.محاضرة الشيخ خالد بن تونس ببروكسيل في 30 ديسمبر 2003

محاضرة الشيخ خالد بن تونس
 بروكسيل في 30 ديسمبر 2003



    بعد بسم الله الرحمن الرحيم
    سيداتي، سادتي، أصدقائي الأعزاء

    أولا، أنا سعيد بأن أكون بينكم، ليس فقط أني أرى في هذا اللقاء، أنه ثمرة سنوات عديدة من الأمل و العمل.

    أضع أملي بين أيديكم، أنتم جيل المستقبل، جيل الغد. أغلبيتكم سيواجهون الحياة، و يقومون بتربية أولاد. ففي أي عالم سيعيش أبناءنا و أحفادنا؟ على كل حال، هذا هو أحد إهتماماتي، في عالم، هو في تغير مستمر، و تطور مستمر.

    فيما يخص المجتمع المسلم، سواءا كان في الغرب أو في الدول العربية الإسلامية، فالوضعية اليوم حرجة. فكره متجمد، و راكد، و ربما أنه في تدهور. للأسف إنها الحقيقة.

    من أجل عالم أفضل، ما الذي سنقترحه، و ماذا سنثبت لأنفسنا و للأخرين؟ للآخر؟ كيف نتصور حوارا يرتكز على الغيرية؟ كيف نبني عالم مع الآخر، بدون الدخول في صراع، أو في صراع دائم معه؟ فالسؤال يطرح نفسه.

    في المقام الأول، سأحاول تسطير الخطوط العريضة، التي نقوم حولها، بتقديم فكرة، طبعا ليست هي الوحيدة، و لكنها فكرة ضمن أخريات لمساعدة المجتمع، المجتمع الإسلامي أولا، و لكن أيضا مساعدة المجتمع الإنساني في مجمله، و نتصور عالم أكثر عدلا و أخوة، عالم يكون فيه لكل الناس، لكل بني آدم، نفس الحظ، و نفس الكرامة، و يكون بإمكانهم أن يتقاسموا و يعيشون نفس الأمل.

    أريد الإبتداء خصوصا، بمحاولة رؤية، لماذا نحن في هذه الوضعية في المجتمع الإسلامي؟ و ماهي مواطن الخلاف، و مواطن الضعف؟ و مكامن صراع الحضارات، و ماهي القضايا اليوم، التي جعلت الحضارات الإنسانية تتصادم فيما بينها، و لا تجد الوسيلة للحوار و التخاطب، و تُعد عالم أفضل لمجمل المجتمع الإنساني؟

الشعور بالرفعة:
    أبدأ بأحد نقاط النزاع التي جعلت من الأمة الإسلامية تتهمش نسبة لبقية العالم، و كانت سببا في انحطاطها. نتج هذا الشعوربالرفعة عن بقية الإنسانية، بالتأسيس على القرآن نفسه أو على بعض الفهوم الحرفية للقرآن، عندما يقول «كنتم خير أمة أخرجت للناس»، أخرجت لتقديم الرسالة المسماة بالكونية.

    أوجد هذا الأمر في المجتمع الإسلامي أنانية، كونه مادام يملك هذا الشعور بالرفعة، لأنه "نحن خير أمة، نزل علينا آخر كتاب، لدينا آخر وحي، آخر الرسل و خاتم الأنبياء"، في نفس الوقت نحن نتواجد في وضع محبط دائم.
    هذا الشعور بعلو الشأن، كان أحد العوائق الذي أدى بالعالم الإسلامي، إلى أن يدير ظهره للتطور المحقق من طرف بقية المجتمع الإنساني. ما دمنا نحن الأخيار ليس لنا أن نأخذ من البقية. هذا الشعور ليس إسلامي. هذا الشعور ليس محمدي.

    إن الشعور بالرفعة، منع المجتمع الإسلامي من أخذ ما عند البقية، مما أنتجته من منافع، في العلوم و المعارف و المهارات، و خاصة في إدارة المجتمع، التسيير الإجتماعي و التسيير السياسي. بدأ هذا الشعور منذ مدة، يقال ابتداءا من القرنين الـ 11 و الـ 12، مع الإنحطاط، أو نقول مع خسارة الأندلس، و انطواء العالم الإسلامي، الذي شعر بالإعتداء عليه. آخرون يرجعونه إلى وقت متأخر، و يقولون أنه بدأ مع الحروب الصليبية من جهة، و من الجهة الأخرى، مع المغول في عام 1500، الذين وصلوا إلى بغداد و دمروها كلية تقريبا. قدم الصليبيون من الغرب إلى الأرض المقدسة.

    يعاني الإسلام من أزمة سياسية و دينية كبيرة، و قد انغلق على نفسه. إن شعور المجتمع المسلم بالتعرض للعدوان، أدى به إلى الإنطواء على نفسه. كل ما يأتي من الآخر، و من كل مَن هو غير مسلم، كان يعتبر تهديدا للمجتمع الإسلامي.

الإحباط: 
    و لكنه قد سبّب، شئنا أم أبينا، أكثر اليوم، في عالم أكثر إنفتاحا، في عولمة، يُرى فيها كل شيئ و يُعرف، إحباطا كبيرا جدا. ما دمنا الأفضل، لماذا هذا ليس على ما يرام عندنا، و عند الآخرين هو على ما يرام؟ لماذا؟ هل ذمنا الله؟ هل هو عقاب؟ يجيب المتشددون بـ "نعم"، و يقولون هو "عقاب".

الأوقات السابقة خير من الأوقات الحالية:
    و هذه هي النقطة الثالثة. لماذا هذا العقاب؟ لماذا محكوم علينا أن نعيش هذه الحالة؟ بكل بساطة لأن مع مرور الزمن، المجتمع الإنساني يتجه نحو الإنحطاط. إذن خير الأوقات هي الأوقات السابقة. و في عصرنا ما دام الإسلام في حالة تدهور، هو الدليل نفسه، أنها إرادة إلهية. 

    لا نستطيع أن نعيش في مجتمع إسلامي أرفع من المجتمعات السابقة. فهم بلا شك أسمى منا. السلف الصالح. الأوقات السابقة خير من الأوقات الحالية. فنحن في قرن الشيطان، و كل ما ينجز و يصنع، و كل تقدم مادي و إجتماعي، و ما تحقق من منجزات و حقوق الإنسان و العدالة و الكرامة و المواطنة، كل هذا يعتبر من طرف أصحاب هذا الفكر الأصولي، شيئ سلبي، مادام، كلما تقدم بنا الزمن فإنه محكوم علينا أن نعيش في إنحطاط، و يذكرون الحديث المشهور «بدأ هذا الدين غريبا و سيعود غريبا»(1). إذن هذا الحكم للرسول صلى الله عليه و سلم، هو تأكيد للبعض أن حالة الإنحطاط التي يعيشها المجتمع الإسلامي هي إرادة إلهية، مادام الرسول صلى الله عليه قالها.

    فنحن في هذا العصر، كلما تلقى الإسلام ضربات في الرأس، فذلك يسعدنا لأن «و طوبى للغرباء»، سندخل الجنة. كلما تعرضنا لضربات كلما اتسع الإنحطاط، و انحل المجتمع، مجتمعنا، و افتقر و وقع في فتنة دائمة بدون عدالة، و عمّ الفساد، مع حكومات راشية أكثر فأكثر، و ديكتاتوريات، إلخ... و أكثر، سنسرها "انظروا كان الرسول صلى الله عليه وسلم محقا، سنجازى ما دمنا نتعرض لمضايقات، و بفعل ما نعيشه من وضع مضعف، سنفوز بجنتنا". أعذروني، أحاول دفع الإستدلالات أبعد ما أمكن.

    وبعد، هل الغريب سلبي؟ طبعا، لا.

    إن سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم معصوم. بدأ الدين غريبا، ولم يكن معروفا في البلاد التي ظهر بها. في البداية، نشأ بجزيزة العرب، وكان أمرا جديدا و غريبا، مقارنة بما كان يعيشه المجتمع العربي و المجتمع المكي، الذي ظهر عنده الإسلام.

    إذن فالأزمنة السابقة لا تساوي الأزمنة الحالية. كان الأقدمون أرفع منا في كل شيئ. كانوا أفاضل لأنهم كانوا الأقرب إلى الرسول صلى الله عليه و سلم. كانوا الأرفع لأنهم الأقرب إلى المنبع، إلخ... أما الوقت الحاضر فهو مثال شعاع الزمن. إذا رسمنا شعاع في الزمن، فإنه كلما ابتعدنا تقوس و هبط إلى الهاوية. فمفهوم الأوقات القديمة و الأوقات المعاصرة، و المفهوم الذي نسميه الطور موجود حتى في الهندوسية، مثال "كالي يوغا"، إذ  يتم المرور من العصر الذهبي إلى الفضي، ثم البرونزي، فالحديدي، إلخ...

    فعلا هو مَثل موجود في تقاليد أخرى. نجد آثار تقديس القديم مقارنة بالعصري في المسيحية نفسها، لأنه كلما تقدمنا في الزمن، نتجه نحو أبوكاليبس. كتاب القديس يوحنا، هنا ليحدثنا أننا نتجه نحو نهاية العالم.. نجده عادة مذكور في تقاليد أخرى، هو إرث مشترك للإنسانية، في رؤية القديم دائما أسمى، و منه عقيدة تقديس القديم. المشكلة تكمن في فهمنا. المشكلة هي، إذا طبقناه حرفيا فإنه يستدعي، لماذا تتوقف الأزمنة السابقة في مكان ما؟

    خير الأزمنة قد يكون زمن سيدنا آدم؟ إذا تمسكنا بهذا التحليل في تقديس الزمن، فيكون خير الأزمنة هو زمن آدم... و يكون خير الأزمنة عصر الحجر المصقول، عندما كان الإنسان يعيش في الكهوف و يصطاد بالحجارة المصقولة الحيوانات، في جنة مثالية، لا يحصد و لا يزرع، يصطاد و يقطف ثمار الأشجار. إذن فالأوقات السابقة تكون هذه، إذا أخذنا بهذا التحليل. لنفرغ من هذا التحليل.

    يمكن أن السؤال لا يطرح بهذا الشكل، و لكن بشكل آخر. الأزمنة السالفة خير من الأزمنة المعاصرة، لأن ذلك هو قانون الطبيعة، بكل بساطة. الأرض تتدهور بالتتابع مع حياتها. هناك تدهور في العصور. لقد كانت الأرض أكثر شبابا، و يوجد بها ثروات كثيرة. كان النفط موجود بكمية كبيرة منذ قرن تحت الأرض على ما هو عليه اليوم، و التلوث قليل في البر و البحر على ما هو عليه اليوم، إلخ... حقا كلما تقدمنا في الزمن كلما اتسع التدهور، هذا طبيعي. كل كائن يعيش، يتعرض لهذا التدهور مع الزمن. إذا صعدنا في الزمن في حياتنا، في ماضينا، الرضيع الذي كنت، و الطفل الذي أصبحت بعدها، و البالغ الذي ها أنا ذا، و العجوز الذي سأكون، أليست نفس الوضعية؟ فإني أتعرض لتدهور مع مرور الزمن.

    «كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام».القرآن الكريم. إذن الأمر واضح، فهو يخص الجميع، الكون بأجمعه، هذا لا يتوقف عند صنف من الناس أو المجتمع. لماذا وضعنا أنفسنا في هذا المأزق، بتـبنينا عقيدة تقدس القديم، ناسين أنه قانون دائم للطبيعة، يقتضي كلما تقدمنا في الزمن كلما ظهر التدهور، حتى في أنفسنا و جسدنا و محيطنا الإنساتي. اليوم التدهور كبير، في الغابات و البحار و الفضاءات السكنية. لا يحيل الأمر إلا أن يكون قانون طبيعي، و ليس عقاب إلهي. فهذا مختلف تماما.

    جيد، عندما نحكم في النتائج، و نحصي إلى أين تقودنا عقيدة تقديس الماضي، فقسرا كلما سرنا في الزمن كلما تدهورت العلوم و الأخلاق و الدين، كما سبق أن قلته، فهذا يطبق على مستوى كوني، في الزمن الكوني، و في كل ما يجري في الطبيعة و الفضاء، ما دامت النجوم و الشموس تتعرض لنفس التدهور، و الكواكب كلها و الأنظمة الشمسية جميعها تتعرض له بالضبط. إنه المبدأ «كما بدأنا أول خلق نعيده». القرآن الكريم. نعيده إلى حالته، أي نجدده. موت أبدي، بعث، موت، بعث، موت، بعث، في الزمن. هذه هي شريعة الطبيعة و شريعة الله. و لكن الأسوأ، أن العلماء و الفقهاء المسلمين يطبقونه حرفيا على حضارتهم، مسببين مأزق، و نسوا كلية صدفة، أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال «يبعث الله على رأس كل قرن من يجدد للأمة أمر دينها».

    إسم القديم، هو إسم من أسمائه تعالى. إذن كلما اتجهنا نحو الماضي يكون هو. إن الله عند حد الماضي، كما أنه عند نهاية الأبدية، إذا كانت هناك نهاية، ما دمنا لا نعرف، فإننا نسميه السرمدي. بهذا الوجه نكون قد فهمنا أنه قانون كوني يطبق ليس فقط على المجتمع، و لكن كذلك على الإنسان شخصيا، و على الأرض و الفضاء و الكواكب.

المجدد:
    قال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله يبعث على رأس كل قرن مجدد، مَن يجدد العلوم. كتب بعض العلماء عن الغزالي، و سموه حجة الإسلام، لأنه كتب، و فكره يعتبر فكر تجديدي. قام بتجديد. لم يقل "يوجد الأقدمون، يوجد الإمام مالك قبلي، و ماذا يمكنني أن أفعل أكثر من الإمام مالك". لم يقل هذا. و الإمام مالك نفسه لم يقل "إنتظروا، يوجد الصحابة الذين كانوا قريبين من الرسول صلى الله عليه و سلم، هناك أنس ابن مالك، الذي كان عالما كبيرا. أنا لا أستطيع أن أفعل أكثر منه". فلم نكن لنحصل على الموطأ، الذي يدرس و يناقش حتى الآن في المدارس الدينية.

    و لكن لماذا لا يوجد لدينا موطآت أخرى؟ و ما تعني كلمة موطأ؟ تعني السهل و الأرض المنبسطة.
    الإسم الذي أعطي له و العنوان الذي وضع له هو الموطأ، يعني إرسموا الأمور و اعملوا في العصور في هذا الإتجاه، إذا كانت هناك عوائق في الأمة الإسلامية، يجب إزالتها بالإجتهاد، و تسويتها، أي جعل الطريق سهلة. كما قال الرسول صلى الله عليه و سلم «يسّروا و لا تعسروا». و ليس، قال الأقدمون، و لكن أقدم الأقدمون قالوا. بالعكس إن قال الأقدمون، نأخذ بعين الإعتبار ما قدموه لنا، مع إضافة تفكيرنا، فإن كانوا الأقرب إلى المصدر، فنحن لدينا متسع في الزمان، يسمح لنا برؤية الأشياء بشكل أفضل. التجربة ولا يوجد أفضل. فهم ليسوا بأرفع، و لا في أي حال هم أرفع، هم الأقرب، حقيقة، من المصدر، و لكن على كل حال ليسوا أسمى في الروح، و لا في الفكر، و لا في التحليل.

    علينا مع الأخذ بهذا الإرث، أن ننيعه بإضافة علوم حديثة، في كل المجالات حتى نجعل منه علم حي، و نرى دائما هذا التجديد. مشكلة التجديد أنه يتصادم مع مشكلة أخرى.

البدعة:
    لقد تكلمنا عن التجديد، و هنا فهو مستحيل، لأن أي مجدد، لا يستطيع تجديد أي شيئ، إلا إذا أصبح بدعي، مبدع، و هذا لا يسير. هذا هو المشكل الحقيقي. لا نستطيع أن نمسه. كل ما يمس تجديدا.

    في كل يخص التجديد، فإن المجدد يجد نفسه منحصرا، حتى ولو كان أنبغ رجال عصره، لا يستطيع فعل أي شيئ، فيكفي أن ينهض أي شخص في المجلس و يقول لا، هذه بدعة، و لم تكن في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم، فيقول كل المسلمين "نعم أنت محق، لا نستطيع فعل شيئ". و بعد؟ ألا نستطيع القيام بشيئ. انحصرنا في وضع منغلق دائم، و أكبر نابغة في الإسلام اليوم يصطدم بهذه المعضلة. نحن محكوم علينا. هو حكم حقيقي، و لكننا نسينا أن الأقدمون أنفسهم وضعوا قواعد و قالوا "توجد البدعة الضالة و البدعة المستحسنة"، هذا نسيناه و لا نتكلم عنه، فعندما تقال كلمة بدعة، فهذا يكفي. إنه راسخ بعمق في أذهان الناس.

    وضع السلف الصالح قواعد. لم يكن للأقدمين هذا المفهوم، كانوا في البدعة في استمرار. من أجل بناء الحضارة الإسلامية لم يكن يوجد شيئ في البداية. قام الإمام مالك ببدعة، و جمع الحديث بدعة، لم يجمع في عهد النبي صلى الله عليه و سلم، و صحيح البخاري كذلك بدعة. مََن يعترض اليوم على علوم الحديث؟ رغم ذلك هي بدعة. من يعترض على الأئمة الأربعة، أبو حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد. رغم ذلك فإن ما قاموا به بدعة. من يعترض على عقيدة الإمام الأشعري، هي كذلك بدعة. و أستطيع ذكر أمور أُخرى. كان المسلمون دائما مجبرين على الإبتكار على المستوى الديني، وعلى كل المستويات في استمرارية و ثبات. هكذا تبنى حضارة.

    أتعتقدون أن إسلام المدينة المنورة كان هو إسلام الحضارة الإسلامية؟ ليس كذلك. إسلام المدينة المنورة كان إسلام الحضارة العربية. هو إسلام يستند على حضارة الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي. تكونت الحضارة الإسلامية فيما بعد، بإضافة ما تلقته من الحضارات الأخرى، الفارسية و الشامية و المصرية والبيزنطية، و آسيا الوسطى و الهند و شمال أفريقيا، و حتى أوروبا، و إسبانيا. لأن المسلمين كان لهم روح منفتحة كبيرة. كان للغيرية معنى عندهم، كانوا يرون في الآخر ما هو مفيد للمجتمع الإنساني، و يقولون: "عجبا، هذه رحمة إلهية، نأخذها و نظمها للإسلام ". لم يكونوا يفكرون مثلنا اليوم، عندما نشتري قطعة صابونة، نتساءل هل هي حلال أم حلال، و عندما نشتري معجون الأسنان، نتساءل هل هو حرام أم حلال؟ إلخ... لقد وصلنا إلى وضع هزئي، بينما المسلمين الأوائل أسسوا حضارة ذات أنسية و انفتاح.

    هل تعتقدون أن الإسلام دخلته الأمم الأخرى بالإكراه؟ لم يكن كذلك، تقبلوه لأن الناس كانت في انتظار شيئ جديد، يأتي ليحررها من العصور السابقة بتقرير العدالة. كان الإسلام عصري، و إسلام اليوم ضحية عصرنته. إسلام الزمن الفائت كان أكثر عصرنة من إسلام اليوم.

    البلد الوحيد الذي بقيت فيه الديانة المجوسية حية هو إيران، لقد إحتفلوا بها مؤخرا، منذ شهر تقريبا، و لا أعلم متى ولدت ديانتهم؟ فهذا يعني أنه بدون إبتكار، و بدون بدعة، فإنه محكوم علينا بالخمود.

    نحن من جانبنا نقول يجب الإجتهاد. و لكن الإجتهاد في ماذا؟ لفعل ماذا؟ و ماذا يعني؟ الإجتهاد هو القيام بجهد فردي للتبصر (التمييز)، و نحن لا نريد تمييز شيئ. نريد فقط فعل شيئ كان في زمن الرسول صلى الله عليه و سلم، و ما لم يكن في زمنه صلى الله عليه و سلم لا نقوم به. إذن أين التبصر؟ و كيف نتبصر؟ كيف نرى بوضوح في عالم عصري، عالم يسير بسرعة الإلكترونيات، و يجري فيه التيسير و الإقتصاد، أكثر فأكثر على المستوى العالمي؟ قولوا لي ما هو الوزن الديمغرافي للمسلمين في العالم؟ مليار... هذا كثير. و وزنهم السياسي؟ إنه وزن الريشة. و وزنهم الإقتصادي و العلمي؟ إلخ... نريد أن نذهب إلى عالم أفضل، لننظر أولا في أي عالم نعيش. الإجابة لكم، و كونوا موضوعيين. إذا لم نكن نقادين، و تتعرى الأمة الإسلامية، و تنظر إلى عيوبها قبل أن تلوم الآخرين، و إذا لم تقوموا بهذا، كونكم شباب، اليوم، و إذا وقعتم في هذه المشكلة، أعدكم من اليوم، أنكم ستعيشون نفسيا في وضع منغلق باستمرار أمام كل مشكلة في حياتكم، و لن تستطيعوا أن تبصروا.

التقليد:
    لنستمر، رأيتم الإسمين أو النقطتين اللتين تليان، هما التقليد و الإجتهاد، تأتيان حتما بعد البدعة، لا نستطيع فعل غير ذلك. رأينا وضعية البدعة، و كيف تؤدي إلى وضع منغلق بالتمام. لم تبقى إلا وسيلة واحدة ممكنة، هي التقليد. أوصل هذا الوضع المنغلق المتعمد في العالم الإسلامي من طرف القادة السياسيين و الدينيين إلى التقليد، و أعيدها المتعمد. ما هو التقليد؟ إنه المحاكاة الحرفية، بالنسبة لي، و إقامة حدود.

    دخلت الأمة الإسلامية في طور جهنمي، أصبح فيه كل شيئ بدعة، و في الإنطواء على النفس. قلتها لكم التقليد الحرفي للقدماء، لا نقوم إلا بتكرار ما قاله الأقدمين. لا يجترئ أي عالم أن يرفع صوته، و الذين رفعوا أصواتهم، و الحمد لله، هم كثيرون، قد اضطهدوا. بلا شك تعرفون كلكم ابن خلدون، أب علم الإجتماع، و علم التاريخ، و السوسيولوجيا، كما نسميه اليوم بالغرب، و ليس بالدول الإسلامية. هذا الرجل في القرن الـ 14، الذي رأى التخلف حوله، نهض و كتب كتبا عبقرية، كتب كتاب المقدمة الثوري، الذي يصف آليات التخلف، و يشرح أسباب إصابة المجتمع بالإنغلاق الفكري.

الإجتهاد:
    قيل كل شيئ، و كتب من طرف الأقدمين، و هذا يكفي، و أغلقوا باب الإجتهاد. و ما هو الإجتهاد؟ قلتها لكم، هو جهد متواصل لإيجاد تبصر في الوحي، و الرسالة الكونية، ليس فقط للمسلمين، و لكن للجميع، هو جزء من الثرات الإنساني. لدينا حالة معينة، ابن خلدون الذي اضطهد. طرد أينما ذهب، وكتبه أحرقت، و بفضل أحد الفرنسيين هو ديسلام في القرن الـ 19، بفضل هذا الفرنسي الذي اكتشف إحدى مخطوطات ابن خلدون، استطعنا اليوم، نحن المسلمين معرفة فكره. ألا تجدون أن أسوأ الأمور، ما يفعله شعب أو حضارة بنفسه، عندما يقتل عباقرته، و يعزلهم، و عندما لا توجد حرية لقول الأشياء التي تزعج أو تريد تغيير حال الأمة. 

    لا يوجد إلا ابن خلدون. أول طبيب اكتشف الدورة الدموية هو مسلم، لم يستفد المسلمين من هذا، و الغربيين من عمل به. أول تشريح لجسم الإنسان، و وصف أعضائه، كان للمسلمين، لأن الكنيسة الكاثوليكية كانت تمنع فتح جسد الإنسان. أُقيم تحذير، و قانون يمنع مس الجسد البشري. الجبر ظهر على يد مسلم، و أستطيع ذكر أمورا أُخرى. البارود الذي غير كلية الحروب عند نهاية القرون الوسطى، أصحابه المسلمين، و لكنهم لم يستفيدوا منه، لماذا؟ و كذلك البوصلة. فجأة كأنهم تجمدوا في الزمن، و كل العباقرة الذين ظهروا هناك، وُجدوا فقط لينقلوا كل هذا للغرب، الذي بدأ نهضته.

    لم يكن الإنسان يعرف الورق، المسلمون من أدخله إلى أوروبا، و لم يدخلوا أبدا المطبعة إلى بلادهم. كيف نتصور أن كتب الفلاسفة العرب، و الأطباء العرب، و الفلكيون العرب تطبع بروما، و البندقية، و لندن، و تكلف أثمانا باهظة. و في العالم الإسلامي تحرق لأنها بدعة، و لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه و سلم. هل تستطيعون تخيل هذه الوضعية؟ هنا نتكلم عن أواخر القرون الوسطى، و هذه الذهنية متواصلة حتى الحاضر، في القرن الـ 21. هل تتخيلون العواقب في المستقبل، تهميش العالم الإسلامي عن الشعوب الأخرى. مَن المتسبب؟ هل هو الإسلام؟ الغربيون يقولون هل ترون، إنه الإسلام، لا يمكنه التأقلم مع العصرنة، و الإسلاميون يردون بلى سنؤسلم العصرنة. و هكذا أسلمت العصرنة، إنتقلنا من كوكا كولا إلى مكة كولا، و من أصناف الهمبورغر إلى همبورغر حلال، و كذلك بلبس سراويل الجينز، و التبابين، و مضغ العلكة. و بالنسبة للبقية؟ لا أحتاج إلى ذكر ما هي.

    إنه الإسلام. الإسلام لا يستطيع التأقلم مع العصر. لا يمكنه أن يصبح ديمقراطيا. و لكن من قال هذا؟ هل قدم الإسلام نموذج سياسي؟ أبدا. هل فضل النظام الملكي أو الجمهوري؟ أبدا. لم يقدم الإسلام أي نظام سياسي. رغم ذلك، كل المسلمون يقولون لدينا نظام سياسي. أنا آسف، النظام السياسي يستجيب لمتطلبات، و الإسلام لم يقترح نظاما مخصصا، بل اشترط الشورى. قال الله تعالى « و أمرهم شورى بينهم ».

    عند وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم عام 632، لم يكن للمسلمين نظاما. بعده صلى الله عليه و سلم، اضطر الصحابة إلى ابتكار نظام – ما عرف بالخلافة الراشدة، و أصحابها الخلفاء الراشدون-، لم يقدم الرسول عليه الصلاة و السلام أي إشارة عن أي نظام يتبع. كان ذلك بجزيرة العرب، و أهلها يعيشون في نظام قبلي، و كانت تتواجد قبائل قوية و أخرى ضعيفة، و التحزيـبية، و القبائل الضعيفة زبائن عند القبائل القوية، كان ذلك نظام ذلك العصر. في حركية الإسلام، تحصل المسلمون على توجيهات، أولا القضاء على النظام القبلي. قال الرسول صلى الله عليه و سلم «مثل المؤمنون فى توادهم و تراحمهم كالجسد الواحد»، انطلقوا من هذا المبدأ. بمأننا جسد واحد، لنؤسس نظاما يقوم على الشورى. أول تعيين بعد الرسول صلى الله عليه و سلم جرى بالهتاف، بالإتفاق، بالشورى –الإتفاق و الإجماع، كل هذا يعني الشورى-، بإجماع عام. كان المسلمون مجتمعون بالمسجد النبوي، و هتف أحدهم أبو بكر و صفقوا كلهم بأيديهم، و عين بالهتاف من طرف المجلس المكون للمدينة المنورة. في ذلك العصر كانوا خلفاء للرسول صلى الله عليه و سلم.

    لم يترك لنا الإسلام نموذج، ترك رسالة كونية، تسير مع الوقت و العصور، أشار إليها القرآن في سورة «و العصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر». إذن إستنِدوا إلى هذه السورة "و العصر"، و ستفهمون أنه لا يوجد عصر مذموم من الله، و لا يوجد إنسان مدان عمدا من الله. لا تدين الألوهية العصور و الناس، بل تحاسب أعمال الإنسان، و ما يقوم به في كل عصر. لم تتم إدانة عصر مقارنة بعصر آخر، بل وصفت لنا وضعيات و شعوب و أمم ضلت و انحرفت. حكمت على نفسها بنفسها، و لم يحكم عليها الله.

    عندما نتكلم عن قوم سيدنا لوط أو قوم سيدنا نوح مثلا، و عندما يحدثنا عن هذه الشعوب يصف لنا وضعياتهم، تلقوا رسائل، و نور و هداية و معرفة و علما، و رغم ذلك انغلقوا عن هذا التعليم، بتحريفه أو إخفائه أو خيانته أو حتى بتبديله، إلخ... هي أعمالهم، كانت سببا في خسارتهم، و ليس العكس، لأن القرآن يقول «و لقد كرمنا بني آدم»، و في آخر سورة منه قال « قل أعوذ برب الناس» بدون إستثناء، و لم يقل، قل أعوذ برب المؤمنين، أو، قل أعوذ برب السالكين، أو، قل أعوذ برب المحسنين. لا، بل قال «قل أعوذ برب الناس ملك الناس»، بسط ملكه و رحمته على جميع الإنسانية.

    لنعد إلى مسألتنا. قلت لكم، إن الإسلام لم يترك لنا نموذج. يطالب البعض اليوم، بنظام يسمونه إسلامي. حسنا، هو نظام مثل آخر، و أعطوه إسم الإسلامي. نستطيع إعطائه إسم أو الأسماء التي نريدها، و لكن بأي حال لم يجبر إسلام القرون الأولى الأمة الإسلامية على نظام يسمى كذلك. لم يشر إلى نظام.

    سنوضح طريقة تعيين الخلفاء الراشدين. سيدنا أبو بكر، عين بالهتاف، سيدنا عمر باقتراح من الخليفة الأول، أبو بكر الصديق. هو إقتراح و ليس فرض، لم يعينه، بل بكل بساطة، نادى كبار الصحابة، أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، و قال " أنصحكم و أقترح عليكم عمر. هو رجل الوضع، هو خير من يمثلكم"، و يمثل الأمة الإسلامية. و اختار الصحابة عمر ابن الخطاب.

    عندما طعن عمر ابن الخطاب، و أحس بقرب وفاته، إبتكر بدعة، و لم يتبع توصيات أبا بكر، كان يمكنه قول " أقترح عليكم فلان "، و لكنه ابتدع و طلب بتكوين لجنة من الصحابة، جماعة محددة من الصحابة، الأكثر تأهلا لتعيين الخليفة القادم. إستمعت هذه اللجنة إلى المرشحين، و بالإستبعاد، إختارت إثنين، من جهة عثمان ابن عفان، و من الجهة الأخرى، علي ابن أبي طالب. إستمعوا إلى الأول، و إستمعوا إلى الآخر، و انتخبوا. تحصل سيدنا عثمان على ثلاثة أصوات و سيدنا علي على صوتين. و اختير عثمان، في حين يعلم الجميع، أن علي كان المرشح الأكثر توقعا من طرف المسلمين، و لم ينقضوا القرار، و هذا رائع، لم ينقضوا رأي اللجنة، و قبلوا به، و خضعوا لقرار جماعة الصحابة.

    مات سيدنا عثمان في ظروف... أقول أنها جريمة حيكت من طرف البعض لأسباب ليس لدينا الوقت للتفصيل فيها، و هذا يبين أن حتى الصحابة لم يبلغوا حد الصفاء، و كان لبعض الناس مصالح، و هؤلاء الصحابة الذين جعلنا منهم شخصيات لا تمس، مع كل إحتراماتي لهم، لما فعلوه، كانوا أناس، و يرتكبون مثل أي إنسان أخطاء.

    سيدنا عثمان قتل. كارثة. لا شيئ هنا، لا توصية، و لا شيئ آخر. ماذا نفعل؟ على عجل إختار الصحابة علي، لأنه كان المرشح، ما دام رشح في الإنتخاب الثالث، لا يمكن أن يكون الخليفة الرابع إلا هو. اُختير علي. و لكن إنتخابه رفض من طرف جماعة من المسلمين. نسمي ذلك في التقليد الإسلامي بالفتنة الكبرى.

    الفتنة الكبرى. لماذا سميت بهذا الإسم؟ أنا أقدر تاريخيا، أن ما جرى، يوضح لنا مستقبل الإسلام نفسه. لماذا؟ علي صهر النبي صلى الله عليه و سلم، و ابن عمه، وابنه، نستطيع القول بالتبني، لأن هو من رباه و علمه، و حتى هذا جزء من المسلمين يرفضه. أنظروا إلى هذه الحرية التي كان يتمتع بها مجتمع المدينة. لماذا لا نأخذ هذا كمثال؟ رغم كل الشرعية التي كانت له، اعترض من طرف جماعة من المسلمين. طبعا، لأهداف سياسية، و خلق ما نسميه اليوم، أول أزمة عرفتها الأمة الإسلامية، و نتيجتها ظهر التشيع الأول. ثم اتسعت الشيعة، و تميز السنيون و الخوارج، و ظهر التفرق الأول للأمة.

    بطبيعة الحال، بالأمثلة (بفتح الثاء) فالأمر يبدو كارثة، هذا الماضي الذي جعلناه مثاليا، هو جميل و طاهر، و هاهم الصحابة يخرجون سيوفهم ليتقاتلوا من أجل السلطة. إذن، إن الذين يعيدوننا إلى السلف الصالح، و يقولون أنه المثال بإمتياز، فعن أي مثل يتكلمون؟ أو يقولون كانوا قدوة فيما قاموا به في أعمالهم، و ما قدموه للإسلام في البداية بالتضحية بحياتهم و أوقاتهم، فهذا ما نتفق عليه بالتمام. أما جعلهم مثاليين إلى حد لا نستطيع نقدهم. إنسان اليوم لا يستطيع النقد. ألا نرى في كل ذلك مثالية أمة إنسانية، كانت تبحث عن تكوين نفسها مثل أي أمة إنسانية؟ لم يكن الأمر سحري، و لا علاقة له بالفوطبيعي، تكونت بالطريقة الأكثر إنسانية،  و تواجد سيدنا علي هنا. و من هنا نرى سيدنا علي الذي كان مخفيا ينكشف لنا. علم سيدنا علي ينكشف في هذه اللحظة. المحنة التي تعرض لها ستكشف لنا عِظم سيدنا علي كرم الله وجهه. لو مر كل شيئ على ما يرام، لم نكن لنرى أبدا، سيدنا علي الذي كان متواضعا. كل هذا العلم و هذه المعرفة الذي آثرته المعارضة أجده رائعا. إقرأوا كتاب "حكم سيدنا علي"، و ما هذا إلا جزء صغير. من هنا، و بامتحان سيدنا علي، ولدت حركة و فكر يحيينا حتى الآن، و هو هذا التصوف.

    إذا كان الرسول صلى الله عليه و سلم مصدر كل التقليد، فسيدنا علي هو الأب، هو الأب الحقيقي، المفكر الذي وضع اللبنة الأولى. إليه تصل كل الطرق، كل السلاسل الذهبية التي تعمل و تتحرك منذ قرون في العالم الإسلامي كحافز للفكر و الفن و الشعر و الأدب و الفلسفة، هذا ما كان سببا في ظهوره، شئنا أم ابينا. في الأخير هو تحليلي الخاص، ربما لا تتقاسمونه معي، هكذا أقرأ التاريخ. أنا، هذا ما جعلني أكتشف هذا الإرث الهائل الذي يغذيني حتى اليوم.

    قد شرحت بعض الشيئ، تاريخ هذا النظام السياسي، و الذين يقدمون لنا المدينة المنورة كمثال، مدينة الرسول صلى الله عليه و سلم مثال للمدن الإسلامية، بالنسبة لي، هم في الطريق الخطأ. لم تكن المدينة المنورة في ذلك العصر، حتى نصف الحي الذي نتواجد به اليوم. لا يجب أن نحلم، لم تكن بروكسل، و لا أحد أحيائها، و لم يستطيعوا أن يتفاهموا. وراء كل هذا تختفي أسرار أخرى غذت هذه الحضارة المحمدية العظيمة في باطنها و ظاهرها و فلسفتها و فقهها، إلخ،...
   
التابع و المتبوع
    أنهي بهاتين النقطتين، و بهما نصل إلى عشر، يوجد نقاط أخرى، لا تقلقوا لا أسرع.

    قلنا التابع و المتبوع. فماذا يعني؟ بالتابع و المتبوع يكون التكيف الخالص. لدينا أسوات، ما علينا إلا اتباعهم. بالضرورة، سنكون بعدهم. يوجد التابعون، فنحن خلف، مع التابع و المتبوع، فلا يمكننا إلا أن نكون في هذه الوضعية، إلا تابعين. ليس سوى ذلك.

    على كل مسلم أن يخرج من هذا الأنموذج، و يقول " أنا لا أريد الإتباع، أريد أن أعيش إسلاميتي، أريد أن أعيش هذه الرسالة. حقا، إني أريد مساعدة في تأملي، أريد مشائخ لإنارتي، فقهاء للإجابة على تساؤلاتي الفقهية، علماء ليجيبوا على طلباتي على مستوى المعرفة، و فلاسفة ليردوا على تساؤلاتي الفلسفية، إلخ... و لا أريد أن أكون جنس حيوان منقاد، ليس أن الجمل الأول مرّ، ما على الجمل الثاني إلا اتباع الأول، و المائة عليه بالشم، و الألف و المليون و  المليار عليه اتباع الجمال التي سبقته. لست جملا، أنا إنسان، و أعطاني الله القدرة على التفكير، و أعطاني القدرة على كذا و كذا،... أنا كائن كامل، لا أريد أن أكون ساذجا، أريد أن أفكر".

    لا ترتكبوا هذا الخطأ، و تقولون " ها هو الشيخ يوضح لنا ما نفعله. إذن نتبع الشيخ ". لا بالضبط، هذا ما يجب أن لا تفعلوه، و هذا بالضبط ما يجب أن لا تفعلوه. يمكن للشيخ أن يساعدك كأي شخص يمكنه ذلك، في تفكيرك و بناء ذاتك. على المستوى المادي أنت بحاجة إلى إستشارة، بحاجة إلى مصرفي يرشدك في حسابك المصرفي، بحاجة إلى مستشار ضريبي من أجل ضرائبك، و طبيب للإستشارة من أجل صحتك، و محامي ليدافع عنك أمام المحاكم، و كذلك أنت بحاجة إلى شخصيات دينية و روحية، تكون لك معها أحاديث، تسمح لك أن تبني شخصيتك، كائنك، و تعيشه كلية، بلا عمى، و لا لتكون آخر جمل في القافلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
   
    بعدها دارت مناقشة، أجاب خلالها الشيخ خالد بن تونس عن بعض الأسئلة، و قال "آخذ الأسئلة عفويا، كما جاءت، يوجد منها حزمة، سأحاول أن أوجز".

    سؤال: قلتَ يجب تجريد الإسلام (تعريته)، و كشف أخطائه، و إلا لن نصل إلى تبصر. هو عمل شخصي داخلي و جماعي. كيف نقوم بالعمل الجماعي؟

    إجابة الشيخ خالد بن تونس:
    لنتوقف عن الكذب، لنتوقف عن الكذب. العالم الإسلامي يكذب صباحا مساءا. لنتوقف عن الكذب. العمل الجماعي يبدأ من هذه اللحظة التي نعترف فيها بخطئنا و غلطتنا. لن يقام أي عمل جماعي إن بقيت هذه الإنسدادات. توقفوا عن الكذب علينا، الكذب على أولادنا و نسائنا. و ليكون لدينا الشجاعة و نطرح إسلامنا للمناقشة. لا توجد عناصر غير هذه. و إذا كنا عاجزين على الفعل، فالزمن كفيل بجعلنا نقوم بذلك، فبالسيف، و الدم، و القنابل، سيخوض المسلمين هذا التفكير، إن لم يقوموا به فورا. لا توجد حلول أخرى. هو الذي خلقكم شعوبا و قبائل لتعارفوا و تتبادلوا و ترتقوا و تختصبوا. هو نقاش يجب فتحه، و نتوقف عن الكذب، لقد تكلمت أكثر مما ينبغي، أعذروني.

    سؤال: لماذا يجب أن نكون مسلمين؟ السؤال لماذا علينا أن نكون مسلمين؟

    إجابة الشيخ خالد بن تونس:
    أنا لم أقل هذا أبدا، لم أقل أبدا "أريد أن تكونوا مسلمين". هو سؤال يجب أن يطرحه كل شخص على نفسه. قال الله تعالى: «لا إكراه في الدين». من يستطيع أن يفرض على إنسان دينا؟ أو أن يجعله مسلما؟ على كل حال لست أنا. في آية أخرى، جاء «إنك لن تهدي من أحببت». هو قرار يتخذ بطيب نفس، و بإرادة ذاتية، يختار بها طريقا تغمر القلوب، و تغذي الأرواح، و تهدئ الإضطرابات و القلق، و تسمح بالنظر في عالم منفتح على الرحمة الإلهية، و حياة أفضل مع الأمة الإنسانية، و استجلاب العدل، و اجتناب الشر و فعل الخير، و اليقظة مع كل المخلوقات التي خلقها الله، لأنها إرادته تعالى. فأنا لا أجبر أحدا أن يكون مسلما. على كل واحد منا أن يطرح هذا السؤال. إن الذين يعتبرون أنفسهم مسلمين، لأنهم ولدوا من أباء مسلمين، أقول لهم، إن الإسلام ليس إرثا تتحصلون عليه، أو كرة المحكومين تجرونها طوال حياتكم، لأنكم لا تستطيعون فعل غير ذلك. الإسلام هو قرار شجاع و صادق و طوعي.

    سؤال: ماذا يعني لك السلم و الأخوة؟

    إجابة الشيخ خالد بن تونس:
    يعني لي ما يعني. الأمر واضح و جلي. السلام، السلام، السلام. الله السلام. السلم (أو السلام) هو عندما أكون معك أو مع آخرين، و لا أحتاج إلى إخراج مسدسي أو رشاشي أو سيفي، و لا أكون في حالة عدوانية، لأني أخاف أن يعتدي علي الآخر. تكون حالة لا عدوانية في البداية. حالة السلم هي حالة لا عدوان، عندما لا يعتدي شخص على شخص، و لا دولة على دولة، و إلا فهي حالة حرب و صراع. نصادف دائما الصراعات، تكون مع نسائنا و أولادنا. هل تعلمون أن السلم يسير في كل الإتجاهات.

    يوجد سلام آخر، هو السلام الباطني الذي لا يزال قويا، و أكثر هدوءا، لأنه حتى عندما أكون موفقا بالحياة الزوجية، و في وئام مع جيراني، و السلام يغمر مدينتي و بلدي، يبقى ينقصني سلام آخر، هو السلام الباطني، الذي يسمح لي، كلما تأملت و أغلقت عيني، و عندما أعود إلى نفسي، لا أنجذب إلى هاوية القلق و الخشية. عندما أكون مع نفسي – و هنا تنفس الشيخ خالد بن تونس- أكون بخير، و أحمد الله على هذا.
    هذا سؤال، هو أيضا مهم جدا.

    سؤال: سيدي، يقول بعض السلفية و الوهابية، أن أقوال و أوامر القرون الثلاثة التي تلت الرسول صلى الله عليه و سلم ليست بدعية، و لكن الذين جددوا بعد القرون الثلاثة كانوا في الخطأ.

    إجابة الشيخ خالد بن تونس:
    إثبات عجيب. أولا من قال لهم ذلك؟ هؤلاء الناس يعيشون اليوم، و لكن هل قال أهل القرون الثلاثة الأولى "مهما أحدثتم من أمر، إحذروا، سيكون بدعة". تاريخيا، لم يقل أحد ذلك. و السؤال يطرح نفسه، بعد كم من قرن، بلغ الإسلام ذروته من مجيئ الرسول صلى الله عليه و سلم؟ عندما كانت بغداد تحكم العالم، و البحر الأبيض المتوسط يتكلم العربية، و يفكر عربي، و يكتب بالعربية، عندما كانت الأندلس و صقلية عربية، كم من قرن بعد الرسول صلى الله عليه و سلم؟ و كم من جيل؟ كل هؤلاء وقعوا في الفخ، كانوا في البدعة، و كل هؤلاء العلماء الذين كتبوا و أناروا. بني القيرويين بعد القرون الثلاثة، و الأزهر كذلك بعد القرون الثلاثة، إذن الأزهر بدعة! هناك درس كل علماء العالم الإسلامي، و بالزيتونة و بالقيرويين. كل ما تمّ بدعة!

    سؤال: هل رغد العيش في المستقبل يكون مادي أو روحي؟ هل نتجه نحو الجنون أو نحو الواقعية؟

    جواب الشيخ خالد بن تونس:
    هل سيكون رغد العيش في المستقبل روحي أو مادي؟ سيكون الإثنان معا. هل رأيت روحانيون يعيشون بدون أن يأكلوا أو يشربوا، أو بدون مسكن و مدفأة و ملابس؟ الحياة محتاجة إلى المادي. ألا تحتاج الأم إلى إعطاء رضاعة لطفلها؟ إن استعمال الروحانية في المنافسة هو خطأ حيوي. لم يقل الإسلام هذا . قال الإسلام « و وضع الميزان ألا تطغوا في الميزان ». القرآن الكريم. يعني لا تغشّوا في الميزان، وضع الروحاني و المادي، حتى يوفق كل واحد منا حياته.

    يوجد فكر ضار، نوعا ما، يأتي من هذا الوكر، مادام يقولون "بلى، إن العالم الغربي لا شيئ، يوجد عنده إلا المادة و المعدة، هو ليس إلا ذاك". ماذا يعني هذا؟ يعني أن ما عدانا لا شيئ، لهذا نتقاتل، لأن الإسلام هو الوحيد الذي يملك الروحانية، وليس لباقي العالم، إلا المادة و المعدة، هذا ما يعنيه. إذن فكل باقي العالم، لا يفكر إلا في شيئ واحد، المنفعة المادية و إطعام بطنه، فنحن الوحيدون بلا ريب، ما دمنا نصلي خمسة أوقات في اليوم، و نصوم شهر في العام، و نحج مرة في العمر، بقيامنا بهذا، فإن الله راض عنا.

    و بقية الإنسانية؟ هل أخطأ الله في خلق الصينيين، مليار و 250 مليون، فلنتوقف، لنتوقف عن هذا التفكير. الجنون أو الواقعية، أعتقد أننا لا نستطيع إقصاء الجنون، فهو كذلك سلمي مثل الحكمة. الجنون سلمي مثل الحكمة. فإن لم تكن تتواجد ذرة من جنون في عقول الناس، لكنا كلنا أناس رصينين و حكماء.

    الله لا يخطئ، خلق الإنسان، و الملائكة، و عندما قال لهم « إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء». القرآن الكريم. و قال، اسكتوا « إني أعلم ما لا تعلمون ». إذن اسكتوا، اسكتوا... 
 (ضحك و تصفيق بالقاعة).

    أنا مجبر على الإنتقاء.

    سؤال: كيف نعرف هذا المجدد؟ ما هي العلامات؟

    جواب الشيخ خالد بن تونس:
    أعيده كذلك إلى الشخص. في الواقع، كل واحد منا يجب أن يكون مجدد، و عليه أن يبني تفكيره حول موضوعية و نقد، و يحلل نفسيته، و يتوكل على الله، حتى يكشف له عنه. لماذا نضع ذلك على عاتق شخص واحد؟ ماذا نفعل غدا، من فضلكم، إن قيل لكم ها هو المجدد. كل العالم سيسعى إليه. لا يسعه الوقت طوال حياته أن يخص كل مسلم بخمس دقائق. هل تتخيلون ذلك.

     يجب أن يكون كل شخص مجدد لنفسه في مسجده الذي يحمله في قلبه. من أجلنا، المجدد يكلمنا عبر كل الخليقة، يكلمنا من كل جانب، و يجب أن تكون لدينا هذه العين المنفتحة، فالرجل أو المرأة الذي يبحث عن المجدد يبدأ بتصفية باطنه، و يترك قلبه، هذه العين الباطنية، تترقى، حتى يمكنها في كل مرة تتجلى لنفسها، أن ترى وجهه و تعرف روحه. و إذا قلنا أن المجدد هو فلان، سنقوم بظفر له... سيدنا عيسى كان مجدد، ظفروا له إكليل من شوك، وضعوه فوق رأسه، وفعلوا ما فعلوا. الرسول عليه الصلاة و السلام مجدد.. إذن المجدد يأكل الطعام مثلنا، و يشرب مثلنا، و زيادة له عدة زوجات، أتتخيلون، هذا ليس على ما يرام.
 
    إن المجدد في أعيننا، هو دائما شخص خارج المألوف. لا، إن المجدد ليس إلا الذي يعيش الرسالة الإلهية في أبعد أعماق قلبه، بكل صدق و تواضع، لمساعدة الآخر لوجه الله تعالى. انظروا إلى أين يبعثنا الرسول صلى الله عليه و سلم لنجدد إيماننا، قال « جددوا إيمانكم ». بمن؟  بملاقاة الإمام الفلاني، أو الشيخ الفلاني، أو الولي الفلاني. لا، بل قال « بملاقاة الأحباب »(2). فليكون لكم أصدقاء من هذا النوع يمكنهم أن يجددوا إيمانكم. إن لم تغير هذه الملاقاة شيئ فيكم، تحركوا، و ابحثوا في جهة أخرى، ربما تجدوا أصدقاء آخرين، يمكنهم أن يقدموا لكم أكثر.

    سؤال: حول الإجتهاد. إن الإجتهاد ممكن فيما لم يوحى من القرآن و السنة. هذا ما يقوله المسلمون.

    إجابة الشيخ خالد بن تونس:
    أولا الإجتهاد حول ماذا؟ إذا لم أقم بجهد للتبصر (للتمييز) في القرآن نفسه، فكيف لي أن أميز الأشياء؟ حتى مع السنة لدينا صعوبة، توجد أحاديث صحيحة، و أخرى ضعيفة، تسبب مشكلة في الإسلام. الأحاديث التي تخص المرأة، كثير منها ضعيف، معتبرة من طرف كبار العلماء ضعيفة. و ماذا سنفعل؟ ماذا نفهم عندما نقول يمكننا القيام بكل الإجتهاد الذي نريده، و لكن لا نمس القرآن و السنة. سنجتهد في ماذا؟ الإسلام هو المعني بالأمر، القرآن هو المعني، و السنة هي المعنية. فالإجتهاد يجب أن يتم هنا و فيهم. لا نستطيع الهروب. هذا شكل من الهروب.

    يقول المسلمون ذلك، و هذه الإجابة لبعض الأصدقاء الذين أعرفهم جيدا، أنا معهم منذ عدة سنين. يهمسون لي "في الإجتهاد، نحن معك 100 % و لكن لا تمس القرآن و لا السنة "، سنجتهد في ماذا؟ إذا لم نقم بقراءة جديدة، و تفكير جديد في القرآن و السنة، و هما قاعدة الإسلام، و الكتب المقدسة للإسلام، سنتكلم عن ماذا؟

    أنا آسف على الباقي، أعتذر، قمت ببعض التهريج لتهويل الأمر، أتمنى أنكم قضيتم أوقاتا ممتعة و مجدية، و خاصة، لا تكونوا مقلدين و تابعين، كونوا أنتم أنفسكم، كونوا "عباد الله الصالحين"، الذين يبحثون عن الطيبة، و يريدون رضوان الله....

و السلام عليكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)   الحديث. قال الرسول صلى الله عليه و سلم « بدأ هذا الدين غريباً و سيعود غريباً فطوبى للغرباء اللذين يصلحون ما أفسد الناس »، و في رواية « يصلحون إذا فسد الناس ». 
(2)   جاء حديث برواية للطبراني و الحاكم، قول النبي صلى الله عليه و سلم  «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم».