السبت، 31 مارس 2012

الرسالة المحمدية


الرسالة المحمدية

    بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم في المدينة المنورة سنة 632 م، سأل الذين لم يعاصروه السيدة عائشة رضي الله عنها بقولهم: « كيف كان خلق الرسول  صلى الله عليه و سلم » ؟، فقالت: « خلقه القرآن ».

     لقد كان صلى الله عليه و سلم مثال الأخلاق الفاضلة، و هو يمثل بحقّ الإنسان الكامل الذي يعتمد كلية على الإرادة الإلهية، يدعو و يعيش رسالة التوحيد. هذه الرسالة هي عنصر توازن و تناغم بين الروحانية و المادة. عظمة مآثره لا يضاهيها إلا عظمة حلمه و تواضعه، فكان يردد دائما: « اللهم أحييني مسكينا و أمتني مسكينا و احشرني في زمرة المساكين ».

    الكثير من الرجال انبهروا للمسار غير العادي لحياة الرسول، « إذا كانت عظمة المشروع، و ضعف الوسائل و كثرة النتائج هي المقاييس الثلاثة لعبقرية الرجل فمن يتجرأ ان يقارن، إنسانيا، رجلا من عظماء رجالات التاريخ المعاصر مع محمد »؟ هكذا لاحظ لامارتين.

    نتساءل، بماذا كان يتميز" و لماذا تجربته هي قدوة لنا؟ ماذا قدّم لرجال عصره، و ماذا بقي من تعاليمه التي يمكن أن تكون اليوم مصدرا للإلهام بالنسبة لرجال القرن الواحد و العشرين؟

    الحقيقة المؤكدة هي أن صدى رسالته و آثاره التي شيدها في واحد و عشرين سنة (611-632) ما يزالان مستمرين إلى اليوم، و سواء لقيت المعارضة أو القبول فإنها لم تكن مهملة أبدا. قوة كلمته و حدّة أفكاره و لطافة حكمته تدعونا كلها إلى الرؤية التي تصلح بين الإنسان و الكون، بين الكنه و الكائن. 

        لقد كان يمتثل للوحي، و إن خالفه  التنزيل في حقائق مسلمة لديه، فمثلا عندما سأله سلمان الفارسي رضي الله عنه، الذي كان منبهرا بتعبد بعض الرهبان، عن مصيرهم يوم البعث، فقال له: « هم من أهل النار »، فاشتد ذلك على سلمان، فأنزل الله الآية: « إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين مَن آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ». الآية 62 من سورة البقرة.

    الرسول الكريم لم يؤسس، في حقيقة الأمر، لنظام سياسي أو لنظرية الدولة. لقد ترك للرجال مهمة إقامة المشروع المناسب لحياتهم اليومية، مع الأخذ بمبدأ الشورى.

    ميز السنة الأولى من هجرة الرسول إلى المدينة موقفا سياسيا قويا حين وضع نصّا عُرف بعهد المدينة، أسس فيه دعائم، للحياة بين طوائف المجتمع المدني، الوحدة و التساوي بينهم جميعا (مسلمين و غير مسلمين) في الحقوق و الواجبات، أليس هو القائل: « الناس سواسية كأسنان المشط ».

    لقد ذهب أبعد من ذلك، عندما سمح لوفد نجران من المسيحيين بإقامة صلواتهم بالمسجد النبوي الشريف. إنه من خلال هذا العمل المثالي، طبّق ما كان يقوله من أن كل الأنبياء أخوة، لهم أب واحد و لكن أمهاتهم متعددة.

       إنه يوضح الرابط الذي يجمع بين مختلف الديانات، بالرغم من اختلاف الشرائع، الإيمان بإله واحد. أكثر من ذلك، إنه يؤكد أن أصل البشر كلهم واحد و لا توجد جماعة أفضل من أخرى، « كلكم من آدم و آدم من تراب »، و « لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ».

     هذه بعض الملامح، و هناك الكثير منها التي تبين شخصية الرسول صلى الله عليه و سلم و الرسالة التي جاءنا بها. إنه رجل تربوي من الطراز الأول، مفعم بالإنسانية، نادى كل الناس، مسلمين و غير مسلمين، إلى الإرتقاء بطبائعهم و بمكارم الأخلاق إلى أعلى مستوى يمكن أن يحققه الإنسان، و كذلك دعا و شجع على طلب العلم، فقال: « اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد »، و « اطلبوا العلم و لو في الصين ». ذلك أن العلم و المعرفة في نظره أهم من دم الشهيد.

    في المرحلة الأولى، يترك الصبي يتمتع بحريته، فيتذوق اللعب الصبياني، دون معوقات، قد تؤثر على تكوين شخصيته. و في المرحلة الثانية، يتم وضع إطار مناسب لتربية صارمة، أما المرحلة الثالثة، فتسمح له بالمشاركة في تكوين رجولة مستعدة لمواجهة الحياة، هو في هذه المرحلة مراهق محترم من طرف الغير، و يحترم الآخرين، لأنه وقتئذ ليس ابن أو بنت والديه، و لكنه صديقهما.

    لقد دعا هذا الرسول الكريم إلى تعلم الرياضة للكبار من أجل المحافظة على الجسم السليم، أما الصغار فقد دعا إلى تعليمهم « الرماية و السباحة و ركوب الخيل »، بل نظّم و شارك في مسابقات للجمال.

    إننا بعيدون كل البعد عن تلك الصورة الكاريكاتورية لرجل منطوي على نفسه، معزول عن العالم، متوجه للتعبد، إنه في الحقيقة رسول الطريق الوسط، الداعي إلى التوازن بين الحياة المادية و الروحية، لهذا الغرض كانت نصائحه المتعلقة بنظافة الجسم و محيطه أساسا للطب في الإسلام و للممارسة الطبية التي ساهمت من خلال التطور العلمي المذهل للحضارة الإسلامية بوضع أسس الطب الحديث.

    أما بالنسبة لمكانة المرأة و نظرته إليها، فنحن بعيدون في هذا المقام، لما تعرضت له المرأة في المجتمعات الإسلامية فيما بعد، من الأحكام المسبقة و المجحفة، فمن خلال موقفه تمتعت النساء بنفس الحقوق و الواجبات التي يتمتع بها الرجال، ففي خطبة حجة الوداع أكد على هذه المسألة تأكيدا واضحا. لا ننسى أنه في تلك الفترة كانت المرأة عبارة عن مُلك خاص بين يدي الرجل، و لم تكن لها أية حماية قانونية. لقد ذهب إلى تحديد عدد الزوجات، و تمكينها من تعويض مادي في حالة الطلاق، و سمح بإقامة عقد، هو بمثابة إتفاقية عند الزواج، و لم يرد في سيرته العطرة أنه رفع صوته أو يده على امرأة، و رغم أن النساء كن في ذلك الوقت، مع الرجال في المسجد يتلقون نفس التعاليم، إلا أنه خصص لهن يوما خاصا في الأسبوع للحديث معهن في المشاكل التي تخصهن.

    في هذه النقطة، القليل من المؤرخين أكدوا على أن التعليم في زمن النبي صلى الله عليه و سلم، كان واجبا على الرجل و المرأة.

    الكثير من سلاسل الرواة الحديث تنتهي عند إحدى زوجاته أو عند صحابية عاصرت النبي صلى الله عليه و سلم، إنه دليل قاطع على التعليم المشترك، ألم يقل: « خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء »، يقصد السيدة عائشة رضي الله عنها، بل ذهب إلى حد التأكيد بقوله: « اعدلوا بين أبنائكم ». و يروى في الأثر، أن لو كان له الخيار لفضل البنت، إنه، بالنظر إلى وضعية المرأة في المجتمع المعاصر المسلم، ما زال لدينا مشوار طويل للإقتداء بالرسول صلى الله عليه و سلم. نتساءل في هذا المقام، أي تعاليم الرسول عليه الصلاة و السلام، نتّبع؟

    كيف يمكننا، في الوقت الحاضر، و من خلال هذا الكم الهائل من الميراث الذي وصلنا عبر الأجيال، أن نميز حقيقة، بين تعاليمه صلى الله عليه و سلم، و تلك التي أضافها آخرون.

    لقد قام بنو أمية و العباسيون و غيرهم، بوضع أحاديث تصبّ في مصالحهم، فاستعملوا رجال الدين من أجل الإستيلاء على السلطة و كسب الشرعية.

    لقد فكر رواة الحديث كثيرا في هذه المسألة الهامة، منذ وقت طويل. و لهذا أقاموا نظاما صارما، يبدأ من الحديث الصحيح الذي رواه الكثير من المحدثين، و بسلاسل متعددة موثوق بها إلى الحديث الضعيف الذي يحوم حوله شك حقيقي. 

    هذا يشجعنا على الدعوة، إلى إعادة بعث علوم الحديث تحت ظلال منهج علمي، يساعده في ذلك، وسائل العصر التي بين أيدينا. و مثلما كان الرسول صلى الله عليه و سلم نفسه يشجع العلم، لنأخذ الأسوة منه، ذلك أنه ليس بالجهل و لا بالتقليد السطحي يمكن أن نحلّ هذه المسالة.

   لقد حان الوقت للخروج من الفكر الإنغلاقي الذي عطّل تفكير الأمة الإسلامية بغلقه باب الإجتهاد، مع إضفاء طابع القدسية على ما تركه السابقون، علينا أن ننظر إلى التاريخ نظرة موضوعية تسمح لنا، بإعادة قراءة المرحلة الرائعة لحياة رسول الرحمة، سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم. لنأخذ مثلا الحديث الذي يتكلم عن الجهاد، حيث يقول الرسول صلى الله عليه و سلم:  « رجعنا من الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر »، قيل ما الجهاد الكبر يا رسول الله؟ قال: « جهاد النفس ». أجمع رواة الحديث على صحته، و لكن ماذا بقي اليوم من معنى الجهاد الأكبر؟

    إن كلمة الجهاد ليس لها من مفهوم سوى الصراع أو الحرب عند غالبية المسلمين و غير المسلمين. هذا يؤدي بنا إلى التدبر و إعادة التفكير فيما قاله صلى الله عليه و سلم بأن الجهاد الأصغر باستعمال السلاح، يعتبر ثانويا بالنسبة للجهاد الأكبر، الذي ننتصر فيه على أنفسنا ضد شهواتنا و بالخصوص ضد الشرور التي نسبّبها للآخرين. ( التي يتجرأ البعض اليوم على اعتبارها من تعاليم الرسول صلى الله عليه و سلم ).

    عندما نقول كلمة « الجهاد »، فإنها لا تحمل بالضرورة معنى القتال أو الحرب المسلحة. يمكننا أن نصارع من أجل هدف مثالي عن فكرة معينة، بالعلم أو عن طريق المؤسسات و القوانين، و خصوصا عن طريق سلوك قويم ناتج عن وعي متطور يمكن اكتسابه بالجهاد الأكبر. ذلك أنه إذا كانت المجاهدة ضرورية و مطلوبة لدى المسلمين، فذلك لأن الغاية هي الإرتقاء إلى النور و ليس الإستسلام لأهوائنا و غرائزنا الحيوانية.

    « لقد بعثني الله خادما و لم يبعثني ظالما جبارا » أو كما قال صلى الله عليه و سلم. يبين هذا الحديث الخطوط التي تظهر عظمة الرسول صلى الله عليه و سلم، و هي الخدمة و الكرم. أما الأحاديث التي تظهر التكبر و الظلم فهي أحاديث موضوعة من طرف أناس لتبرير تصرفاتهم.

    إن المثل الأعلى الذي يدعونا إليه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم واضح و صريح. إنه يدعونا إلى الأحد، الذي يجمع الكل، و لكن عوض الرجوع إلى هذه الوحدة المؤسِسة فضلنا الإعتماد على مثلنا و معتقداتنا المبنية على تصورنا، المرتبط بأفكارنا المسبقة للعالم و الكون. إن أوهامنا تنشأ و تتغذى من الحوار المستمر الذي نقيمه مع الثنائية الوجودية، مثل الخير و الشر، الحياة و الموت، الخالق و المخلوقات، و المحصلة، هي شقاوة تتحول مع الزمن إلى جحيم محقق.

    نفس الإنسان المسجونة، تتمزق بين عالم «تقليدي» يتطلع إلى ماضٍ مثالي، و عالم «عصري» يتمثل في رغبة لا متناهية للمال و السلطة. و لهذا، شعورا بالذنب، لا يجد الإنسان الإطمئنان في حياته و لا يتوقف عن الإحساس بالألم.

    إن المنهج المحمدي يعطينا تصورا آخر قائم على إختيار حر و إرادي، به نعيد بناء ذواتنا على الفطرة، « فطرة الله التي فطر الناس عليها ». سورة الروم، الآية 30.

    حقيقة، لا يمكن لأي أحد أن يتنصل من الثنائية التي تطبعه، من عبقرية الخير أو عبقرية الشر اللتان تتجاذبانه، كما لا يمكنه التنكر أو الإختفاء وراء سلوك مصطنع. لا يمكن لأي صناعة أو سحر أو آلهة مهما أوتيت من قوة، أن تنقذ الإنسان، فالمنقذ الوحيد هو الحق، الحق الحقيقي، هذا القبس النوراني المطبوع في الخلية الأولى التي انطلق منها وجودنا، يذكرنا في كل لحظة و حين، بالحقيقة الأولى التي تسكننا، هذا النفخ الإلهي المنفوخ فينا، حيث نعتبر الوعاء و الملجأ المقدس، « و نفخت فيه من روحي ». سورة الحجر، الآية 29. لا أحد يفر من هذا القدر.

    إن السلوك الذي يدعونا إليه المنهج المحمدي يتمثل إذن، و قبل كل شيئ، في التحرر من الشكوك و الحقائق المصطنعة، و من التدين الوهمي و العاطفي، و من تعصب أهل الدين الذين قيدوا نجاة الإنسان، إما بنعيم مستحق أو عذاب مقيم في جهنم، مع أن النبي صلى الله عليه و سلم يقول في هذا الموضوع « يعوي أهل الجنة في الجنة كما يعوي أهل النار في النار ».

    ماذا بقي لإنسان مستأصل من حقائقه الموروثة و أوهامه المتلاشية؟ و إلى أين يتجه من أجل الوصول إلى السلام و إلى الطمأنينة؟

    إن التعليم المحمدي «طريق الوسط»، القائم على الأمل و الرحمة، يدعونا إلى النباهة و إلى الجهاد الأكبر، إلى المجاهدة ضد الخوف و الموت، ألم يقل عليه الصلاة و السلام « موتوا قبل أن تموتوا »؟ إنها دعوة إلى الإنبعاث من جديد، كما يبعث العنقاء من الرماد، و لا يتم ذلك إلا باتباع طريق التحقيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    النص منقول من موقع جمعية الشيخ العلاوي للتربية و الثقافة الصوفية. هذان رابطان للنص المترجم إلى اللغة العربية و النص الأصلي، باللغة الفرنسية.



الاثنين، 26 مارس 2012

وقائع الأمة الإسلامية

وقائع الأمة الإسلامية



    ألقى الشيخ خالد بن تونس في نهاية سنة 2003 بمدينة بروكسيل ببلجيكا محاضرة في غاية الأهمية تخص واقع العالم الإسلامي، قدم فيها الأسباب الرئيسة لإنحطاطه، و حلول لمساعدته على النهوض في عالم اليوم، كي يعيش بانسجام وسطه. قال في بداية محاضرته:

    فيما يخص المجتمع المسلم سواءا كان في الغرب أو في الدول العربية الإسلامية، فالوضعية اليوم حرجة. فكره متجمد، و راكد، و ربما أنه في تدهور. للأسف إنها الحقيقة.

    من أجل عالم أفضل، ماذا نقترح، و ماذا نثبت لأنفسنا و للأخرين؟ للآخر؟ كيف نتصور حوارا يرتكز على الغيرية، كيف نبني عالم مع الآخر بدون الدخول في صراع، أو في صراع دائم معه؟ فالسؤال يطرح نفسه.
    في المقام الأول، سأحاول تسطير الخطوط العريضة التي نقوم حولها بتقديم فكرة، طبعا ليست الوحيدة، و لكنها فكرة ضمن أخريات لمساعدة المجتمع، المجتمع الإسلامي أولا، و لكن كذلك المجتمع الإنساني في مجمله، و تصور عالم أكثر عدلا و أخوة، عالم يكون فيه لكل الناس، لكل بني آدم نفس الحظ، و نفس الكرامة، و يكون بإمكانهم أن يشاركوا و يعيشوا نفس الأمل.

    أريد الإبتداء خاصة بمحاولة رؤية لماذا نحن في هذه الوضعية في المجتمع الإسلامي، و ماهي مواطن الخلاف، و مواطن الضعف، و صراع الحضارات، و ماهي القضايا اليوم، التي جعلت الحضارات الإنسانية تتصادم فيما بينها، و لا تجد الوسيلة للحوار و التخاطب، و تحضير عالم أفضل لمجمل المجتمع الإنساني.

    لقراءة المحاضرة بأكملها مع النقاشات: