقض للأعراف، الذي يقال عنه اليوم، الصحيح سياسيا أو الصحيح فلسفيا. فنصر الدين يقوم بالعكس، أو ما يمكن تسميته الفلسفة السلبية، أو الروحانية السلبية للتيقظ.

    إنه تعليمه بسيط، ويتوجه إلى عامة الناس والجمهور الواسع، ويمس الجاهل كما العالم. أصبح مع مرور الزمن مدرسة للحياة، ولم تتوقف شعبيته عن التزايد، قرن بعد قرن، إلى حد أن إسمه تناقل من جيل إلى جيل. على سبيل المثال، يعرف في تركيا بنصر الدين خوجة، وفي المغرب العربي، يسمى جحا، وفي اليونان شوغراب، حتى في الصين، وجدوا له إسم، وفي إيران كذلك، وفي إسرائيل وجدتُ له إسم، ويدعونه أرشل. هل وجدتُ أثر نصر الدين خوجة، حتى في أرض إسرائيل؟

    إذن، ما يعنيه أن الرجل يجسد تعليما لحقيقة مقلوبة، باستعمال لغة شعبية. وهذا ما صنع شعبيته، وهنا تدعونا هذه القصص إلى قراءات مختلفة. إنه بطل عدة حكايات مسلية وسخيفة، تروي عدة حالات، يمكنه أن يجسد، بشكل متناوب، دور فلاح وإمام ومحامي ومعلم وقاضي، ويمكن أن يمتلك زوجة واحدة أو زوجتين. إنه رجل جميع الوضعيات، ويجسد وضع مجتمعي، يمثل فيه جميع الأحوال، التي يمكن أن يعيشها كلٌ منا. في الآن نفسه، نجده رجل متميز ورجل عادي. وهذه الذاكرة عبر الأزمنة أُثريت، وبالفكاهة وبالقيم المضادة. فإنه لا يُعلم القيم، بل القيم المضادة، لكي يوقظنا للقيم المندرجة في كل واحد منا.

    عند نقرأ هذه القصص، ونغوص في معانيها، فأول ما ينبغي، هو فهم النص، والتساءل ماهو السلبي فيه. وماهو التوجه السلبي الذي يعلمنا إياه نصر الدين؟ كان يجعل من السخرية إسوة، ومثال يقتدى به. وفيما تفيد هذه السخرية وهذا الإستخفاف؟

    قبل حين جرى ذلك الحوار بين الشباب والكبار، فيما يتعلق بالقيم، قيم الماضي وقيم اليوم. كيف سيوضح لنا نصر الدين الأمور، فيما يتعلق بهذا الحوار؟ ومن هنا، نرى أهمية الذاكرة التاريخية لهذه الذاكرة التربوية، التي جاءت كذاكرة تنير الحاضر.

    على سبيل المثال، هل يمثل نصرالدين إسوة تعليمية؟ هل كان حقا حكيما أو فيلسوفا، في قصصه، من كان المحق، ومن كان على خطأ؟

    إذن، فهي تضعنا في موضع تساؤلي. عندما نقرأ القصة ونغوص فيها، نضع أنفسنا في القصة، ولا تصبح هذه القصة حكاية من الماضي، ولكن شيئ ما، يستفهنا حول الحاضر، ويدفعنا إلى طرح أسئلة حقَا، تنبع من التصرف، وسوف نرى أن الكلمات قامت في المقام الأول بإضحاكنا، ولكن في الحقيقة تسائلنا عن الكائن، الذي هو نحن. فلأنها تمس الأنا العاطفي للإنسان، وتوقفنا في جو وتفكير، لنستخلص من أنفسنا الحقيقة، في اليومي؛ في العلاقة مع الآخر، وبين الرجل والمرأة، والغني والفقير، والملك والمملوك، وفي العلاقات السياسية والمجتمعية والدينية، وعلاقة الإنسان بربه. إنه تعليم غير يقيني، تعليم يزرع الشكوك. يجعلك تشك.

    عندما نقوم بالتدريس، وعلى كل حال بالنسبة للمربين البيداغوجيين، فإننا نريد تبليغ شيئ مؤكد وصحيح أخلاقيا، يرتبط بقيم عالمية، ولكن نصر الدين يقوم بالعكس، حتى وصل به الأمر إلى القول، أن اليقين يقتل، والشك يجعلنا نحيا. يقلب بالكلية المواقف والقيود النفسية، التي تحدد مواقفنا، نسبة إلى عقائد موضوعة واتفاقات وعادات، حيث أنها بالتأكيد، من خواص حقوق الإنسان. يلدغنا في مكان الألم، هنا يصيب سهمه فينا. يضع إيماننا وقيمنا ويقيننا في مواقف وقيود، تدفعنا في كل مرة، إلى البحث عن الحدة الذهنية.

    من خلال كتاب الخمسين قصة، الذي تحصلتم عليه، وفي الخمسين قصة، توجد سبع مغامرات للنفس البشرية، وهي مغامرات، يمكن لكلٍ منا أن يصادفها ويعيشها. وبإعادة قراءتها، نرى أنها تستفسرنا عن تصرفنا، وكيف جرت تفاعلاتنا في مواقف مثل تلك، وماذا فعلنا، وإلى أي جهة كان انتماؤنا، وماهي النتيجة التي تحصلنا عليها، في هذا المشروع والمغامرة والمحاورة، فيما بيننا وبين المجتمع؟

    لبعض التوضيح، عندما نأخذ على سبيل المثال، ويضع نصر الدين أشياء موجودة فينا، موضع التساؤل. مثلا، القصة الموجودة في الكتاب، في الصفحة 95، والقصة رقم 37. القصة بعنوان "كيس البطاطس".

    "ذهب نصر الدين لشراء كيس بطاطس، وبعد محاورته لتخفيض السعر، استطاع شراء عدة كيلوغرامات من البطاطس، وبدون تفكير حمل الكيس على ظهره، وركب حماره واستعد للذهاب. فكان الحمار يحمل نصر الدين، الذي كان يحمل على عاتقيه كيس البطاطس، فسأله البائع متعجبا:

-        أليس من الأسهل أن تركب، وأن تحمل الكيس في يد، وباليد الأخرى تمسك العنان؟ لماذا لا تضع كيس البطاطا على الحمار؟
-        لأن الحمار يحمل ما يكفي من الوزن بي، فقررت أن أحمل أنا كيس البطاطس". (تصفيق حار بالقاعة، بعد قراءة القصة).
    الحمار الذي يموت، حمار نصر الدين. إنها قصة تذكرنا بالمؤسسة الإقتصادية، تدفعنا إلى التفكير في وضعنا الإقتصادي. رغبة في الحصول دوما على المزيد، يصل بنا الأمر، حتى نريد قتل العنصر الذي يسمح لنا بالعيش، وهذا ما نحن بصدد القيام به اليوم. نعيش هذا الوضع في الإحتباس الحراري، وفي نهجنا الإقتصادي، بالإندفاع دوما إلى الأمام من أجل الربح، مع التقليل في الجهة الأخرى، الفرصة والحياة المحتملة على الأرض. نحن نقوم بقتل الأرض – الحمار هنا- الذي يخدمنا. لنأخذ مثال آخر. عندما نشتري قميصا ببعض اليوروهات في متاجرنا، تم حياكته في بلدان يدفع فيها أجر زهيد، مقابل العمل، أجر لا يسد الرمق، لإنتاج الملابس وأشياء للإستعمال، داخل سلسلة شاملة للعولمة، التي تفقر باستمرار التي ينتجها والذي يشتريها. وبقيامنا بذلك في بنغلاديش، فإننا نقضي على اقتصاد اسبانيا وفرنسا وأوروبا والولايات المتحدة. تبحث الشركات المتعددة الجنسيات دائما، عن الأماكن التي يدفع فيها أزهد الأجور، لتباع منتوجاتها في الأماكن التي يمكن أن يدفع فيها أكثر، ويربحون أكثر. هذه الطريقة ستؤدي بنا شيئا فشيئا إلى الإفتقار جميعا، لأنه يوما ما سيتوقف النظام.

    هذه قصة من قصص نصرالدين، كتبت منذ قرون، وفيها يذكرنا بوضع حالي. لماذا؟ لأن القيم من جهة، والقيم المضادة من الجهة الأخرى، لا تتغير على مرّ القرون. تبقى نفسها. لسوء الحظ لا يوجد لدينا وقت للعمل على حكايات أخرى، ورؤية العلاقة بين ذاكرة الماضي وذاكرة اليوم. فقط لكي أريكم الإختيار الذي وقع عليه، عندما طرح عليه السؤال عن أيهما يختار، الشمس أو القمر، فقال نصرالدين، أنا أفضل القمر. ولماذا؟ لان في الليل نحن بحاجة إلى النور. كان يتكلم عن أي ليل؟ كان يتكلم عن ليل الشكوك والقلق والخوف. هنا، نحن بحاجة أكبر إلى النور، في حين أن في العادة، نفضل الشمس. وغير ذلك...

    لسوء الحظ، يداهمنا الآن وقع مسرحية، والشخصيات نفسها ستروي حكايتها. أشكركم جميعا، وأتمنى أن تكون لنا فرصة هذا المساء، للتعمق أكثر في هذه الفلسفة الصوفية، لأن نصر الدين أحد المتصوفة الذين نسميمهم الملامتية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-        عاش الشيخ نصر الدين خوجة بتركيا، خلال القرن 13 الميلادي، ولد بمدينة سيواري حصار ، وتلقى علومه بمدينة آق شهر، وبها توفي، وتنقل في قونية وبورصة وأنقرة، ومدن أخرى. ولي القضاء، وعين في التدريس وإماما للمسلمين، وبها جاء لقبه خوجة، وتعني المعلم. فقد عاصر بداية الحكم العثماني، ونهاية الحكم المغولي للأناضول.
    تعتبر شخصية شعبية ومشهورة جدا، في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وبعض المناطق من القارة الأوروبية، حيث يتم تداول قصصه وحكاياته، على طول منطقة جغرافية واسعة، تمتد من هنغاريا عبورا بالهند، وصولا إلى الصين، ومن جنوب سيبيريا إلى شمال أفريقيا، وخلال قرون كاملة، كبر الملايين من الأطفال، وهم يستمعون لقصص نصر الدين خوجة الأسطورية، وإلى عجائبه وحيله وحنكته.

    كل شعب وكل أمة صمّمت لها (جحا) خاصاً بها، بما يتـلاءم مع طبيعة تلك الأمة، وظروف الحياة الاجتماعية فيها. ومع أن الأسماء تختلف، وشكل الحكايات ربما يختلف أيضاً، ولكن شخصية (جحا) وحماره لم تتغيّر، وهكذا تجد شخصية نصر الدين خوجه في تركيا. ومن الشخصيات التي شابهت جحا بالشخصية إلا أنها لم تكنى به، فنذكر غابروفو بلغاريا المحبوب، وأرتين أرمينيا صاحب اللسان السليط، وآرو يوغسلافيا المغفل.

    في الأمة العربية، نجد أول ذكر لاسم جحا، يعود لدُجين بن ثابت الفزاري، الذي عاش في القرن الأول الهجري، ونسبت إليه طرائف، قال الشيرازي عنه "جُحا لقب له، وكان ظريفاً، والذي يقال فيه مكذوب عليه". وذكر ابن النديم المؤلف والأديب في كتابه "الفهرست"، الذي أحصى فيه، كل ما صدر من كتب ومقالات في زمانه، الذي فاق عددها ثمانية آلاف كتاب، وأكثر من ألفي مؤلِف، عنوان كتاب "نوادر جحا". عاش المؤلف في القرن الرابع الهجري. وحتى الأمة الفارسية، امتازت بنكت جحا، ونجد أثارا له في الشعر الفارسي الغابر.

    تبقى شخصية الشيخ  نصر الدين خوجة التركية، أكثر تأثيرا وواقعية، وتم تصويره على أنه شخص حكيم ومغفل في آن واحد، ففي كل حكاياته ومغامراته، دائما ما يعثر جحا على وسيلة ذكية يخرج بها من الأوضاع الصعبة والحرجة التي يجد نفسه فيها، من خلال حنكته وحكمته وخفة دمه، كما أنه دائما ما يربك محدثيه بخطاباته التي تبدو غبية، إلا أنها في غاية الحكمة.

-        الملامتية، أو الملامتية، أو الملامية، اسم اشتُهر على طائفة من الصوفية. الملامتية، النسبة فيه على غير قياس إلى "الملامة"، أي العَذْل، وكذا اللَّومُ واللّوْماءُ واللَّوْمَى واللائمة، ويقال: لامَه على كذا يَلومُه لَوْمًا ومَلامًا وملامةً ولوْمةً؛ فهو مَلُومٌ ومَلِيمٌ. ولقد كان الشيخ ابن العربي الحاتمي يعترض على اسم "الملامتية"، ويرى أن هذه النسبة لغة ضعيفة، ويسميهم "الملامية".
    أما عن وصفهم، فيقول يقول الشيخ أبو حفص النيسابوري "الملامتية: هم قوم قاموا مع الله تعالى على حفظ أوقاتهم ومراعاة أسرارهم، فلاموا أنفسهم على جميع ما أظهروا من أنواع القرب والعبادات، وأظهروا للخلق قبائح ما هم فيه، وكتموا عنهم محاسنهم، فلامهم الخلق على ظواهرهم، ولاموا أنفسهم على ما يعرفونه من بواطنهم، فأكرمهم الله بكشف الأسرار، والاطلاع على أنواع الغيوب، وتصحيح الفراسة في الخلق، وإظهار الكرامات عليهم، فأخفوا ما كان من الله تعالى إليهم، بإظهار ما كان منهم في بدء الأمر، من ملامة النفس ومخالفتها، والإظهار للخلق ما يوحشهم، ليتنافى الخلق عنهم، ويسلم لهم حالهم مع الله. وهذا طريق أهل الملامة".

    ويقول أبو عبد الرحمن السلمي "طريق الملامة: هو ترك الشهوة فيما يقع فيه التمييز من الخلق في اللباس والمشي والجلوس والسكون معهم على ظاهر الأحكام، والتفرد عنهم بحسن المراقبة، ولا يخالف ظاهره ظاهرهم بحيث يتميز منهم، ولا يوافق باطنه باطنهم، فيساعدهم على ما هم عليه من العادات والطبائع، ولا يخالف ظاهرهم بحيث يتميز".

    وقال عنهم أبو حفص السهروردي في كتابه "عوارف المعارف"؛ حيث قال "الملامتية لهم مزيد اختصاص بالإخلاص، يرون كتم الأحوال والأعمال ويتلذذون بكتمها؛ حتى لو ظهرت أعمالهم وأحوالهم لأحد، استوحشوا من ذلك كما يستوحش العاصي من ظهور معصيته. فالملامتي عظم وقع الإخلاص وموضعه وتمسك به معتدا به، والصوفي غاب في إخلاصه عن إخلاصه".


ملتقى فالينسيا، طريق الحرير

ملتقى فالينسيا، طريق الحرير

    شارك الشيخ خالد بن تونس، الرئيس الشرفي لجمعية عيسى، المنظمة الدولية، غير الحكومية، في النسخة 15 للملتقى الدولي المتوسطي، ملتقى الثقافات الثلاث، الذي عقد بمدينة فالينسيا (إسبانيا) أيام 22 و 23 و 24 مارس 2019، والذي اختير شعارا له هذه السنة "طريق الحرير: طريق المعرفة والتجارة والسياحة والتعاون"(1). نظمته منظمة اليونيسكو، بالتعاون مع عدة منظمات دولية، بما فيها منظمة عيسى .
                              الشيخ خالد بن تونس في الملتقى.
    جاء في نشرية تقديم الملتقى "ستجمع هذه الطبعة الجديدة من المؤتمر الدولي حول البحر المتوسط في مدينة فالينسيا، لمدة ثلاثة أيام، شخصيات دولية وخبراء، وكذلك الزعماء الدينيين، من خمس مجتمعات، للمناقشة والتفكير في أركان ثقافة السلام: الحضارة والأنسية والأخلاق، قبل الإنزلاق والأزمة، الذين طالا قيم مجتمعنا، في عصر العولمة والثورة الرقمية، التي بدأت الآن، وجعلت منا مواطنين، لأول حضارة كوكبية في تاريخ البشرية"(2).

    "طورت هذه المبادرة من طريق الحرير الجديد، الناتجة عن برنامج طرق الحوار، الذي وضعته اليونسكو في عام 1988، من أجل حوض البحرالمتوسط؛ من أجل تعزيز التنوع والتنمية المستدامة، التي جلبت زخما جديدا لاجتماعنا الودي لـ"ملتقى" الثقافات الثلاث، الذي يهدف إلى تعزيز الصداقة والتعاون ورفع التحدي، أن هذا البحر، الذي يقوم بتوحيدنا على ضفة واحدة، يمكن أن يُسمِع صوته في العالم، ويواجه تحديات السلام والتنمية في مجتمعنا المعولم"(2).

    وتضيف المقدمة، بعدما مجريات الأحداث، إذ تم في المقام الأول، افتتاح مركز الثقافة والأعمال الخيرية، "في المقام الثاني، سيتم تقديم العناصر الفاعلة إلى الشباب، في الأول من خلال ندوة الحرير، الشباب والمستقبل، بمشاركة ممثلين مختلفين من الأوساط الأكاديمية، ثم من خلال توزيع كتاب قصصي للشباب، وتمثيله، وهو "المولى نصر الدين: شخصية صوفية عالمية"، متوفر بلغات عديدة، مصمم لتقريب شباب بلدان البحر الأبيض المتوسط ​​وطريق الحرير. سيقدم لهذا المنشور الشيخ خالد بن تونس، القائد الديني المسلم، (الذي تعتبر منظمته) عضو المجلس الاقتصادي الاجتماعي للأمم المتحدة، حيث رعى اليوم الدولي للعيش معا في سلام، والذي سيتم الاحتفال به كل16 مايو، وأيضا أسس في الجزائر، جائزة الأمير عبد القادر للتنمية والتعايش السلمي في البحر الأبيض المتوسط وفي العالم.

    وسيكون لدينا أيضًا عروض تقديمية متنوعة، مثل العروض المقدمة من  طرف فيسنتي غراسيا، صاحب جائزة الحرف الوطنية، وأبراهام حاييم، رئيس جماعة السفارديم للشرق والقدس، وسهى عبود حجار، أستاذة الدراسات العربية والإسلامية، في جامعة كومبلوتنسي بمدريد.

     سينتهي اليوم الأول بقصة شعرية: الشعر العربي الأندلسي، للشاعر إيلينا إسكريبانو، وحفل موسيقي برفقة سوبرانو من جوقة الوئام البولفونية"(2). وتبرز هذه الشخصيات ونوعية المداخلات، بعض الجوانب ممن يخوض معهم الشيخ خالد بن تونس حواراته وتبادلاته.



     بالفعل قدم الشيخ خالد بن تونس، موضوعه الأول "المولى نصر الدين: شخصية صوفية عالمية"(3)، في صبيحة اليوم الأول من الملتقى، فسر فيه مجموعة من الحكم، تم استخلاصها من قصص الشيخ نصر الدين، المشهور عند الأمة العربية، باسم جحا، الذي يعتمد في تعاليمه، على أسلوب يناقض العقل والتقاليد، ليوقظ فينا المبادئ والأخلاق الإنسانية. كما قام الشيخ خالد بن تونس بتقديم كتاب حول نكت هذه الشخصية، والذي نشرته منظمة اليونيسكو، منسوخ بعدة لغات، ووزع على الحاضرين. وفي حصة المساء من نفس اليوم، ندوة الحرير، الحكمة والوئام، ألقى محاضرة بعنوان "اليوم الدولي للعيش معا في سلام"، حيث دعا للاحتفال به كل 16 ماي، عبر عقد لقاءات تغذي التعايش، وتهدف لمد جسر التواصل مع الآخر، من أجل السلام.

    من جهة أخرى، حضر الشيخ بن تونس، صلاة جماعية للديانات بكاتدرائية فالينسيا، يوم 24 مارس، عرفت باسم حفل الثقافات للسلام والوئام. أعطيت له الكلمة، فنهض وقال:
    بسم الله الرحمن الرحيم
    سيداتي سادتي. في هذا المكان المقدس، مكان للصلاة، مكان تاريخي، الذي صلى فيه الكثير من الرجال والنساء، أتمنى شكر من رحبوا بنا اليوم، منظمي الملتقى، الذي سمح لنا بالإلتقاء والبناء معا، طريق السلام. فضلتٌ التقاسم معكم شعر حول السلام، ترجم إلى الإسبانية، من طرف صديقي سعيد. إنه الصلاة العميقة بالنسبة لي، التي تناسب هذا اللقاء. شكرا جزيلا.
    وتمت قراءة الأبيات الشعرية لقصيدة الشيخ "السلام"، من طرف السيد سعيد بن سلام.
                                 خارج كاتدرائية فالينسيا.

    وتعرض المؤتمر لمجموعة مواضيع تم طرحها، مثل أهمية مدينة فالينسا كميراث غير مادي للإنسانية، وذلك عبر لعبها دورا هاما في طريق الحرير. من جهة أخرى تطرق الملتقى للعلاقة بين الأجيال، عبر التربية والتعليم ومد جسر التواصل بينها. كما تم الحديث عن الدور الذي لعبه العلماء المسلمون واليهود، في الإرث الحضاري للأندلس.

    وقد حظي البحر الأبيض المتوسط باهتمام واسع عند مجموعة من المحاضرين، الذين أبدوا قلقهم حول تأزم هذه المنطقة، عبر تفاقم ظاهرة الهجرة، بفعل الحروب، والدور الذي يمكن أن تلعبه إسبانيا وأوروبا في مواجهة ذلك. وتطرق الملتقى أيضا، لظاهرة العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا الحديثة والعالم الافتراضي والذكاء الاصطناعي.
    على هامش المحاورات، كان للشيخ خالد بن تونس لقاء صحفي قصير، مع قناة آبونت الإسبانية، فأجاب على سؤال الصحفية، ماذا يعني لك هذا اللقاء؟ قائلا: إنه التأكيد، أننا خرجنا من وضع، كانت فيه الإنسانية منقسمة بين ديانات وحضارات، إلى حضارة شاملة دولية عالمية. ينبغي علينا اليوم، تبني نظرتنا حول هذه الحضارة الجديدة، التي هي بصدد الظهور، وإعطاء فرص أكبر لأبنائنا، لكي يعيشوا معا في سلام، الواحد مع الآخر، وليس الواحد ضد الآخر.
          الشيخ خالد بن تونس في حوار مع مع قناة آبونت الإسبانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). يقصد بـ"طريق الحرير"، خط المواصلات البرية القديمة، الممتد من الصين وعبر مناطق غرب وشمال الصين وآسيا كلها، إلى المناطق القريبة من أفريقيا وأوروبا. وبواسطة هذا الطريق كانت تجري التبادلات الواسعة النطاق، من حيث السياسة والاقتصاد والثقافة، بين مختلف المناطق والقوميات. امتاز الصينيون في القديم بالانفراد بمعرفة سر صناعة الحرير، فكانت تجلب من هناك، والحرير مصدر أبهة وافتخار لمالكه واعتزاز، فكانت تشق الطرق لجلبه وبيعه. اعتبرت هذه المجموعة من المسالك في التجارة، أساس  التطور، حتى أنها أرست القواعد للعصر الحديث. أطلق عليها اسم "طريق الحرير"، الجغرافي الألماني "فرديناند فون ريتشهوفن". كان المسلك مصدر لقاء وتعارف ووسيلة ممتازة للتآخي، ويعتبر اليوم من أهم منافذ الحوار في العالم.  


(2). مقدمة النسخة 15 للملتقى الدولي المتوسطي. توقيع السيد "رفائيل موزو غيمينز"، رئيس مركز اليونسكو فالينسيا- المتوسط.

(3). عاش الشيخ نصر الدين خوجة بتركيا، خلال القرن 13 الميلادي، ولد بمدينة سيواري حصار، وتلقى علومه بمدينة  آق شهر، وبها توفي، وتنقل في قونية وبورصة وأنقرة، ومدن أخرى. ولي القضاء، وعين في التدريس وإماما للمسلمين، وبها جاء لقبه خوجة، وتعني المعلم. فقد عاصر بداية الحكم العثماني، ونهاية الحكم المغولي للأناضول.
    تعتبر شخصية شعبية ومشهورة جدا، في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وبعض المناطق من القارة الأوروبية، حيث يتم تداول قصصه وحكاياته، على طول منطقة جغرافية واسعة، تمتد من هنغاريا عبورا بالهند، وصولا إلى الصين، ومن جنوب سيبيريا إلى شمال أفريقيا، وخلال قرون كاملة، كبر الملايين من الأطفال، وهم يستمعون لقصص نصر الدين خوجة الأسطورية، وإلى عجائبه وحيله وحنكته.

    كل شعب وكل أمة صمّمت لها (جحا) خاصاً بها، بما يتـلاءم مع طبيعة تلك الأمة، وظروف الحياة الاجتماعية فيها. ومع أن الأسماء تختلف، وشكل الحكايات ربما يختلف أيضاً، ولكن شخصية (جحا) وحماره لم تتغيّر، وهكذا تجد شخصية نصر الدين خوجه في تركيا. ومن الشخصيات التي شابهت جحا بالشخصية إلا أنها لم تكنى به، فنذكر غابروفو بلغاريا المحبوب، وأرتين أرمينيا صاحب اللسان السليط، وآرو يوغسلافيا المغفل.

    في الأمة العربية، نجد أول ذكر لاسم جحا، يعود لدُجين بن ثابت الفزاري، الذي عاش في القرن الأول الهجري، ونسبت إليه طرائف، قال الشيرازي عنه "جُحا لقب له، وكان ظريفاً، والذي يقال فيه مكذوب عليه". وذكر ابن النديم المؤلف والأديب في كتابه "الفهرست"، الذي أحصى فيه، كل ما صدر من كتب ومقالات في زمانه، الذي فاق عددها ثمانية آلاف كتاب، وأكثر من ألفي مؤلِف، عنوان كتاب "نوادر جحا". عاش المؤلف في القرن الرابع الهجري. وحتى الأمة الفارسية، امتازت بنكت جحا، ونجد أثارا له في الشعر الفارسي الغابر.

    تبقى شخصية الشيخ  نصر الدين خوجة التركية، أكثر تأثيرا وواقعية، وتم تصويره على أنه شخص حكيم ومغفل في آن واحد، ففي كل حكاياته ومغامراته، دائما ما يعثر جحا على وسيلة ذكية يخرج بها من الأوضاع الصعبة والحرجة التي يجد نفسه فيها، من خلال حنكته وحكمته وخفة دمه، كما أنه دائما ما يربك محدثيه بخطاباته التي تبدو غبية، إلا أنها في غاية الحكمة.