الأحد، 17 يناير 2021

من عالم الفُرقة إلى عالم الوحدة 2

 

من عالم الفُرقة إلى عالم الوحدة (2)

 

    في سياق عالمنا الحالي، تتسارع وتيرة الأزمات وتتفاقم الخلافات، وتتسع عصبية رفض الغير في تشابك، لا يرحم بقدر أنه مرتبك. كيف يمكن تجديد الحوار وتجاوز الانقسامات والخلافات؟ كيف ننتقل من عالم الفُرقة إلى عالم الوحدة؟ كيف نصالح بين الأسرة البشرية؟

    في حوار شيق، اجتمع فيه الشيخ خالد بن تونس بالناشطَين النشيطين السيدين سيباستيان نيكولبيت، أستاذ الأدب واللغة العربية بالجامعة الحرة لبروكسل، وناشط جمعوي في المنظمة غير الحكومية الدولية AISA، وعمر بلعاري أستاذ اللغتين العربية والفرنسية.

    في نهاية السنة أجريا مع الشيخ خالد بن تونس حوارا منفتحا، أجاب عن أسئلتهما بصراحة، وقد نقلا عنه بعض التفسيرات والتوضيحات والتجليات، نستطلعها معهم. قسما نص حوارهما إلى فقرات، ولنتابع فيما يلي باقي الفقرات.

الشيخ خالد بن تونس وبجانبه الأستاذ عمر بلعاري

 

في حالة الإسلام

هل هي مشاركة في الوحدة أو انعزال

 

عمر: لو سمحتم، نريد أن نتطرق إلى الحالة الخاصة للإسلام، ما دمنا نتكلم عن الروحانية والتصوف. إذن، كيف نحقق الوحدة مادام أنه توجد في القرآن الكريم عبارات.. على سبيل المثال، العبارات التي نعطيها لترجمات المؤمن والكافر؟ حتى الإنسانية منقسمة بوضوح إلى إثنين في اصطلاح المفردات، على كل حال في مفردات القرآن، وتعطي انطباع مصطلحات تفرقة، وحتى في الآخرة، سنكون منقسمين بين جنة ونار. لماذا تريد توحيد عائلة إنسانية، مادام أنها أصلا مقسمة في القرآن الكريم، هنا في الدنيا، وسيكونون كذلك في الآخرة. هل في الأمر تناقض؟

الشيخ خالد بن تونس: على كل حال، فأنا لا أرى تناقض، أرى دعوة. أرى بالعكس دعوة. تكلمتُ عن مختلف أسماء الله الحسنى. يأخذ بنا الله سبحانه وتعالى كمرآة إلى رؤية اختلافاتنا، وعندما نرى اختلافاتنا نرى تفريق، ولكن نرى أيضا تفرد، والتفرد ثراء. عندما نقرأ المؤمن والكافر، فماذا تعني عبارة الكافر؟  ينبغي الذهاب إلى المنبع، إلى الأصل. ماذا تعني كلمة كافر؟ وكفر تعني دسّ وأخفى، وعندما يزرع الفلاح بذرة الشعير أو القمح، فهو مضطر إلى حرث التربة، ويضع البذرة ويغطيها، إنه الذي يغطي على الحقيقة ويخفيها. إنه مجاز، ليس بالمعنى الصحيح. بطبيعة الحال، إن المزارع بهذه الكيفية ينبغي عليه أن يزرع بذرته كي تنتج. ولكن عند الإنسان، بمجرد أنه يخفي الحقيقة أو ينوي إخفائها، فذلك كفر حيال الله سبحانه وتعالى، فأنت تخفي، وذلك يعني الجميع، وليس فئة، فذلك يعني المسلم ويعني المسيحي واليهودي والبوذي، ويعني الغير المؤمن. شخص يخفي الحقيقة هو كافر. لأنه غير مخلص حيال الحقيقة، ويقوم بخيانة بشكل ما، وبذلك تجلت الفكرة، وهي أنه لا يريد أن يرى.

    من لم يعش في حياته، أقصد هذا الإمتحان أو هذا الفعل، أدار ظهره، لكي لا يرى، وأراد أن يخفي شيء ما يزعج، يزعج مصالحه. كنا كفارا في العديد من المرات في حياتنا. وتدخل سيباستيان قائلا: يتخفي عن نفسه. وأعقب الشيخ، يتخفى عن نفسه، وقد تخفى عن الغير. يجب إرجاع مفهوم الكافر إلى أصله. إن الذي يعبد إله غير الحق، هو في الخطأ. كان كثيرا ما يذكر سيدنا عمر ابن الخطاب حادثة كانت تضحكه، حيث قال: كنت في الجاهلية أعبد صنماً من العجوة، فإذا دار العام أكلت هذا الصنم. كان يأكل الإله الذي كان يعبده. عندما نفكر في الكفر، فكلنا نمر به..

عمر: هل النار مخصصة.. وهل هي لعنة، فهذا يخيف جدا.

الشيخ خالد بن تونس: إنها القراءة، ومن أجل ذلك، يجيء دور الروحانية، وتساعدنا وتفتح بعض الشيء بصيرتنا. قال تعالى "كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين". إنها العين الباطنية، عين اليقين.

    ومن أجل ذلك، أقول أن الذي يتبع طريق الروحانية، ويتبنى القيم في نفسه، ويجني القيم في نفسه، سيعمل في المجتمع دائما، ونصب عينيه فكرة الخدمة، وإن الذي يخدم الإنسانية فإنه يخدم الألوهية. تقول الآية "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون". الآية 62 من سورة البقرة.

عمر: إذن، فلا داعي للخوف.

الشيخ خالد بن تونس: ينبغي أن نخاف، ولكنه خوف ترهيبي، إذ يوجد شيء يتجاوزنا ومن لا يخاف من الموت. بطبيعة الحال، يوجد خوف، وهذا أمر يشكل جزء من توازننا. إن الخوف أيضا يحفظنا. يوجد من يخاف، فلا يعود يسبب أضرارا، يخاف من الشرطة، يخاف من القاضي، يخاف من أي شيء، يخاف من العار، ويوجد الذين يخافون من الله سبحانه وتعالى.

عمر: ولكن ذلك، قد يسبب شعورا بالذنب أو إدانة، الذي ربما..

الشيخ خالد بن تونس: إن الإدانة، يوجد أناس يوظفونها لاستغلال الناس. وهذا شيء مختلف تماما. يحافَظ على الإدانة بقدر، لأنها مسألة سلطة، دعوتها، أنا أعرف أنا أعلم وأنتم عليكم بالطاعة.

عمر: إذا فهمتُ، فإن المؤمن لا يدان.

الشيخ خالد بن تونس: المؤمن يدان ويشعر بالذنب، ونفسنا أيضا تدان، ولا تستطيع أن تمنع أحدا من الندم على ما فعل. وعن أي إدانة نتكلم؟ لأن معك، في أوقات ما تقول، لم يكن عليّ فعل هذا، ربما أغضبتُ أحدا، وبعدها قد تندم، وربما تجاهلتُه، وبعدها تقول، كان عليّ أن أحييه. لسنا أناس كاملين، وفي نظري، إن الذي يعتقد نفسه أنه كاملا، لم يفهم شيئا، ولم يفهم أننا لسنا سوى ضمن هذه التربية الدائمة للرجوع إلى الإنساني، وتحقيق الإنسان الكامل. وما هو الإنسان الكامل؟ إنه الذي حقق مراتب الكمال، وهو الهدف المنشود. نحن بشر هينين، ونحن رجال، نعم، ونساءا. نحن حيوانات ذكية. نعم، هذا مفهوم. ولكن الإنساني صفة، وأهل الروحانية دفعوا بهذه الصفة حتى بلوغ الإنسان الكامل، وهو الذي يجد في نفسه جميع القيم، التي تجسد القيم الشاملة. إذن، يوجد سلوك. وإنه خيار حياة.

سيباستيان: سيدي، إني أفكر في آية، يمكن أن تجمع في نهاية الأمر، الكثير من الأشياء قيلت معنا، وإذا كانت ذاكرتي قوية، فإنها سورة هود، الأية 118، التي تقول "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين"، "إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين". الآية 119 من سورة هود. إن الذي أريد قوله، أن الكثير من الناس، للإقتصار فقط على الناس، يملكون الحقيقة، ويبحثون عنها، ولكن عدم كمالهم، الذي أشرتَ إليه، هو الذي يجعل للجميع حظه من الحقيقة.

    ماهي هذه الأهمية للرحمة؟ وهذه الرحمة في آية أخرى ذكرت في قوله تعالى "ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته". الآية 8 من سورة الشورى. يبدو أن هذه الرحمة ملجأ للبعض. وإن هذه الرحمة، وأنا أعني ما أقول، هذه الرحمة التي نجدها عند آخرين في السعي نحو الحقيقة، ما هو دورها؟ وماهي في نهاية الأمر، لأن مصطلح الكلمة يبدو قديما في اللغة الفرنسية. كيف نترجم ذلك في ظل الأزمة الحالية، وفي ظل الجهود المبذولة، منذ أن حاولت الشعوب الصمود أمام المحنة، وحتى الهيئات العليا؟ كيف نجني هذه الرحمة، بالتأكيد، تكون قيّمة بدون تكليف؟

الشيخ خالد بن تونس: هذا هو الشيء الهائل. كيف يمكن لحضارة أن تفقد مفاهيم لها من الأهمية بمكان، وهذا يحدد مستوى ضميرنا. إنها الرأفة فيما بيننا، وإنها الصلات المنسوجة فيما بين الكائنات، ومن خلال قناة الرأفة هذه، قناة الرحمة هذه، فالكلمة عمليا كما قلتَ غير مفهومة، وحتى أنه قد ولى عليها الزمن، وحتى رجال الدين لا يفهمونها، وعلى أي حال، فذلك رائع. وإنه يرفع درجة مستوى ضميرنا نسبة إلى إدارة الصلات التي تربطنا.

   تكلمتَ عن جهنم، وقلتَ أنها عقاب. من قال أن جهنم هي مثلما.. لو ذهبت إلى البوذية، وزرت بودو (بودو)، وتزور بعض المعابد القديمة البوذية ترى جهنم، ترى حقا منقوش على طول عشرات الأمتار، وحتى مئات الأمتار، ترى آلات التنكيل وأدوات، نرى أناس يوضعون في قدور تغلي، وتقطع أجسادهم إربا إربا. وهذا خيالك. أعني أن جميع الرسائل الدينية، في زمن ما، من تاريخهم، حذروا من عذاب، ووعدوا بجزاء، لردع الإنسان عن فعل الشر، وتشجيعه على فعل الخير. هل نجح ذلك؟ ليس دائما. فالحروب لم تتوقف، والفظائع لم تتوقف، والسرقات لم تتوقف، ولا حتى الإبادات. إنها الإنسانية.. ولكن توجد رؤية تقول لنا، إن المهم من كل هذا، هو أنكم ستحاسبون على أعمالكم، ولا يمكنكم فعل أي شيء، وتقولون من بعدي ليغمرها الطوفان. هذا الفعل لا وجود له. في البوذية يوجد استنساخ الأرواح، ستصبحون، لا أريد الخوض في هذا، إنه نظام كامل، ستستنسخ أرواحنا في شيء أقل شأنا، أي أننا لا نتقدم، ولا نتحرر. وفي الديانات السماوية إنها جهنم، ونمرّ بمُطهر، لأننا لا نستطيع أن نبلغ الآخرة بهذا الضمير، وأقول أيضا، وهو متلطخ بالشر الذي اقترفه في حق الغير.

سيباستيان: يرى الشيخ العلاوي في جهنم رحمة.

الشيخ خالد بن تونس: يرى فيها شكل من الرحمة، لأنها تطهير، ونمرّ بمحل تطهير. وعلى الخصوص للقول، حذاري، إذا فعلتَ شيء ستحاسب عليه، وحتى إن انفلتت هنا من عدالة الناس، توجد عدالة في مكان آخر، حتى يوضع الإنسان أمام ضميره. إذا فعلت شرا، ستدفع ثمنه، عاجلا أم آجلا.

 

رسالة إلى الورثة

 

سيباستيان: أنت حاليا مرشد روحي منذ سنة 1975، وقريبا تكون قد بلغت فيه 50 سنة، وبالتالي هي تجربة طويلة. وبالتفكير مع عمر، أقول، لقد صاحبت في طريق روحية أربعة أجيال على الأقل، أشخاص ربما هم في عمر أجدادك، بالإضافة إلى أشخاص في عمر أحفادك، وربما أصغر سنا. إذا كان لديك حاليا قبل اختتام هذا الحوار نصيحة تقدمها إلى الجيل الشاب الصاعد، وإذا كان لديك توصيات لجميع أولئك الذين يستمعون إلينا، والذين يقرأون لنا، والذين يأتون من بعدنا، فماذا تقول لهم؟

الشيخ خالد بن تونس: نعم. إنها مسؤولية، ولكن يوجد عندنا تقليد يقول "غرسوا فأكلنا"، ففي هذه العلاقة ننظر إلى جيلنا، وهل ما أنا عليه، وما أقوم به، سينتهي برحيلي، أو ما أقوم به، وما أنا عليه، يستمر من خلال الأجيال؟ هذا سؤال مطروح، وأفكر في الجميع، وعلى كل فرد أن يجد له حلا. أما عن نفسي، فسعادتي تكمن في نقله إلى الأجيال القادمة، حتى يبنون عالمهم، الواحد مع الآخر، وليس الواحد ضد الآخر. إنه متطلب للغاية. سيكون أكثر تطلبا بالنسبة لهم، لأن من أجل بناء العالم ومستقبلهم مع الآخر، ينبغي أن ينفتحوا عليه. ينبغي أن يغادروا تحفظهم، ويتركوا دائرتهم المغلقة، وينبغي أن يتعولموا. إنها الإمكانية الوحيدة المطروحة، حتى يصبحوا معا شركاء وورثة جميع التقاليد ومجرى التاريخ وما أنتجه الإنسان، يصبحون ورثة تراث عالمي. في رأيي، إنها الإمكانية الوحيدة المتاحة لهم، ليتمكنوا من مواجهة تحديات المستقبل، وإذا بقوا منغلقين في طوق قومية وطائفية وإيديولوجية، سوف تحدث أسوأ الحالات. وإن الإختيار أصبح قريب جدا، فإما الإقتتال أو الحوار. لا يوجد بديل آخر. فإما الإقتتال، بدعوة أفكاري مناهضة لأفكار الغير، وإما الحوار، والحوار يكون دائما مثريا حيال بعضنا البعض. عند الإقتتال تستعمل القوة، والوسائل التي ستصبح أكثر فأكثر فظاعة، وتسمح التكنولوجيات اليوم بتدمير مدن. إننا نعايش ونرى من حولنا الضرر الذي تحدثه، من استعباد وتسخير. حسنا، فهم لن ينجوا. ستضيع أنفسهم، وفي الحوار يخصّبون ويعيشون، سواء كنتُ مخطئا أو مصيبا، فإني أتبادل، وإن هذا يتطلب شجاعة، ويتطلب تربية بثقافة السلام. يجب الإستثمار. كيف يعقل أن اليوم لا تستثمر الإنسانية في تربية السلام، ولا الحكومات، وكيف أن المقررات المدرسية لا تحتوي لا على منهجية ولا برنامج حول السلام، رغم أنه أساسي على مستويات عدة.

    تكلمتَ عن الروحانية. لا تقوم الروحانية إلا على قاعدة هي السلام. إذا لم يحلل السلام فروحانيتنا سراب وملهاة. والسلام أيضا ضروري في الاقتصاد، وضروري في البيئة. كيف نبني مدن المستقبل، حيث يسكنها الإنسان، ويتفشى فيها السلام مع بيئته الطبيعية، ويكون إقتصادهم تضامني ومفيد للجميع؟ كيف نتخيل مدنا تغيب فيها الطبيعة، ولا تغرد فيها العصافير، ولا نسمع صرير الحشرات، ولا نقيق الضفادع، ولا نغمة العندليب. أمر لا يصدق. سيكون العيش أجدب، وإنها الخرسانة وجفاف، وتقسى القلوب وكذا النفوس. هناك، حيثما نعيش ونسكن، سيوضع الناس في أقفاص، كأقفاص الدجاج، وهم بالفعل كذلك، وقد بدأت العملية، وإنها الخرسانة. أمر لا يصدق. فالمسألة اليوم، تختص بالإستثمار في السلام، حيث يوجد أكاديميات لكل شيء، ولا وجود لأكاديمية للسلام. توجد أكاديمية الحروب وأكاديمية كرة القدم، وأكاديمية هذا وذاك، وحتى لعبة البلياردو لها أكاديمية. يوجد وزارات لكل شيء، ولا وزارة تعني بالسلام. كيف لا يوجد؟ ولا بلد توجد به وزارة مكرسة للسلام. وإذا وجدت وزارة، فذلك يعني أن وراءها تشكيلة بأكملها ونطاق ثقافي ومجموعة دبلوماسية واستثمار عريض.

    كيف نحافظ على السلام فيما بيننا؟ كيف نجنيه، لأن السلام حقل يقطف في أنفسنا، في الباطن، وكذا في الظاهر، والسلام هو الإزدهار. عرفت أوروبا الإزدهار، لأنها عرفت كيف تجتنب الحرب، بعد حربين جارتا في ظرف زمني قصير، في بداية القرن العشرين، لقد فهمت المسألة، ولكنها تبعث بالسلاح لآخرين للقيام بها. إن ما فيه خير لنا، هو كذلك بالنسبة للغير. لا ينبغي تصدير الحرب إلى أماكن أخرى، ولا ينبغي التحريض عليها، ولا تمويلها. والحرب تشكل اليوم رصيدا حصيلته ببلايين الدولارات، كنت أتذكر رقم الأمم المتحدة(1)، رقم خيالي، انظروا لم أعد أتذكره. بذلك نستطيع أن نغير العالم، ولكن الأمر لا يتم، لأن بالنسبة لنا، السلام لا يؤخذ كقاعدة الحياة، وفي كل الأحوال فإن في التقليد الروحي وفي الإسلام فإن السلام هو الله عز وجل. بدل أن نقول الله عز وجل نقول السلام، وهو إسم من أسماء الله الحسنى. لا نستطيع أن نتقدم، وعلى كل حال، وبالنسبة لأهل الروحانية، لو لم يضف إلى القيم صفة السلام كدليل في هذا المنظور لبناء مستقبل، وعلى الخصوص شبابنا والأجيال الآتية، عليهم أن يتزودوا من هذه الطاقة والإستمداد منها، من طاقة السلام هذه.

    كيف نجد أفكارا؟ كيف نبني؟ يوجد كل شيء يمكن أن نتعلمه من كل هذا. القيام بتفكير عميق، يجب أن يسكن السلام ضميرنا، لا يكون من أجل شخص أو ضد شخص آخر، يكون للجميع.

 

ماذا لو كنت؟

 

عمر: لو كنت سيدي شخصية رومانسية وأدبية، من ستكون؟

الشيخ خالد بن تونس:  جحا (ضحك).

عمر: ولو كنت أغنية؟

الشيخ خالد بن تونس: أغنية.. نعم.. لو كنتُ أغنية، من الصعب الإجابة، لأني أنتمي إلى ثقافات مختلفة، ومن الصعب إيجاد أغنية أكنّ لها مشاعر قلبية. أقول أنها أغنية لا تملك كلمات، أغنية تغنيها أم  لرضيعها، بدون كلمات أو لها معنى، مجرد دندنة لا أكثر، وليست أغنية. أُفضل هذا، وإلا سأتوجه نحو ثقافة أو أخرى.

سيباستيان: لو كنت طبقا؟

الشيخ خالد بن تونس: طبق.. كسكسي بالحليب (ضحك).

عمر: نعلم أنك تحب الورود كثيرا، وإذا كنت واحدة منها، من ستكون؟

الشيخ خالد بن تونس: شقائق النعمان، لأنه يذبل بسرعة، ولكنه لا ينمو إلا في المناطق غير الملوثة. وإنه يذبل بسرعة.

سيباستيان:  ولو كنت حجرا كريما؟

الشيخ خالد بن تونس: حجرا كريما؟

وأضاف سيباستيان: أو حجرا عاديا ببساطة؟

الشيخ خالد بن تونس: حجر التيمم. حصاة صقلت بشكل جيد بالتجربة ومحك الزمن.

عمر: بعض الجرأة. لو كنت حيوان؟

الشيخ خالد بن تونس: أقول شيء لم يحبه الناس. لا أدري. ما هو الحيوان الأكثر كرها؟

عمر: للخنزير والأفعى سمعة سيئة.

سيباستيان: آكل النمل...

الشيخ خالد بن تونس: (بعد تفكير). هيا، لا أعرف. عندي قطط بالبيت، تأتي لتوقظني في الصباح، تأتي وتدق الباب لإيقاظي في الصباح. أبقى مع قططي. لأنها ترافقني، منذ وفاة زوجتي، تأتي فتضايقني حتى أفتح لها الباب، وتستقر بالسرير، وتحدث بعض الإزعاج، خصوصا الصغيرة، فعددها ثلاثة، ولكنها هي حقا، بلا اكتراث..

سيباستيان: إنه حيوان أليف.

الشيخ خالد بن تونس: إنه حيوان أليف.

عمر: لو كنت آلة موسيقية؟

الشيخ خالد بن تونس: إن الأكثر بساطة هو الطبل، وأفضِّل الناي، ولكن أعتقد أني طبل، فالناي يتطلب إتقانا أكبر.

عمر: لو كنت جملة؟

الشيخ خالد بن تونس: لو كنت جملة أقول أخدم.

عمر: ربما هو السؤال الأخير. إذا أردت أن تذهب إلى الصحراء، وتكون وحيدا، فيما عدا سيباستيان، من تختار؟

الشيخ خالد بن تونس: مثل ماذا؟

عمر: غرض أو في الأول إنسان.

الشيخ خالد بن تونس: إنسان..

عمر: إذا كان ذلك يسبب نزاع أو غيرة، ربما، فلا داعي.

الشيخ خالد بن تونس: أود أن أقول مع ذلك امرأة. إذا كنت لوحدي، من الأفضل أن أختار على أي حال امرأة لترافقني.

عمر: شكرا على صراحتكم، وإذا أردت أن تأخذ غرضا واحدا معك، فقد يكون كتابا؟

الشيخ خالد بن تونس: أعتقد أني آخذ كتابا. لا أدري. طالما حلمت بكتاب النحو والصرف في اللغة. كنت دائما أحصل على علامات ضعيفة جدا، وإني أرغب تعلم النحو والصرف.

عمر: شكرا جزيلا على الصراحة والصدق، وخاصة مع وجود العفوية في إجاباتكم. على كل حال، فنحن قضينا وقتا ممتعا بحضرتك...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)   قدم الشيخ خالد بن تونس في لقاء قريب هذا الرقم قائلا "استثمرت 14000 مليار دولار في الحروب والعنف. ليست أرقامي، إنها أرقام الأمم المتحدة".

 

 

 

 

  

نور الإيمان

 

نور الإيمان

للشيخ خالد بن تونس

 

ما هو الايمان؟

    لقد وضعت الديانات التوحيدية، مثل أي ديانات أخرى، الإيمان في صميم رسالتها. وفيما يتعلق بالإسلام، فإن الإيمان هو أحد أركان الدين الثلاثة التي يقوم عليها، التي هي الإسلام والإيمان والإحسان. تُبنى العبادة على الحالة الذهنية التي تقتضي أن تكون الأعمال بالنيات. كما جاء في القرآن الكريم "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ". الآية 177 من سورة البقرة.

 

 


هل يمكن تقوية الإيمان؟ وكيف؟

    إن الإيمان طريق يبلغنا المحبة والرحمة. ويتقوى أو ينقص نظرا لحالنا وسلوكنا، باجتناب الغضب والكراهية والحسد والنميمة والكبرياء. نميل غالبًا إلى الخلط بين الإيمان والعقيدة. يرتبط الإيمان ارتباطًا وثيقًا بالعمل الذي يؤديه الإنسان إزاء أخيه، لوجه الله. وإنه طاقة تحملنا، وتمنحنا القوة واليقين، وتوجه خطانا في الحياة، نحو السلام.

 

في هذا الزمن، هل يتطور الإيمان في العالم؟

    إننا نشهد اليوم بالفعل عودة إلى الأديان والطائفية، كتأكيد للهوية. إن المخاوف والحيرة وفقدان نقاط المرجعية والأمل بمستقبل أفضل تجعل التدين الأجوف يحل محل بِر الإيمان، الذي سِمته "عبادة الله بخدمة الإنسانية". وهذا التدين يعزز عالم الفرقة بدلاً من أن يطور عالم الوحدة. إن الإيمان بتوحيد الألوهية، الله أحد، هو أيضًا الإيمان بأصل مشترك ومصير مشترك. إن الإصلاح بين الأسرة البشرية اليوم من خلال العيش معًا في سلام وتحلي بكرامة وإحلال عدالة وتوزيع الخيرات بين الجميع، سيصبح تحديًا كبيرًا في عصرنا.

هل يمكننا ن نفعل شيئا حيال ذلك؟

    إننا اليوم بحاجة إلى توطيد وتقوية الصلات التي توحدنا. افشوا السلام وأطعموا الطعام حتى يتقبل الله إيماننا وأعمالنا، وتصبح القيم العالمية للإنسانية المحور الرأسي الذي يقوي إيماننا. ثمة حاجة ملحة، حتى تحل في معابدنا وكنيسنا وكنائسنا ومساجدنا تربية بثقافة السلام محل ادعاء الإمتلاك الحصري للحقيقة. الله أكبر من أن ينتمي إلى أمة واحدة.

 

هل كل المعتقدات الإيمانية متساوية؟

    إن محل الإيمان هو الفؤاد والقلب والضمير. إن إدخال المعتقدات الإيمانية في المنافسة هو تفاهة، في رأيي، مادام أن كل إيمان يؤدي بنا إلى الأحد، وبالتالي يرشدنا إلى التوحيد. ولكن بما أن الإيمان يُعاش بشكل فردي، حتى داخل المجتمع نفسه، فإنه يمكن أن يتقوى أو ينقص نظرا لمستوى سلوك كل فرد. نحن بعيدون كل البعد عن الإيمان باعتباره مذهبا فقهيا.

    "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ". الآية 48 من سورة المائدة.

    استجاب الله تعالى بأسمائه الرحمن الرحيم الحي الودود لنداء جميع مخلوقاته، التي انتهى المطاف ببعض الفقهاء بفصلها عن العالم، بدعوة واهية لا يمكن رأبها من التخمينات الفقهية. وهذا يكشف لنا، أن هبة الحياة التي أعطاها لنا هي امتحان، حتى نستبين مَن منا سينافس للإحسان للغير. هو وحده الذي يفصل بين الجميع.

    يصبح إيمان كل أمة وسيلة لتغذية وإيقاظ شعور المقاسمة والفرح هذا، فيما بيننا، ولتعزيز وتحسين يقيننا الباطني، ونحن نحمده سبحانه وتعالى على رحمته وفضله علينا.

 

ما هو مستقبل الايمان؟      

 

    تاريخياً، إن الإيمان، سواء كان دينيًا أم لا، غدى أمل البشر.

     لا يمكننا التحلي بالإيمان إذا ألبس الإيمان بظلم، وبالأحرى الذي يدّعي أنه يتحلى بإيمان ديني. في المحن التي تمر بها البشرية اليوم، وتفشي الصراعات واستوطان الجائحة واتساع رقعة الطائفية والعنصرية، فإن إيماننا إن كان صادقًا، ينبغي أن يكون المحرك الذي يساعدنا على معالجة مسألة الظلم المقترف ضد بعضنا البعض، للإنتقال إلى عالم مسالم، يطال العدل فيه الجميع. إن الزمن كفيل بالإجابة إذا ما كان إيماننا يمكن أن يساعدنا على أن نتصالح مع أنفسنا ومع الطبيعة وكل سلسلة الحي، وبذلك نحفظ الحياة، ونَكًون النور الذي يرشدنا إلى الأمل، فنصبح قادرين على بناء العالم، مع بعضنا البعض، وليس ضد بعضنا البعض.

     "وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا". الآية 63 من سورة الفرقان.

 

     مجلة Reflets في 17 12 2020.

الثلاثاء، 12 يناير 2021

من عالم الفُرقة إلى عالم الوحدة

من عالم الفُرقة إلى عالم الوحدة

 

    في سياق عالمنا الحالي، تتسارع وتيرة الأزمات وتتفاقم الخلافات، وتتسع عصبية رفض الغير في تشابك، لا يرحم بقدر أنه مرتبك. كيف يمكن تجديد الحوار وتجاوز الانقسامات والخلافات؟ كيف ننتقل من عالم الفُرقة إلى عالم الوحدة؟ كيف نصالح بين الأسرة البشرية؟

    في حوار شيق، اجتمع فيه الشيخ خالد بن تونس بالناشطَين النشيطين، وهما السيد سيباستيان نيكولبيت، أستاذ الأدب واللغة العربية بالجامعة الحرة لبروكسل، وناشط جمعوي في المنظمة غير الحكومية الدولية AISA، والسيد عمر بلعاري أستاذ اللغتين العربية والفرنسية.

     


    في نهاية السنة أجريا مع الشيخ خالد بن تونس حوارا منفتحا، أجاب عن أسئلتهما بصراحة، وقد نقلا عنه بعض التفسيرات والتوضيحات والتجليات، نستطلعها معهم. قسما نص حوارهما إلى فقرات، ولنبدأ بالفقرة الأولى، التي تستجلي السعي نحو الوحدة.

 

السعي نحو الوحدة

 

عمر: أيها الأصدقاء والمشاهدين عبر الويب، مساء الخير. مرحبا بكم في هذه السهرة الإستثنائية، سهرة الإنتقال إلى عام 2021، السهرة التي يسعدنا ويشرفنا أن نقضيها مع الشيخ خالد بن تونس. مساء الخير سيدي الشيخ.

الشيخ خالد بن تونس: مساء الخير.

سيباستيان: الشيخ خالد بن تونس، المرشد الروحي للطريقة الصوفية الشاذلية الدرقاوية العلاوية، التي ترتبط سلسلتها تاريخيا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنت أيضا الباعث لليوم الدولي للعيش معا في سلام، الذي رفعته إلى أعلى الهيئات الدولية للأمم المتحدة، من خلال المنظمة غير الحكومية الدولية AISA، التي تتبنى هذا التفكير، وتحاول ترجمة على أرض الواقع، باتخاذ مختلف الشركاء، عموميين وخواص، خير عيش معا في سلام، وأنت أيضا كما تذكر دوما قول جدك "أنا واحد من الأخوة"(1)، هذه الأخوة الإنسانية التي سنتكلم معك عنها اليوم.

عمر: سيدي، من أمريكا إلى الشرق مرورا بأوروبا، ومن الجغرافية السياسية إلى الإقتصاد، يبدو أن العالم يتجه نحو تصعيد وفوضى عارمة، مع الأزمات الإقتصادية والسياسية، التي تتسارع وتيرتها وتتفاقم في تشابك، لا يرحم بقدر أنه مرتبك. في هذا المنظور، فإن الخلافات تتفاقم، والبعض يتهم البعض الآخر، باعتباره سبب مشاكله، وحتى أن البعض يدعي أن المواجهة لا مفر منها، وبالنسبة لبعض، فإنه من الملح اللجوء إلى الحوار، وتجاوز الأحكام المسبقة والتنابز من جميع الأطراف، وتجاوز الإنقسامات، والإنتقال من عالم الفُرقة إلى عالم الوحدة، والعمل على تشكيل سوى عائلة إنسانية واحدة.

     سيدي، هذا الرهان هو لك. وإذا كان علينا القيام به، فمن أين نبدأ؟

الشيخ خالد بن تونس: بعد بسم الله الرحمن الرحيم. عنما أرى العالم، وأنا محظوظ، لأني زرت العديد من الدول، وعرفت العديد من الوجهاء، سواء كانوا دينيين، أو ينتمون إلى ميادين جامعية وفكرية وسياسية، وكذلك أناس بسطاء، الذين يتواجدون، فقط ليقولوا نحن موجودون، وأرغب في مشاركة حياتي مع آخرين، للعيش في سلام، ولكي أضطلع بكل بساطة بحياة كريمة، فأحمي عائلتي وأطعمها، ويكون لي سقف يأويني.

    إن السؤال الذي تطرحه علي، هو سؤال ينبغي أن يستجوب اليوم كل واحد منا في زمن الإمتحانات. إن سنة 2020، هي سنة منذ بدايتها قذفتنا في عالم لم نكن لنتوقعه أو نتخيله، العالم الذي تسميه عالم الفُرقة، الذي تعرض لنا وفرض نفسه علينا، رغم قوتنا المادية والتكنولوجية. أين هو المنفذ، وكيف نخرج من عالم الفرقة، والحجر الصحي؟ مادام أن له إسم، مادام أننا جميعا محجور علينا، فعوائل مفرقة، ودول معزولة وحدود مغلقة وفنادق، وكل الحلم الذي ينهار في لحظة واحدة عند الكثيرين في جميع الميادين. يحدث في ميدان الفنون وكذا الرياضة، وإن الملاعب مغلقة، ومسى حتى المجال الديني، فأماكن العبادة والصلاة أغلقت، وبقاع الحج أغلقت، أو يولج إليها بصعوبة، تعتادها أقلية. إنه تساؤل. إننا نعيش في عالم تحوّل، الذي يفرض علينا أن نتحول نحن بأنفسنا، وأن نفكر بشكل مختلف ونعمل بشكل مختلف، ونعيد النظر في النظام نفسه الذي يدير، أقول، يدير علاقاتنا وشكل كينونتنا، وطريقة إطعامنا واستهلاكنا، وطريقة رؤية الغير، القريب منه والبعيد. جميعنا محمولين على نفس السفينة، السفينة هذه، واحة الحياة هذه، التي هي الأرض، كوكب حي، كوكب يتفاعل مع الإحتباس الحراري والتلوث، ومع تدهور الطبيعة، إنه موجود أمامنا، وأمدّ منذ أزمنة غابرة كل ما يحتاج إليه الإنسان ومخلوقات أخرى. إننا نتواجد في سلسلة حياة، وإنها أمامنا، تتدهور، وقد توجد أشياء لا يمكننا استعادتها، فتوجد حشرات انقرضت، وحتى عصافير وحيوانات انقرضت، والإنسان انغمس في هذا السباق اللامتناهي في الإمتلاك والسيطرة والإدارة، دافعه الوحيد هو المصلحة. المصلحة والإستهلاك، أقول أنهما أصبحا إدمان. عندما نرى اليوم كيف نلبس وكيف نُطعم، فإننا لا نطرح حتى السؤال من أين أتى كل هذا. توجد منتوجات تأتي من آلاف الكيلومترات، وتحدث بعض الرفاه. ولكن للرفاه ثمن. وهذا الثمن أصبح باهظا، لأنه تسبب في تخريب الحي. أعتقد أننا أولى المجتمعات التي تخلف أكثر نفايات عبر تاريخ الإنسانية.

    إن هذه المحنة التي تداهمنا تُساءلنا عن طريقة تصورنا لإنسانية تتصالح مع نفسها، التي تتبنى ضميرا جديدا، وحتى أقول أنها ثورة ضمائر ينبغي وضعها موضع التساؤل؛ وتحثنا على التفكير في المستقبل بشكل مغاير، مستقبل تآزر، مستقبل كل واحد فيه، يستطيع في الآن نفسه أن يقدم أفضل ما لديه، ويأخذ ما هو بحاجة إليه. إنه عالم ينبغي عليه أن يستعيد توازنه ويستعيد تناغمه. ذكرنا للتو قرار الأمم المتحدة حول العيش معا في سلام. تم تبني القرار بالإجماع من طرف 193 دولة التي تمثل الأمم المتحدة اليوم. إذا صادقوا عليه.. وعندما نقرأ النص، فاعلموا أنه نص أعيدت صياغته العديد من المرات، إنه نص حاول كل بلد أن يجد الكلمة أو الجملة أو العبارة أو الفعل المناسب لخلق توازن، حتى يشارك الجميع، وحتى هذه الحقيقة، التي تبقى على كل حال فكرة، تحتاج إلى ترجمة وتجسيد حقيق في تلك الصلة، ذلك العيش معا، الذي هو حقيقي. نحن نعيش حدا، نحن آدميين، نشكل نفس العائلة، شئنا أم أبينانا، إنها عائلة إنسانية، ولكنها لا تتعارف، وتجهل حتى الجوهر الذي يجعل منها إنسانية.

    إنها تذكرة بهذا الأصل المشترك، وبطريقة ما، إعادة اكتشاف فينا، فرديا، السلام، والتمكن من التواصل والعمل والتعاون والمشاركة. يوجد العيش معا في سلام بالتربية، الذي يمكنه أن يحرض الأجيال الآتية، والذي يؤدي بنا إلى إعادة صياغة ثقافة جديدة، وهذه الثقافة، هي الإنتقال من ثقافة أنا الأناني نحو ثقافة نحن، وعندها، عندما نتكلم سنقول أرضنا وبلادنا وبحرنا ومحيطاتنا، وإنه تغيير للهجة، وحتى أنه تغيير للنظرة، وإنها نظرة تدعو إلى النظر إلى العالم ككتلة ووحدة بين الناس، وحتى بين المخلوقات الأخرى، التي تعيش معنا في هذا المحيط. لدينا حقوق الإنسان، ولدينا حقوق الحياة. حقوق الحي. ينبغي أن ندرك بأننا لسنا لوحدنا، وأن هذا الحي ينتقل من مخلوق لآخر، وأن دودة الأرض تمتلك قيمة، كما تمتلكها النحلة، ولا أدري، قرد يتسلق شجرة، يأكل ثمارها ويزرع بذورها، وأيضا الخفاش. إني أقصد التحلي بالإدراك بهذه الوحدة، بهذه الخليقة، التي سمحت لهذا الكوكب بأن يصبح حيا، وكذا الإحتفاظ، مهما كان ضئيلا، بهذا المفهوم للوحدة، بهذا العيش معا في سلام.

سيباستيان: سيدي، بالفعل، بالإستماع إليك، يحضرني آخر تقريرIDDRS ، هذا التجمع للعلميين، وحتى الأمم المتحدة تحاط علما بالتنوع البيئي، فإن آخر التقارير، هو حقا، مثير للقلق. في السنوات الأخيرة، 2010 -2019، وُجد مليون نوع معرض للتهديد، ولكن التقرير الأخير كان واضحا فيما يخص الجائحة والتنوع البيئي. إذن، إن الذي أريد أن أعرفه ربما بعض الشيء منك، مستفدين من حضورك، تحليلا يكون دقيقا بعض الشيء حول هذا التقرير. يشرح هذا التقرير مختلف الجائحات، الأكثر شهرة، سواء كانت كما هو اليوم كوفيد 19 أو إيبولا أو حتى الإيذز. إنها مناطق ظهرت بها، وجائحات وصلت إلينا من العالم الحيواني، وبذلك فنحن ندمر بلا هوادة وسط الحياة، وبالمقابل، برز عدو غير مرئي، لا نعرف عنه سوى القليل، قام بمهاجمتنا مباشرة في وحشيتنا، مادام أنها هي ما نشترك فيه مع العالم الحيواني، وهذا الفيروس يتنقل ما دمنا نقطع أشجار الغابات، وقد أصبنا في نفَسنا. إذا ألقينا نظرة مغايرة، وتنحينا جانبا عن هذه النظرة، التي تفيد أن للعلمي والبيولجي قياس. هل يوجد إشارات أو أشياء يمكنها أن تذكرنا؟

الشيخ خالد بن تونس: بالطبع، بصفتي ممثل إحدى الطرق الروحية للإسلام، وهذه الروحانية تسمى التصوف. طالما نظر الصوفية إلى التنوع نسبة إلى أسماء الله الحسنى، وعددها 99 إسم، وإنها 99 صفة للتجلي الإلهي، الذي يبدأ و ينطلق من الرحمن الرحيم السلام العالم الولي الخالق. وعندما ننتقل إلى النظرة الروحية للأسماء الحسنى نشعر أن الخليقة جمعاء مجسدة من خلال الطاقة المتجلية في المعدني والنباتي والحيواني والإنساني، وأن كل شيء ينتمي إلى مطلق الجسمية، كل جسم مهما كان، حتى الذي لا يرى بالعين المجردة. إن الذرة جسم، والخلية جسم، والفيروس أيضا جسم. تدعونا هذه النظرة لمبدأ التوحيد إلى النظر والعمل دوما ضمن منظور العلاقة الدائمة لجميع الأنواع، مهما كانت، والحفاظ عليها. نقوم باحترامها ونحاول عيش حسن جوار، إن استطعتُ أن أعبر بهذا الشكل، ضمن علاقة احتفاظ، فلأن الإنسان يملك عقلا، وورث عقلا يفكر. كيف يعقل اليوم أنه بلغ بنا الأمر، حتى أن العقل هذى، وأن مع العلميين أصبح الأمر واضحا. كيف يحدث ما دمنا وضعنا العلم فوق كل شيء، وأصبح فعليا كذلك، لنقول أنه الدين الجديد للعالم، والثقافة المشتركة واللغة المشتركة، فإنه يتجاوز الثقافات الفردية للتقاليد والأديان والفلسفات، إنه العلم، فالكل يتكلم عن العلم، والعلميين الذين يكلموننا ويقولون هذه هي حصيلة حقيقة اليوم. ينبغي علينا كأناس ذوي تفكير، إذ لم يذكر ذلك في القرآن ولا الإنجيل، فإن المعرفة والبحث والملاحظة والتجربة هي التي تقود إلى ذلك، ونحن اليوم بخطى مترددة، ولا أقول أننا لا نفعل شيء، نحن ندرك وبخطى مترددة. توجد أعباء ذات المستوى العالي، مثل المصالح المالية والسياسية، وحتى أني أقول أنها المصالح الشخصية، وهذه المصالح تثقل الفاتورة. إذا أخذنا بعض الدول، نعلم أن التلوث الناتج تحدثه بعض الطاقات، والإحتباس الحراري واقع بنا، ولا يمنع ذلك أننا لزلنا نستثمر في شيء يؤذي. نحن نعلم ذلك مادام أنه يزيد في مستوى الإحتباس الحراري، الذي له عواقب على الكثير من الأشياء، منها ذوبان الجبال الجليدية، وارتفاع منسوب المياه، وازدياد الحرائق عبر العالم.

    أصبح العقل يهذي، وبلغنا لحظة فيها، أنه عندما نذكر الروحانية، يجري أنه عندما يهذي العقل تغادر الروحانية.

عمر: بالضبط سيدي الشيخ. إذا أمكنني أن أرجع، وأدرك جيدا أن العقل يحاول أن يتعايش مع الطبيعة على مستوى الدول. أدرك جيدا.. مثلا، بالنظر إلى مشاهدينا الذين يعيشون محنا صعبة وفي الفوضى، ففي هذا، كيف نتحقق روحيا؟ وإني أتخيل أن البعض سيفقد عمله، وهذا سيكون له عواقب وخيمة، وكذا المآسي. كيف في هذا المنظور نتحقق روحيا؟ وأريد أن أضيف، كيف نتصالح مع آخرين ليسوا حتما  مع دينامية التصالح؟ كيف يمكننا ذلك؟ سأقدم لك مثالا شخص يعتدي على طفل، ويعتدي على أبرياء. هل يجب محبته؟ وإذا كان نعم، فكيف؟

الشيخ خالد بن تونس: نعم. يجب التمييز بين الفعل والشخص. فالفعل هو المقيت. ينبغي أن نتوصل في هذا التفكير، في هذه النظرة الروحية. قلت أنها أسماء الله الحسنى. إذن، كيف نتصور اليوم الروحانية؟ ليست الروحانية شيء يطالع عليه في السماء، فهي تتواجد في الواقع اليومي، على مدار الأيام. مُعلم في المدرسة، كلما ازداد في إدراك الوحدة في نفسه، كلما كان تعليمه لتلاميذته جيدا، ويصبح طرفا مرئيا في ناظريه لمبدأ الوحدة، وفلاح يحرث ويزرع حقله، إذا كان به مبدأ الوحدة، فلن يرى المصلحة فقط، سيرى أن جنيه سيغدي، ويسمح لأشخاص آخرين ولمخلوقات أخرى بأن تتغذى وتعيش. ينبغي إيجاد تفكير عميق حول السلوكيات، وحتى أن العمل لن يصبح وظيفة، أي ضرورة، ولكن بالعكس وسيلة للمشاركة في هذه الوحدة، التي هي في نظر شخص روحاني، تمثل جسدا بأطراف، تتصرف بشكل غير لائق. توجد أعضاء وأطراف، تتكون من خلايا، وأنا خلية من هذا الجسد، ماذا يمكنني أن أقدم كفائدة، وإني أعلم أن المصلحة مرتبطة بالمصلحة العامة لهذا الجسد؟ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالمرض، وحتى أنا سأتألم. فمن يملك عملا أو يملك الإمكانيات المالية أو التكنولوجية سيدرك أنه جزء من مبدأ الوحدة، وأنه يتعلق بجسد، وهذا الجسد يسمى الإنسانية، أو أن هذا الجسد يسمى، لو أخذنا بلدا، يسمى بلجيكا أو فرنسا، أو يسمى ألمانيا أو الولايات المتحدة أو الصين، أو يسمى المغرب أو الجزائر. إذن، أنا أنتمي إلى جسد غير حسي، بطبيعة الحال، ولكنها نظرة، وعندها ستسمح لي روحانيتي بالنظر إلى الغير بهذه العين، مع إدانة الفعل. إذا اعتدى شخص على طفل، فتوجد قوانين ينبغي تطبيقها، وحتى هذه القوانين لا ينبغي أن تنبذ الشخص، بل الفعل، ومن هنا يمكن للروحانية أن تحرزنا من أن نقع في الخلط، والإدعاء أن ذلك الشعب أو ذلك البلد سيء، أو ذلك الجنس أوذلك الدين، وتحرزنا من الإدانة بشكل عام. ولكن بالعكس، ينبغي الإحتفاظ بالموضوعية، ونقول هذا الفعل ضار. لماذا؟ لأنه يمس ويؤذي وحدتنا. نعم يوجد أيضا في جسد أمراض وأمور مخزية. ما نفعل إذا مسنا مرض؟ نعالجه، والمجتمع الإنساني تمسه هو أيضا أمراض، فلنعالجها. ليس عندما تصيب الذراع بثرة، نقوم بقطعه، فهذا لا يعقل. ينبغي محاولة علاجه، وإنها التربية. إنها مسألة التربية. كيف ندمج مبدأ الوحدة الأساسي لمفهوم ماهي الإنسانية؟ ماذا تعني بالنسبة لنا الإنسانية؟ هل تتوقف إنسانيتي عند عائلتي وأقاربي؟ أم أنها تتجاوز جميع سكان حيي، الذي أعيش فيه، أو مُواطني بلدي، أو مواطني الأرض؟

   بمأنه تتواجد اليوم الشبكات الإجتماعية والأنترنيت، فإن الناس فعليا في علاقة مع بعضها البعض، عبر العالم بأسره. ينبغي أن يتحلّون بإدراك يرافق هذه التكنولوجية، التي سمحت للإتصالات بأن تخلق صلات. ماهي الإتصالات؟ إنها صلات، وقد سميناها الشبكة العنكبوتية. كيف نحضّر الضمير على مستوى هذه الشبكة؟ وهنا بيت القصيد.

         الأستاذ سيباستيان نيكولبيت برفقة الشيخ خالد بن تونس


الأدوات والأساليب

 

عمر: إن امتلاك نظرة روحية هو ضرورة، لا غنى عنه.

الشيخ خالد بن تونس: أقول أنها ضرورة. لماذا؟ لأنها تردنا إلى الإنساني. هل يستطيع الإنساني أن يعيش هذه الروحانية؟

عمر: هل توجد أدوات روحية، يمكن أن توصي بها، على سبيل المثال للذين يشاهدوننا ويرغبون بصدق. هل توجد أساليب؟

الشيخ خالد بن تونس: في هذا الشأن، أقول أن الأمر خطير. كيف نعطي أدوات؟ فذلك يعني أنني أملك الوصفة. إذا كنت أوصي بأدوات، ستكون أدوات أفضلها على أدوات أخرى. يكون لي تفضيل. هنا فعلا، سألعب لعبة التقسيم لأنا الأناني، الذي يمتلك أدوات. أقول، إن أول شيء، إذا أردنا أن يكون بالنسبة لنا مفيدا، فهو العودة إلى الأساسيات، إلى القيم. إن الأمر الأول هو القيم. القيم العالمية التي نشترك فيها. قيم الرحمة والخير والإخاء. ماهي القيم الأساسية التي نتقاسمها جميعا، سواء كنا مؤمنين أو لا؟

    إذا استعرضنا هذه القيم، وقمتُ بتشخيصها، سأرى إن كانت حية فيّ. وعندها سيكون 50 % من العمل قد أنجز. ولكن هل أستطيع أن أحتفظ بهذه القيم لوحدي؟ لا. ينبغي علي تقاسمها، لأنها لن تُثرى بدون تجربة المقاسمة، كمثل رجل وإمرأة إن أرادا الإنجاب، يجب حدوث وصال، وتجب المشاركة. يشارك الرجل بالشطر لكي يولد ولد. تأتي 50 % من الرجل و50 % من المرأة، فتحدث ولادة، وتستديم الحياة. والطفل المولود يكون للإثنين، وتم تخصيبه من طرف ذاك وتلك. وهذه المشاركة تكون أيضا في المعارف. كيف تريدون أن تزداد المعارف، إذا لم يتم تقاسمها، وفي جميع الميادين، سواء كانت اقتصادية أو فكرية، وحتى في مجال الفن. دائما تقاسمت الإنسانية الحضارات، التي هي لبنات شكلت هذه الإنسانية. الجميع جلب شيء خاص. الفلسفة عند الإغريق مثلا، وظهرت تقنيات كثيرة، كالبوصلة والبارود واختراع الصفر والنسيج، والذي اخترع أول عجلة. تواجد دائما أشخاص اقتسموا مع الغير ما اكتشفوه، الذين يمتلكون المعارف، وهذا من أجل رفاه الجميع.

سيباستيان: هذا ما كتبته في كتابك "الأخوة كإرث"، "أداة، هذا ما أتعلمه باستمرار لكي أكون، أداة، والتسليم. إن التسليم هو أضمن طريق في السلوك الروحي". سيدي، هل نسلّم أو نعمل أو نحاول تغيير الأمور؟

الشيخ خالد بن تونس: عندما قلت هذه الكلمات، كان المقصود ذلك المفهوم للإضطراب الدائم للإنسان في أنه فهِم كل شيء وضبطه، ويتحكم في كل شيء. وهذا يقوض مصلحته. ومن الضروري إذا كان لدينا طريق روحي اصطحاب التوكل، وإرساء السلام التوكلي فينا، وإن الفتن تبقى ماهي عليه، وليس لدينا أي ادعاء بالتحكم فيها أو فهمها أو استغلالها، فقط تذوقها في الوقت المناسب. ذلك مثل شجرة أنبتت زهرة، يمكننا قطف الزهرة، وبذلك بشكل ما، سنمنع الزهرة من إعطاء ثمرة. إذا أوقفنا عملية تحقيق، سنوقف حيوية الحياة هذه، التي تقتضي أن الزهرة تعطي ثمرة، وإذا تركنا الزهرة، وتحلينا بالصبر وانتظرنا، وحدقنا في الزهرة، لا نزيلها ولا نقطفها، سوى أنها أعجبتنا. سنتركها تنضج، وعندها تًنبِت ثمرة، فاكهة تبدأ صغيرة، وتكون غير ناضجة، خضراء اللون، تتطلب وقتا لكي تنضج، وتبلغ شكلها النهائي، وتبلغ تحقيقها الكامل. في هذه اللحظة، سيكون لي في مساري، إما إمكانية بلوغ نضج، بلمسها والشعور بها وتذوقها، وأحصل على ذوق الثمرة، الذي يسمح لي ببلوغ معرفة جديدة ومرحلة جديدة، وإما سأدعها تفسد. لأن الحياة تمنحنا إمكانيات.

    إذا أخذناها بحكمة وصبر ونضح، حسنا، ستعود إلينا بالنفع، وإذا لم نأخذ بها، ستًحفظ لآخرين. هذه الثمرة ستفسد وتتحول إلى بذور، ستغرس، وستكون لآخرين، لجيل جديد. لا ينبغي علينا إيقاف فيض الحياة هذا، هذه الحيوية وهذه الإستمرارية، فلأننا نشكل لحظة في الزمن، ولننتفع، فحياتنا محدودة بين ولادة وممات، بين نقطتين ألف وباء. نحن نعرف تاريخ ميلادنا ولا نعرف تاريخ وفاتنا بعد، ولكننا نعرف أنه آت، عاجلا أو آجلا. في مجتمعنا اليوم نجتنب الكلام عن الموت، لأن الموت تذكرنا بمحدوديتنا، وتدعونا إلى تفكير عميق حول الأمر الأساسي لماهية حياتنا. هل الحياة تكمن فقط في الأكل والنوم وامتلاك السيارات والمنازل والثروات وفتح رصيد بالبنك، واصطحاب امرأة جميلة، أو شراء أجمل السيارات وأغلاها ثمنا؟ إنه سباق. وإن الحياة أيضا شيء ما، يشكل نضجنا،  يؤدي بنا إلى العمق، يؤدي بنا إلى أن نصبح خداما، ولو قليلا. أردّ إلى الحياة هذه الهبة التي أعطيت لي، التي هي الحياة. إنني أعطي شيء من نفسي، وأترك أثرا عن نفسي في الزمن، ولو كان قليلا. أثرا من الكرم والطيبة والعلم، شيء يكون نافعا من بعدي، سيتذكرونني، أو أنا شخصيا سأتذكر نفسي من خلال عمل، يضعني بطريقة ما في الزمن. وإنني بصفتي جسم، وجسم حسي سأختفي. ما الذي سيتبقى مني. على سبيل المثال، من يؤلف كتابا، سيتبقى كتاب له وتبقى كلمات. عندما نقرأ لسقراط، فإننا نقرأ عنه، وعندما نقرأ لابن العربي فإننا نقرأ عنه. عندما نقرأ الكتاب المقدس، فإننا نقرأ قصص الأنبياء، وكذا عندما نقرأ القرآن، سيسمح لنا برؤية الخليقة.. اسمعوا، توجد البقرة، وتوجد سورة تسمى باسمها. توجد النجوم، وتوجد سورة تسمى  القمر، وهذا عجيب. جميع الخليقة حاضرة تتكلم وتتفاعل، وهي في حركة دائمة. ما الذي نحتفظ به من هذه القراءة؟ سنحفظ أنه وجد رجال وسَموا الإنسانية، وهم حاضرين، بقيت أسمائهم، وبقي تاريخهم وأساطيرهم، مهما يكن، يوجد شيء وصل إلينا، من أناس سبقوا، وأناس من الماضي.

    عندما ننظر إلى الإهرامات، نرى أن المصرين فكروا كيف يتركوا من أجل الرفاه شهادة. أهدروا هذا القدر من الوقت، وبنوا صرحا مثل هذا، يقال أنه من أجل ضريح، وهل هو من أجل ذلك؟ لا أعلم. كان ذلك من أجل تخليد ذكراهم في التاريخ وفي أزمنة الناس. لننتفع بوصفنا أداة، تمتلك ذكاءا والأساليب التي تمكّن من الإنتفاع من الزمن الذي يداهمنا، ويكون كاملا غير فارغا، ويتم تذكر أننا ساهمنا في عمل، ويتم تذكر أننا قمنا بالمساعدة للحفاظ على شيء ما، لابتكار، لا أعلم، دواء، أو تشريع قانون يحمل إسمنا، ويكون نافعا للناس. أداة تقوم بالخدمة. لا أعلم، في عمل فني، أو أي عمل في عمومه، ولو كان قليلا. أريد أن أقول أنه حتى ميلاد طفل بالنسبة لإمرأة، وازدياد طفل بالنسبة لزوج هو إنجاز كبير، أنجبوه، ويسهرون على حسن تربية هذا الطفل، ومعاملته الحسنة، ويعملون ما في وسعهم، لكي يكون له ضمير يساعد الغير.

سيباستيان: سيدي، بالإستماع إلى مفهوم التوكل هذا، يمكننا أن نُعبر عنه بالفرنسية بالمثابرة والتحمل، فينبغي علينا أيضا ملاحظة ما زرعناه، أعني في 200 سنة الماضية، فقد تحصلنا على ثمار مرّة، وتحضرني جملة للجنيد رضي الله عنه، الذي قال، إن المثابرة والتحمل والصبر، هو تجرع المرارة من غير تعبس. ومنه بكيفية ملموسة، نجد تمثيل للأشياء، وعندما أفكر في الشعوب التي عانت في هذه الفترة، منذ العصور الحديثة، ولنأخذ مثال الساحل الأفريقي والرق، أناس امتهنت كرامتهم، استؤصلوا، جُردوا، واستطاعوا أن يشربوا كأس المرارة هذا، ويغنون البلوز(2)، هذه الموسيقى الكلاسيكية للقرن العشرين، وهي موسيقى أفريقية أمريكية. هل في السنوات القادمة، علينا نحن أيضا أن نتعلم، على المستوى العالمي، غناء البلوز. ما هو رأيك؟

الشيخ خالد بن تونس: إن غناء البلوز جزء من إنسانيتنا. غناء البلوز وغناء أيضا الأمل، لأن البلوز ترك بصمة في الزمن، وأيضا، إنهم العبيد الذين تغنوا به، معبرين عن الأمل. إنه غناء الأمل. وأعقب سيباستيان، - إنه جمال-، - فقال الشيخ-، إنه جمال، والأمل دائما نُظر إليه أنه جمال. وقال سيباستيان، -وميز العالم كله-. -وقال الشيخ-، بالتأكيد.

عمر: وتجذّر في المعاناة. إذن فالمعاناة ضرورية للجمال.

الشيخ خالد بن تونس: نعم. إن الشيخ الحاج عدة جدي، في وقت ما، كان يريد أن يرحل إلى السنيغال، وكان يقول "أريد أن أذهب إلى السنيغال لأن بشرتي بيضاء ولكن قلبي أسود. أريد أن أعيش هناك". (ضحك). لا أقصد أن قلبه أسود. -فقال سيباستيان: مفهوم جدا-، - فقال الشيخ-، لقد فهمتني.

    إنهم أهل الروحانية، كانوا يرون أنفسهم أنهم أقرب إلى الذين يعانون، وخاصة أنهم كان يميزهم لون بشرتهم. إنها الإنسانية، وهم جزء منها، ونحن منهم وهم منا. من لا يملك جينات لأشخاص سود، مادام أن الإنسانية ظهرت في أفريقيا، وابيضّت. هذا كل شيء. لقد ابيضّت بشرتنا، وعلى كل واحد أن يجري فحوصات، وسيرى أن من ضمن أجداده.. فنحن نحوي الإنسانية والإنسانية محتواة فينا. لا يمكننا أن ننفصل عن الإنسانية، ومن ينفصل عن الإنسانية يتحول إلى وحش، وذلك هو الخطر، لأنه سينكث الميثاق. الميثاق الذي أبرم بينه وبين الله عز وجل، ومما يعنيه، بينه وبين الطبيعة. وإنه اللاوعي. سيؤدي بنا لاوعينا إلى تطلب تحسين النسل، والرغبة في  إنسان جديد.

                                                                         يتبع...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)   الشيخ عدة بن تونس (18981952)، هو شيخ الطريقة العلاوية، أعقب الشيخ العلاوي في حمل رايتها، وجد الشيخ خالد بن تونس.

     (2). البلوز هو نوع موسيقي غنائي يعتمد على آلات معينة؛ ينحدر من أغاني أشغال السود   في الولايات المتحدة، الذين عانوا التمييز العنصري، يتغنّى فيه المغنون بحزنهم وأساهم. كان للبلوز أثر بليغ في الموسيقى الأمريكية الشعبية.