خطبة الشيخ خالد بن تونس

خطبة الشيخ خالد بن تونس
 بمناسبة ذكرى خمسينية وفاة الشيخ العلاوي


الجزء الأول:  

    بعد بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلّ و سلم على سيدنا و مولانا محمد و على آله و صحبه أجمعين، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    أسيادنا الفقراء، أسيادنا الحاضرين، بحول الله و قوته، نختم هذا الإحتفال المبارك العظيم، و ندعوه سبحانه و تعالى، أن يتقبل عملنا، و أن يرضى عنا، و عن جميع من حضر معنا، صادقا في الله و مخلصا، ثم أشكر جميع الإخوان، الفقراء و المحبين، الذين بذلوا مجهودا كبيرا، كي يُحضّروا هذا المكان (1)، و خاصة الذين ساعدونا، و الذين أمدونا بهذا المكان، بمحبة و صدق. نشكرهم جزيل الشكر، و نطلب من الفقراء أن يدعوا لهم الله، حتى يبقى هذا المكان، معمورا بالمحبة و المودة فيما بين الخلق.

    أسيادنا الفقراء، يعطل اللسان عن التعبير، و عن الكلام، فيما يخص هذه الذكرى الخالدة للأستاذ الأكبر، الشيخ سيدي أحمد ابن مصطفى العلاوي، قدس الله سره، شيخنا و مولانا و مُربّينا و قدوتنا إلى الله سبحانه و تعالى. الكثير من الحضور وضعوا أسئلة، و لم نجاوبهم، لأنها كانت ستأخذ منا وقتا، و إنما أحاول باختصار أن أجاوب على البعض منها، التي تخص أمر الشيخ العلاوي، قدس الله سره، و تلميذه و خليفته الشيخ عدة بن تونس، قدس الله سره، الذي قال فيه:

                     "أمر عجيب شيئ رباني".

    و الشيئ الرباني بعيد عن فهم الإنسان، لأنه من الله و إليه يعود. إنتقل الشيخ، هذه مدة خمسين سنة. و إنما، هل ترى، توفي؟ حاشا لله، بل حي. حي بروحه، حي بذكره على لسان أحبابه و أتباعه، شرقا و غربا، و الدليل هو هذا اليوم السعيد، و هذه الحياة، و هذه الروح الظاهرة الزكية العلية. نذكر فيها هذه النكتة، التي ذكّرنا بها إنسان ليس بفقير. عندما جئنا إلى هذا الموضع قال، و هو لا يفهم و لا يتكلم العربية، و إنما قال كلمة فهمها هو، و نحن كنا ما زلنا لم نفهمها، و لو أننا نكررها دائما. كنا نعمل في الأماكن التي استقر بها الفقراء، و وقعت عليه خشبة على ذراعه، فقلت لأحد الفقراء، احضر له دواء لتطبيب ذراعه، و هو قال لي لا. لا أقبل الدواء، إلا إذا كان العلاوي. لا بد أن يسأل السائل، ما المراد من هذا؟

    من الأسئلة التي طرحت علينا، هل الطريقة العلاوية تتحضر و تتنظم، كي تُكون حزبا أو فرقة، و تأخذ مواقفا في البلاد الإسلامية و غيرها؟ نجاوبه و نقول له لا، و نجاوبه بكلام الله سبحانه و تعالى "لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا". سورة البقرة، الآية 143. هذا هو عمل الفقير العلاوي، و هذا العمل الذي أمرنا به و ربّانا عليه أسيادنا، لكي نكون شهداء على أنفسنا و على غيرنا، حتى لا تصبح هذه الحقيقة و هذا المعنى و هذه المحبة الإلهية، مسألة غريبة أو بعيدة أو خيالية. بل إن لها وجودا، و وجودها لابد أن يكون في الخلائق. لا بد له من شهود. هذه الحقيقة لابد لها من لسان يخاطب الخلق و يدعوهم إلى الله سبحانه و تعالى، و إلى محبته و إلى المودة، و إلى الروح الحية، فيما بين الخلق أجمع. هذه النقطة التي جعلتنا نحتفل اليوم في مكان، في أرض، في بلاد غير إسلامية، في وطن غير إسلامي، و قد كانت هذه الشهادة بهذه الأرض. هذه الأرض ليست بإسلامية، و لو "أن الأرض يرثها عبادي الصالحون". سورة الأنبياء، الآية 105. و لو أنها كلها لله و لعباد الله. هذا لا شك فيه. و إنما كنا نتمنى أن يكون إحتفالنا هذا، في وطن إسلامي، و إنما المانع هو هذه الفكرة، فكرة المحبة و المودة و السلم و الأخوة، التي لم تدرك بعد، في قلوب المسلمين. قلوب حكماء المسلمين. نعم ينطق بها كل واحد، و حدّها اللسان. أين العمل؟

    الحمد لله و الشكر لله، "و الحال يشهد علي". هنا يوجد مغاربة و جزائريون، و أوروبيون، من الشرق و من الغرب، و من أفريقيا. لكل جنس له ممثل، حتى من الفليبين، و ماليزيا. هذا من رحمة الله بنا، و من جوده علينا سبحانه و تعالى.

    سأل سيدنا إبراهيم الله تعالى، أن يريه إحياء الموتى، فماذا قال له الله سبحانه و تعالى، "هل تشك في قدرتي"، قال، لا " ليطمئن قلبي". ربما بعض الفقراء لم يطمئن قلبهم اليوم؟ لابد للقلب أن يطمئن اليوم، لأن هذا الشيئ الذي نقوم به، هو ليس لأنفسنا، و الله سبحانه و تعالى مطلع على القلوب، و إنما الشيئ الذي يدفع فينا هذه الدافعية، التي منها تكونّ هذا الإحتفال، هي ليست إرادة عدلان خالد بن تونس، و إنما هي إرادة ربانية، يا الأحباب. حاشا لله، لا أقول أنني رسول أو من الواصلين، أو ينزل علي الوحي. إنما هي الإرادة الربانية التي تتحكم في الأشياء، تتحكم في الحجر، و الشجرة و الآدمي و الحيوان، و تتحكم في كل من هو في هذه البقعة. هي التي جابته، و هي التي ساقته، رغم أنفه أو بإرادته. قال الله تعالى "آتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين". سورة فصلت، الآية 11. هذا لأولي الألباب، هؤلاء الذين عرفوا مولاهم، و آخرين رغم أنفسهم، حضروا معنا. من جاء و حضر معنا، "و من نظر الأشياء بعين التعظيم، استمد منها و كان عند الله عظيما، و من نظر الأشياء، بعين الإحتقار، استمدت منه، و كان عند الله حقيرا". نحن إستمدنا منه، أما هو فلم يأخذ شيئا.

    من كل شيئ خلق الله سبحانه و تعالى زوجان، خلق الخير و الشر. إن الإنسان الذي يملك قلبا نقيا و طاهرا، جاء و أخذ معه الخير، و من يملك قلبا غير طاهر، لا يأخذ من هذا الشيئ سوى السوء، لأن في كل شيئ زوجان، فيأخذ من تلك القسمة الدنيئة. إن الذي قلبه سالم فلا ينال سوى الخير، و الذي في قلبه الشك أو الظن أو الحسد أو البغيضة أو النميمة أو التجسس، فهذا ينال السوء، و حسبي الله و نعم الوكيل على ما يقوله، و حسبي الله و نعم الوكيل، على ما يقوله لسانه، لأن هذا الأمر أمرا ربانيا، هو المتصرف الوحيد، و القدرة هي قدرة إلهية، و من يريد أن يجادل فليتفضل.

    نحن لا ندعي بالقوة يا الأحباب. حاشا لله، أسيادنا لم يدعوا بالقوة، قاموا بتذكيرنا بقولهم "فبالضعف نلنا جميع القوة". نعم بالضعف. يا للعجب، كيف من الضعف تخرج القوة؟ نعم سيدي.

     فبالضعف نلنا جميع القوة   و طاب الأصل منا و الفرع استوى

    و الحمد لله و الشكر لله. نعم و الفرع استوى. حبّ من جبّ، و كره من كره، رغم الجاحدين.

    أسيادنا الفقراء، الشيخ قدس الله روحه، هذا الذي نحتفل بذكراه، قال:

             هيأت لي أعوان    شيدت لي حصني
             مهدت لي المكان    كحلت لي عيني

    و هاهي. هيأت لي أعوان. نعم. و شيدت لي حصني. نعم. مهدت لي المكان. نعم. كحلت لي عيني. نعم. الحضرة الإلهية هي التي قبِلت الشيخ العلاوي، و هي التي علّت الشيخ العلاوي، و هي الحافظة للعلاوي، لأنه هو الذي يقول: "يا من تريد تدري فني    اسأل عني" (2)... مَن؟ الكتب؟ "اسأل عني الألوهية"، "أما البشر لا يعرفني"، لأنه لاهي في أمور كثيرة، لاهي في الأموال، لاهي في القيل و القال، لاهي في السياسة، لاهي في الكذب و النميمة و الخبث. "أما البشر لا يعرفني، أحوالي عنه غيبية". لا يؤمن بها، و لا يعرفها، و هي بعيدة عنه، و فنه بعيد عنها.

    يا أيها الأحباب، لا يضرنا الغير، لأن بيننا و بينه السلامة. نحن لا نؤذيه و هو لا يؤذينا. لأن لكل أناس مشربهم. إذا لم تخرب في صاحب السياسة، و يعلم أنك لا تريد الكرسي، يقيلك، و إذا لم تخرب في صاحب الأموال، لربما تريد أن تقيم تجارة و تأخذ منه نصيب من المال، يقيلك، و إنما الذي نخاف منه، هو الذي يدعي بالطريق، و يقف لنا فيها و يعارضنا. الذي يدعي أنه علاوي، و هو ينكر العلاوي، ذلك الذي يدعي أنه فقير لله، و هو من "تفقرت"، لم يعرف شيئ، لأن نفسه أمارة بالسوء، لم تتركه يقترب أو يبتعد، بقي بين دفتين، لم يدخل و لم يخرج.

    الله يحفظنا يا الأحباب، من الفتن القلبية، و ندعوا الله سبحانه و تعالى، أن يبارك في جمعنا، و أن يحفظ جميع الفقراء و الفقيرات، و أبناء الفقراء، شرقا و غربا، و جميع الإخوة الذين جاءوا، سواء من المغرب أو الجزائر، أو من ألمانيا أو من بلجيكا، و من جميع الأماكن، من إيطاليا، و من الكميرون، و من السنيغال. كل الأحباب و الإخوة الذين جاءونا، مرحبا بهم، و جزاهم الله عنا خيرا، و إن زيارتهم لهذا المكان، و حضورهم في هذا الجمع، كان في حاجة إليهم. كل واحد كسب حسب نيته و قلبه، و الله يجازيكم، و يجازي عنا أسيادنا، رضوان الله عليهم، و مولانا و أستاذنا الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي، قدس الله سره، و دام إسمه مرفوعا، كما قال:

                           جاء إسمي عنوان     مرفوع عن الكونِ
                           يقرأ لأهل العرفان    من رجال الفنِ

    بارك الله لنا فيكم، و الحمد لله رب العالمين.


الجزء الثاني، (و قد ألقاه باللغة الفرنسية):

    سيداتي سادتي، إخواني أخواتي، سنختم هذا المؤتمر، مؤتمر الإحتفال بذكرى خمسينية وفاة أو رحيل ـ كل واحد يراها بطريقته ـ أحمد ابن مصطفى العلاوي، المؤسس و الوارث لهذه المدرسة التقليدية الصوفية، وارث أهل السلسلة، التي تصل إلى الرسول عليه الصلاة و السلام، حفظة التقليد الحي، التي تجسد و تشهد على الحقيقة، و على المحبة و على هذا القرب بين الله و الإنسان. أعلم أننا تكلمنا كثيرا هذه الثلاثة أيام، و لهذا سأكون موجِزا فيما سأقوله. ما سأقوله هو بعض الإستشهادات عن الشيخ العلاوي أو عن فكره.

    يقول لنا الشيخ العلاوي أن العالم إشعاع لا متناهي، مبدأه الخصب، هو الله. تدريجيا، يتشحن هذا النور الإلهي النازل بالمادة، ليصبح الحياة نفسها. الإنسان و الحيوان و النبتة و المعدني (مطلق الجسمية)، كل هذا، هو من هذا النور. إن الله هو انبعاث خارجي، و انبعاث في الخلق و في كل مخلوق. يستبطن الإنبعاث في الواحد و الآخر، أي أن الداخل و الخارج يصبحان واحدا. و يقوم هذا بتأكيد الآية القرآنية، التي تقول "هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن". سورة الحديد، الآية 3. إن فكرة الشيخ العلاوي، كما قلنا لكم، ليست فكرته الخاصة، فهو متمم لسلسلة المشائخ، تصل إلى خمسة عشر قرنا، و قد عبرت الزمن و الفضاء، لتستقر اليوم. و هذا المؤتمر يشهد عليها، أنها مازالت حية، مُحركة و قريبة من الناس. إن هذه الفكرة، و هذا التعليم، و هذه الفلسفة ـ كل واحد يفهمها بطريقته ـ متغيرة و لا تقبل الركود، و لا تقبل أن نغلق عليها. لا يقبل التصوف أن يدمج هذه الفكرة الصوفية، فهي متغيرة كالهواء و النور، و لها حركية لا تقبل و لا تريد ركودا. لهذا كان يستوجب لكل زمان مجددا، و كان الشيخ العلاوي، بِحق، مجدد هذا الفكر في القرن العشرين. لأن في هذه الفكرة و في هذا التعليم، كل شيئ جاء بمراد، و كل شيئ هو في تطور، و هذا التطور يستند على مبدأ التوحيد و الشمولية. نحن نقوم باتباع عملية طبيعية، و كيف لإنسان أن ينمو و يتقدم في السن، و يأخذ أبعادا، ويكبر؟ و لما لا يكبر فكره و روحه و عقله و منطقه؟ جاءت هذه الفكرة فقط، لتذكيرنا بالعلاقة الثابتة و الدائمة مع التوحيد. هذا ما يعني أن هذا التطور، ينبغي أن يكون له نظام. علينا أن نتطور و لكن ليس في فوضى، و إنما في نظام، و هذا النظام هو الألوهية و التوحيد، و إن عليه يرتكز كل شيئ، و حتى عالمنا الصغير. إن الذي يجد داخله هذا التوحيد، يجد حينها هذا المركز، السكينة.

    أعتقد أنني ظللت الطريق، و أصبحت ربما أتكلم في الفلسفة. لا تقلقوا، سأتوقف، و أترك كل واحد منكم مع قلبه، ليحكم بنفسه على الجو، و الأخوة، و الروابط التي تسود هنا، و يحكم بنفسه، و يرى هل هذه الطريقة حية، و تمثل التقليد الحقيقي، في أبعاده العمودية، و تمثل الرسالة العزيزة، الرسالة المحمدية؟

    أشكر كل واحد و واحدة منكم، الذين جاءوا بكثرة، بمناسبة هذا المؤتمر. أشكر الذين عملوا، و خصوصا الذين قاموا باستضافتنا. لا نستطيع، أن نشكرهم بكلمات، لأنهم وثقوا بنا، و تركوا لنا كل شيئ، سلمونا شققهم و مفاتحهم و منازلهم و مطابخهم، وضعوا فينا ثقة كاملة. لماذا هذا؟ هل نحن مختلفين عن الآخرين؟ الحمد لله و الشكر لله، أتمنى أن هذه الثقة، التي منحونا إياها، أن لا تكون عبثا.

     قبل أن أختم، أريد القول أيضا، أن الإنسانية المسكينة، إنسانية اليوم، و إنسانية عصرنا، فهي بحاجة و على عجل، أن تجد قِبلة جديدة، و بحاجة أن تواجه مستقبل لا تعرف عنه شيئا، و مجهول من طرف الجميع. يجهله السياسيون و الإقتصاديون و حتى العلماء. هذه القبلة، حسب رأينا، ليست سوى التوحيد، لأننا لو توجهنا نحو التوحيد، نلتقي جميعا. مَن نحن و رجل عظيم مثله ـ و أشار إلى صورة الشيخ العلاوي ـ يذكرنا به؟ ألسنا كلنا أبناء آدم؟ و إختلافنا، أليس هو رحمة؟ إذا علمنا أن رجالا مثله و آخرين، عبر مراحل الإنسانية، رجال حكماء و تقاة، و شهداء على الحقيقة، كانوا يقولون، أن الحقيقة موجودة و قريبة و جلية. عندما نقترب منهم، و نتحاور معهم، نشعر عندهم، وجود جذور عميقة، تأخذنا كلنا نحو التوحيد. نحو الواحد.

    عندما نرجع إلى الواحد، فما الذي نجده؟ إننا نجد في الواحد، الصيني و الياباني و العربي و الفرنسي و اليهودي و المسيحي، و إنّ هذا و ذاك، هو الواحد في تنوعه، و تكاثره. أؤكد لكم، نحمل كلنا إسم و لنا وجه مَن هو قريب منا. نحن كلنا الآخر، و الآخر هو نحن. و عندما نصل إلى التوحيد، لا نرى سوى ذلك. من المثير للسخرية أن الإنسان مازال ينتظر كي يذهب نحو التوحيد الذي يجمعنا، مازال يتفلسف و يفكر.

    أنشأنا مجالس و مؤسسات دولية، فمن أجل ماذا؟ إني أتساءل، مادامت مشاكل الإنسانية، لم تحل، و لكن بالعكس، هي كل يوم في ازدياد. أصبحت أكثر صعوبة، و شيئا فشيئا تأخذ أبعادا، قد تقودنا ربما، نحو انتحار جماعي.

    مع طريقتنا الضعيفة، ندعوا أصحاب جميع النوايا الحسنة، بأن يصبحوا على بينة من هذا الأمر، و أن يعملوا في هذا المجال بصدق و إخلاص و نزاهة، حتى تجد الإنسانية معنى الواحد، و معنى وحدانيتها، و معنى عموديتها ـ إذ لا معنى للدين، إذا لم يكن هو الصلة ـ، و إن بدونِ العمودية التي تصلها بالمطلق، فإنه ستعم الفوضى و ينتشر الدمار. 

    نريد كلنا نفس الشيئ، و كل واحد يعبر عنه بطريقته، و كل امرء يبحث عن السعادة و عن التجانس و الحياة الطيبة، إلخ... يوجد جهل كبير، و عدم معرفة الإنسان بالآخر. أما اليوم، فإن هذا الأمر غير مسموح به، لأن الإنسان يتحكم في تقنيات و في المادة، و في علم جهنمي. كنا سابقا، نتكلم عن الشيطان، و نمثله بذيل و مذرى، و لكنه اليوم هو بغير القرنين و المذراة، إنه موجود في صومعات، و مستعد للإنطلاق لتدمير الإنسانية بأسرها. و هذا الشيطان، فإننا نمجده و نخدمه، و 70%  من المادة الرمادية للإنسانية، تعمل (للسيد) الشيطان، و لكن بدون وعي.

    لم نؤمن بوجود الشيطان الذي يسكننا، بمأنه اليوم قوي إلى هذا الحد، و مستعد لتدميرنا. إننا لم نعرف هذا الشيطان الذي نحمله فينا، و كل واحد منا معه شيطان. فإن الذي عليه، هو تربية نفسه، كي يعمل خيرا، و يتربى كي لا يؤذي الآخر. و إذا كل واحد قام بعمله مع وجود الصدق، فستنشئ موجة، تعم الإنسانية جمعاء و تقلب الأمور.

    لماذا نتقبل الأفكار السلبية، و لا نجيز قوى موجبة، تتغذى من منبع صافي و صالح. منبع التوحيد و المحبة. منبع كوني. لماذا نجيز خطابات سياسيين، و أناس من كل حوب و جنس، و نعلم أنهم كاذبين، و لا يقومون إلا بالغوغائية، و رغم ذلك، فإننا نهتف لهم، و ننشر أقوالهم. أما عن أهل الحقيقة، فنجد دائما، من يقول أنهم حالمين أو طوباويين، الصوفية الذين يسكنون قصرا من العاج، و يحلمون. نعم إننا نحلم، و لكننا نحلم بعالم أفضل من هذا. واقعنا غير أفقي. حقا، هو مضاعف، أفقي و عمودي. هو حرف الباء، الذي يتشرف و يتمدد بالإرتباط بالمطلق. إنه الإنسان، توجد الأقدام على الأرض، و الرأس في السماء، و ليس العكس. لا يجب خفض الكائن حتى يصبح حيوانا حيا. حيوان يرغب فقط في الرغبات و الشهوات الزائلة لحياة مضطربة بدون نظام. فيما تفيد حياة، إذا لم تعلمنا محبة الآخر و محبة الله سبحانه و تعالى؟ إذا أحببنا الله، أحببنا الخلق بأجمعه. إن الحياة إن لم تفد تجربة المحبة، فهي حياة مبددة.

    ليرحم الله جمعنا، و يجعلنا نغادر هذا المؤتمر بقلب منفتح نحو الآخر، و أن هذه الشهادة التي ندلوا بها، في هذه الأيام التذكارية لهذا الرجل الولي، حتى لو أني لا أحب كلمة (قديس).. لهذا الرجل الكامل، تكون هذه الشهادة، بداية يقظة جديدة، هنا بالغرب، لأنه ليس صدفة على الإطلاق، أن مؤتمر مثل هذا، ينعقد بإيل دو فرونس الغنية، التي تعطي تربتها أكثر من 100 قنطار في الهكتار. نتمنى أن يكون الجني الروحي، هو أيضا مربحا، مثل جني هذه السنة 84. شكرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). أقيم ملتقى ذكرى خمسينية وفاة الشيخ أحمد ابن مصطفى العلاوي بشيسي، بالضواحي الباريسية، بفرنسا، أيام 14 و 15 و 16 سبتمبر 1984، و قد حضره 2500 شخص من الأقطار الأربعة للعالم، و شارك به ممثلين عن الأديان الأخرى.

(2). قال الشيخ العلاوي في البيتين:

             يا من تريد تدري فني     اسأل عني الألوهية
             أما البشر لا يعرفني       أحوالي عنه غيبية
   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق