الجمعة، 22 مايو 2020

رمضان لكل يوم موضوعه (4)

رمضان
لكل يوم موضوعه (4)





    كل يوم موضوعه، هي سلسلة من المواضيع، يحرص الشيخ خالد بن تونس أن يلقيها في دقائق معدودات، يوميا في هذا رمضان، ويقدمها لنا ملخصة التركيب، وموجزة التعبير، مليئة بالمعاني، يستعين بها السالك الماضي في سلوك دروب التربية الروحية. فهو يسعى على إتحافنا من دره النفيس، وكلامه الغزير المعاني، القليل المباني، الذي من حقه أن يكتب بماء الذهب على صفحات الذهب، ويمثل عصارة خدمة دامت أكثر من خمسين سنة، وتدوم بحول الله، في مجال التبليغ والدعوة إلى الله، مع ما عايشه من أحداث، ومرّ عليه من أحوال وتقلبات الزمان، وتحدّ إنسانية، يحرص كل الحرص على الأخذ يدها إلى بر الأمان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العبودية


السلام عليكم
    نواجه اليوم أزمات مختلفة، فأزمة نقدية أو مالية، وأزمة طاقوية، فأزمة أيضًا على مستوى الإحتباس الحراري، وأزمة غذائية، وفي نفس الوقت أزمة روحية، أزمة عميقة في جميع الأديان. وعند الحديث عن الإسلام، أقول أن الإسلام اليوم يمر بفترة خاصة للغاية، إن لم نقل صعبة. إن الإسلام التقليدي النابع من السنة والإجماع، دين أهل السنة والجماعة، ودين السنة والآراء المختلفة، الذي سمح للتنوع في الإسلام بالتعبير عن نفسه، وتبادل الأفكار، أصبح اليوم أكثر فأكثر معياريًا، أصبح يوجد زي يحدد الإسلام، ويوجد نظام غذائي، وكذا نمط معين من السلوك يُعرّف المسلم أو المسلمة، ونشعر بشكل متزايد أن المرء أصبح محاصرا في هذا الوضع، مكيفا، وحتى خاضعًا لموجة من الغلو والتقييس، ونهج الإسلام نحو عقيدة الجزمية(1)، وشيئا فشيئا يصبح الإسلام عملية ميكانيكية، نوعًا من الطعام الجاهز، للعيش الجاهز، والملابس الجاهزة، والصلاة الجاهزة بشكل ما، وكتقييد في نهج سلوك، بعيد تمامًا عن القيم الأساسية التي جاء بها الإسلام، هذا السعي الدائم في الله، وطلب رضاء الله، حتى يكون عبده. ما هي العبادة؟ إنها ليست شكلاً من أشكال الصلاة، فالعبادة سلوك باطني، مما يعني أن العبادة هي المحبة، ومحبة إلى ما لا نهاية، علاقة المحبة هذه، التي تربط المخلوقات بالخالق، والتي تربطنا نحن أيضًا بالخليقة التي تحملنا، بالأرض التي تبقينا نعيش عليها، وبالأفراد المتعددي الأفكار والفلسفات والأديان، وتنوع المنتجات، وتنوع الطبيعة، هذا الجمال الذي يُجسِد، والذي هو بالذات مرآة جمال الألوهية. إننا نبتعد أكثر فأكثر بتقييس، بالإسلام المعياري، الذي خلق بشكل متزايد تضييقا على حريات التعبير، وحرية الفرد، الذي أصبح فقط عضوًا مقيدًا بمجتمع فكري، وليس بمجتمع الحياة المشتركة، ورفع راية التفكير والتأمل.

(1). الجزمية أو الدوغماتية أو دوغمائية: هي تيار فكري، يشاهد على الخصوص في الفلسفة والسياسة. وتعتبر حالة من الجمود الفكري، حيث يتعصب فيها الشخص لأفكارهِ الخاصة لدرجة رفضهِ الاطلاع على الأفكار المخالفة، وإن ظهرت لهُ الدلائل التي تثبت لهُ أن أفكارهِ خاطئة، سيحاربها بكل ما أوتي من قوة، ويصارع من أجل إثبات صحة أفكارهِ وآرائهِ، وتعتبر حالة شديدة من التعصب للأفكار والمبادئ والقناعات، لدرجة معاداة كل ما يختلف عنها. وهي تعدّ حالة من التزمّت لفكرة معينة من قبل مجموعة دون قبول النقاش فيها أو الإتيان بأي دليل يناقضها لأجل مناقشته، أو كما هي لدى  الإغريق الجمود الفكري. وهي التشدد في الإعتقاد الديني أو المبدأ  الأيديولوجي، أو موضوع غير مفتوح للنقاش أو للشك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



العهد


السلام عليكم
    تكلمنا سابقا عن الأمة الوسط، كما أشار إليها القرآن الكريم، ولكنها الحقائق التاريخية، لأن هذه الأمة ولدت في موعد، بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، في السنة الأولى للهجرة، عندما دخل في سنة 622، يوم 16 يوليو، المدينة المنورة، ودعا سكان مدينة يثرب، كما كانت تعرف حينها، دعاهم إلى تصور ميثاق سياسي، ميثاق اجتماعي، سمح للجميع بالتعبير عن أنفسهم، ولكلٍ معرفة حقوقه، ولكلٍّ المطالبة بحقوقه، في نفس الوقت الإستجابة للواجب المتعلق بهذا العهد. لذا، فإن نشأة الأمة المحمدية الأولى، وهو الأمر الذي لا يذكر إلا ناذرا، تاريخيا نشأت في التنوع، كان يوجد مسلمين، مهاجرين وأنصارا، الذين هم سكان المدينة المنورة، والذين هاجروا إليها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا بعض العرب الذين لم يكونوا مسلمين بعد، وفي الآن نفسه القبائل اليهودية التي كانت تعيش في المدينة المنورة. وهذا العهد وهذه الصحيفة موجودة حتى يومنا هذا، وهي مصاغة من مواد، تحدد لكل طرف، يشكل هذه الأمة الأولى، هذه الأمة المحمدية، حقوقه وواجباته، وكان الجميع على قدم المساواة، المسلمين وغير المسلمين، وخاصة اليهود، الذين ذكر بالإسم قبائلهم وممثليهم، وكان لهم بالضبط، نفس حقوق ونفس واجبات بقية الأمة، ولاحقا انظمت الأمة المسيحية لنجران إلى هذا العهد. جماعة نجران كانت مسيحية، ويوجد لدينا هذه الرسالة أو هذه الوثيقة التي أعدها النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد نجران المسيحي، التي جمعت بن طرفين، والشيء الاستثنائي البارز، وهو أن في هذه المناسبة أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالقداس المسيحي الأول، وهي المرة الأولى التي شوهد فيها المسجد النبوي، يقام فيه قداس مسيحي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليلة القدر


السلام عليكم
    ليلة القدر، يوجد لها العديد من الترجمات بالفرنسية، تشير إلى هذه الليلة الرمزية، التي فيها نزل القرآن على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأول مرة في غار حراء، بالقرب من مكة المكرمة، على الجبل الذي كان يختلي فيه. تُنتظر هذه الليلة، بين اليومين، السادس والعشرين والسابع والعشرين من شهر رمضان، ويقول البعض أنها تكون في العشر الأواخر من شهر رمضان. إنها ليلة متميزة للمسلمين، وخاصة الذين لهم صلة، أكثر عمقًا وأكثر روحانية وأكثر حميمية، مع هذا التنزيل، إذ سيصلّون بكثرة ويتأملون بكثرة، لأن هذه الليلة بالنسبة لهم، هي الليلة التي تكون فيها السماء أقرب إلى الأرض، ونوعا ما، لحظة مميزة ونافذة مفتوحة على هذه الحقيقة السامية الإلهية. تنزلت كلمة الله إلى مستوى يدريه الإدراك البشري، وإلى مستوى طور العقل البشري. هذه الكلمة التي كانت في الأصل نور، لا صوت ولا حرف، أصبحت تشكل حروف وجمل، وتنزلت للتنوير، من خلال المفاهيم البشرية، الكلمة البشرية.. ستقوم الكلمة الإلهية بتبليغ وريّ وهداية وتخصيب ضمير الكائن. في هذه الليلة، بالنسبة للبعض، نكون أكثر قربا من هذه اللحظة، حيث وقعت هذه التجربة، لأول مرة، مع هذا الرجل المسمى محمد رسول الله. لذا، في هذه الليلة، يمكن لكل واحد منا، إن أراد، الوصول إلى الحقيقة الإلهية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإستعراض


السلام عليكم
    في هذا الشهر بالذات، وهو شهر رمضان، توجد ليلة، تسمى ليلة القدر، تلك التي تحدد مقدارا، وتعطي قدرا، وقيمة في الزمن. قال الله تعالى في سورة القدر، بعد بسم الله الرحمن الرحيم "إنا أنزلناه في ليلة القدر". ماذا تعرف عن ليلة القدر؟ "ليلة القدر خير من ألف شهر". اعطي مقدار لهذه الليلة، لهذا الزمن، الذي لا يحسب بالساعات، بل بالسنوات، مادام أن ألف شهر يساوي ثلاثة وثمانين سنة، أي مدة حياة طبيعية، يمكن أن يقال، أنها حياة إنسان اليوم. ماذا تعني هذه الرمزية؟ تدعونا هذه الرمزية إلى أمور أخرى، وهي أن في هذه الليلة "تتنزل الملائكة والروح بإذن ربهم"، وهي أيضا ليلة "سلام هي حتى مطلع الفجر". في الواقع، ألا يتحدث هذا المفهوم عن حياة الإنسان؟ وثلاثة وثمانون سنة تتلخص في ليلة واحدة. أليست ليلة استعراض؟ ألسنا مدعوين إلى ليلة لاستعراض حياتنا؟ ومحاولة ربطها إما بهذا الروح، ومنه ذلك السمو، حيث تم فتح باب، وإنهائها بمطلع الفجر، لأن 83 سنة هي فجر الحياة، وإنهائها بالسلام. ما يعنيه، التحلي بالسلام، وعيش هذا السلام بدراية، في علاقة مع هذا الروح الشامل، هذا الروح الذي في لحظة معينة، وفي وقت معين، يمنحنا من خلال حدوث تفاعل وانشراح للصدر، وبتأثير تنزل هذا النور، وهذه الكلمة، وهذه الحقيقة، ويدعونا إلى تجاوز الزماني، للذهاب إلى الزمن الشامل، زمن غير مقيد، زمن إنساني، (غير ذلك) المحجوز المحبوس في الزمانية، وفي الصعوبة التي نجدها في إدارة الزمن، وتصور أبديته.  ليلة تساوي ألف شهر، 83 سنة. وليتساءل كل واحد منا حول ما تبقى له ليعيشه، وليكتشف في نفسه ليلة قدره هذه. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفوز


السلام عليكم
    حسنا، هل يوجد نهاية لهذا التساؤل وهذا التفكير، حول شهر رمضان الذي ينتهي؟ وهل يوجد فحص نقوم به، واستنتاج نستخلصه؟ للذي سيعيش بشكل مكثف هذا الشهر، ويجعل منه خلوة، يختلي فيها، وطريقة للتخلص من العادات والآليات التي نعيشها كل يوم. ولا ننسى أن هذا الشهر، قال عنه الله تعالى أنه له. إذا كان لنا أحد عشر شهرًا، فإن هذا الشهر الخاص رمضان ينتظر كشهر الله تعالى، وهو يجازي به. لا نعرف جزاء هذا الشهر، وماهيته، لأن الله هو القادر أن يجازي كائنا، لأنه بطريقة ما، اكتسب فوزا على نفسه، فوزا على جوارحه. كيف نقاوم الجوع؟ كيف نقاوم العطش؟ كيف يغلب شهواته؟ فلأن لدينا قناعة، ولدينا إيمان، ونخضع لسلطة مستقلة عنا، تُملي علينا بطريقة ما، الطريق الواجب سلوكه، وأيضا يوجد لجميع الذين يصومون شهر رمضان في نهايته، هيئة فرحة باطنية، فنعلم أننا صمدنا، وتمكنا من خوض هذه المعركة، بشكل أو بآخر، حتى النهاية. نخرج متجددين، مع ثقة بالنفس جديدة. إذ سيضل الروح الكامن فينا دائما قادرا على الفوز على أنفسنا، ويمكننا دائما، بينما نستسلم في غالب الأحيان لشهواتنا، وغالبا ما نستسلم لرغباتنا، وغالبا ما نستسلم للمحيط، الذي يضعنا سواء في هذا الأمر أو ذاك، وهنا، قد صمدنا مدة شهر أو تقريبا، قد صمدنا، عرفنا يوم بعد يوم، عرفنا كيف نحافظ على هذا الميثاق، على هذه الأسوة، التي اتخذناها لأنفسنا. سأصبر لا يَعْدُ أنه سوى شهر، لا يَعْدُ أنه أقل من شهر، وسأصبر على كل حال، وفي النهاية، يوجد هذا الشعور وهذه الثقة، التي أعيدت إلينا، وأعتقد أن شهر رمضان موجود لدعوتنا للرجوع، ولاستعادة ثقتنا بأنفسنا.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عيد الفطر


السلام عليكم
    ها هو العيد قد هلّ علينا، عيد الفطر، هذا اليوم الذي يختتم، يوم الفرحة هذا، يوم الإقتسام هذا، يوم الكرم هذا، في هذا اليوم، حيث ينبغي على كل واحد منا أن يعيش لحظة سلام، سلام مع نفسه، سلام مع الغير، هذه اللحظة المنتظرة طيلة شهر كامل، ما دام أننا تحدثنا عن عرض شهر رمضان، وإنه اليوم بالضبط، الذي ستُحدِّث فيه هذه الفرحة عن نفسها، وتكون فيه المتعة، بطريقة ما. سنعيش معًا كعائلة وكإخوة. سوف نقتسمها في سلام، في هدوء، ثم في هذه اللحظة، يطرح علينا سؤال. إذا كان هذا الشهر قد عشناه بشكل فردي، في سلام وفرح، وانتهى في السلام والفرح والرخاء بالنسبة لملايين البشر، ماذا عن الذين يعانون من الجوع من قلة، ومن المحن والحروب، أولئك الذين تحملهم هذه الأرض، إخواننا البشر، كيف يعيشون هذا اليوم؟

    ومن هنا ينبغي أن نتحلى بضمير، بعد شهر كامل من الإمساك، لأننا عانينا الجوع والعطش، لكي نتموضع موضع الذي لم يأكل في هذا اليوم، ولم يجد ما يلبس هذا اليوم. وإنه تذكير، فهذا اليوم، يوم عيد، حقا، ولكنه أيضا يوم يدعونا إلى استخلاص نتائج وإجراء تقييم من حولنا، في عالم اليوم، في عالمنا، الذي يتجه بالأحرى نحو المواجهة، وعدم التفاهم، صوب الصراع، في هذا العالم الهرمي، حيث تسحق النخبة أصحاب القاعدة، ويعتريه التفاوت بين الأغنياء والفقراء، إذ أن الأغنياء يزدادون ثراءا، والفقراء يدقعهم الفقر، وعولمة تعامل بمعيارين، تدمر البعض لإثراء أقلية، كل هذه الأسئلة، العيد أيضا يطرحها علينا. إنه احتفال بالنصر الذي أحرزناه على النفس، وتحضير لمواجهة العام القادم، مع كل الصعوبات التي يمر بها العالم.

    عيد مبارك سعيد. أراكم قريبا إن شاء الله.


الحوار الإذاعي

الحوار الإذاعي


    الشيخ خالد بن تونس في حوار إذاعي مميز للغاية، أجري معه داخل استوديو إذاعة محلية "Recto verso"، سنة 2007. استقبله الصحفي منشط البرنامج، وطرح عليه أسئلة جريئة، وكان رد الشيخ خالد بن تونس سريعا، غير متأنيا، على غير عادته، حيث تتميز ردوده ومداخلاته بصفة شاملة، بأناته الهادئة، والحرص على التذكير، باستخدام التكرار المصاغ، حتى يوصل المعنى ولا يتخلل الملل. جرى الحوار يوم 17 مايو 2007، ومن ناحيتي، يبقى هذا الحوار من نشاطاته الفكرية الراسخة في ذهني.



- في هذا الخميس، مع يوم عيد الصعود(1)، أقترح عليكم، ونتنحى جانبا نحو تقليد آخر، مع الزعيم الروحي للطريقة العلاوية. ستقول لنا ماذا يعني ذلك. الشيخ خالد بن تونس، مساء الخير.

مساء الخير.

- ولدتَ سنة 1949 في الجزائر، وتعيش حاليا حياة الترحال، وتقوم بانتظام، بجولات عبر العالم، وستكون في لوزان يوم السبت، (لقاء تشارك فيه) الجمعية الدولية الصوفية العلاوية، عيسى. منذ ثلاثين سنة، الشيخ خالد بن تونس، خلفت والدك في هذه المهمة، شيخ طريقة. اشرح لنا ماذا يعني هذا؟

إن شرح الطريقة يستدعي العودة إلى المنبع، والنظر كيف تشكل الإسلام، وكيف تأسست سلسلة مشائخه، من خلال التعليم الذي تركه رسول الإسلام، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك التعليم الباطني والتعليم الروحي. نستطيع القول أن التصوف هو نوع من مدارس الفكر الإسلامي، التي وجدت منذ قرون، ونشأت كما قلت، منذ بداية الرسالة المحمدية، ولكن الصوفية أنفسهم يرجعون  نشأة هذه الحكمة أو الروحانية إلى ما قبل ظهور الرسالة الإسلامية نفسها، وتعود إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام، والتي تسمى بالحنيفية. إننا نقصد أولئك الرجال، أهل التوحيد، الذين كانوا دائما في سعي أو على علاقة مع هذا الأمر الرئيسي، الذي نسميه الحنيفية. هكذا تأسس التصوف من خلال الإسلام في المغرب العربي وآسيا الوسطى، وآسيا بصفة عامة.

- إنها صورة ما، لتلقي الوحي القرآني.

لا نستطيع القول صورة ما، ولكنها الصورة الداخلية لتلقي الرسالة.

- قلت سابقا داخليا وباطنيا، ماذا يعني ذلك؟

ذلك يعني، أنه يوجد علم غير معروف لدى الجميع، ويوجد تلقين وتوصيل يتم من شيخ إلى مريد، منذ أكثر من أربعة عشر قرنا.

- في طريقتكم يجرى هذا التوصيل؟

ليست طريقتي. بالطبع، في الطرق الصوفية، هذا التوصيل يتم من شيخ إلى مريد، مع التلقين، الذي هو ملزم، لأن الساعي وراء هذه الحكمة أو الروحانية أو التعليم الباطني، ينبغي أن يفي بشروط معينة. الشرط الأول هو وجود التسامح والأخوة والتواضع، وهي معايير العبور. إن الشخص غير المتسامح أو المتكبر، أو الذي لا يتقبل هذه الأخوة العالمية، لا يستطيع أن يتصور وجود تعليم في الإسلام  يدعو إليه، وحتى أن أركانه مبنية على قواعده، وهي أركان أخلاقية وإنسانية، يضاف إلى ذلك، اشتراط مبدأ التوحيد.

- أحاول أن أفهم جيدا، خالد بن تونس، إنك تتكلم عن سلوكيات في عمق التواضع والأخوة، وأيضا هذه الكلمة الباطن، التي أحاول فهمها. في وقت سابق، في الأخبار تكلموا عن أفريقي يدّعي أنه يمتلك قدرات فوق طبيعية. عندما نتكلم عن الباطن عندنا، نفهم منه جانب خارق للعادة. هل يوجد هذا في التصوف؟

لا.. ينبغي أن نعي جيدا، أن مصطلح باطن في عمومه، هو تعليم يتم نقله، ولا يوجد أي سحر في هذا. سمعنا شخصا يقوم بالسحر، ولا أعلم إذا كان ذلك سحرا أو ألعابا سحرية. إنها شعوذة، وأناس يحاولون استغلال نوايا آخرين، وعندما أرى أننا نستطيع استغلال حتى شخصيات مثل مدراء بنوك، فلا أفهم كيف يتم الإيقاع في فخوخ كبيرة مثل ذلك.

- في التصوف توجد بيوت، إذا كانت معلوماتي صحيحة، تمارس فيها حالات الإغشاء، ورقصات جماعية وتلقى تعويذات، ألا نوجد هنا أمام سعي وراء الخوارق.

تعلمون أن التصوف مثل أي شيء آخر، ستجدون صوفية يحكمون العقل ويعملون على ضبط النفس، وهو تعليم صافٍ، وآخرين، لسوء الحظ، أقول ببساطة، إنها النفس الأمارة، تحاول شيء فشيء، من خلال تلقين زائف، الظهور، بدل اصطلاح الكينونة. يظلون يركزون على ما هو من عادته يكون ظاهرا جذابا.

- إذن، ينبغي الحذر، يوجد صوفية حقيقيون، ويوجد آخرين.

  بالتأكيد. كما أي شيء آخر.

- في طريقتكم، خالد بن تونس، تلقى أيضا تعويذات.

نقوم بالذكر.

- ماذا يعني؟

إنه ذكر أسماء الله الحسنى الـ 99، وبالنسبة لنا هي صفات، وإن أردتم، هي شكل من المفاتيح تمنح للإدراك الإنساني القدرة على استيعاب أسماء الله. عندما نتكلم عن الرحمن، فبالنسبة لنا هي الرحمة التي تتجلى من خلال أفعالنا، وإذا فهمناها وعشناها، فذلك يعني، أننا أصبحنا متصفي بالرحمة وناقلي الرحمة، في أفعالنا وتفكيرنا وفي طريقة تصرفاتنا في العالم. إنه الإستمداد من هذه الأسماء الإلهية النبيلة، حتى نتمكن من تغيير أنفسنا، وتغيير المحيط الذي نعيش فيه.

- إذن، تكررون إسم الرحمن حتى يتخللكم. أليس كذلك؟

ليس هذا فقط. ليس في التكرار، لا يجرى الأمر بهذا الشكل. يقام هنا تلقين واسع، ويأتي التمكن أولا عند فهم أنه توجد طاقات، وأن هذا العالم عالم حي، وأننا جميعا في الحي. الخليقة شيء حي، مثلها مثل الإنسان أو الحيوان أو حتى الأرض، في كل هذا نتبع القرآن الكريم الذي أنطق السماء، توجد سور من القرآن تحمل أسماء حيوانات، مثل النمل والعنكبوت والقمر والشمس والنجوم. يضع الله سبحانه وتعالى الخلق في رمزية الحي، ونحن نشعر أننا منفصلين عنها، بل نتواجد في علاقة دائمة، ومن ثم ذلك المبدأ، الذي يقول عنه الصوفية أنه التوحيد. وحيث يوجد مركز ودائرة، وأشعة من أي مكان خرجت، تلتقي في وقت معين. وكيفية إيجاد في أنفسنا هذا الضم، هذا التناغم، واستعادة الصلة بيننا وبين الخليقة، التي تعتبر عند الصوفية مرآة الألوهية.

- ومن ثم القلق الكبير الذي ينتابكم حول الحفاظ على الطبيعة.

بالتأكيد. قلت لك إن الطبيعة من الحي. وإن التعرض للحي، سواء كان بشري أو حيواني أو نباتي، وليس ذلك من قبيل استهلاك اللحوم، ونصير نباتيين، ليس في هذا المعنى، ولكن في الإدراك أن كل شيء حي، ونحن في علاقة معه. إذا أسئنا المعاملة معها، سنتلقى آليا ردود، وإذا أخذناها بعين الإعتبار، وحاولنا العيش معها في تناغم، حسنا، فهي ستعطينا أحلى ما فيها من تناغم.

- فهمنا بشكل أفضل ماهية التصوف معك خالد بن تونس، والآن يمكننا العودة إلى طريقتكم العلاوية. هي إلى أي مدى؟ وما هو عدد أعضاءها؟ وكيف تنظم شؤونها؟

هل تعلم، ليس لدينا إحصائيات. نشأت الطريقة منذ مائة سنة بالضبط، أي في سنة 2009، بعد سنتين سيكون عمرها مائة سنة، ولكنها ليست سوى سلسلة ممتدة من الشاذلية، التي ظهرت في القرن الثامن الهجري، على يد الإمام الشاذلي، وهو بنفسه أخذها من مشائخ آخرين. يوجد تمرير من شيخ إلى مريد.

- قرأت أن بها مائة وعشرين ألف عضو. هل هذا رقم كبير؟

هذا ما يقولونه، ما تقوله الصحافة ورصدته بعض التقارير. ربما يوجد مائة وعشرين ألف، وربما أكثر، الله وحده يعلم. إنهم كثيرون. يوجد صنفان من المريدين، في صنف يوجد، الذين يطبقون التعليم، بشكل يومي، ويوجد المحبين، الذين مع تبنيهم أفكارها، لا يتخطوها إلى حد الممارسة، أو أنهم يمارسون تعاليم الطريقة من حين لآخر. فنحن لا نقصي أحدا.

- ودورك أنت، ما هو بالضبط؟

أن أكون المنسق، بشكل ما، الذي يسمح بتماسك الأعضاء، المتواجدين في شمال أفريقا؛ المغرب والجزائر وتونس ومصر، وحتى أندونيسيا، وعبر أوروبا، التي يرجع أول حضور للتصوف فيها، للطريقة العلاوية، منذ سنوات العشرينات، خلال افتتاح مسجد باريس، ومشاركة جدي الأول، الشيخ أحمد بن عليوة، الذي يعتبر مجدد التصوف في العالم الإسلامي، وكان أول شيخ صوفي يجيئ إلى أوروبا، وخصوصا كان له بها مريدين أوروبيين، وكان على اتصال برينيه غينون، عدد من الشخصيات الصحفية والفنية، الذين تأثروا بأفكاره، وهنا تكمن خصوصية الطريقة العلاوية في الحوار. حتى جدي الشيخ عدة بن تونس، أنشأ أول جمعية حوار بينديني، جمعت اليهود والمسيحيين والمسلمين والبوذيين، أنشأها سنة 1948. بعد أعقاب الحرب.

- أرى أن حتى أنت أبقيت على هذا التقليد من الحوار، ولديك أنشطة عديدة.

بطبيعة الحال، إنه جزء من عملنا.

- عيد الصعود الذي يحتفل به المسيحيون اليوم، وهو صعود اليسوع إلى السماء. كيف تفهمونه؟

أنتم تعلمون أن المسيح، سيدنا عيسى عليه السلام، يمثل في الإسلام كائنا متميزا، وفي التصوف، أقول أنه هو الكلمة المجسدة، من خلال السيدة مريم. يقول الصوفية أن مريم ولدت المسيح. وُلدت الكلمة عن طريق امرأة، وعن طريق محمد رسول الله وُلد القرآن، أي ولادة الكلمة الإلهية من خلال الحروف. أحدهما من اللحم، والآخر من الحرف. ومن ثم فإن مكانة سيدنا عيسى عليه السلام في التصوف عظيمة، لأنه يمثل عند الصوفية الولاية(2)، ذلك الشيء الذي لم يمسه الدنس أو التلوث أو التآكل، الذي يمس كل كائن. سيدنا عيسى لم يمسه أي شيء من هذا.

- وماذا عن روح القدس، وظهور روح القدس في المسيحية؟

ربما ليس لدينا نفس المفهوم عن روح القدس في التقليدين. بالنسبة للصوفية، إن روح القدس هو الذي رافق في كل زمان وهدى، أولئك الملقنين وسادة المعنى، وكل أولئك الرسل والحكماء، منذ قديم الزمان. هذا هو الروح، الذي يمثل بشكل ما، شعاع النور الذي هداهم في مهامهم على الأرض. إن روح القدس كان دائما حاضرا، فهو لا يتجلى(3)، ويتجلى شرط أن نكون داخليا تلك المرآة الداخلية، القادرة على عكسه، ومما يعنيه، يجرى تحضير على مستوى ضميرنا، وتصفيته بالشكل الذي يمكن أن يعكسه. لأن روح القدس موجود في كل شيء.

- هل تشعر به؟

  أشعر به من خلال كل ما يهتز وتدب فيه الحياة، ومن خلال محبة أبنائي وأحفادي، ومن خلال المحبة التي أكنها للأشياء الجميلة، ومن خلال العلاقة التي أعقدها مع كائنات لا أعرفها، هي غريبة عني، وفجأة تنشأ علاقة، لتواجد ذلك العمق الذي يربطنا، ويربط الشيء الأقدس على مستوى الأدمي. ذلك المستوى وتلك الدرجة من الوعي الذي يبلغ هذا الصفاء وهذا التطهير. تطهير أنفسنا من الشكوك وتبديدها، وتبديد الشك في الخلق وفي الحياة، وتبديده في التوحيد التي يجمعنا. عندما نبدأ في التقارب، نشعر بتلك الحرارة، نشعر بحضرته، ولكن ندعي أن روح القدس موجود في مكان ما، يمكنني لمسه، في محل أو كنيسة أو مسجد، أو في مكة أو القدس. لا. فهو موجود في كل مكان، وجميع القلوب، وحتى في الذين لا يعتقدون، والذين هم كفار. روح القدس موجود هنا، والنفس موجودة هنا.

- .. تكلمنا في الجزء الأول عن الطريقة الصوفية، التي تديم تقليد، أود أن نتحدث شيئا ما، عن مسارك. خالد بن تونس نشأت في الجزائر، عندما كانت لا تزال في ذلك الوقت، جزائر فرنسية. أنت أكبر الأبناء لأسرة تتكون من 14 طفلا، كان والدكم شيخا لهذه الطريقة. أي تربية تلقيت، أكانت تربية دينية أو فرنسية؟

تلقيت التعليمين. في التعليم التقليدي، كنت أحفظ القرآن، عشت في زاوية، وهي محل للصلاة والذكر، وتعتبر مدرسة. كان لدينا معلمي القرآن والحديث الشريف والشعر والفلسفة، وفي نفس الوقت كنت أذهب، مثل جميع المتمدرسين في ذلك الوقت، إلى المدرسة العمومية..

- .. العلمانية.

العلمانية، بالتأكيد. لم يكن يساورنا أي التباس، كان الأمر واضحا وبيّنا. كنا نذهب للمدرسة الفرنسية، كنا نتعلم لغة ليست لنا، ولكنها كانت مفيدة بالنسبة لنا. لم يكن أباءنا يمنعوننا من المدرسة أو يستنكرونها، بل بالعكس، إلى العلم والمعرفة، كانوا يدفعوننا. فالمعلم أو المدرس، كان له اعتبار آخر، أو الأستاذ، كان له قيمة في أعيننا، في ذلك الوقت، كانت على كل حال شخصية محترمة، تحتل مكانة مرموقة، إن شئتم، في السلم الهرمي للمجتمع. نعم، كان يوجد احترام إزاء المعلمين.

    نعم عشت بالكلية حرب الجزائر، ينبغي تسميتها، حيث مزق شعبين بعضهما البعض، وبشكل يومي. ذكرياتي تحضرني. كنا نسمع صوت الأسلحة، وكنت نوعا ما داخل الإنتفاضة، فالإنتفاضة لا تعود فقط إلى زمن الفلسطينيين، ونحن الشباب الجزائريين، وأطفال الجزائر، قمنا بانتفاضة على طريقتنا.

- كإلقاء الحجارة.

إلقاء الحجارة على القوافل العسكرية، والكتابة على الجدران، تحيا الجزائر المستقلة، والصراخ تحيا الجزائر. عايشت في مظاهرة في سنة 1959، ورأيت الناس يقتلون أمامي، على بضعة أمتار، في تلك المظاهرة، أتذكر دائما ذلك الحلاق، الذي أنقد حياتنا. جاءت هذه المظاهرة بعدما تم القبض على سبعة أشخاص، وماتوا تحت التعذيب، ويوم جنازتهم خرجت كل ساكنة المدينة لتوديعهم. فجأة، اندلعت أحداث شغب، وكان هناك صراخ، والجميع بدأ في الجري، وقام العسكر بإطلاق النار، في الأول وجهت أسلحتهم للسماء، ثم مباشرة نحو المتظاهرين والناس. أتذكر دائما هذا الرجل، كان يتواجد أمامنا حائط المقبرة، وضعنا فوق كتفيه، ورمانا من فوقه، كنا ثلاثة أطفال، أما هو، قتل في نفس الموضع الذي أنقد حياتنا فيه. فاتنا شيء..

- ما الذي فاتك؟

فاتنا، في أنه كيف وصلنا إلى هذه البهيمية والوحشية. الجزائر اليوم مستقلة، ألم يكن ممكنا أن تتم بحلول أخرى، غير حلول سفك أنهار من الدماء، وأناس يقتلون، ووقوع مآسي. هل الإنسان غير قادر -  من المفترض- أن يتمدن، ويتمدن داخليا، ويتوصل إلى تصور مجتمع إنساني، يتمكن من إيجاد حلول. لا يجب أن يبلغ الأمر حد الجنون، لا يجب أن نعتقد أن الناس ملائكة، ولكن على الأقل، نحكّم العقل، ونتوصل إلى تفاهم، ونتوصل إلى إيجاد حلول إنسانية فيما بيننا. لماذا لا نفضل الحوار، ونستخلص كل الحجج الممكنة، والتي يمكن تصورها، ويتنازل هذا من جانبه، حتى يسمح للآخر أن يعطي بعض الشيء من جانبه، ويُتوصل إلى حل، يلائم الجميع.

- إن الحوار صعب بين العالم الإسلامي والعالم الغربي حاليا. خالد بن تونس، نعود فيما بعد، ونواصل مع مسارك. في العمق، كنت مع استقلال الجزائر، وفي الواقع، جلب لكم الإستقلال عدة مشاكل، حيث تواجد أبوك في السجن..

نعم، كنا مع استقلال الجزائر. وآلت الأمور إلى ما آلت إليه. غذينا وكنا جزائريين، هذه الهوية لم تمح أبدا. رغم ذلك ذهبنا إلى المدرسة. أنا درست تاريخ الجزائر، وكانوا يقولون لنا أجدادنا الغاليين، كنا ندرس أكثر التاريخ الفرنسي، وجغرافيا فرنسا، من أن ندرس تاريخ الجزائر، وجغرافيا الجزائر. كان دائما ملئ أنفسنا التجذر العميق في التقليد. يسمح التجذر بالحفاظ على الشخصية العميقة للفرد، والتمزق الذي يعرفه هذا البلد اليوم، ناتج عن ذلك. إذا تلقى شخص منذ نعومة أظفاره تعليما تقليديا متجذرا في التقليد، وفي عمق الحكمة التقليدية، سيفهم أن الزمان يبقى هو نفسه الزمان. وأنه يدخل في تقلبات الزمان، ولكن القيم العالمية والقيم الإنسانية التي نحملها، لا تتغير، ولا تتبدل. كنا نعيش في وسط جد متسامح، استقبلنا مسيحيين وبوديين ويهود، رأيت كل هؤلاء عندنا، وأكلوا معنا، والطبيب الذي أنقد حياتي كان يهوديا، وطبيب جدتي، التي كانت تجسد شخصية عظيمة، كان يهوديا، الدكتور حاييم، وكان يتكلم العربية. بالنسبة لنا لم يكن يوجد أي حاجز، تواجدت معايشة هائلة، ولكن الظروف السياسية والمصالح السياسية تتدخل في شؤون الناس وتمزق صفوفهم، وتجبرهم على اتخاذ موقف، الواحد ضد الآخر.

- بعدها حدث تمزق بين الجزائريين، وأبوك المحافظ على التقليد الديني، أوقف من طرف نظام اشتراكي.

ها حيث يأخذنا هذا. لأن اشتراكية ضيقة منغلقة، لا تزودنا من المآثر العالمية وعرف تقليدها، تصطدم بجدار. 
طالما كانت توجد هذه المطالبة بالإستقلال، كان الناس متوحدين، ويعرفون الهدف المنشود، وبين عشية وضحاها، عندما بلغنا الحدث، عندما توجب إعادة توزيع الأدوار، وتوجب تقاسم السلطات، عندما توجب؛ وُجد التمزق. كان الإنتهازيون بشكل ما الأكثر انتهازا، الأكثر مكرا، وربما الأكثر ضراوة. هم بالضرورة، الذين تمكنوا، واستبدوا بالبلد. ومن ثم، كان أبي من الذين شجبوا ذلك، كان إبان الثورة الجزائرية.. لا ينبغي أن ننسى أن هذه الزاوية تحولت إلى فرع للصليب الأحمر الدولي، وكانت تستقبل اليتامى، وأبي كان يتكفل بالمساجين السياسيين، ويجلب الأطباء، ويأخذ قفف مملوءة للمساجين، ويتكفل بمحاميهم، وغيرها من الأعمال، بمشاركة آخرين، بالطبع. كان دائما هذا دوره. كان يقول، توجد عدالة وتطبق على الجميع. لم يمنع أنه احتفظ بعدها بعدالة في نفسه إزاء عدم تسامح فلان أو علان. وهي نفسها ظهرت عندما انحرفت السلطة الجزائرية نحو ايديولوجية وطنية للإقتراض، وحيث بدأوا يلقنوننا في المدارس أن الإشتراكية من الإسلام، وإن الإسلام من الإشتراكية. كنت من أوائل تلاميذ الجزائر المستقلة، وأولى قراءاتنا كانت حول كارل ماكس، وعن الحضارة والمجتمع الروسي، بدل تدريسنا المجتمع الجزائري، درسنا الإقتصاد الروسي والتطور الروسي، وغير ذلك.

- رحلتَ إلى فرنسا بعد فترة وجيزة.. أنتقل شيء ما، الدقائق تمر. رحلت إلى فرنسا. قطعت في أعماقك الصلة مع عالم الزاوية، حتى اليوم الذي كان فيه عمرك 25 سنة، وانقلبت حياتك بشكل مفاجئ. قص علينا بإيجاز.

بإيجاز. رأيت أبي في هذه الوضعية غير المتسامحة، قلت له في البادئ، لماذا لا تغادر البلد، لماذا لا ترحل؟ قال لي، لن أرحل، سأبقى. طالما، أستطيع أن أفعل شيء لأهلي، سأبقى. كان أيضا ريعان الشباب، وفي سنوات السبعينات، وماي 1968 ترك أثره(4)، كنا نتبع أخباره ونستمع إلى جديده، وكنت أنتمي إلى حركة شبانية، أنشأناها في الجزائر، إهتمت بالرياضة والسفر وغير ذلك. كنا متطلعين. خرجنا من سطوة الإستعمار إلى فضاء الإستقلال. فبالنسبة لنا الإستقلال نحن الشباب.. كنا متعطشين للحياة، وكنت أريد مثل جميع الشباب.. أفهمهم اليوم، يريدون معرفة كيف يعيش الآخرين. كنا نسمع بالحرية وغيرها. كيف يعاش ذلك؟ وذهبت بقرار واضح في ذهني. هذا البلد أتركه خلفي، وسأكوّن حياة لنفسي، كما كونها جميع الشباب، وجئت للدراسة، وبدأت في الأعمال، ودخلت الموضة، كان لدي عارضي أزياء، وصنعت أرباب عملي، وأقمت صالوناتي. أما عن الحياة التقليدية، فقد احتفظت في أعماق فؤادي بهذا الطابع، ولكنني كنت اتخذت القرار في أن أعيش في هذا العالم، والآخر أضعه بين قوسين إلى حين.

- وتوفي أبوك في سنة 1975، ودخلت للجنازة، وثم، وبصورة مفاجئة، يوجد ميراث، لابد من متابعته.

نعم، هناك أشياء لا يمكننا فعل شيء حيالها، عندما يوجد أمامك مجلس حكماء، رجال ذوي إشعاع نفيس وروحي وذوي نورانية، ويقولون لك، إنه أنت، ليس لك أن تقول لهم سوى أنتم مخطئون. كان شعري طويل، وجئت مرتديا سروال جينز ومعطف من الجلد، كنتُ في عالم آخر. جئت بالفعل لأدفن أبي، فهذا لا يهمني، كنت بعيدا، على مسافة سنوات ضوئية عن هذا. وها هم يقولون لي، إنه أنت. لم أفهم، رفضتُ، كنت مريض لعدة أشهر. ولكنه قرار يتجاوزك. ومصير يطالك، وأنت أعزل. أضف إلى ذلك أن زوجتي أوروبية، وكان لي ابنة، ولديّ أعمالي، وكانت تخطر ببالي الكثير من الأفكار، وها أنا ذا، كما لو أني حملت إلى القمر.

- ومنذئذ، تعيش جيدا على القمر؟

 انتهى بي الأمر إلى النزول من القمر والعودة، وملاحظة أننا هنا، على كل حال، سوى مخلوقات ضعيفة. أمثلُ، نعم، ولكن هل هو أنا الذي يمثل أي شيء. إنني أقوم بما علي القيام به.

- ولكنك مبجل، على ما يبدو، من طرف العشرات الآلاف من أعضاء الطريقة.

لا.. لا يجب المبالغة، والحمد لله. أتمنى أن لا أصل أبدا إلى هذا الحد، لأنها ستكون كارثة للتعليم الذي أمثله. أبدا. الشيخ رفيق، صاحب، مثل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، لا نسميهم مريدي الرسول صلى الله عليه وسلم. إنها صحبة ورفقة عندنا. الشيخ رفيق وصاحب.

- أود أن أخوض معك شيئا ما، في عمق ما هو خاص بالتصوف، والإسلام وماهيته، وما هي الإسلاموية. لدينا صورة عن دين له كتاب، هو كتاب مقدس، القرآن، حيث نصوص ما، تحدث عن الحرب، وتوجد شرائع صارمة، أقرها النبي صلى الله عليه وسلم، تخلق عدة مشاكل في الحوار مع الغرب. ما الذي تميزه أنت الصوفي، بقراءة باطنية. إذا فهمت جيدا، في الذي أنت تعتبره بشكل مخالف، وما هي الشريعة في نظرك؟ اشرح لنا كل هذه الفروق الدقيقة.

بالنسبة لي الفروق بائنة. في ماذا نرتكز على حوارنا مع الغرب؟ إذا تحاورنا مع الغرب حول العولمة، أو حول اقتسام الثروات، أو حول المساواة في الحقوق أو التضامن الدولي أو احترام سيادة الدول، فلسنا بحاجة هنا إلى القرآن، لدينا قوانين دولية، ولدينا مؤسسات سياسية وقوانين، وينبغي علينا بالعكس، بصفتنا مسلمين، أن نسعى لعالم، توجد فيه قوانين عالمية، وتكون محترمة ومعترف بها من طرف جميع الديانات. أما إذا كان الأمر يتعلق بالروحانية أو بالدين، فهذا شيء آخر. لا يجب أن نخلط بين الإختصاصات.

- أنت تقر الفصل بين الكنيسة والدولة، كما يقال في التقليد المسيحي، أعني الغربي.

إذا قلناه بهذا الشكل، بغباء، سيتخذ الناس طرفا، وينددون، ولكن الإسلام هو في نفس الوقت دولة ودين، ولكن لماذا هذا الخلط، نشأ الإسلام في القرون الوسطى المبكرة(5)، حيث كانت جميع المجتمعات، سواء كانت البيزنطية أو الفارسية أو الصينية لها هذا التصور، حيث تتشارك الشؤون الدينية والسياسية، ولا يختص الأمر بالإسلام، وبالنسبة لي، فالأمر اليوم ملصق إلا بالإسلام، حتى أصبح عند غالبية المسلمين، من كثرة تكراره حقيقة. ولكن انتظروا.. قدم لنا محمد صلى الله عليه وسلم مشروع، هو قبل كل شيء مشروع روحي، مثل رسالة المسيح عليه السلام..

- إن الفارق الكبير، هو أن المسيح عليه السلام لم يحكم أبدا، في حين أن محمد صلى الله عليه وسلم حكم، وشرع قوانين...

حتى سليمان عليه السلام حكم، وداوود عليه السلام حكم. بني المعبد من طرف ملك نبي. يقال أن في الهند أو عند البوذيين وجد ملوك بوذيين. إن الخلط هو الذي ليزال قائما إلى وقتنا الحاضر، فلم يثر حوار إلى المستوى، الذي تتضح فيه الأمور. بالفعل يمكن الاستلهام من القرآن في مجتمع إسلامي، على سبيل المثال، لتحسين وضع المجتمع، وفي القرون الوسطى المبكر، منذ 15 قرنا، عندما أعطى القرآن في الميراث، على سبيل المثال، حصتين للرجل وحصة للمرأة، فهذا لا يعني أنه منعنا للأبد على إعطائهما بالتساوي، وفي مجتمع كانت المرأة لا ترث شيئا، أراد أن يمرر المسألة، تاركا لنا المبادرة، لنكون قادرين على تحقيق المساواة بين الجنسين.

- قرأت في القرآن، أن على المرأة أن تغطي جسدها، إنها كلمة الله، أليس كذلك؟

نعم. نعم..

- كيف نفسرها؟

ما معنى التغطية؟ هل هو تشادور أو أنه البرقع أو الملحفة، وهل تعلم كم نوع من الحجاب يوجد في البلاد الإسلامية، لدينا حتى الرجال يتحجبون، اذهبوا إلى الصحراء، فالطوارق يتلثمون، لن تستطيعوا أبدا أن تنزعوا منهم لثامهم، (دعواهم) القرآن يقول ذلك، ولكن مسألة الحجاب وصف قرآني، وليس فرضا. يوجد تطور في المجتمع، وترك القرآن المجتمع يتطور، بالمعنى الإيجابي للمصطلح. ما هو الحجاب؟ إنه تزيّ احتشام.  نعم ينحو المجتمع الإسلامي نحو الاحتشام، وأخلاق غير مسرفة، وهذا مؤكد، ولكن نجعل من هذا قضية دولة، فهذا لا. عندها، فنحن نتجاوز الحدود، حسب رأيي.

- سؤال آخر، أنت تعمل من أجل الأخوة والسلام. ما هو اعتبارك لهؤلاء الشباب، رجالا وأحيانا نساء أيضا، ينسفون أنفسهم بقنبلة، ويقولون أنه في سبيل الله، من أجل دخول الجنة.

حسنا. اسمعوا، قلت لك أنا طفل ولدت بالجزائر، أنا طفل من حرب الجزائر. عشت الظلم، ورأيت أناس يقتلون أمامي، كنا نذهب للمدرسة لإثبات حضورنا، ويضعون لنا ختما على أيدينا، لمعرفة متى ندخل، بسبب حضر التجول، وأمور أخرى، رأيت أناس يقتتلون، ومع ذلك، لم أرى ولم أسمع أبدا، أثناء حرب تحرير الجزائر، أن أناس بلغوا حد الغلو باسم الإسلام.

- ما الذي يفسر ما وصلنا إليه؟

لأننا تخلينا عن معنى الفتوة، مما يعنيه، أن الإسلام تحوّل إلى إيديولوجية، وأفرغ كلية من روحانيته، لم تعد توجد هذه الفتوة الكامنة في الإسلام، التي كان يمثلها الأمير عبد القادر، وكان قد حارب فرنسا، ولم يتجاوز أبدا الحدود، بل العكس، إنه أول رجل دولة يحدث إطارا قانونيا للمساجين.

- إنه مؤسس الدولة الجزائرية. أريد أن أخصص الدقيقة والنصف الدقيقة المتبقية، خالد بن تونس، لسؤال يتعلق بما يحدث في سويسرا، تم إطلاق المبادرة الشعبية لمنع بناء المآذن. كيف تتفاعلون مع هذه الأخبار، التي انتشرت حول العالم.

نعم. إنه أمر غير عادي، كيف نجعل من مشكلة صغيرة تحديا رئيسيا؟ بأي مآذن يتعلق، وماذا تمثل المآذن، وما هي رمزيتها؟ ما هو عدد أنواع المآذن في الهندسة الإسلامية؟ فصومعة جيني في رومانيا لا تشبه صومعة مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء، ولا تشبه صومعة اسطنبول. قمنا بمشروع، وهو في طور الإنجاز في مدينة كان، وطرحت مسألة المآذن، وما الذي فعلناه؟ اتخذنا معمار حديث، وبدل بناء صومعة أقمنا سهم ضخم موجه للسماء، لأن المأذنة تشير فقط إلى شيء واحد، وهو التوحيد. بالمناسبة، متى بدئ بناء المآذن؟ ألقاه على كاهلنا المسيحيين، وأول مسجد بني بمأذنة، هو مسجد دمشق، وبناه مهندسين مسيحيين.

- بالأسس الموضوعية، فإن المسلمين ليسوا بحاجة إلى المآذن.

اذهبوا إلى أندونيسيا، 80% من مساجدها بدون مآذن، واذهبوا إلى أفريقيا السوداء، منها عدد كبير. عن أي شيء نتكلم؟ فقدنا الحس.

- كنتَ تريد أن لا تمنع على كل حال.

من هنا، أقول لنرجع إلى العقلانية. فقضية المآذن تتعلق بمنح رخص البناء، ولا تعد قضية يقتضي رفعها أمام البرلمان، أو ربما قد فاتنا تحكيم العقل وكل أمر منطقي. إذا كان حاليا، في كل مسألة تهم الإسلام، ينبغي أن يسن عليها تشريع، أعتقد أنه ستثار أكثر القضايا الخلافية، مع انتشار الحقد وسوء الفهم وتوسع المواجهات.

- خالد بن تونس، شكرا.

    شكرا مرة أخرى لضيفنا الشيخ خالد بن تونس. يجب أن نذكر مرة، أخرى أنه أنشأ بفرنسا الكشافة الإسلامية، وحبذا لو تتواجد أيضا في سويسرا، وهو رأي موجه للمهتمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). عيد الصعود هو أحد الأعياد المسيحية، يقع بين عيدين رئيسيين، وهما عيد الفصح وعيد العنصرة، أي بين قيامة المسيح، ومجيء الروح القدس إلى الحواريين، لا يمكن فهم الصعود إلا فيما يتعلق بهذين الحدثين. عيد الصعود، هو عيد مسيحي يحتفل فيه بذكرى صعود يسوع إلى السماء بحسب الرواية الانجيلية. يلي هذا العيد عيد القيامة بأربعين يوما. وافق الإحتفال به في سنة 2007، يوم الخميس 17 مايو.
(2). يعتبر بعض الصوفية، علاوة على ابن عربي، الذين يعطون لسيدنا عيسى عليه السلام، ويختصونه بصفة خاتم الولاية، على غرار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة. ويحدد ابن عربي في ختمية الولاية ختمان، قال أحدهما الختم العام، وهو سيدنا عيسى، الذي يختم الدائرة التي بدأت بسيدنا آدم عليه السلام، ويوجد الختم الخاص المحمدي، وله كتاب في هذا الشأن وهو "عنقاء المغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب". والحكيم الترمذي نفض الغبار عن هذا الموضوع من قبل، في كتاب "ختم الولاية". أما الأحاديث الواردة في حق سيدنا عيسى، فحدث ولا حرج، لا نذكر منها سوى قوله صلى الله عليه وسلم "كيف تهلك أمة أنا أولها، وعيسى ابن مريم آخرها". رواه عبد الله ابن عمر، كما ذكره الحاكم في كنز العمال، وصححه السيوطي في الدر المنثور. وفي رواية ابن عساكر أضاف "والمهدي في وسطها".
(3). يحتفل بهذا التجلي عند المسيحيين في عيد العنصرة، ويقوم بعد أربعين يوما من قيامة المسيح عليه. ويقصد بهذا العيد، تذكر حلول الروح القدس على تلاميذ المسيح، بعد صعود يسوع بعشرة أيام بحسب رواية إحدى الروايات.

(4). حدثت فترة من الاضطرابات المدنية، في جميع أنحاء فرنسا، ابتداءً من مايو في عام 1968، استمرت نحو سبعة أسابيع. بدأت الأحداث بتمرد طلابي وانتشار احتجاجات ومطالبة بتغير الوضع الإجتماعي. لا نعرف دافع الأحداث، إذا لم نعرف واقع الحياة آنذاك، ففي فرنسا. زادت الفجوة الإجتماعية بين الطبقات، بعد الحرب، كانت تحظى الإطارات بالزيادة، في حين تمنع الطبقات الدنيا، وساند الطلبةَ في مسعاهم العمالُ، الذين خرجوا واحتلوا مصانع، ونظم اضراب عام، يعتبر لحد اليوم، الأكبر في تاريخ فرنسا. واجهت السلطة الإعتصام بالقوة، ونفذت اعتقالات. كان للأحداث صيت دولي، ووجدت أخبارها صدى لدى الشباب. أحسن ما حققته الأحداث، تقرير زيادة في أجور العمال، وارتفاع المستوى المعيشي الفرنسي، وأصبحت انشغالات الشباب تجد من يستمع إليها، وتحققت لديهم العديد من المطالب، على مرّ السنوات.
    وتخللتها المظاهرات والإضرابات العامة واعتصامات الجامعات والمصانع. توقفت حركة الاقتصاد الفرنسي في ذروة الأحداث التي أصبحت معروفة بأحداث مايو 68. وصلت الاحتجاجات إلى الدرجة التي أثارت خوف القادة السياسيين من حرب أهلية أو ثورة؛ وتوقفت الحكومة الوطنية لفترة قصيرة عن العمل بعد أن فرّ الرئيس شارل ديغول سراً من فرنسا إلى ألمانيا. حفّزت الاحتجاجات الحركات في جميع أنحاء العالم، وذلك بالإضافة إلى الأغاني والرسومات الخيالية والملصقات والشعارات.
(5). العُصُورُ الوسطى أو القُرُونُ الوسطى، هي التسمية التي تُطلق على الفترة الزمنية في التاريخ الأوروبي، التي امتّدت من القرن الخامس حتّى القرن الخامس عشر الميلادي. حيث بدأت بانهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية، واستمرّت حتى عصر النهضة والاستكشاف. وتنقسم العصور الوسطى نفسها إلى ثلاثة فَترات: الفترة المُبكّرة، والمتوسّطة، والمُتأخّرة. في تاريخ أوروبا تبدأ العصور الوسطى المبكرة أو العصور الوسطى الأولى بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية من سنة 500 للميلاد حتى 1000. ثم تليها العصور الوسطى العليا، وتبدأ تقريبًا في العام 1000، واستمرت نحو ثلاثمئة سنة حتى عام 1300. و يقصد بالعصور الوسطى المتأخرة تلك الفترة في التاريخ الأوروبي وحوض البحر المتوسط، ما بين منتصف القرن الثالث عشر ومطلع القرن السادس عشر للميلاد، أي ما بين عام 1250 و1500 م تقريبًا.