علاج النفس، الفصل التاسع، إسترجاع روح الحضارة الإسلامية


إسترجاع روح الحضارة الإسلامية


الإسناد، سلسلة النقل
    من المتعارف عليه في الإسلام، أنه أثناء خطاب شفوي، أو مكتوب يتوجب علينا معرفة، و تحري المصادر و المراجع التي استخدمت فيه. يحث التقليد الإسلامي في كل مرة الباحث بتقديم إستشهادات موثوقة. لم تكن هذه الممارسة في التعامل مع النصوص المقدسة موجودة عند اليهود و النصارى. المسلمون هم الأوائل من لجأ تلقائيا إلى المصادر لاقتباس العلم. نجدهم أحيانا يرجعون بعيدا جدا في سلسلة الإسناد و طبقات الرواة. يضمن الإسناد انتقال الوحي من جيل إلى آخر، و الحفاظ على أمانة النص القرآني. 

    أصبح الإسناد علم في حد ذاته له منهجيته الخاصة. من المهم التذكير به، لفهم كيف تشكلت الشريعة الإسلامية، و تنقلت حتى يومنا هذا. كيف كان يعمل الفقهاء الأوائل للإسلام؟ كانوا يرجعون إلى الأصل، المكوّن للرسالة الموحاة و الأحاديث الموثوقة للرسول صلى الله عليه و سلم، ثم يلجأون إلى الرأي. كما يشير إليه القرآن الكريم. 
"هو الذي يحيي و يميت و له اختلاف الليل و النهار أ فلا تعقلون". (المؤمنون، 83).

    في الحالة التي لم يكن فيها معنى آية قرآنية مفهوما، كان العلماء يستعملون الرأي لفهم المعنى جيدا. كان لكل صاحب عقل إمكانية القيام بهذه الدراسة. كثير ما يدعو القرآن الإنسان إلى استخدام العقل.
"أ فلا تذكرون". (يونس،3).
"و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكّر". (القمر، 17).

    لم تقتصر منهجية الفقهاء في العودة إلى المصادر و الإعتماد عليها للإستنباط. بل كانوا يلجأون بعدها إلى القياس في حالة فشل الرأي. و هنا نقارن بين ما كان يحدث في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم، و ما يحدث حاليا في مجتمعنا المعاصر. المسألة هي معرفة ما إذا كان القياس بين العصرين صائبا، و يسمح بحل كل المشاكل.

    إذا لم يقدم القياس إجابات عن هذه المقتضيات، يلجأ الفكر إذن إلى الإجماع. في هذه الحال يتم التحاور للوصول إلى حل ملائم. هي طريقة عمل خصبة لا تتوقف عند الدراسة الدينية، بإمكانها أن تحتضن كل مجالات المعرفة الإنسانية بما فيها مساعي علاجات النفس. في الحقيقة وضع الإسلام طريقة بحث و تفكير جد مترابطة و ذات فعالية. 

    لو ظهر الإجماع بدوره دون فعالية، يحتسب المنهج في آخر المطاف إلى الاجتهاد. لقد جعل الإسلام في الحقيقة كيفية في البحث و الفكر ذات التحام و فعالية. لقد ذكرنا هنا، كل المراحل المتبعة في الإسلام لإصباغ الفكرة بنوع من الصرامة و المصداقية. للأسف اليوم، لا يوجد أي بلد أو نظام إسلامي يدرّس هذه المنهجية و يطبقها. و كأن السلطات السياسية و الدينية في العالم الإسلامي  تمتنع من اللجوء إليها أصلا.  

    يقول بعض المؤرخون في الإسلام أن الاجتهاد الفقهي قد توقف منذ القرن العاشر الهجري. بمعنى آخر، أن العالم الإسلامي يعيش منذ أربعة قرون بدون إجتهاد فقهي. و يُفسَر الجانب الأكبر من ازدهار الحضارة الإسلامية، بتطبيق هذه الطريقة في مجال المعرفة، نستطيع أن نرجع تدهوره في الوقت الذي حاد فيه المسلمين عنها.

    يجب أن نتذكر جيدا مختلف مراحل هذه المنهجية: المراجع، و دور الرأي، و القياس، و الإجماع بطريقة ديمقراطية، و أخيرا الاجتهاد الفكري و الفقهي مع استقلالية الفكر. إذا لم نجد الذي نبحث عنه في المراجع، لدينا دائما القدرة و الإمكانية على التفكير باللجوء إلى الرأي، شريطة أن يكون في خدمة المصلحة العامة، و ليست المصلحة الشخصية. لم توضع مختلف مراحل هذه الطريقة إلا لنفع المجتمع. هكذا بالضبط كان عمل الإسلام منذ أصوله: ظهرت العشرات من المدارس الفقهية و القضائية، و ليس أربعة فقط كما هو الأمر اليوم عند السنة. كان الناس يتحولون من مدرسة إلى أخرى دون أي إشكال. بل كانوا يختارون المدرسة التي يقدرونها مناسبة لحل مشاكلهم. لماذا توقفت هذه العملية في العالم الإسلامي؟

الشمس ستطلع من الغرب
    من ناحيتي، أفكر صراحة، أن لو بقيت الحضارة الإسلامية على هذه الديناميكية المزدهرة، لانتهى المسلمون ربما إلى الإغترار بتفوقهم، و لأصبحت الحضارات الأخرى إما محتقرة أو تحت سيطرتهم. و الحال أن الله أراد هذا التنوع في الحضارات كما يقول القرآن.
"و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون". (المائدة، 48).

    طبعا أن هذا إلا رأي شخصي. و مع ذلك أبقى أتساءل عن الأسباب التي أدت فجأة بالعالم الإسلامي إلى توقيف إشعاعه الفكري. من الصعب حتى اليوم الفهم لماذا توقف الاجتهاد دفعة واحدة في البلدان الإسلامية، في حين أن البلدان الغربية استمرت رغم المآسي التاريخية في البحث عن فهم جديد و نقدي للنصوص المقدسة. في هذا السياق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس  من مغربها". 

    الأمر متوقف على المسلمين لإعادة إطلاق هذه العملية، بأخذ المثال من الباحثين الغربيين و أن يساهموا في تحقيق إنسانية مطمئنة، و شاهدة على حقيقة التوحيد. يقول القرآن.
"لله المشرق و المغرب". (البقرة، 115).

    و عليه، لم يجعل الله المرجعية خالصة لهذا أو لذاك. إن المشرق و المغرب مفاهيم نسبية. نحن دائما مشرقا أو مغربا بالنسبة لشخص آخر. و لكن عندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم أن "تطلع الشمس من مغربها"، فهو يلمح إلى انعكاس دوري كامل، أين تكون العلامات الأكثر جلاءا مرئية بالغرب. ستعيش الإنسانية نهاية طور الذي يسجل نهاية عالم، و بذلك ميلاد آخر جديد. يمكن أن يكون لانعكاس مسار الشمس معنى أكثر مجازا لا يعارض في شيء المعنى الحرفي. يُعلّم التقليد الصوفي أن الإنسانية تعيش حسب دهور، و أن تناوب الأطوار يستمر حتى "تظهر الشمس" رمزيا في أنفسنا. سيكون لهذا الانعكاس الدوري إرتدادات فلكية – يترجم فيزيائيا بتبدل الأقطاب المغناطيسية –، و تحدث كذلك على مستوى النفس البشرية. في كتاباته الروحية، يرى الأمير عبد القادر في هذه العلامة الوقت الذي فيه الروح "فطلوعه من مغربه هو انكشافه و إشراقه من محل غروبه و انحجابه و استتاره. و هي النفس، فإنها حجاب شمس الحقيقة و مغربها، و طلوعها من مغربها الذي هو النفس معرفتها منها: من عرف نفسه عرف ربه". هكذا الغارب يصبح الشارق و الغرب يرجع شرقا. التجديد الذي ستعرفه الإنسانية، سيأتي من هذا التبديل الدوري الذي سيحدث على كل مستويات المظاهر. يستطيع الشخص أن يعيشه دائما في أي وقت من حياته. و لكن على مستوى الإنسانية، يوجد قانون الأدوار (الأطوار) الفلكية الذي يُحدث هذا الانعكاس. الله وحده يعلم متى سيكون.
« يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَاعَةِ أَيَانَ مُرْسَهَا قُلْ إِنَمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجْلِّيَهَا لِوَقْتِهَا إِلاِّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَمَوَاتِ و الأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَة يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيُّ عَنْهَا قُلِ إِنَمَا عِلْمُهَا عِنْدَ الله و لَكِنَ أَكْثَرُ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ». (الأعراف، 187).

    رغم كل الأعباء التي تمنع الحضارة الإسلامية من إحداث تحولها، نتحقق بقوة بوجود حركة هائلة حول الإسلام في بلاد الغرب، نأمل أن تقوده إلى نهضة حقيقية.

النفس الكلية
    رغم الحركية الإيجابية و الرهانات الكبيرة التي يثيرها الإسلام في العالم، كيف نستغل اليوم هذه الفرصة؟ إننا بصدد تعلم ما هو الإسلام. هل نستطيع اليوم  الكلامعن الإسلام كخير للإنسانية و هو يعاش عادة في تحت منظور آخر؟ لنكون واقعيين من سيرضى بهذا الدين؟ لقد أصبح أبناؤه بأنفسهم غير قادرين على عيشه روحانيا، إذن كيف نريد أن نفرضه على الآخرين؟ كيف يمكننا أن نتكلم عن رحمة الإسلام، و نحن نرى تصرفات البعض مثل طالبان؟

    هذا أكثر من أن يحتمل يحطمون ذاكرتهم، و يمحون آثار حضارتهم بتدمير تماثيل بودا العريقة، و يخربون متحف كابول أين كانت تحفظ أشياء لها قيمة أثرية كبيرة. لماذا لم يخربها المسلمون الذين كانوا يعيشون في هذه المنطقة من قبل؟ للتذكير، إن المنمنمات الإسلامية الأولى و الأجمل هي من أصل أفغاني. يبدو أن الفنانين الأفغان يجهلون وجود تقليد أيقوني في  الإسلام. هذا لم يمنعهم من التميز في هذا الفن و تأسيس مدرسة. بفضلهم لدينا صورة لوجه الرسول صلى الله عليه وسلم، في حين أن رسمه محرم قطعا من طرف بعض الفقهاء. الأفغانيون هم الوحيدون الذين رسموا وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، و صحابته، و جبريل. 

    أفغانستان هي بلد جلال الدين الرومي. لقد خرج من هناك رفقة أبيه ليجول في العالم. أكيد، لا نستطيع القول أن رسالة الإسلام مسئولة عن ذلك، و لكن يجب الإعتراف بوجود نفس كلية، جعلت المسلمين يعيشون عقيدتهم بهذه الكيفية. كذلك بالنسبة للمسيحيين في عهد محاكم التفتيش، ألم تنص الرسالة النصرانية على تكفير كل من يتهم بالبدعة و يتم حرقه. نستطيع تقديم العشرات من الأمثلة عبر التاريخ الإنساني. حركة النازية بألمانيا تفسر هي كذلك بوجود نفس كلية. فقد كانت هذه الإيديولوجية في وقت معلوم من تاريخ ألمانيا، تعكس ظلمة النفس الكلية الألمانية.

    لا نستطيع إهمال وجود نفس كلية إذا أردنا فهم الظواهر التي تمر بها ثقافة أو حضارة معينة. من المستعجل على المسلمين أن يشعروا بحالة نفسهم الكلية. يحصل أن يبرر المسلمين أعمال عنف طالبان. و لكن لماذا لم يقم المصريين بذلك في بلادهم؟ بمصر يوجد أكبر عدد من التماثيل و الآثار في العالم. و عليه يوجد إذن، تفكير جماعي، لابد أن يخاض في العمق، حول هذا الموضوع.

قنبلة من المحبة
    حدث معي في محاضرة بجامعة للتكنولوجية في بلد إسلامي، أمام جمهور من طلبة السنة الثانية و الثالثة علوم، أن سألت هؤلاء الإعلاميين و الفيزيائيين النوويين، كيف يتصورون مستقبلهم حول البحر الأبيض المتوسط. أجاب طالب يدرس في فرع الفيزياء النووية، لصناعة قنبلة ذرية ذات قدرة لا تضاهى، لاستعمالها ضد الغرب. تمنحنا هذه الإجابة فكرة عن الحالة التي توجد فيها النفس الكلية للعالم الإسلامي. يتعلق الأمر بأشخاص سيكونون مهندسي المستقبل. لم يبقى لنا سوى أن نتمنى أن لا يفعل ذلك. أفضل الإعتقاد القول أن ذلك الطالب كان في حال سيئ ذلك اليوم، و لم يكن يفكر فعلا فيما يقول. هذا يفاجئ دائما عندما نسمع عبارات مثل تلك في مدرج يحوي مئات الطلبة.

    إقترحت عليه قنبلة من نوع آخر. القنبلة الذرية مصنوعة و يوجد منها كمية في العالم، حتى الدول لا تعرف اليوم ماذا تفعل بها، و لا كيفية التخلص منها. إقترحت عليه قنبلة تسمح للناس بأن يتحابوا عندما نقوم بتفجيرها. فضحك الجميع. هذا مثال للطريقة التي نستطيع بها تبديل حالة الناس بالقليل من الحكمة، في الكلمات. في الحقيقة إن تساءلوا مرة عن أحكامهم المسبقة، و قمنا برفع مستوى الشعور، سيشعرون بالحقيقة بشكل مختلف. و حوار بنّاء يمكن عندئذ أن يُشيد.

الإسلام: تقليد حي
    نجد وسائل الإعلام في البلدان المسلمة تردد هي أيضا نفس الأفكار التي تلقتها، حتى فرضتها على الرأي العام. مفهوم الأمة الذي كان يترجم عموما بـ "جماعة المؤمنين" أحسن مثال على ذلك. رغم أن أصل الكلمة ذو طابع روحي إلا أنه لم يبقى منها إلا البعد السياسي. يقال أن هذه المسائل معروفة في الإسلام، و لكن في الحقيقة، القليل من يعرف كل مضمونها. من الصعب حاليا عبور الطبقات الإيديولوجية العديدة التي تغطي روح الحضارة الإسلامية، و لكن إذا لمسنا القلب المقدس للإسلام فإننا نجازى على جهودنا. سنكتشف ثراءه الباطني الذي له الكثير، ما يعلمنا إياه، و يقدمه للتقاليد الأخرى و للإنسانية.

الأمل
    كيف يمكن أن يحقق الشفاء على مستوى النفس الكلية؟ أي عملية علاج نفس نستطيع أن نطبقها على حضارة فقدت فحوى رسالتها الروحية؟ يجب أن يحدث ذلك على مستوى الشعور. للإنسانية نفس كلية سمتها الفلسفة الإسلامية نفس العالم. بمجرد أن يصاب جزء من الجسم، يتداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى. لا نستطيع القول أن روح العالم مسالم، و متواجد في صحة جيدة. بل العكس هو الصحيح. نكون حكماء إذا بقينا متفائلين حتى و لو أن الإنسانية تواجه سلسلة من الأزمات يستوجب التغلب عليها على عجل، و تحديات كبيرة ربما لم تسبق في تاريخها. لنتذكر أن الأزمات العميقة هي التي تمكن الإنسانية في نفس الوقت من تحقيق التحولات و التطورات اللازمة، لإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل التي تواجهها. لكون التحديات التي تنتظرنا ذات أبعاد كوكبية، يجب علينا التفكير و التصرف جميعا نحو تسيير شامل للأرض، مسئول وعادل. إذا أردنا علاج نفس العالم و وقايتها من الكوارث التي تهددها دوما، فقد حان الوقت للعمل من أجل إبراز ثقافة سلام جديدة بين الشعوب و التقاليد الرئيسية  الموجودة في العالم. علينا أن نتعود، و نعتبر التعددية الثقافية والدينية مصدر لا ينفذ من الثراء المتبادل، بدل أن نجعلها فقط موضوع صراع من أجل الهيمنة الإقتصادية، أوالتقنية، أوالعسكرية. كما قال علي ابن أبي طالب ابن عم و صهر النبي صلى الله عليه و سلم:
 "بقدر احتياجك إلى صديقك أنت محتاج إلى عدوك، صديقك يظهر محاسنك و عدوك يكشف مساويك".  

    يقدم التعليم الصوفي رسالة أمل حتى لا تقسى قلوب الرجال إلى درجة تجعل أي حوار و مؤاخاة مستحيلا بين الشعوب و الحضارات. يقول الرسول صلى الله عليه و سلم. 
"لولا الأمل ما أرضعت أم و لا حملت أنثى".

    الأمل هو الذي يجعل الحياة تستمر، و به ترضع الأم  صغيرها و تضع الأنثى ولدها، و تلد العصفورة بيضا، و تلد النعجة خروفا، و البقرة عجلا، و غير ذلك...، فبواسطة الأمل تستمر الحياة. و الحياة هي الأمل.
    عندما نجد أناسا مسنين يقومون بغرس شجرة، يعلمون جيدا أنهم لن يأكلوا من ثمارها. إذن لمن يغرسونها؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم.
"إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا و اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا".

    يجب علينا أن نحمل دوما الأمل في مستقبلنا، و في أنفسنا، و نلقنه للأجيال المقبلة، حتى في أوقات الإبتلاء الصعبة. لنبقى متفتحين أمام هذا الأمل، إن ذلك واجب، تفرضه علينا مختلف التحديات المرتبطة بعصرنا، و التي لا يستطيع أي أحد الهروب منها، سواء كنا مسلمين، أو مسيحين، أو يهودا، أو ملحدين، إذا أردنا أن نشيد غدا، عالم أفضل ممن عالم اليوم.