الاثنين، 16 ديسمبر 2019

في لقاء كتابات وروحانيات


 في لقاء كتابات وروحانيات




   نظمت جمعية "الكتاب المقدس والروحانيات" بالشراكة مع مؤسسة الإسلام في فرنسا ومعهد إيلي ويزل معرض الكتاب "الكتاب المقدس والروحانية" يوم الفاتح من ديسمبر 2019، في كلية البرناديين بباريس. أثير في هذه الدورة التساؤل التالي، كيف تستمد التقاليد الروحية العظيمة من مصادرها للاحتفال بالأرض والناس ورعايتهم؟ هذا المعرض، الذي أقيم هذا العام تحت شعار "أنشودة الأرض"، حضره كتاب وشعراء وروائيين، قدّر عددهم بمائة كاتب، يهودي ومسيحي ومسلم وبوذي، صاحبوا أعمالهم الأخيرة، التي تعني الروحانية الأنسية.

    شهد اللقاء تقديم ثلاثة كتاب خطابات قصيرة مقروءة، وسمعت أصواتهم تحت صيت الشعار "أنشودة الأرض". تقدم إلى المنصة وقرأ خطابه كل من فاليري زناتي وماريون مولر كولارد، فهذه الأخيرة قدمت نصا عميقا، سمت به إلى السماء، قبل أن يتقدم الشيخ خالد بن تونس ويقرأ نصه. فقال:

    بصدق، أنا حرج بعض الشيء. بعد هذه الكلمات الجميلة، المليئة بالحياة.. أنا سأقوم بإنزالكم إلى الأرض، لسوء الحظ. (ضحك).

    لأن السؤال اليوم، كيف نحتفل، وكف نعالج الأرض والناس، سعيا وراء إنسانية متضامنة، تهتم بكل ما هو حي. بالحي. وحيث يمكن لإرث جميع تقاليدنا أن يساعدنا، ويقوم بتغذية وتنوير وتجديد ضميرنا، مواجهة لتحديات عصرنا، ويكون لنا كفيلا ضد الحلول الجاهزة، الحاسمة، وأجوبة جميع الحالات، وادعاءات الطمأنينة المزورة، لعالم بروميثيوسي، يدعي أنه وجد بفضل التطورات التقنية الترياق الشامل، وحيث أنه بدل أن يجني إنسانية مسالمة ومتحررة من أوهامها، جنى إنسانية فاقدة لمعالمها ومضطربة، بوضعها الأرضي الهش للغاية، وينضاف إليها مستقبل لا يسبر غوره.

    إن الحياة التي تلقيناها، الحياة التي تدب حولنا، من المعدني والنباتي والحيواني حتى للإنسان، هي هبة منحتها لنا إرادة، أرادت أن تكون الحياة. بالنسبة للتقليد الروحي المسلم الصوفي فإنها جاءت من اسم إلهي هو الحي، أراد الله عز وجل أن يتجسد وأن يُرى، وأن يُعرف الكنز المخفي لحضرته، من خلال الخلق، خلقِه. نحن في العمق لسنا سوى الآنية والمرآة لهذا العالم الإلهي، والاحترام الواجب لكل حياة، في المعدني والنباتي والحيواني والإنساني، مانحة بذلك مبدأ مقدس، مقترح لتأمل الرجال. إذا كان كل مخلوق مقدس، فكل شخص ينبغي أن يُحترم، وفق خصوصيته، ألتي أرادها الحق. فإن احترام الاختلافات الإنسانية يشكل عندها بالنسبة للحكيم أسس تعايشنا في الأرض، ولا ينبغي أن يكون بأي حال مصدر نزاع أو هيمنة. نحن بعيدون كل البعد عن ذلك.

    بدل أغاني الفرح والجمال والرحمة ترجى للأرض، إن ما يتعرض له الضمير المضطرب والقلق للإنسان حاليا، يشبه لسوء الحظ، وبشكل قوي، عاصفة، من قبيل الاحتباس الحراري، وإنها لتصدع ضرورة مكافحة الكوارث المعلنة، والانقراض المبرمج للأنواع، والإنهيار الناتج بسبب عدم الإستقرار السياسي والمالي، وتفاقم الأزمات الإقتصادية، واستغلال اللامساواة والفقر، والتلاعب بالأخبار، ورفض النخب، وأخيرا تزايد كراهية الأجانب وتجاهل العنف.

    يتساءل ضميرنا عن كيفية إيجاد حل ومعالجة كل هذه المشاكل، التي خلقت جوا ملؤه الحيرة واليأس، يحبطه ويربكه، ويعتم المستقبل.

    في كل زمان وفي كل مكان، ادعى أناس أنهم على صواب، وآلموا الذين لم يكونوا متفقين معهم، ورغم الإبادات والجرائم والإمبرياليات المتكررة، من حضارة إلى حضارة، فإنها لم تستطع إيقاف مصير الإنسانية.

    لكن حاليا، توجد ثقافة النحن، التي تفرض نفسها على النساء والرجال الواعين بالوضع الحرج، حتى نتجنب نقل عبئ النزاع إلى الأجيال القادمة، وتسمح لهم برفع التحديات، التي سيتعين عليهم مواجهتها. أتكلم عن ثقافة "النحن"،وثقافة النحن هذه. -أعذروني، لا أحب أن أقرأ النصوص التي أكتبها، أكره ذلك، ولكن تفرضونها علي، فسأقوم بذلك. لسوء الحظ، تلك هي الطريقة-. فثقافة النحن، يجب أن نعلمها في وقت مبكر لأطفالنا. بدل أن يقال منزلي، ماذا لو نعلم أطفالنا أن يقولوا منازلنا، بدل أن يقال والدّي يقال والدينا، وبدل أن يقال سمائي، فيكون سماؤنا، وبدل أن يقال أرضي، يقال أرضنا، وبدل أن يقال وطني، يقال وطننا. من هنا، تأخذ الكلمات معاني، وتكتب في الذاكرة الآخذة في التطور المبادئ التي ينبغي أن تُسير هذه الأمة الإنسانية. إذن يوجد الكثير من التدريب بالكلمات والأفعال، يعطي معنى ويهدي العقل، ويكون سانحا ليعطينا دليلا يوجه نحو الغير، ونحو بناء حياتنا الخاصة. في هذا الضمير الملزم الممتد عالميا، فإن الغير يشكل جزء مني، أفعاله تخصني، كما أن أفعالي تخصه، وإذا حقق أحدنا شيء إيجابي، فالكل يستفيد. وإذا شعرت بأن من خلال أفعالي، أشرك الغير والعالم، فسأتصرف بحنكة وتيقظ، فضميري لم يعد يخصني، ولكن يخص أيضا أمة، شعب، بل إنسانية، لن أتصرف فقط من أجل نفسي، وستأخذ مجموع أفعالي نطاق آخر. وما تم إنجازه لا تكتنفه الأنانية، ولكن يعود لصالح الإنسانية التي أنتمي إليها.

    هنا، سأعطي الكلمة لشخصية على الأقل للذين عرفوه، في الغرب كما في الشرق، وسموه الشيخ المجدد للتصوف في القرن العشرين، هو الشيخ العلاوي. يعلمنا في هذا الموضوع أن "الإنسان متحد الحقيقة وإن تعددت أفراده، فهي لا تعمل إلا لما به قوام الإنسان". وفي هذا الصدد يقول عن عمل الأطراف وأعضاء البدن "فالحواس مثلا، لا تعمل إلا لتقوية الحس المشترك، ليأخذ العقل من ذلك ما به الحاجة لإفادة البدن، والعقل نفسه لا يعمل لشيء يستقل به دون مجموع البدن، وهكذا تجد سائر الجوارح الظاهرة والإدراكات الباطنة، ما من آلة منها، إلا وغايتها أسمى من أن تستتر بنفع، دون أن تشاطر فيه عموم أجزاء البدن". إذن هذه هي صورة الحواس و الأعضاء و الإدراكات التي تعمل معا من أجل الصالح العام. ففي نظره هي نفسها تشير إلى هذه الإنسانية التي تعي أنها بوحدتها، كوحدة تشكل بدنا، وكل أمة تنتمي إليه كونها عضو. ويذهب أبعد من ذلك، ويؤكد أن "لم يشكر الناس لم يشكر الله"، وأن "كل من زهد عن الخلق زهد عن الحق"، وأكثر من ذلك "ليس الشأن أن تبالغ في التنزيه، بل أن تعرفه في التشبيه". نحن بعيدون كل البعد عن ذلك. ترمى معرفة الله في التنزيه والتشبيه.

    إن هذا العيش معا هو الذي يسمح لنا بمعرفة الآخر في الإختلاف، وتقبله كعضو في الأمة الإنسانية، وعضو في هذه الإنسانية، أو كذرة أو خلية في هذا البدن للإنسانية. وإن الجهل الكبير للقيم وتعاليم الروحانية الموجودة في التقاليد دفع الإنسان أكثر فأكثر بأن ينغلق في ذهنية أنانية نرجسية.

    عندما لا يعود نفَس الروح يلهم القلوب، تتراخى الضمائر ويخرف العقل. وهنا تكمن أهمية تغذية الضمير، نور كينونيتنا؛ من منبع هذا الإرث الروحي. في هذه اللحظة ستدمج الروحانية في امتداد الفلسفة المعروفة، كمحبة للحكمة، حتى تغذي هذه الأخيرة التفكير في اتجاهات عملية، تجنب الإنسان الدخول في مناقشات نظرية عقيمة. -إنه طويل نوعا ما، سأثقل عليكم، ولكنني سأكمل-.

    في عالم حيث المنظور الوحيد المأخوذ بعين الإعتبار، هو عالم التأمل والأفقية، أوصلتنا الحداثة إلى رؤية العالم إلا على مستوى الأفقية. سأشرح. إذا كان لتفكيري سوى منظور واحد، سترغمنا هذه الأفقية، وتجعلنا في قبضة الغرائز والنزوات، التي تصبح سيدة مواقفنا. وهي من يقرر لنا. إن الأفقية هي غياب أي بعد روحاني، ينادي الضمير الإنساني، حتى يقدر عواقب أعماله. لا يعتبر أي عمل، إلا بنية صاحبه، وكل نية تتعلق بصورة وثيقة بالقيم المتبناة.

    إذا ما تم تغذية هذه القيم بالمحبة والرحمة والعدل والكرم والتواضع، ستكون حتما النوايا حاملة لأعمال بناءة، تفيد في منافع إجتماعية. وإن هذا ما هو مفقود في مجتمعنا. بالعكس، إذا فقدت العلاقات الذاتية، ومع الغير والعالم قيمها، وعوضت سوى بما تمليه عليه عواطفه وغرائزه، على حساب عمودية تنادينا في كل مرة إلى اعتبار أعمالنا، وقياسها بالمأثورة القائلة "لا تفعل بالغير ما لا تريد أن يفعل بك". تتداخل هذه العمودية في حركاتنا وتصرفاتنا وسلوكياتنا، لتذكرنا بالجائز والمحرم. بالإنساني واللاإنساني. سير بآليات الدفاع وتأثيرات تفاعلاتنا، التي ستدفعنا إن لم يكن إلى قمع، دفعتنا إلى إيجاد تبرئة منطقية، تصل إلى حد إنكار الذين يعارضون إستساغتنا، وتستلمنا السلطة بنبضات الغريزة. يُرفض أي اعتدال ويرفع الحياء وكل شيء مباح.

    -خرجت (كلماتي) هكذا، أقدمها لكم كما هي. تقبلوها-. إن الإنسان المسؤول هو حالة إستثنائية. إنه بحاجة إلى الإعتماد على قيم روحية وعالمية ومفاهيم ودراية وتصرفات، ليعيش التناغم مع نفسه والغير ووسطه الطبيعي. إن ثقافة السلام، ربما هي الوسيلة المواتية للشروع في عملية تحول فردية وجماعية. حسب تعريف الأمم المتحدة فإن ثقافة السلام هي مجموعة من القيم والمواقف والتقاليد وأنماط السلوك وأساليب الحياة، التي تنبذ العنف وتسعى إلى منع نشوب النزاعات، عن طريق حل أسبابها الجذرية، وحل المشاكل بالحوار والتفاوض، بين الأفراد والجماعات والدول(1). من الضروري إدراج تعليم ثقافة السلام، لأنها تربية تيقظ، تسمح بتوجيه طاقة المشاعر، وإخلاء كل أشكال العنف. إن غياب الحوار وتفسير كلمات أو سلوكيات معينة، يثير فينا الغضب، مما يطلق شرارة عملية، قد تؤدي بنا تدريجيا إلى القطيعة، بل وأكثر من ذلك، إلى العنف اللفظي أو البدني. وإن تعلم التحكم في الغضب وإدارته، هو عنصر أساسي في العيش معا في سلام. وتعلم التهدئة، واجتناب الدخول في تروس القدح أو الاتهامات المتبادلة، إذ سينتهي حينها الأمر إلى جرح الكبرياء، والذي ستغتنمه النفس، لنفخ الكِبر، وإن النفس الفخورة لا تذعن لتفاهم، وترد الضربة بالضربة. سننتقل بعد ذلك إلى موقف مختلف، مبيح، حيث يدفعنا الكذب والجناية والخيانة نحو اللامعقول، والإفراط يؤدي أحيانا إلى العنف الشديد. ومن هنا جاءت الحاجة إلى عدم إصدار أحكام متسرعة، والدعوة إلى الصبر، لما لها من الأهمية البالغة، والسعي في أعمال الإحسان كثمرة نضج روحي، من أجل الإستئناف مع منبع الحياة، وأن تتوجه الأرض للسموات.

    يقع على عاتق الرجال المحققين والحكماء، ملئ الفراغ الوسيط، ونسج ثوب القرن المقبل.

    شكرا جزيلا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ