الجمعة، 16 أبريل 2021

أيام دراسية حول الأمير عبد القادر بمتحف مرسيليا

 

أيام دراسية حول الأمير عبد القادر

بمتحف مرسيليا

 

 

    الأمير عبد القادر الجزائري، الشخصية البحر المحيط، الذي لم تف جميع الأبحاث والتفتيشات بالكشف عن مناقبه، وأصبحت دراسة أعماله تخصصا بعينه، يجلب إليه كبار الباحثين والراغبين في رصد منهاجه وكشف أسرار إدارته، ويقف العديد من العارفين بأعماله غالبا مندهشين لغزارة علمه وبعد غور نهج سيره، ويعترفون في النهاية أنهم كلما غاصوا في دراسته كلما زادت حيرتهم، وزادت رغبتهم في سبر غور طريقة عمله.  

   اتخذ الشيخ خالد بن تونس من شخصية الأمير عبد القادر مثالا للإقتداء، وقال عنه وجدناه مفتاحا لدخول باب الحوار، وخاصة مع الغربيين، الذين يكنّ له أخصائييهم بالغ الإحترام. والحقيقة أن مدونتنا قصرت في التنويه بأعماله التي ساقها الشيخ خالد بن تونس في مسار دعوته، فقد خصص له الشيخ مجالا واسعا للتعريف بجلائل أعماله ونشرها بشتى الوسائل، فقد كان بحق رجل حوار، وباني مهم لجسر التواصل بين الإسلام والغرب، وكذا واضع لبنة مميزة وسباقة من لبنات العيش معا في سلام. 

    فيما يلي، نرصد حيثيات آخر لقاء دراسي، خصص للأمير عبد القادر الجزائري، جرى يومي 7 و 8 أبريل 2021، بمتحف حضارات أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، الكائن بمدينة مرسيليا الفرنسية. وللإعلام وافق المتحف على إقامة معرض في أحد أروقته يعني الأمير، يقام من 06 أبريل إلى 22 أغسطس 2022.

   وصفت إشهارية اللقاء الأمير عبد القادر الجزائري أنه أمير المقاومة، المناضل المقدّس، مؤسس الدولة الجزائرية، حامل السلام والتسامح، رائد تقنين القانون الإنساني الحديث، مجاهد، رجل دولة، حواري... إن صفاته، التي غالبًا ما تكون مثيرة للإعجاب، وأيضًا متناقضة، تتدفق عندما يتعلق الأمر باستحضار الأمير عبد القادر، الذي لا يمكن تجاهله. لكن هل نعرف ما يكفي عبد القادر ابن محيي الدين؟ ورغبة منه في تسليط الضوء على هذه الشخصية المتميزة بكل ثرائها وأهميتها التاريخية والفكرية، بمساعدة أحدث الأبحاث والمصادر الجديدة والمجموعات غير المنشورة، يخصص متحف حضارات أوروبا والبحر الأبيض المتوسط بمرسيليا معرضًا له في الفترة الممتدة من 06 أبريل إلى 22 أغسطس 2022.

    قبل عام من افتتاح المعرض، جمع يومان من الدراسة عشرات الشخصيات والباحثين المتخصصين في الأمير ومجالات الدراسة ذات الصلة، من مؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا وجامعين من أوروبا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط. هذا التشارك في المعرفة، الذي يجب جمعه وتحديثه، سيجعل من الممكن، من خلال نهج متعدد التخصصات ومتعدد الجنسيات، فك الرموز العديدة لهذه الشخصية الاستثنائية، على مفترق طرق تعدد الأكوان.

    جرى اللقاء باجتماع افتراضي، يسرته وسائل التواصل الإجتماعي الإعلامية، وساهم الشيخ خالد بن تونس من بيته، وألقى مداخلة مهمة نوردها كاملة.

     شارك الشيخ خالد بن تونس في مائدة مستديرة يوم 08 أبريل 2021، وشاركه الحوار كل من السيدة ستي جنيفييف سيمون خديس محافظة معرض "الأمير عبد القادر، الرجل والمصير والرسالة"، والسيد كريستيان ديلورم، القس المعروف بنشاطه في الحوار البيديني، ونشطت اللقاء السيدة كاميل فوكور.

 



 
    أخذت منشطة جلسة الحوار الكلمة السيدة كاميل فوكور وقالت: شكرا جزيلا السيدة "ستي" على هذا التدخل الرائع، وأرى أنك لخصت جيدا تحديات عملك، وأيضا نظرتك حول إسهامات الأمير عبد القادر، ومزيدا من الشكر. الشيخ بن تونس سأسند لك الكلمة. إن مؤسستكم مرتبطة ارتباطا وثيقا بهذا المعرض، وأذكّر أيضا بإجرائك الدولي لدى الأمم المتحدة لصالح العيش معا، من الواضح أنه واسع النطاق وذو أهمية كبيرة، وكذلك يبدو لي أن الأمير عبد القادر يلعب دورا لا يستهان به، ويبقى لك إسوة اليوم، وفي رأيك ماذا يمكن أن يقدم لنا الأمير، وكنا تحدثنا في الأمر بصورة سريعة مع كريسيان وستي، وأود الرجوع إلى تجربتكم الخاصة والجماعية بصفتكم شيخ طريقة صوفية، وأكثر حول إجرائكم لدى الأمم المتحدة على الخصوص. أترك لك الكلمة.

    أخذ الشيخ خالد بن تونس الكلمة وقال: شكرا جزيلا. صباح الخير جميعكم. إني أتشرف المشاركة معكم في هذه المؤسسة، وأشدد على الأهمية، وأعتقد أن هذا العمل هو عمل للذاكرة، عمل للأرشيف، وأن يعمل هذا المعرض على الخصوص على بث الحياة في شخصية لعبت دورا مركزيا في التعايش والتنافس والحروب، وفي هذا الألم وهذا الجرح، الذي ليزال باقيا ليومنا هذا، والدليل أننا لزلنا بصدد طرح أسئلة حول هذه المصالحة بين الجزائر وفرنسا، ولكن الحقيقة، أن شخصية الأمير تدعونا إلى الذهاب أبعد من ذلك، مادام أن حياته وتجربته وجهاده يدعونا لامتلاك نظرة شاملة عن العلاقات والجسور بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وبين الشرق والغرب.

    حضرتُ من البداية، واستمعتُ إلى العديد من المداخلات، وأعتقد حسب رأيي، ويبقى سوى رأي، أن نضع الطرح على أي شيء نريد أن نسلط الضوء، وماهي النظرة المرجوة والهدف المنشود من هذا المعرض. إنه معرض، وكان موجود من قبل، حدثتنا السيدة ستي عن المعرض الذي طاف فعليا بالعالم، وترجم إلى لغات عديدة، وعرض بأوروبا وأمريكا وآسيا، وترجم، لما دخل إندونيسيا، وإلى اللغة اليابانية لما عرض باليابان(1). إن هذه الشخصية تعتبر شخصية رئيسية في الوضعية التي يعيشها العالم اليوم، وخاصة بعد محنة جائحة فيروس كورونا، التي تدفعنا للتساؤل عن هشاشة إنسانيتنا وهشاشة أنظمتنا، وهذا النظام المعولم، الذي يستفسرنا مرة أخرى عن معنى مصيرنا في عالم المستقبل هذا، الذي نتكلم عنه، ولكننا لا نعرف كيف نتعامل معه. وأن يستطيع هذا المعرض، وهذا ما أتمناه، أن يعطي خصوصا للأجيال المقبلة منهجية تعليم لثقافة السلام هذه، التي نحن بحاجة ماسة إليها، لبعضنا البعض.

    نحن نرى أن هذا الرجل من القرن التاسع عشر، الكائن بين التقليد والحداثة، في هذا العالم الذي يعيش تحورا عميقا، في غرب ذلك العصر، الذي كان يعتبر غرب الأنوار، ويرى بقية العالم تقريبا عالما بدون ثقافة، خالي من الإنسانية، جاء ليعطيه درسا في الحداثة وقيم الإنسانية وحقوق الإنسان، ظهر شخصا يسمى الأمير عبد القادر ضمن أوضاع، لا نذكر تاريخه، ولكن في الأوضاع التي عاشها، فهو  حقا ليس رجل سياسة، ولم يكن ديبلوماسيا حقا ولا فيلسوف حقا، ولكن هذا الرجل بأوجهه المتعددة جسّد قبل كل شيء أسوة، أسوة أنسية، أسوة هي في الآن نفسه مادية وروحية. إن تجربة الأمير تجربة تتجاوز وتُوحد مختلف الأبعاد التي يمكن أن يصادفها إنسان في حياته، فكيف تفاعل أمام هذه التحديات التي طرحت؟

    إن مشكلة الأمير، هي أننا قد نجعل منه بطلا ووطنيا، كما ذكر للتو، ولكنه ليس كذلك. أنجعل منه أسطورة أو أننا نحيي فكره، ونجري تحقيق عن فكر رجل من القرن التاسع عشر، ظهر في زمن ما من التاريخ من لا شيء. عندما أقول لا شيء، لأنه لم يتخرج من جامعة كبيرة أو المدرسة الوطنية للإدارة، أو درس في جامع القرويين بفاس أو جامع الأزهر بمصر أو الزيتونة بتونس. من أين خرج هذا الرجل؟ وله تلك الطاقة، وبنى من لا شيء، في سن مبكرة، كان في سن 22 أو 23 سنة، عندما قام بدور التوحيد، في الأول كان جهويا، على مستوى الغرب الجزائري، وحّد قبائل، وتصدى لواحدة من أعظم قوى ذلك العصر، فرنسا عصر الأمير عبد القادر، كانت في ذروتها، من حيث قوتها العسكرية والتقنية والعلمية، وفي مقابل هذا التحدي، برز شاب جزائري، على كل حال جزائر ذلك العصر لم تكن تشكل حدود جزائر اليوم، ومن أين استمد هذه الطاقة؟ ماذا فعل لكي يستطيع أن يبحر وسط هذه العاصفة التي غزت بلاده، ويتمكن من إقامة علاقات مع دول مثل إسبانيا وانجلترا والإمبراطورية العثمانية، ويُعترف به كشخصية منفردة، بالطبع بعد قضية 1860 في إنقاذ مسيحيي دمشق. إن هذا الإنسان تاريخه يعنينا، لأننا نعيش نفس الوضعية من ناحية ما، وضعية تشبه من عدة أوجه الوضعية التي عاشها، في حد التعامل مع المشاكل، التي هي إنسانية واجتماعية وثقافية وسياسية. وتركيا اليوم ليست الدولة العثمانية، إنها دولة علمانية، ولكنها تسبب مشاكل لأوروبا، ونرى بهذا الشأن نقاشات، وسوريا اليوم ليست سوريا التي عرفها الأمير، ولا يمنع ذلك أن مسألة سوريا اليوم مسألة حرجة في تقرير مصير الشرق الأوسط، وحتى مصير جميع حوض البحر الأبيض المتوسط إذا تكلمنا عن ليبيا، فوضع العالم الحالي بحاجة إلى إيجاد فكر متسامح يمكنه توحيد، وخوض تفكير يدور حول العيش معا هذا والعمل معا هذا، يمكّننا من نقل لأبنائنا طريقة تفكير تسمح ببناء مستقبلهم، الواحد مع الآخر وليس الواحد ضد الآخر، ونعلمهم الحوار وليس الصراع، وهذا هو تحدي القرن الواحد والعشرين.

    إذا لم تتح لنا هذه الفرصة الاستثنائية مع متحف هو اليوم مفتوح على حوض البحر الأبيض المتوسط، أُم الحضارات هذه، ليس بصفته بحرا، إنه الأم التي أنجبت الحضارات. بالنسبة لنا، إن البحر الأبيض المتوسط هو أم الذاكرة، حيث ظهرت فعليا أكبر الحضارات، التي وسمت الإنسانية، سواء كانت الحضارة الرومانية أو الإغريقية أو الفرعونية أو الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية. نحن متواجدون في قلب، أقول مركز دائرة، تحمل في الآن نفسه في طياتها الأمل وأيضا ربما قطيعة قد تنخر باقي العالم. لنتذكر تاريخ فلسطين وتاريخ الجزيرة العربية. لا ننسى أن أواخر حياة الأمير وافقت نهاية القرن التاسع عشر، الذي عرف بروز تجديد الوهابية، هذه المدرسة(2)، وهنا إني أتكلم عن الجانب الروحي للأمير، الذي أطلنا الحديث عنه، فلا أريد التعمق فيه، ولكن الأمير وارث فكر روحي، فهو الذي يصف نفسه أنه وارث رجل عظيم صوفي معروف، ذلك الصوفي الأندلسي ابن العربي(3)، ونرى أن الأمير لما وطأت قدماه دمشق، أول ما قام به، أنه توجه مباشرة إلى ضريح ابن العربي، قبل أن يجد مسكنا يضله، ولا ننسى أن ابن العربي كان يمثل للعثمانيين بشكل ما، الولي الكبير، فضريح ابن العربي كان مفقودا وطاله التخريب، حتى زاره السلطان العثماني سليم الأول في 1520، وردّ له الإعتبار، وبنى ضريحه الموجود حتى اليوم، وبالنسبة للعثمانيين كان يعني الكثير(4).

    عندما أطلق سراح الأمير، وهنا أفتح قوسا، من طرف نابليون أو الرئيس، في ذلك الوقت لم يكن إمبراطورا بعد، كان الرئيس بونابرت، عندما جاء إلى باريس، كانت من أولى طلباته الذهاب للصلاة في محل الصلاة، وذهب إلى كنيسة لامادلين، وفور وصوله إلى اسطنبول، أول محل زاره، وفي العادة يذهب لزيارة السلطان، زار أولا السلطان أيوب(5). لقد وَسم، لأن هذه الأماكن الروحية بالنسبة إليه تعتبر مؤشر، أو تقع في قلب حضارة. قادته روحانيته بشكل ما، بصفته رجلا سواء كان في سياسته أو علاقاته أو في أنسيته إلى تشكيل تلك العلاقة بالآخر، وجعلته يستمد من تلك القوة الروحية التي ورثها من طريقة صوفية كبيرة.

    لقد طُرح سؤال، هل الأمير شريف النسب أو لا، من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم. عندما استقبل من طرف السلطان العثماني(6) استقبل بصفته شريف، ولُقِب بمولانا، وتلقى دعوة من طرف الوزير الأول باسم لقبه مولانا، كان يملك لقب مولانا، ومولانا هو لقب يطلق على إنسان روحاني، على سبيل المثال مولانا جلال الدين الرومي(7). كانت الروحانية بالنسبة إليه طاقة لإدارة علاقاته سواء مع المسيحيين أو اليهود، ولا ننسى أن الكثير من مبعوثيه وسفراءه كانوا يهودا، ولهذا فإن الأمير يفاجئنا على عدة مستويات، ويساهم في عدة منظورات على ما أعتقد، في إيجاد حلول للمشاكل، بالرجوع إلى ما نملك في أعماق أنفسنا، أي تلك حقيقة مغادرة أنا التملكي النرجسي المتعجرف نحو نحن الذي يُوحّد ويقرّب، نحو هذا الأنا القابع في المواجهة الدائمة. وإنها حقيقة العالم الزمني، بما فيه من السالب والموجب والحرب والسلام والفرح والحزن والصحة والمرض، ولهذا فإننا نعيش دائما في ازدواجية الإشكالية الإنسانية، وهو قد تكلم عن هذه الوحدة، وقالها حقا، "لو استمع إلي المسلمون والمسيحيون لجعلت منهم إخوة ظاهرا وباطنا". فهو يمنحنا منظور، ونجده من خلال المشروع الكبير لقناة السويس، وهي حديث الساعة، حيث أوقفت سفينة التجارة الدولية طيلة أسبوع، مسببة خسائر، تقدر بالمليارات للإقتصاد الدولي(8)، والأمير أيّد الإنجاز في وقته، ينبغي التذكير به، يعتبر إنجاز في أن تحفر..، حتى ولو تاريخيا تم إنجازها من طرف الفراعنة من قبل، وفي القرن التاسع عشر، إنه حدث إنجاز في أن يربط الشرق بالغرب، وذلك بمعناه السياسي والعسكري والتجاري، وكان رهان يسبب مخاوف للكثير من الدول، وأكثر ما كان يسببه للامبراطورية العثمانية ومصر، لوجود إنجلترا وفرنسا والقوى الكبرى، فقناة السويس كانت لتزيد من حدة سيطرة القوى الإستعمارية على باقي العالم، وخصوصا في المنطقة.

    نحن نرى أن هذا الرجل يدفعنا، شئنا أم أبينا، نحو وضعيات متناقضة، نحو إشكاليات استمرت إلى يومنا هذا، ومع استفهامات ومنظورات، إما ستؤدي بنا إلى حالة نزاع، وإما نحو تفكير آخر، وأقول أنه الإنتقال من ثقافة أنا إلى ثقافة نحن. إنه رجل توحيد، ورجل يزرع ثقافة السلام هذه، ويُوحّد، ويسمح للإنسان بأن يتجاوز شهوة نفسه النرجسية الوطنية، ونحن نعلم ماهي الوطنية اليوم، ولهذا يثير هذا الرجل الإهتمام، ونحن حاولنا أن نعطي لهذه الجائزة، ولسوء الحظ، يجب قول ذلك، سمحت لنا هذه الجائزة سوى بشيء واحد، وهو الحصول على مقعد يونيسكو للأمير عبد القادر في بلاده، وجاءت نتيجة نضال لعدة سنوات، وسمحت لنا بالعمل على إنجاز متحف حول الأمير عبد القادر، ولكن هذا المتحف لم ير النور أبدا. إننا نجاهد ونقاوم من أجل أن ندرّس فكره، ويجري الحديث عن البطل والمجاهد، ولكنه مفكر من القرن التاسع عشر، وشخص ترك لنا فكرا ثريا جدا، لبناء أواصر، داخل التنوع، لما هي عليه الإنسانية، في إطار الإحترام المتبادل، وفي الإطار الإلتزام، سواء أكان أخلاقيا أو روحيا، وأيضا ماديا، وفي تبادل في هيئة تعاونية. في هذا، إن الأمير جد عصري، ومع بقاءه متجذرا في التقليد، يتواجد في الحداثة.

    عندما وصل إلى دمشق، إن أول شيء قام به، بعد أن استقر في البيت الذي عاش فيه ابن العربي، لا ننسى ذلك، أن أول بيت استقر فيه الأمير عبد القادر الجزائري هو البيت الذي عاش فيه ابن العربي، والشيء الثاني هو افتتاحه مدرسة لتلقين الثقافة والمعارف، وكان عمله الأول. وفي الجزائر، لتمويل كفاحه، أراد أن ينشئ مسبكا، وجلب تقنيين فرنسيين لصناعة المعادن. في ذلك العصر يعتبر تحديا عظيما، لا أريد الدخول في التفاصيل، ولكنه يفاجئنا بتعدد أعماله، التي تلهمنا، عندما نتكلم على سبيل المثال عن أحداث سنة 1860 بالنسبة للمسيحيين، ولكن ما الذي يختفي وراء هذا؟ تختفي أمورا إقتصادية، لأن الأمير عندما وصل دمشق كانت له علاقات مع جميع الناس، مع عدو عصره، على الخصوص، ومع المسيحيين، حيث اقترح عليهم، لكونهم تجارا، ويملكون الوسائل المالية، إنشاء أول هيئة للصناعة التحويلية للحرير. وما الذي حدث في الإضطراب الذي أدى إلى تلك المجزرة في حق المسيحيين، وما الذي هوجم؟

    تم إحراق كل ما قام به رفقة المجتمع المسيحي في ذلك العصر، في بناء صناعة نسيج الحرير، التي احترقت ودمرت، ووراء هذا يوجد.. لهذا تسمح لنا الوثائق الأرشيفية بفهم المسألة، ووراء هذه القصة توجد قصصا أخرى(9).. يخلق هذا الرجل مشاكل متعددة، لأنه لم يكن ملكا، كان أميرا، وأقول بحكم الضرورة، ويقول عن نفسه، لم أرد أبدا أن أكون ما أنا عليه، ولكنه عرف بطريقة ذكية جدا الإستثمار أمام الملوك والسلاطين والأوروبيين وكبار هذا العالم، الذي عاش فيه، ولعب دورا عظيما. نذكر دور الإمام شامل على سبيل المثال في روسيا اليوم(10). أظن أنني طالبت كثيرا.

المنشطة كاميل: ربما أتركك تختم الشيخ بن تونس.

الشيخ خالد بن تونس: شكرا جزيلا، على كل حال.

المنشطة كاميل: دقيقة واحدة.

الشيخ خالد بن تونس: دقيقة أخرى.

المنشطة كاميل: نعم كلمة، أو جملة، أتركك تفيدنا حقا بجملة، هكذا.

الشيخ خالد بن تونس: يجب أن يعطى لهذا الإنجاز الرائع، وأتمنى من صميم قلبي أن تكون رسالته الرئيسية تربوية وتمس شبابنا. توجد الكثير من الأخبار المزيفة، ويقال توجد اليوم الكثير من الأخبار السيئة، وفي الوضع الذي يوجد فيه العالم اليوم، اعطوا الأمل، قدّموا المعنى والأمل لشبيبتنا. شكرا جزيلا(11).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). تم تدشين معرض "الأمير عبد القادر، الرجل والمصير والرسالة"، سنة 2003، وكان عرضه الأول بفرنسا، بمناسبة سنة الجزائر بفرنسا، وهي تظاهرة ثقافية وفكرية، قدمت فيها الجزائر مختلف تشكيلاتها الفنية والفكرية والثقافية والرياضية وغير ذلك طيلة سنة 2003 عبر ربوع التراب الفرنسي. وبعد ذلك طاف المعرض بأرجاء العالم، فشهد ترجمات إلى الإنجليزية والإسبانية، واستضافته عدة دول في مختلف القارات، وترجم إلى العربية لما زار سوريا سنة 2008، وتزامن مع مناسبة الذكرى المئوية الثانية على ميلاد الأمير عبد القادر. تقوم على المعرض محافظته السيدة الفرنسية ستي جنيفييف سيمون خديس، التي تسهر على مراحل عرضه.

(2). وافقت أواخر حياة الأمير عبد القادر انتشار أفكار المذهب الوهابي في الشام، في حين نجد أن السلفيين يشيدون بصفوة جهاده للمستعمر، يقفون موقف المتنكر لتصوفه، حذرين من ذكر أعماله. مما يذكر عنه أنه قام بجمع كتب ابن تيمية وأحرقها، لما بدأت في الإنتشار في ذلك الوقت، مما جلب له عداءا.

(3). هو محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي الشهير بـ محيي الدين بن عربي، ويعتبر أحد أشهر كبار المتصوفة، وعرف بلقب  "الشيخ الأكبر". ولد فيمرسية  في شهر رمضان عام 558 هـ الموافق لـ 1164 هـ، وتوفي في  دمشق عام 638 هـ الموافق لـ 1240 م، ودفن في سفح  جبل قاسيوندمشق. أما عن تسميته بابن العربي بأل التعريف أو بدونها، فهو عند المغاربة كان معروفا باسم ابن العربي، وعند المشارقة للتفريق بينه وبين القاضي أبو بكر ابن العربي اختاروا تسميته ابن عربي.

(4). ورد عن ابن عربي أنه قال "إذا دخلت السين في الشين يظهر قبر محيي الدين"، وفسرت على أن المقصود بها إذا دخل السلطان سـليم إلى الشام يظهر قبر محيي الدين، ويروى أن اكتشاف السلطان لضريح ابن العربي كان نتيجة رؤيا منامية، رآه فيها يطلب منه التقدم إلى مكان دفنه.

(5). ويقصد به أبو أيوب خالد الأنصاري، المتوفي سنة 52 للهجرة، وهو أحد كبار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، شهد معه بيعة العقبة والمشاهد كلها، وهو الذي خصَّه صلى الله عليه وسلم بالنزول في بيته عندما قدم إلى  يثرب مهاجراوأقام عنده حتى بنى حجرهومسجده  وانتقل إليها. كان أبو أيوب الأنصاري مع علي ابن أبي طالب ومن خاصته. توفي أبو أيوب الأنصاري مريضًا، وهو في جيشيزيد ابن معاوية  المتوجه إلى القسطنطينية .

    أوصى أبا أيوب يزيد ابن معاوية الذي جاء لزيارته عند الاحتضار، بأن يحمل جسده إلى أرض العدو بعد أن يوغل جنود المسلمين في تلك البلاد إلى أقصى الغاية، ثم يدفن تحت أقدامهم عند أسوار القسطنطينية، لحديث سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قوله "يُدفن عند سور القسطنطينة رجل صالح من أصحابي". وأرجو أن أكون أنا هو ذلك الرجل. فلما توفي، ركب به، ثم سار به، ثم دفنه في أصل حصن القسطنطينية. وضريحه اليوم موجود بمنطقة أيوب باسطنبول.

(6). وهو السلطان العثماني عبد المجيد الأول، المولود سنة 1823، والمتوفي سنة 1861، تولى السلطنة وله من العمر 16 سنة.

(7). هو محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي البكري (604 -672 هـ/ 12071273 م)، المعروف باسم مولانا جَلَال الدِّين الرُّومي، ولد ببلخ بأفغانستان وتوفي بمدينة قونية بتركيا، كان فقيها، ثم زهد الدنيا وترك كل ما وراءه، وتتلمذ روحيا على يد الشيخ شمس الدين التبريزي. خلد مولانا جلال الدين الرومي عددا من المؤلفات، من بينها ديوانا شعريا عظيما هو المثنوي، أبهر على الخصوص عند ترجمته إلى عدة لغات، ويعتبر هذا الكتاب أكثر مبيعا في الولايات المتحدة، وترك أيضا طريقته الصوفية المولاوية، المتميزة بدراويشها الدوارة.

(8). وقع يوم 23 ماس الفائت حادث في مجرى قناة السويس، حيث جنحت سفينة تدعى "إيفرغيفن"، تبلغ من الطول 400 متر عن مسارها، وانجرفت نحو حافتي القناة، البالغ عرضها في ذلك المقطع 200 متر، وعلقت في رمال الشاطئ، مما استدعى تسخير وسائل كبيرة لإخراجها، واستمر إغلاقها للقناة مدة ستة أيام، مما تسبب في توقف الملاحة فيها، واحتجاز أكثر من 400 سفينة بقيت في الإنتظار، والخسائر قدرت بالملايير.

(9). روى الشيخ خالد بن تونس بعض التفاصيل عن الحادثة في إحدى مذاكاراته قائلا:

    في عام 1860 وقعت فتنة في دمشق بين المسلمين والمسيحيين، ولذلك يعزى سبب. كان بيد المسيحيين تجارة الحرير، و كان الحرير يأتيهم من الصين، وقد قام السوريون بتربية دودة القز، وحريرهم معروف، ذو جودة عالية. كانت أوروبا آنذاك تسيطر على التجارة في العالم، وأراد أصحابها أن يستولوا على هذه التجارة التي كانت بيد المسيحيين، ولهذا اختلقوا فتنة بين المسلمين والمسيحيين. دفعوا لبعضهم، 120 شخص، والقصة معروفة لأنهم حُكموا في المحكمة العثمانية. وقامت الفتنة، ومات عدد كبير من المسيحيين ظلما وعدوانا، وأحرقت معامل النسيج، أي دمروا تلك الصناعة. كان هذا هدف بعض الدول الأوروبية المتسترة، دفعت أموالا لأشخاص، وتم الأمر بواسطة أهل الدين، فقد نصبوا علماء، أصحاب الأجرة، وأعطوهم أموالا فأفتوا بأن هؤلاء المسيحيين كفار. نهض الأمير عبد القادر وقاوم هذه الفتنة، وجمع أتباعه الجزائريين الذين هاجروا معه إلى دمشق، التي ليزال بها إلى اليوم حي، يعرف باسم حي الجزائريين، فسلحهم وحمى المسيحيين.

    جاءه المسلمون، وممثلي بعض العلماء، وطالبوه بأن يسلم إليهم المسيحيين، فرفض، وسألوه كيف تحمي الكفار من إخوانك المسلمين، قال أحمي إخواني من الأخوة الآدمية من إخواني المسلمين إذا فسدت عقيدتهم وظلموا. أتَّبع الحق وليس الدين، لن تنالوهم إلا بالمرور على جسدي. 150 سنة من بعد، ليزال يشرّف ويضرب به المثل. وجدناه مفتاح يفتح لنا باب الحوار. انظروا كيف يزن أهل الله، وأهل ذكر الله ويعاملون المخلوقات. حماية المظلوم أينما كان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا، فإنه ليس دونها حجاب". وقال الله تعالى "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا". حقيقة هذا التعارف، هي أنك لا تعرف حقيقتك إلا بغيرك. من مذاكرة له سنة 2010.

(10). الإمام شامل الداغستاني، من مواليد سنة 1797 بقرية غيمري بإقليم داغستان، واشتهر لقيادته مقاومة ضد الروس الذين غزوا بلاده، وضموها فيما بعد إلى الفيديرالية الروسية. ارتوى من الطريقة النقشبندية، ويعتبر الإمام الثالث في المقاومة التي اندلعت لمجابهة واحدة من أقوى جيوش العالم، وهو الجيش الروسي، خاض حربا ضدهم لمدة 25 سنة، وقد سلمت له راية الجهاد سنة 1834.

    تمتّع الشيخ شامل الداغستاني بنظرة ثاقبة ومهارات إدارية عالية، إضافةً لقدرة عسكرية استثنائية، فبدأ أولا في ترتيب البيت الداخلي، وطبّق نظاماً صارماً قوامه التمسُّك بالإسلام وتوحيد جبهة المقاومة، وطبق في معاركه حرب العصابات، وهو أن تقوم مجموعات صغيرة نسبياً وذات تسليح ضعيف بالهجوم المفاجئ على جيشٍ نظاميّ قوي العتاد والعدد. كانت هذه الطريقة مناسبة جداً للتعامل مع الجيش الروسي الضخم. حقق جيشه انتصارات كبيرة على الجيوش الروسية، واستطاع الصمود في وجه الحملات العسكرية. وكان من أهم أسباب إخفاق الحركة الجهادية المريدية الشاملية خيانات عدد من أمراء الداغستان، وقسوة شامل على أتباعه في بعض الأحيان وعلى سائر الشيشانيين، فانفض عنه كثير منهم، وهناك عامل مهم هو عدم تنسيق الدولة العثمانية معه لضعفها آنذاك.

    الإمام شامل ومن معه كانوا من الصوفية النقشبندية الذين اشتهروا بالجهاد، وكان شامل ومن معه يسمون أنفسهم بالحركة المريدية، وكانت أصول الحركة المريدية تقوم على الشدة والقوة والفروسية وعلى الأذكار والأوراد، وضع شامل لجيشه نشيدًا جهاديًّا جميلاً ينشدونه في معاركهم، وأحدث هذا السلوك بعض التملل. في المعركة الأخيرة سنة 1859، وجه إليه الروس جيش قوامه 200000 جندي، فوقع الإمام في الأسر، واقتيد إلى موسكو، وتم إطلاق سراحه لاحقا.

    ومن العجائب، وجود العديد من أوجه التشابه بين الإمام شامل الداغستاني وبين الأمير عبد القادر الجزائري، أولا اختيارهما حرب العصابات، وتعتبر هذا النوع من المعارك ابتكار يعزى إلى الأمير عبد القادر، غير معهود من قبل، وخوضهما حربا طويلة ضد قوتين عاتيتين، واستسلامهما في نهاية المطاف، وخضوعهما للأسر في أرض العدو، وإطلاق سراحهما، وزيارتهما عاصمة الخلافة وغير ذلك.

    ذكر المؤلف علي محمد الصلابي في كتابه "كفاح الشعب الجزائري"، "أن الإمامين تبادلا الرسائل طوال فترة أسر الإمام شامل، وسعى الأمير عبد القادر بكل الوسائل أن يطلق سراح الإمام". وقد كتب لهما اللقاء بمصر ببورسعيد، سنة 1863، وتوجد صورة جماعية تؤرخ لذلك، بحضور الخديوي اسماعيل باشا ملك مصر والسودان. سنة 1869 حضي باستقبال وترحيب من طرف السلطان العثماني، وحج سنة 1870، وتوفي سنة بعدها بالمدينة المنورة، ودفن بجنة البقيع.

 

(11). على حد قول الشاعر:

  اعلل النفس بالآمال ارقبها   ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل