السبت، 11 ديسمبر 2010

إيجاد روح الحضارة الإسلامية


إيجاد روح الحضارة الإسلامية



     مسايرة في نشر ما تيسر معربا من كتاب الشيخ خالد بن تونس "علاج النفس"، نقدم الفصل التاسع الذي يدعو فيه إلى " إسترجاع روح الحضارة الإسلامية "، و هذا عنوانه. موضوع شيق، يعالج فيه الشيخ خالد بن تونس أوضاع الأمة، و يعطي حلولا للأمة الإسلامية، و يذكر فيه بالمناهج التي سلكها السابقين، و بها تفوقوا. إقرأ النص:


المرأة، مستقبل للإسلام


المرأة، مستقبل للإسلام *


    مسألة المرأة، حسب رأيي، هي واحدة من المسائل التي يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار، على عجل. ليست من إحداث المجتمعات الإسلامية فقط، و لكنها عند كل المجتمعات. إذا كان بالغرب، تنعم المرأة بكل الحريات، فذلك لا ينفي أنها أصبحت موضوع إغراء، يستعمل جسمها كركيزة مجعولة في خدمة التسويق، لكل أنواع السلع. أما الدعارة، خصوصا عند نساء الدول الفقيرة، فهي تستورد و تباع عبر الشبكات المافوية، و تمثل تجارة جد مربحة. بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام، ما زالت تتجرأ حتى مطلع القرن الواحد و العشرين على رجم المرأة. آخرون يمنعونها حتى من سياقة السيارة، و آخرين يتساءلون هل يمكن إعطاءها الحق في الإنتخاب، و إن كان كذلك، هل هي مؤهلة لأن تنتخِب.

    كيف يمكن الإنتساب إلى الرسالة المحمدية، و التصرف بالطريقة التي نعرف ما الذي ستجلبه، بالنظر إلى توطيد كرامة الفرد؟

    من ناحية أخرى، لماذا هذه الضجة، حول موضوع الخمار (الحجاب)، الذي هو ليس إلا عنصرا ثانويا؟ إن الخمار كزي يميز المرأة المسلمة يعود إلى المجتمع الأول للمدينة المنورة. تاريخيا فبسبب إعتداء تعرضت له إمرأة مسلمة، فُرض الحجاب. بعدما أوقِف المعتدي، إعترف بأنه كان يعتقد أنه يواجه إمرأة ذات خلق سيئ، و لم يعرف أنها من الأمة الإسلامية. منذ ذلك الحين، و ليُتعرف عليهن، ترتدي النساء المسلمات زي يميزهن عن غير المسلمات، طبقا لما جاء في الآية 59 من سورة الأحزاب "يا أيها النبي قل لأزواجك و بناتك و نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن. ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين". القرآن الكريم.

    حول موضوع الزي نفسه، لم يرد أي وصف له في القرآن الكريم. و كان إرتداء الحجاب (الخمار) مختلف من بلد إلى آخر. حتى دلالته تتغير من منطقة إلى أخرى، من طبقة إجتماعية إلى أخرى. و أصبح اليوم علامة مميزة للإنتماء إلى الحركة الإسلامية. و يسمى الحجاب.

    يبين تاريخ شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط، أن كل ثقافة طورت لباس نوعي يميزها عن بعضها البعض.

    في التاريخ و الجغرافية الإسلامية، فإن الخمار بشكله، و لونه، و تسميته، و دلالة إرتدائه، يختلف من منطقة إلى أخرى. كان الحايك، و الملحفة، و الملاية، و الصفصاري، و الجلابة بالمغرب العربي، و خاصة في المدن. و بالبادية، كان تضع المرأة خمارا على الكتفين عند خروجها من البيت. في المقابل باليمن، و أفغانستان، و العربية السعودية، فإنه كان يغطي كل جسد المرأة حتى الأعين بتشبيك متقن يغطي الوجه. و يسمى الخمار، و شودار، و تشادور بإيران، غير أن بالصحراء، فإنه العكس، فالرجل من يتحجب باللثام المشهور بتقلموست الطوارق، و بتركيا، إنه ياشمارك، و بيتشي، و تشرشف، و بالباكستان البورداة.

    بالنسبة لبعض النساء الحضريات، و خاصة بضواحي مدينتي الجزائر و البليدة، كان الحجاب عبارة عن دلال، و كان النقاب، برقع من حرير مطروز بدقة يوضع على الأنف، يغطي أسفل الوجه.

    من الخمار الذي سماه القرآن بالجلباب، الذي كان في الأصل علامة مميزة مُقَيِّمة، لم يبقى اليوم إلا الحجاب الذي ينتصر إليه المتشددين، و الذين شيئا فشيئا، يسهلون إنتشاره، و يعملون على إخفاء الأشكال المختلفة لأنواع اللباس، الذي تذكّر بالثقافة النوعية، و أصالة التقاليد لكل بلد.

    في الختام، إن الإسلام يطالب بثياب الحشمة للرجل كما للمرأة.

    وصل الأمر ببعض الأصوليين، مع نكرانهم للحقوق الأساسية لنصف المجتمع الإسلامي، إلى حد منع المرأة من التعليم، و تحصيل المعرفة، اللذين أصر عليهما الإسلام دائما. جاء في حديث للرسول صلى الله عليه و سلم "إطلب العلم و لو في الصين". و في حديث آخر قال "العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة". فقد خص رسول الإسلام بنفسه يوم خاصا –الإثنين- لمناقشة مع النساء مسائل نوعية تهمهن.

    لم يقم رسول الله صلى الله عليه و سلم أبدا بضرب أو معاقبة، أو إهانة، أو قتل إمرأة. محبته للنساء، و بعدها لزوجاته يُضرب بها المثل. ألم يقل "إن الجنة تحت أقدام الأمهات". إذن المرأة؟ "عندما توقف عند قبر أمه، لما كان متوجها من المدينة إلى مكة، بكى و عندما سئل قال "هنا يوجد قبر أمي تذكرت حنوها و عطفها فبكيت"، و عندما زارته حليمة التي ربته في صغره، بعد غياب دام عدة سنوات، ضمها إليه و أفرش لها ردائه حتى تجلس".

    لنعد إلى حياة الرسول صلى الله عليه و سلم الذي كان أكثر الرجال بشاشة، و محبة، و لطفا، و ظرافة مع النساء. قال "حبب إلي من دنياكم ثلاث، الطيب و النساء و جعلت قرة عيني في الصلاة ". تأملوا المقام الذي خص به المرأة، بين المباهج المثارة بواسطة كنه العطر، و السمو الذي توفره حالة التضرع.

    في زمن سابق جدا لليوم، إعترف المجتمع التقليدي الإسلامي بحقوق المرأة و دونها، فكانت تمثل الدعامة التي يقوم عليها المجتمع، و من خلالها استمر الإيصال منذ النشأة الأولى. كما أنها جسدت التوازن العائلي، و مدت يد العون في أوقات الشدة. فبفضل حسها و رشاقتها، ومكرها أحيانا، كانت تحل العديد من  المشاكل و تسوي العديد من النزاعات.

    حقا، لا ينبغي جعل الأمر مثاليا، و لكن المرأة التقليدية التي أصفها، وُجدت حقيقة، و ما تزال. و لكن الإختلال الذي نشاهده اليوم في المجتمع الإسلامي خاصة، و في المجتمعات الأخرى عامة، بخصوص المرأة، ما فتئ يسييل الكثير من الحبر. و إذا كانت الحياة العصرية قد حررت المرأة، فإنها لم تحل المشكل المتعلق بمعناها، و بمكانتها الحقيقية في المجتمع. و هذا نقاش مفتوح يسائلنا جميعا. أ هي مطمح لرغبات الرجل، أم هي أرضية للإستقرار و الخصوبة من أجل طمأنينة النفوس؟

    من جهة أخرى، ففي المجتمع الإسلامي، كما في كل المجتمعات، فإن المرأة سجينة نظام إجتماعي، لكن الرجال هم أيضا كذلك. لقد كنا سجناء عادات محلية متوارثة و مخالفة لما هو منصوص في القرىن الكريم. من المهم إبطالها و الرجوع إلى قراءة متفتحة لهذا الكتاب المنزل، الذي يستطيع - بفضل تطبيقه- تحريرنا.

    بالنسبة للإسلام، فإن المرأة مساوية للرجل على مستوى الخلقة، كما على مستوى الكينونة. فالمرأة قادرة مثل الرجل على بلوغ أسمى المقامات الروحية، يوجد فقط إختلاف في الطبيعة. يقول القرآن الكريم بوضوح "خلقكم من نفس واحدة (عبارة مؤنثة) و خلق منها زوجها (عبارة مذكرة)". القرآن الكريم.

    أثبت العلم اليوم هذا. يكون الجنين أولا ذو طبيعة أنثوية (كروموزوم xx)، و لا يصبح مذكرا إلا بعد ذلك ( كروموزوم xy).

    يعاتب الإسلام على عدة أشياء، خاصة في عدم تساوي نصيب الميراث المخصص للمرأة. لنحلل الأسباب: كانت المرأة في الجزيرة العربية، كما في المغرب المسيحي لذلك العصر، لا ترث. جاء القرآن و بحكمة أعطى نصف الميراث للمرأة، لكي لا يصدم عقول تلك الفترة، و بدون أن يمنعها بعطاء أكثر، يكون بوصية، حتى يحضر العقليات لكي تتطور نحو عدالة أكثر. واحدة من زوجات النبي صلى الله عليه و سلم كانت من أصل يهودي، فبعد موتها أورثت مالها لأخيها الذي كان يهوديا. لا يلغي الإسلام حقوق الإرث للورثة مهما كانت ديانتهم.

    تصف لنا الأحداث عادة، حالة نساء رجمن أو هددن (على سبيل المثال بنيجيريا)، متهمن بالزنى. و على كلِ، فمنذ عصر الرسول صلى الله عليه و سلم حتى القرن التاسع عشر، رجمت أربع نساء شرعيا، و بطلبهن. لإثبات فعل الزنى، يشترط القرآن وجود أربعة شهود، شاهدوا الوطأ.

    و يلام الإسلام أيضا على أنه شرع تعدد الزوجات، ناسين أن في ذلك العهد كان أمرا معهودا عند مختلف الشعوب، و يبقى كذلك اليوم، لأنه مخفي باسم علاقات خارج نطاق الزواج، من عشيق إلى عشيقة. كان لمشاهير و رؤساء دول غير مسلمين عدة زوجات، و لم يتفوه أحد. أما الإسلام، فلم يقم إلا بضبط حقيقة إجتماعية.

    نحن في الإسلام نفضل أن نعيش الأمور دائما في وضح النهار.

    حول مسألة تعدد الزوجات، فرض القرآن عدد محدد. في الشرق قبل الإسلام، و نفس الشيئ بالنسبة للغرب، كان يمكن للرجل أن يتخذ ما يشاء من النساء، مهما سمح له ماله أو وضعه الإجتماعي. و لاهتمامه بالإنصاف، حدد القرآن عدد الزوجات إلى أربع. تقول الآية، التي تخص هذه المسألة بوضوح، بأننا لا يمكننا اتخاذ أربع زوجات، إذا لم نعطي لكل واحدة منهن نفس الحقوق، و نفس الإعتبار، و تقسم الليالي بالتساوي، بدون أن تحس أي واحدة منهن بالغبن. من هو الرجل الذي يستطيع أن يعيش هكذا؟ يقول القرآن "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع. فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة". و يؤكد لاحقا "لن تعدلوا".  القرآن الكريم.

    الإسلامُ هو الطريقُ الوسط الحق، لأنه يأخذ طبيعة الإنسان كما هي. "يعيد المجتمع توازنه بخلاف وسطه البيئي. يتكون الإسلام من (نزعة طبيعية روحانية)، و هذا ما يدفع باتهامات القدرية الموجهة غالبا ضده" (1). فمثلا الطلاق، و خلافا لبعض الديانات، كان دائما مباحا في الإسلام. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، حتى لا يكون ما أصبح عليه لاحقا، تعسف لدى الذكور ضد الإناث.

    يصرح الإسلام أن الزواج هو عقد يربط بين طرفين، و ليس هو إلتزام مقدس على مدى الحياة، و لا عائق مفروض من طرف الوسط العائلي. يمكن أن نكتب في هذا العقد ما نشاء. إذا ما رغبت المرأة أن تبقى هي الزوجة الوحيدة، فلها الحق أن لا تقبل مشاركة أخرى، و على زوجها أن يحترم رغبتها. ليكون الوضع منذ البداية واضحا بين الزوجين. فالأكاذيب و الغموض هي التي تولد في الغالب مناخا رديئا يمكن أن يقود إلى حالات خطيرة.

    أما بالنسبة لزوجات النبي صلى الله عليه و سلم، الأسوات في أعين كل المسلمين. فقد لعبت كل واحدة منهن دورا في المؤسسة الوليدة للإسلام. يؤاخذ على الرسول صلى الله عليه و سلم، أنه تزوج بنت صغيرة بالكاد إحتلمت، عائشة التي كان يحبها، و علّمها مبادئ الإسلام، للعلم أنها عاشت طويلا بعده (بلغ عمرها ثلاث و سبعين سنة). لقد أصبحت أحد مصادر القياس، أخذ منها علماء مسلمين أجلاء، قال عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء". قام رسول الله صلى الله عليه و سلم معها بالتسابق بالجمال، و عندما سبقته هنأها بسرور. و زوجته حفصة، المتعلمة و المثقفة، كانت تحفظ بعناية صحف و ألواح مكتوب عليها القرآن. أصبحت لما أراد المسلمين جمع مختلف فصول القرآن لجعل مصحفا، الحافظة التي توجه إليها النساخ لمراجعة مصادرهم.

    هذه لمحة مختصرة عن الدور الذي قامت به زوجات النبي صلى الله عليه و سلم، و لا ننسى المسلمات الأولات اللواتي عهد إليهن، بمهمات و تكاليف في حضن المجتمع. لنا في أسوتهن ما نكتب بها عدة كتب، على غرار تلك المرأة التي عينها على رأس مؤسسة، و هي السوق الكبير للمدينة المنورة، الذي كان تتوقف عليه الحياة الإقتصادية للمدينة. و أمثلة أخرى، تُظهر بأن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يقصي أبدا النساء من وظائف ثانوية، أو منعهن من الإنفتاح، و لعب دور فعّال في المجتمع. أثناء حجه الأكبر، و في خطبة الوداع، عندما ألقى رسالته الأخيرة، وصى المسلمين بالنساء. و حدّد بالقول إن لنسائكم عليكم حقا و لكم عليهن حق (أي أن لها حقوق مساوية للرجل).

    في الختام، أقول إن الإسلام يوجد بين يدي المرأة المسلمة، لأن المرأة هي التي تطور المجتمع أو تتسبب في إنحطاطه، و إني لأدعوها أن تطالب بالحقوق التي خصها بها الله و رسوله، و التي سلبها إياها المجتمع الذكوري المتخلف. كما أني أشجعها بأن تطلع بنفسها على تاريخ وضع المرأة عبر المؤلفات المخطوطة للإسلام، و أن لا تنتظر، كعادتها،  أن يتطوع الرجل ليلقنه لها.

    لقد ولى زمن إعتبار المرأة ككائن أدنى، في الوقت الذي نطالبها فيه بتحمل أكبر عبئ داخل المجتمع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ    
(1). جان بول شارناي، علم الإجتماع الديني للإسلام، أشات، باريس، 1994.

*. جواب الشيخ خالد بن تونس على سؤال، من حديث صحفي، معنون بـ "فرنسا إلى أين"، صدر بمجلة "Outre-Terre"، شهر يناير 2003، كان نصه: هل يمر مستقبل الإسلام بالمرأة؟

الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

حوار مع الشيخ خالد بن تونس


حوار مع الشيخ خالد بن تونس


« لماذا وصلنا إلى هذه الوضعية؟ لماذا هذا الإنزلاق نحو التشدد، نحو إسلام الذهن الضيق، في حين أن الإسلام دين المفكرين ».

    أدرك القدر الشاب خالد بن تونس في سن الـ 25 سنة، ليخلف أباه كشيخ للزاوية العلاوية التي تحتفل هذه السنة بمئويتها. لنرجع إلى المسيرة الفذة لرجل قاوم دائما الأصولية.

- إننا نعرف الطريقة العلاوية و رسوخها في العصرنة. من أين جاء هذا الإرث؟

    - بالتأكيد من الشيخ العلاوي. جدي و أبي و أنا شخصيا لسنا إلا متابعين للأمر. لنتذكر، في بدايات 1920، كان الشيخ العلاوي قد أصبح رجل إعلام. شيئ فريد في تاريخ الزوايا، أن يستشعر شيخ ضرورة التواصل. أنشأ جريدتان، و عندما قررت الإدارة الإستعمارية منع صاحب المطبعة من طبع "البلاغ" إشترى واحدة رحوية. و هي مازالت موجودة، حتى لا يرتبط بأحد، و تكون له إستقلاليته. حدثني جدتي أنها و هي صغيرة ربطها أبوها(1) بحبل حتى تستطيع السباحة بلا خطر في مسبح أعده على ساحل البحر. نحن في 1920 و لم يكن للشيخ العلاوي أي عقدة إزاء الغرب. منذ البداية كان مقتنع بوجوب التواجد في قلب العصرنة و الحضارة الغربية، و التساؤل و الإدراك أن تحديات المستقبل متعلقة بالتناغم بين الشرق و الغرب. كان يبحث عن توازن بين مادية تراعي الجانب الإنساني و روحانية متحررة من التقاليد التجريبية و الرجعية.

- كيف غمرك هذا الجو؟

    - عشت في هذا الجو وسط علماء، علموني القرآن و الشريعة، و سيدي خليل(2)... كنا نستظهر كتب بأكملها، هذا ما كان يضايقنا قليلا كأطفال، كان يجب حفظها. إلى جانب هذا، كان عندنا حكماء، يطرحون كل شيئ للبحث، و حتى للسخرية. هذا ما كان يثقف حسنا النقدي، تعليم تفتح، حيث لا توجد أي حقيقة مكتسبة. لا وجود لأي مانع (طابو)، و كل شيئ ممتلئ صدقا. 

- هذا ما يفسر خاصية هذه الطريقة. غياب الطابو (الموانع)، و إن مستغانم كانت معروفة بتشددها. بنات و أولاد منذ الحداثة يتعودون على التحادي و العمل في اختلاط.

    - هذا صحيح أن البنات و النساء مقدَّمات في نشاطاتنا، هذا ما يميز مدرسة للحياة. نحن مرسخون كلية في التقليد، و إننا كذلك في العصرنة. هذا مزيج بين تقليد ألفي و عصرنة متقلَد بها. نحن واعين بأننا لو رفضنا أن يعيش شبابنا في وقتهم، سيعيشون مختبئين. لهذا نريدهم أن يتقلدوا أمورهم بكلية في رحابة فكر، و بكل مسؤولية.

- هناك أيضا هذا الغياب الكلي للخمار (الحجاب)...

    - من المهم أن نعيش في المجتمع بدون الإختباء وراء زي مفروض. من الأفضل لإمرأة أن تلبس كما تشاء مع أو بدون خمار. نريد أن نرفع حجابها الداخلي، الذي في النفس، هذا هو الإنفتاح الذي نُدرّسه.

- كيف تفسر نجاح هذا بالزاوية، في حين أن الحجاب مفروض من طرف المجتمع؟

    - لأن بالزاوية نُعلِّم الحرية. نريد أن نرد للإنسان حريته. قال الله تعالى: « لا إكراه في الدين ». لا يفرض الله شيئا على أحد. كيف لإنسان أن يستأثِر بهذا الحق؟ لماذا تجمد مجتمعنا؟ كل الناس تعرف أن في كل مكان، الكل يشرب الخمر، و يتناول المخدرات، و المجتمع يتظاهر بعدم المعرفة، في حين أن الأمراض الإجتماعية حقيقة.

- عند وفاة أبيك كان عمرك 25 سنة، هل كنت محضرا لهذا الإرث الثقيل؟

    - محضرا؟ لا أعرف. غادرت البلد لكي لا أعود إليه أبدا. كونت حياتي في مكان آخر.

- كنت تعمل ماذا؟

    - كنت في فرنسا، كان لدي معرض للملابس الجاهزة. و كان لدي عارضي أزياء، و كنت أنتج في تركيا و أبيع في أفغانستان، و الهند، و باكستان، و المكسيك، و المغرب. تحصلت على تمثيل الماركات الفرنسية، و نويت فتح محلات بالخليج. في 1973، إلتهبت أسعار النفط، كان بإمكاني أن أنتهي «بحماقة» كرجل أعمال واسع الثروة. كنت سأربح أموالا كثيرة وأضيع حياتي.

- كان أمر صعب جدا أن تترك هكذا مشاريع...

    - في البداية كان صعب جدا. في أول الأمر رفضت أن أخلف أبي، و لكن القرار كان قد اتخذ من طرف الحكماء ( كبار الفقراء) بدون علمي، حتى قبل مجيئي من الخارج. ثم بعد ما تمت الجنازة، من المفروض تعيين خليفة بتسليم كبار الفقراء مسابيحهم. في هذه اللحظة إنذهلت و قلت لهم: « أنتم مخطئين في الشخص »، و صرخت بأعلى صوتي، كان شعري طويل، و ألبس سروال دجينز، و معطف جلدي كشباب ذلك الوقت، و قلت لهم إني لا أريد ذلك. كنت مقتنع أن ليس لي ما أفعله معهم في هذا البلد... ثم إني أتواجد بهذا الإرث على عاتقي. لم أعرف من أين أبدأ، و كان هناك هؤلاء الحكماء الذين يحيطون بي ببركتهم و محبتهم. هم من سيساعدني على فهم مهمتي الجديدة. عشت سنة بنار في صدري. أصرخ ليلا من الألم، زوجتي شاهدة على ذلك، و أتقيأ كل ما أتناوله، إستشرت عدة أطباء بدون أن يجد أي أحد علاج. ثم تدريجيا دخلت قدرا جديدا، كان كشكل ميلاد جديد أو تناسخ، ينطفئ كائن و يولد آخر في نفس الجسد. تقبلت هذا الدور رغما عني، لأني لست عالما و لا مثقفا، لست إلا ما علموني، خادم. هذا مكاني أعرفه، و الحمد لله.

- في التاريخ هل توجد سابقة، يخلف فيها مريدا شابا شيخه؟

    - نعم أبي الحاج المهدي. كان شيخا في سن الـ 24، و هو أول شيخ بدون لحية. توفي في سن الـ 47.

- سن مبكرة للموت؟

     - فعلا، بعدما عايش حرب الجزائر، و الإستقلال، ثم تكوين الدولة الجزائرية الجديدة، كان هناك الإزعاج و الإذلال، السجن و النفي إلى جيجل. بعد قدْرِ من المظالم أرادوا «تحطيمه »، و قد تمكنوا. مات في العزلة و الفاقة، بدون أن يتنازل أبدا. حافظ دائما على أمل أن يجد هذا البلد إرثه و كرامته، و يَقدِم على الرجوع إلى نفسه...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). و هو الشيخ العلاوي، في الحقيقة هو خالها، رباها هي و أخوها بعد وفاة والديهما، و كان لهما بمثابة الأب و هو الذي لم ينجب..
(2). و هو  مختصر خليل في الفقه المالكي.


من حوار مع الشيخ خالد بن تونس، أجراه ياسين عالم من جريدة El Watan ، 2009.
ترجمة.

الصلاة و السريرة


 الصلاة و السريرة


    .... ليس من السهل التكلم عن السريرة ( سريرة الإنسان )، إلى حد جعلها "تُتذوق"، كما طرأت على رجال الإسلام. و لفهم أفضل، يجب تفحص أصلها. ألا و هي الصلاة.

    للصلاة مكانة رئيسية. هي القاعدة الثانية للإسلام بعد الشهادة. لم تتغير منذ خمسة عشرة قرنا، منذ نزلت على الرسول صلى الله عليه و سلم. واجبة على كل مسلم و مسلمة، و تلعب دور مهم في حضن الأمة الإسلامية. تُقدس الوقت، و تقام خمس مرات في اليوم، من الفجر إلى العشاء. في كل وقت من هذه الأوقات، يُدعى الإنسان إلى لقاء يجد فيه وجوده مدى آخر. تدعو الأوقات المقضية في الصلاة الإنسان، في كل مرة إلى ضرورية الصلة بالله. و لإقامة الصلاة نتائج متعددة في المجتمع الإسلامي. نستطيع القول كذلك الحسي. تحوي الصلاة حركات حسية: الركوع و السجود. إنها حركة، و نظام، و اتجاه، و هوية للأمة بأجمعها. للمكان دور يلعبه. المسجد مكان الصلاة، له مكانة معتبرة بسبب اللقاءات اليومية للصلاة. إن الوضوء و قراءة القرآن، و كل ما يحيط بالصلاة، يقوم به الإنسان منذ الصبى حتى الموت، ما دام يقيمه و يقويه في الحضرة الإلهية. هناك كذلك مساواة المصلين، الإصطفاف في المسجد. المساواة أمام الله هي وصلة إسلامية إجتماعية أخرى في الإسلام. إن قلب الصلاة هو السريرة التي نتكلم عنها. هي تفكر، و ذكر، و سلام، و تأمل، و رؤية، و فناء في الله.

    "تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا. سيماهم في وجوههم من أثر السجود. ذلك مثلهم في التوراة و الإنجيل كزرع أخرج شطأه فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيض بهم الكفار. وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما". سورة الفتح، الآية 29.

     فالتكلم عن السريرة في الإسلام، يجرنا إلى الكلام عن أهل الذكر، هؤلاء الأخيار، أصحاب العلوم العزيزة، و الحكمة الكونية، و سمو نفس، و رباطة جأش أمام الميولات السلبية للنفس، قد طبعوا طوال التاريخ، طبعوا العالم الإسلامي. 
    رجال الله، هم حماة علمه، و أهل معرفته، و مبلغي إسمه الأعظم.

"الذين يذكرون  الله قياما و قعودا و على جنوهم و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض ». القرآن الكريم. « في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها إسمه يسبح له فيها بالغدو و الأصال". سورة النور، الآية 36.



من «Les Amis de l’Islam»، عدد 11، درانسي 1984.

المعنى الحقيقي للإنسان الباطني


المعنى الحقيقي للإنسان الباطني


    في  يوم من الأيام طرح شخص هذا السؤال على جدي: « من أنت يا شيخ؟ ». فأجاب: « أنا واحد من الأخوة ».

    تطرح علينا اليوم، الأسئلة التي طرحت على كل الأجيال و الحضارات التي سبقتنا على هذه الأرض. في كل زمان تساءل الإنسان عن معنى الحياة: من أنا؟ لماذا أنا موجود؟ إلى أين سأذهب؟ و ماذا بعد الموت؟

    .... يوجه التقليد الصوفي الإنسان بكليته، في مسعى يسمو به، نحو التوحيد المجسَد بالإنسان الكامل... في التصوف، نضع رمزيا كل شيئ في دائرة. فالإنسان على صورة دائرة، كالكواكب في الكون. هذه الدائرة مكونة من قسمين: أحدهما ظاهر، جسدي، و الآخر روحي أو ميتافيزيقي، و يتواجد تناغم الكائن  في توازن الإثنين.

    يتكون القسم الجسدي من عدة مكتسبات آتية من أصولنا البعيدة: المعدنية، و النباتية، و الحيوانية. نحن ننتمي إلى هذه سلسة الخلق. لقد مررنا بداخلنا بهذه العوالم، التي تلعب – للعودة إلى مسألة المعنى- دور مهم جدا في حالنا و تصرفنا ( أنظر الشكل الموالي ). في بعض الأشخاص، تتجلى الحالة المعدنية في صلابة كبيرة، بينما تجعل منهم الحالة النباتية أشخاصا خاضعين للشهوة و الحاجة. يتحدد نمو النبتة بطلب الماء المغذي و الضوء. يمكن للنبات أن ينبت كليا بشكل عرضي، مكيفة بالإحتياجات التي تحركها. حتى الإنسان سيكون مكيفا هو كذلك برغباته، و حواسه، و باللمس، و الكلام، و المعدة، و الجنس، إلخ. يخضع لقوانينه الطبيعية التي وصلته من أصوله البعيدة. أما بالنسبة للحالة الحيوانية، أعتقد أنكم ترونها تتجلى كثيرا، و لا نحتاج إلى وصفها. العدوانية الثابتة، و الإنجاب، و القوة العنيفة، و القدرة العمياء، و الحياء، إلخ. هذه الخاصيات ناتجة عن الأصل الحيواني الموجود بنا، و بها يُكيَف تصرفنا. إذا فهمنا جيدا هذا القسم من الإنسان، إذن سنحاول إتزانه بالقسم الروحي الذي يأتي لتلطيف الحالات السفلية. هو من سيربي الإنسان، و يعطيه معنى حقيقي لمساره الإنساني. في هذا الطور يصف التعليم الصوفي عدة مراحل محتواة في هذا القسم الروحي. الأولى هي للفكر أو العقل. و هي مَن يسبب التساؤل فينا، و تحدث التمييز، و تجعلنا نختار، و نتصرف و نسمي الأشياء... كل هذا تنسيق العقل. أليس الفكر من دفعنا من أعماقنا إلى المجيئ اليوم هنا، للبحث و الإستماع، و تبادل الأفكار ليساعدنا على توضيح هذا البحث عن المعنى؟

    مع ذلك، فإن العقل نفسه لا يكفي، حتى و لو كنا نتمتع بوجوده. أليس هو من سمح بتمييز الإنسان عن الحيوان؟ ( و ماذا يعني الإنسان بدون العقل؟ ) في الحقيقة لا يكفي العقل لوحده، يستلزم أن يُرافق بشعور. و هذا ما يتطابق مع المرحلة الثانية. فهذا الشعور نفسه محتاج إلى اتجاه ليزداد و ينمو، محتاج إلى هداية، و معالم. هنا يتدخل التعليم الروحي الذي رافق الإنسانية منذ وجودها إلى اليوم. بتدخل الوساطة الإلهية، و عبر الأنبياء و الحكماء و الرسل بُلِغ تعليم إيقاظ، يغذي و ينمي ضميرنا الشخصي حتى يَبلغ الشعور الشامل ( الكوني )، المحيط الإلهي، مجال الروح المحض، الحاوي الكل. لمّا يصل الإنسان إلى المرحلة النهائية، يحقق كليته و توازن شخصيته.

    بسيط و سهل جدا تمثيله برسم، و لكن كيف نحققه في حياتنا؟ تكمن كل الصعوبة في التحرر من القسم المعدني، و النباتي، و الحيواني، و التغلب عليه، على هذا النحو. إن لهذا القسم الثقيل دور يلعبه، فهو غير مشؤوم، لكي نحطمه، لأننا سنفقد التوازن. إستدلالا بالضد، فإن بقاء المرء محبوسا في القسم السفلي، يوصل إلى إهمال الشيئ العزيز من أنفسنا، و يحطم المعنى الحقيقي للحياة. القسم المعدني مستقبِل (بكسر الباء)، و هو هنا ليُخصَب و يُحيَى مجددا بالقسم العلوي، الميتافيزيقي للإنسان.

    بهذه الطريقة لاستشعار الإنسان، يعلمنا التصوف أن السلوك يتم مرحلة بمرحلة حتى بلوغ الشعور الأعظم. ككل، في بداية الأمر، يحذرنا من أنه لا يسلك هذا الطريق إلا الأناس المتواضعين. يجب أن يتحلى الإنسان بالتواضع ... ضروري لكل سالك أن يكون صادقا في تصرفاته، و أفكاره، و أفعاله، و كلامه لكي يكتشف نفسه. بدون هذه الحالات الثلاث: التواضع و الأخوة و الصدق لا نستطيع أن نباشر بحثنا الداخلي، و الوصول إلى ما يسميه الصوفية التحقيق (الوصول). تتطابق ثلاث دوائر جديدة مع مختلف حالات الكائن.


    أولا، يوجد الذين يتواجدون على المحيط المطبوعين بالخمول. إن حدث و سقط إنسان أمام أعينهم، يبقون جامدين، و يتظاهرون بعدم رؤية شيئ. يقول أشخاص هذا الصنف دائما: « لست معنيا، لا أستطيع تغيير الأشياء ». هذه عبارة صريحة لعاجز. إنها الكائنات التي لا تتصرف بإرادتها، فهي خاضعة لإرادة آخرين. إنهم في الحالة المعدنية كالحجارة التي لاتتحرك من تلقاء نفسها، و تحتاج إلى من يتناولها لنقلها من مكان إلى آخر. بالمقابل يوجد من يتيقظ و يشعر بأن هذا لا يسير على ما يرام، إما أنا لست بخير أو المجتمع، و يتصرفون، « سأحاول القيام بشيئ ما ». و لكن هذا « شيئ ما » يصوره كل واحد حسب مفهومه، بطريقة فردية، و هذا ما يسبب تشويش فظيع. نريد التصرف و فعل الخير، و لكننا نقوم به بشكل أناني كبير. يضر هذا أكثر مما ينفع، نحن في حالة يسيطر عليها العالم النباتي فينا. آخرون، أكثر تطورا من هذا الصنف الثاني سيقومون بالعكس، بنضال في أحزاب أو حركات مختلفة. غالبا ما تحكم هذه الجماعة من الرجال ، و تسير الأحزاب السياسية أو الدينية. يفرضون أنفسهم على الشعب، زعما أنهم يحملون حقيقة ما.

    إذا كان الصنف الأول لم يتحرك، فالثاني تحرك في تشويش، و الثالث ضمن نظام محدود حسب إدراكهم. يوجد صنف آخر، أقلية. لا يتصرف هؤلاء إلا في الوحدة، تحركهم المحبة الإلهية المحمولة للخليقة كلها. إذن، ماذا يفعلون؟ و كيف يعيشون؟

    يمكننا تقسيم الطبع البشري إلى ثلاثة أصناف: في المقام الأول الأناسي الذين لا يعتمدون إلا على أنفسهم،  في المقام الثاني المؤمنين، بالمعنى الواسع للعبارة ( يُحمَل إيمانهم على ديانة، أو مادية، أوحتى الإلحاد ). يتصرف هؤلاء بالإعتماد جزئيا على أنفسهم، و جزئيا على ما يجعل موضوع إيمانهم. و أخيرا الصنف الثالث، و هم الحكماء و الأولياء، الذين لا يعتمدون في أي حال إلا على الله. في كل أفعالهم لا يطلبون العون إلا منه، و عندما نقول الله (الإله)، فلا يعني ذلك لهم تجرد، أو مفهوم فلسفي، أو ميتافيزيقي، نقصد هنا، أنهم يعيشونه في حضرة دائمة، و يستشعرونه عبر الخليقة كلها. هي حالة شعور مرننة مع الخليقة كلها. قبل نقل حجارة، أو غرس شجرة، أو قطف ثمرة، أو رؤية شروق الشمس، أو سماع غناء عصفور، أو شرب هذا الماء الصافي، أو تقديم مساعدة، لا يرون إلا هو، و لا يفعلون ذلك إلا من أجله. مهما كان الشخص أو المخلوق الذي أمامهم. لا يكون تصرفهم إلا في سبيل الله، و المحبة الإلهية. لا يشترطون إلا هذا. لا يريدون جاه و لا سلطان، فقط رضوان الله على أعمالهم، و كلامهم، و أفكارهم التي عبروا عنها. يقول الصوفية أن هذا المقام، لا يُبلغ إلا بتصفية تامة... مُنحت لنا الحواس، و لكنها بشكل ما ضامرة، من الضروري تربيتها لإيقاظها لتحسس أوسع، و أشمل، و تربية السمع و الكلام، و اللمس، إلخ، حتى لا تبقى حبيسة نفسنا و طبيعتها المادية، أو النباتية، أو الحيوانية. كما وصفها الصوفي عزالدين الإربيلي، صاحب روضة الجليس و نزهة الأنيس:

أ تكمل الفاني و تترك باقيا     مهلا و أنت بأمره لم تحفل
فالجسم للنفس النفيسة آلة     ما لم تحصله بها لم يحصل
يفنى و تبقى دائما في غبطة     أو شقاوة و ندامة لا تنجلي
أعطيت جسمك خادما فخدمته     و نسيت عهدك في الزمان الأول
أن تملك المفضول رق الأفضل     ملكت رقك مَعْ كمالك ناقصا

    إن المقصود هو التحرر، و تخفيف النزعة الثقيلة و المهيمنة للنفس. هي مسألة سمو: تحويل ما تحصلنا عليه، و ما نحن عليه لرفعه إلى مستوى الشمولية الذي يرمز إليه مركز الدائرة، أين تلتقي كل أشعة الدائرة و تتوازن، مهما كان إتجاهها، و حتى المتعارضة منها.

    أن تكون  لدينا صحة جيدة، و صافية بالمعنى الحقيقي للعبارة، هو أن لا نؤذي الآخر، و لا نجرحه، لا نعتدي على الطبيعة، و المحاولة قدر الإمكان، أن نعيش في هذه الحضرة، أين يكون أي فعل، و أي كلمة، وأي تصرف أقوم به مرافَق بالحضرة الإلهية. من هنا سيكبر شعوري شيئا فشيئا، و ينفتح فيما وراء الأفكار المتحصل عليها، وراء الأشكال، و الإعتقادات، و الفلسفات، لأن الكل يلتقي فيها. لا أحكم، أتروى. لا أتهم، أفكر. إبتداءا من هنا، سيولد لدينا تحديد، إرادة محرَكة بطاقة المحبة، تدفعنا من مرحلة إلى مرحلة، إلى تحقيق الإنسان الكامل.

    من ناحية أخرى، كل ما يهم الشخص يهم كذلك المجتمع. لهذا آخُذ صورة الدائرة.

    تتطابق الأولى، أي الدائرة المركزية مع « النظام الفلسفي ». هذا مركز ديناميكي، سيحرك النخبة ( الحكام و أصحاب القرار )، و يجعلها تميل نحو الوحدة، و يساعدها لتتناغم مع مختلف الشرائح التي تمثل المجتمع الإنساني. سيدفع هذا القلب ( المرموز بالدائرة المركزية ) في كل الجسم الإجتماعي قيم كونية منفتحة للحضارة. و إذا ضيعت هذا المركز، ومنه سبب وجودها، ستتحول إلى نظام سياسي، يعمل بقوانين مستأثرة بالمصالح الحزبية. إنها الدائرة الثانية المتطابقة مع النظام السياسي.


    يسبب هذا الإنقطاع مع مبدأ التوحيد التفرقة، و ستتمثل مثلا في معارضة الأحزاب السياسية. تجزئ هذه التفرقة المجتمع و تضعفه. عاجلا أو آجلا ستنهار الدائرة السياسية بدورها، و تترك مكانها لمبدأ أكثر سطحية، هو النظام الإقتصادي، المُصوَّر بالدائرة الثالثة. إذا، كان في البداية يتغذى النظام من شرعية ميتافيزيقية، مرتكزة على الوحدة، و منها توفرت المساواة، و القِسمة، و العدالة الشاملة، في الفترة الثانية، يصبح سلطة في يد جماعة على حساب الآخرين، و في الفترة الثالثة تحت سيطرة سلطة المال، يصبح على شكل سلاح في يد أثرياء يفضلون وجهة نظرهم على بقية المجتمع. إنه زمن الإنحطاط. بابتعادها التدريجي عن مبدأ التوحيد، ستنحل هذه الحضارة، و تنتهي بالإختفاء في ركود، كانت هي السبب فيه. تعتقدون أننا بصدد إنتهاج السياسة، و من المفروض أننا نتكلم عن الروحانية. هذا مقصود.

    هذا التعليم كوني، و تفرض علينا كونيته، التكلم في الوضع البشري بكليته. لا نستطيع أن نفصل في إطار الوحدة الظاهر عن الباطن. إذا كانت هناك أمراض في المجتمع، لنحددها و نبحث عن الحلول حتى نقدم مشاركتنا لسعادة و تناغم الإنسانية.

    في الواقع، كل إنحطاط يسبب نهضة، لا ننسى ذلك. ما دام اليوم أناس أكثر فأكثر يبحثون عن الحقيقة، هذه بشارة أمل جديد. 

    هل نستطيع النفي أننا في غمرة الإنحلال؟ واضح أن الذهنية المادية تسيطر على كل الإنسانية. أصبح الإقتصاد مقياس كل شيئ، لا يعتبر الإنسان إلا بثرائه النقدي. أليس هذا علة الأزمة العميقة التي نتواجد فيها؟
    يجبر كل هذا، الإنسان مهما كان، على التفكير في مستقبل الإنسانية. هل سنستمر في هذا الطريق بإنتاج نمو بدون نهاية، يدمر البيئة و الطبيعة، و كذلك الإنسان في أعز ما يملك؟ يجبر الخوف، و رفض هذه الوضعية على البعض الإنغلاق في مُثل عقيمة و خطيرة، لا تزيد إلا في الفتنة المكتنفة. و هكذا شيئا فشيئا يغادر السلم قلوبنا، و بيوتنا، و حياتنا، و بلداننا. هذه الحرب التي لا نسميها موجودة في كل مكان، هي هنا، و في أماكن أخرى، مختلفة فقط في الظاهر. 

    يولد هذا الضيق المتواصل فينا تمرد، و هذا التمرد يبعدنا أكثر فأكثر عن الوحدة ( التوحيد )، عامل التوازن و التناغم. فهي تدعونا إلى السلم و الحكمة للوصول إلى التحسس بأن ما في الآخر هو جزء من أنفسنا.


من "La quete du sens"، مجلة "Question de" رقم 119، ألبان ميشال، 2000.