السماع الصوفي آداب و وجدان

السماع الصوفي
آداب و وجدان

    بعد بسم الله الرحمن الرحيم، و ما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، و هو رب العرش العظيم. اللهم صل و بارك على مولانا محمد و على آله و صحبه أجمعين، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    السادة الحضور، أبناء الطريق و بنات الطريق، آمال المستقبل. أملنا أن نخرج إن شاء الله بتوصيات، و على الخصوص، بفهم و حصول رغبة في العمل بما سمعناه. و المحور كله يدور حول السماع الصوفي، و قد تكلمنا هذه الأيام حول هذه النقطة الحساسة، التي جعلت أهل الله، أهل الحضرة الإلهية و الحضرة المحمدية، دائما و أبدا، يحرصون على أن تبقى طريق الله حية، و تغذي القلوب و الأرواح و الأفكار. قال عليه الصلاة و السلام "الآنية ترشح بما فيها". الآنية هي الإنسان. كان سعي أهل الله عن طريق تربية، تكسوها أخلاق و مبادئ و أصالة، و إن بقيت طريق القوم، طريق أهل الله، طريق التصوف حية إلى يومنا هذا، فلأنهم كانوا من أهل التجديد، لا من أهل التقليد. ساروا دائما مع التجديد، و أدركوا فأخذوا من التراث الروحي، و استطاعوا أن يكلموا و يعاملوا الخلق، و أن يفكروا و يذكروا، بما يناسب وقتهم. قال الله سبحانه و تعالى، في كتابه العزيز الحكيم "و العصر إن الإنسان لفي خسر". سورة العصر، الآيتان 1 و 2. لفي خسر في عصره. "إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر". سورة العصر، الآية 3.

    يكون التجديد حسب العصر، و في كل عصر يحتاج الإنسان أن يجدد فهمه، فيما يخص الإيمان و العمل الصالح، و التواصي بالحق، و الصبر عليه. كيف نستطيع في عصرنا أن نضبط و نبلغ هذه الرسالة، كاملة مكمولة؟ هي أمانة في أيدينا، و تحتاج إلى تفكير و تذكير ثم تبليغ، على حسب ما جاد به العصر، و الرسول صلى الله عليه و سلم يقول "الإيمان يبلى كما يبلى الثوب" (1). إذا بقينا على إيمان تقليدي فقط، و لم نجد له بديل لأهل العصر، و اكتفى المرء بحكي عن الرجال، و قول السلف الصالح، و الشيخ الفلاني، و العالم الفلاني، و الرضاء بالخواء، و المثال العربي يقول:

         ليس الفتى من قال كان أبي       و إنما الفتى من يقول ها أنا ذا

    يقول ها أنا ذا، و يواجه مشاكل العصر، و يتعامل بالتجديد، و يعرض على المجتمع الإنساني، الذي يعيش فيه، أفكارا يستطيع منها، أن يُخرج حياة طيبة و مستوية و منضبطة، تزيده إيمانا و تقوى و رجاءا و أمانا. إن الحياة مبنية على الأمل.

     قال صلى الله عليه و سلم "كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته". كلنا يتمنى أن يحصل أولاده و بناته و أحفاده على حياة أفضل. هذا من الواجبات. فما بالك الأمر، بالنسبة لأهل الطريق، و أهل التصوف؟

    ينبغي عليهم أن يخاطبوا المجتمع الإسلامي أو غير الإسلامي بأفكار حية إيجابية، و ليس بأفكار سلبية تقليدية، تقلد الماضي و عاجزة أن تساير الواقع الإنساني. مهما كان هذا الواقع الإنساني. شئنا أم أبينا.

    هذا من النقاط، التي خاض فيها هذا الملتقى، و أظن إن شاء الله، أنه يكون بداية، حتى نقدم أفكارا و تعاليما و بحثا و إرادة، و كذلك رغبة في إعادة النظر في هذا التراث الروحي الحي المجيد، الموروث عن عين الشراب (الرسول صلى الله عليه و سلم).

    إن الأهمية و الهدف المرجو من هذا اللقاء، هو التحريض فينا الرغبة في إعادة اكتشاف هذا الإرث الروحي الكامل، و إعطاء فكرة جديدة لأبنائنا و أحفادنا. إنها مدرسة التصوف الروحية للإسلام.

    نتكلم عادة في الإسلام عن القرآن و السنة و تعاليم سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم. لو حققنا في سورة "و العصر"، نرى أنه أعطى للعصر حقيقة حية، قادرة على القَسم بنفسها، ألا إن الإنسان في خسر، إلا الذين آمنوا. نعتقد أن الإيمان متعلق بديانة و رسالة محددة، و إنّ الإيمان هو طاقة و نور "يهدي الله لنوره من يشاء". سورة النور، الآية 35. يهدي لإيمانه. يجب التمييز بين الإيمان و العقيدة. فالعقيدة هي عبارة عن مفاهيم و عقائد أورثنا إياها أباءنا، أما الإيمان الحقيقي، هو شيئ يسكن القلب. فلو أن الإيمان يرتبط بمفهوم فكري أو منطقي، لما قال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم " الإيمان يبلى كما يبلى الثوب".

    قال الله تعالى "قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا". سورة الحجرات، الآية 14. القرآن واضح في كون الإنسان مؤمن أو مسلم. و قال أيضا "و لما يدخل الإيمان في قلوبكم". سورة الحجرات، الآية 14. إن إتباع رسالة شيئ، و حصول الإيمان شيئا آخر، إنه لا يكون إلا بالتصديق. قال صلى الله عليه و سلم "الإيمان هو التصديق بالقلب و الإعتراف باللسان".(2)

    لا يحصل الإيمان وراثيا أو بانتماء إلى جماعة، فهو معاش بـ "و لما يدخل الإيمان"، أي دخوله في القلب. بمأن الإيمان يدخل، إذن يمكنه الخروج. هذا يعني، أنه مثلما يمكن للإنسان أن يقتبس الإيمان، يمكنه أن يسهى أو ينسى، مما يؤدي إلى خروج الإيمان، و لذلك جاء عنه صلى الله عليه و سلم "جددوا إيمانكم بملاقاة الأحباب". "و لما يدخل" فيها تحذير من يعتقد الإنسان أن دخوله يكون نهائيا و قطعيا.

    إن الذي نقوم به سينمي إيماننا بشكل ما، و يسمح له بأن يزداد و يكبر و يزدهر، و لا يحصل ذلك إلا بالمعرفة. الإيمان يصان و ينمى. و لا يكون لِما نقوم به ـ أي عملنا ـ معنى، إلا إذا كان غذاءا لباطنيتنا و فؤادنا و ضميرنا، و سمح بزيادة معرفته أكثر فأكثر.

    يدور الخطاب الصوفي، حول دخول الإيمان إلى القلب و الرسوخ فيه، و بقاءه دائما و أبدا حيا فيه، ليس لفظا و تشبيها، بل معرفة و يقينا و إثباتا.

    نحن نعيش بالإيمان التوحيدي. قال الله تعالى "من يؤمن بالله يهد قلبه". سورة التغابن، الآية 11. "يهد" من الهداية، و فيه إشارة  إلى الهدية كذلك. يهدي قلبه و أهدى قلبه. هذا من مميزات اللغات المقدسة.

    قال صلى الله عليه و سلم "جددوا إيمانكم بملاقاة الأحباب". لقد حدد، بملاقاة أحباب الله، و يظهر هنا مفهوم الصحبة. نحن أصحاب في طريق الله، كما كان الرسول صلى الله عليه و سلم مع صحابته. فلماذا لم يسميهم بغير هذا الإسم؟ لماذا صحابة و ليس تلاميذ؟ فعند سيدنا عيسى عليه السلام يسمون الحواريين. مع محمد صلى الله عليه و سلم تسموا بالصحابة. صاحبوا هذا النور و هذه المعرفة و هذه الكيمياء الباطنية، التي تسمح للإنسان بأن يرتقي من حقيقة إلى أخرى، و الإنتقال من العالم الحسي. بالصحبة يصل الإنسان إلى الإدراك بمعاني، و حصول حقائق و فن و طروء شعور.

    كيف للإنسان أن يصرف وقته في طلب الله و رضاءه، و في كل ما يقربه إلى مولاه؟ لقد جعلوا لنا ما يسمى بالجمع أو المجمع أو السر أو حلقة الذكر أو الوظيفة أو الحزب وغيرها. يجب تخصيص وقت لهذا و حضور إخوان، فبمصاحبة هؤلاء توقظ الشعلة، مثلما تحدثه الحجارة و حتى الصلبة منها،  فباحتكاكها تعطي وميضا. يجب حدوث هذه الملاقاة بين الأحباب، حتى تبرز المعرفة و تنبع المحبة. لابد من وقت للملاقاة، و علينا أن نضفي عليه القداسة، و يعطى له مكانه الذي يستحقه، فهو ليس أي وقت، فإنه يصبح لحظات مفضلة. على العموم إن أردنا تناول طعام جيد، فسنختار أحسن مطعم، و كذلك عندما نختار حضور جمع و دخول هذه الحضرة، مع اعتبار هذا الوقت، فإن كان مندرجا في الزمنية، فيسمح لنا بالإتصال مع اللازمنية. وقت الجمع و وقت السر و حلقة الذكر، يكون وقتا مقدسا، يتخلله احترام و آداب و سكينة، فأنت متوجه لحضرة الله. قال الله تعالى "أنا جليس من ذكرني" (3). إذا كنتَ متحققا أن الجمع هو لحضرة الله، فكيف تدخله و أنت غير مؤهل باطنيا و فكريا؟ فعليّ أن أتحضر، و أقوم بجهد للإجتماع بالحضرة الإلهية. و قد جاء "من لم يجد فليتواجد"(4)، و هذا من التواجد. يبنغي أن يكون نفسيا متحضرا، لكي يعيش هذه الأوقات، التي تتخللها أذكار و أسماع، تؤدى بألحان على نوبات، في جمع له بداية و وسط و نهاية. يوجد الذكر الجهري و السري، و في المجاميع الصوفية فكله جهري.

    في السماع يقوم الدور الموسيقي للحن بإثارة أحاسيسنا، و بشكل ما، يؤدي بها إلى الإنفتاح و إلى السكينة، ويسمح بالمقابل للذكر و لفكرة التوحيد بولوج القلب. إذا لاحظتم في الجمع، فإننا نجد كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" دائما تتكرر، و تتلى على عدة تقاسيم، و يلجأ فيه إلى مدح النبي صلى الله عليه و سلم. هذا ما يحويه الجمع الروحي عموما، و المركبات الشعرية منشأة على الإثارة.

    يؤثر الكلام و البلاغة و الموسيقى و الطرب على السمع، و خصوصا أثناء الجمع، أما الفكر فيخاطبه الكلام، و قد لاحظته مرارا عند إخواننا الأوروبيين الذين لا يفهمون اللغة العربية، بحيث يؤثر فيهم السماع، و هم لا يفهمون الكلمات و الإشارة و الشعر، فنحن من يفهم العربية، لدينا أفضلية عليهم، من المفترض. إنه نور رباني يدخل القلب.

    السماع مضاعف، و كما ذُكر في إحدى المحاضرات بالملتقى ، فإن مع اللحن الموسيقي و الغناء الموسيقي و النوبات الموسيقية، و مع كل متغيراتها، الهدف المرجو هو إدخال الذكر، و عليه فإنه يصبح قوتا للقلوب "ألا بذكر الله تطمئن القلوب". سورة الرعد، الآية 28. و إن الكلمة تمس الفكر، فهي تدعوه إلى سفر باطني، من عالم الحس إلى عالم الشهادة.

    أشار القرآن الكريم عند قوله "إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب". سورة آل عمران، الآية 190. و قد عرّف أولي الألباب، و هم الذاكرين، " الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم". سورة آل عمران، الآية 191. فتح باب الذكر على جميع الحالات، في الحركات و السكون. دلّنا الله على أن الذكر غير محصور في منهجية خاصة، فقد تركه مفتوحا.

    قام أهل التصوف في تربيتهم بضبط الذكر على حسب المكان و الزمان و الإخوان، و نتيجة للأثر الذي يتركه على نفسية المرء، فهو يختلف من بلد لآخر، تبعا للتقاليد. مثلا في آسيا الوسطى، تجدون الجمع الروحي بشكل مختلف، عن ما هو عليه بالهند أو بالمغرب أو السودان، و الأهمية تكمن في التركيز على ذكر الله، الذي مبدأه التوحيد.

    من الأذكار أيضا، فقد جاء في القرآن الكريم "فاقرأوا ما تيسر من القرآن". سورة المزمل، الآية 20، أي إئتوا ببركة من القرآن الكريم، ثم اتلوا ما تيسر من السيرة النبوية، كما رتبت في الصحف المحفوظة. كثيرا ما يبدأ ذكر الله بالإستغفار، الذي يعبر عنه المرشدين بغسيل القلوب من الذنوب. الذكر غذاء روحي و فكري و قلبي، و يكون بصحبة، في مكان مخصص بوجود إخوة، و إن أعز ما يملك الإنسان هو قلبه، الذي هو محل المحبة، و للمحبة شهود، و صاحبها كما يقول أهل الله، طيار.

    جلسة الذكر تمنحنا في وقت معين الصلة مع التوحيد، و الشيئ المهم هو كيفية المحافظة عليها و إبقائها حية و فعالة، كطاقة خلاقة و حافظة و بناءة. يتفاعل الذكر كحركية لأنه على الدوام يعرضنا للفعل. عندما نخرج من الجمع و نعود إلى حياتنا العملية و نرى الزوجة و الأولاد، و نتعرض لصعوبات العالم، فكيف يكون تصرفنا؟ لا توجد قطيعة بين وقت السماع، الذي هو مقدس، و الوقت الذي خارجه، توجد رابطة عظيمة، لأن الذكر يسمح لنا بالحصول على نظرة عن العالم تُذكر دائما و أبدا، بالنظرة الإلهية، و له تأثير كبير على العلاقات الإنسانية. الجمع يغير حياة الإنسان، و إذا لم يعطي الذكر ثماره في العالم الحسي، إذن فنحن بعيدون و لاهون، و لا نقوم سوى بتضييع الوقت. مثلا التعبير القائل، أننا "نمضي الوقت"، فعند الإنسان الصوفي هذا من المُحال و غريب. كيف للوقت المقدس، الذي قسم به الله أن ينزف كما ينزف الدم؟ إن الوقت من يعطينا حقيقة التوحيد، و إذا لم نعي بأنه ثمين و ذو قيمة، و هذا يفهمه رجال الأعمال جيدا فلديهم "الزمن يعني المال". يجب أن نفهم أن روحيا، الزمن ثمين، و هو في صلة دائمة مع التأمل.

    للذكر مآثر في الضمير، و في ما يحدثه في ضمائرنا التي تعيش في مواجهة صعوبات العالم و الآلام و الشقاء و العنف. و هذا ما سيعمل على الوقت الباطني. في حين أننا لا نرى سوى عيوب الغير، فإن هذه الأخيرة تصبح غذاءا لأرواحنا. يقول الله سبحانه و تعالى "و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها". سورة الشمس، الآيتان 7 و 8. يصبح الفجور بالنسبة لنا، شيئ إيجابي، ما دام أنه يدعونا إلى حسن التعامل، و إلى تعميق الحقيقة الإلهية فينا. هذا النور الإلهي فينا. إن الذي يقوم به الغير يهمني، إذا ما كان يسمح لي بالقيام بتحليلي الخاص، و يكون كمرآة تعيد إلي عيوبي الخاصة. إذن لن أختفي وراء أخطاء الآخرين، و لكن أستثمرها في استئصال و معالجة عيوبي. عيوب الناس مقياس لعيوبي و وسيلة للجس. يصقل السماع الروحي القلب. قال الشيخ عدة بن تونس في قصيدة "كلمني باشفارو"(5).

    على مستوى الضمير يوجد اتزان، الذي شيئا فشيئا، يحط الإنسان في محل الإستواء، فيصبح متزنا في جميع معاملاته في الحياة، و يمنحه الصبر و الحرية المطلقة. يحررنا الذكر من العبودية، التي فرضتها علينا الحياة، و تهب الحضرة الإلهية الإنسان الحرية المطلقة، و بالتدريج يصبح عبدا لله. هذا ما سماه الصوفية بالفناء.

    نتكلم عن فكرة للفناء حتى يفهم شبابنا النفي. مادام أنني موجود فقضية الفناء غير مفهومة عند الجميع إلا لخاصة الخاصة، و لتقريب الفهم نقول أنه حرية. يحرر الله عبده مما سواه.

    العلاقة الوحيدة المعززة و المكرمة، الملاحظة لدى الناس، هي العلاقات المالية. و ذلك لا يمنعنا في أن نعيش في العالم بالحرية الباطنية، و أؤكد لكم أنها تعطي للروح أكثر يقينا و عدم تحيز، و توقي الإنسان من أن يكون إمعة، يقول أنا مع الناس، و أقوم بما يقومون به، لا، بل أعمل، حسب إرادة الله، و ما يوجب القرب من الله و المحبة في الله، و لا يكون عمله لصالح أحد و يغاضب الله. إذا كانت القدرة الإلهية تتحكم في قلوبنا، فسترفع همة الإنسان، و تحرره. يكون عزيزا ، و كريما و ذا أخلاق.

    سمي سيدنا أبو بكر الصديق صديقا من كثرة صدقه. صدق مع رسول الله صلى الله عليه و سلم، و كان شديد القرب منه. أصبح إسم من أسماء الله تعالى مجسدا في أبي بكر، في جسده و عقله و في فهمه و عمله. حدث انصهار بين الصفة و الإنسان أي الجسد. عندما سئلت السيدة عائشة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت أنه "كان قرآنا يمشي على الأرض". و عندما نتكلم عن العارف، فنعني نفس الشيئ، فالعارف بالله انصهار و ليس شيئ فكري. حدا بالمعرفة إلى أن أصبحت عارفا. هو حال يطرأ على كينونة الإنسان، و يغير طريقة رؤيته للأشياء و يشحذ عمله و طريقة كلامه و تصرفه في العالم. بالفعل، من الصعب على الآخرين فهم هذه الفكرة، و رغم ذلك فهي حقيقة تسكننا منذ أن تكوّنا.

    طرحت أسئلة حول وحدة الوجود و وحدة الشهود، و من هذا القبيل. أضمن لكم أن هذه متاهة عجيبة و مستحيلة، تؤدي إلى الإبتعاد، انظروا فقط إلى مواضعكم و ستفهمون مبدأ التوحيد.

    كيف لكائن موجود اليوم أمامنا، أن يولد انطلاقا من خلية واحدة، يلزمها مجهر كبير كي ترى بالعين؟

    كل مخلوق تكون بدايته انطلاقا من خلية. الإنسانية و الجرثومة و الفيروس، كانوا عبارة عن خلية فتكاثرت. حتى الإنسان في مبدأ الخليقة ينتج مبدأ التوحيد. تنقسم الخلية الأولى إلى إثنان ثم أربعة فثمانية، حتى تصل إلى المليارات، و الشيئ المذهل أن الخلية الأولى تحوي كل المعلومة، و تكون شاهدة على نفسها. الخلية الأولى الذي تكون منها الإنسان يندرج فيها لون الشعر و لون الجلد و غيرها، و تكون شاهدة على نفسها. لقد قرّب العلم الحديث من التوحيد، و أعطى له وزنا علميا حقيقيا.

    التلاعب الجيني هو أن نقدم معلومة كاذبة للخلية، و لقد فهمنا اليوم خصائص الحمض النووي. يستطيع الإنسان أن يأخذ الحمض النووي للفيل أو الفأر، و يدخل ما لهذا في ذاك، و أصبح يتلاعب بهذه المعلومة، التي جعلها الله لنا أمانة، و قال في محكم كتابه "إنّا كل شيئ خلقناه بقدر". سورة القمر، الآية 49. تنتج هذه المعلومة الجامعة و الموجودة في كل خلية الكائن الذي هو نحن، بما اتصف به من عقل و لون الجلد و جمال، و حتى عاهاته، بحيث أن الخلية الأولى عالمة و تندرج فيها هذه المعلومة.

    إذا رجعنا إلى الخلية الأولى وجدنا واحدا لا شريك له. فأنت واحدا لا شريك لك. مثلا سي الحاج عبد الله –القاعد أمامي- كم يوجد منه؟ واحد. إن طرحنا السؤال هل نحن فريدين؟ نعم. نحن متميزين و فريدين، و كل إنسان منا هو واحد. فريد في طريقة رؤيته للأشياء و في طريقة كلامه، و في طريقة تفكيره. إنها الخصوصية الإلهية التي جعلت كل واحد فريد. نحن ستة ملايير و نصف المليار على وجه الأرض، و لا يشبه هذا ذاك. و إنه لأمر عظيم، و هذا ما يكشف سر التوحيد في العالم الحسي، أما في العالم الغيبي فلا يعلمه إلا الله. فهذا في الظاهر، أما، من يدريه باطنيا؟

    مهما كان بني آدم، سواء كان رسولا أو  وليا أو زنديقا أو كافرا، فهو خالق و أثبت وجوده، بوجود التوحيد، أي بوجود الله. إذا لم يكن التوحيد، فنحن لا نتواجد، و إلا لكنا نسخ طبق الأصل لواحدٍ. لا يسري هذا فقط عند الإنسان، فلا توجد حبة رمل تشبه الأخرى. إنما التوحيد عام و يعني جميع المخلوقات، حيوانات و نباتات و جمادات. كل شيئ إلا و عليه سمة التوحيد. جاء في الأثر "خلق الإنسان على صورة الرحمن". كانت الخِلقة على حسب صورة الخالق.

    على سبيل المثال، إذا قطع ذراعي في حادث، فإنه يبقى ذراعي و لو كان مفصولا. لا يتجرأ أحد أن ينكر عضو من جسده فُصل عنه، كذلك الحق سبحانه و تعالى، سبقت رحمته غضبه، فالرحمة تعم حتى الذين انفصلوا عن التوحيد. نحن في نسيان كلي لهذه الحقيقة التي أنجبتنا، و كانت مبدأ خلقنا. عندما نسأل شخص عن نسبه، يقول أنا فلان ابن فلان، و لا يقول أبدا، أنا منه. هذا بسيط جدا. و الصوفية الذين قالوها، اعتبروا مجانين و زنادقة. يقول المرء أنه فلان ابن فلان، و فلان ابن مَن؟ فهو فلان إلى آدم عليه السلام، و آدم مَن؟ كل واحد من خلال مبدأ خلقه يرجع إلى مبدأه الأول. إلى آدم الأول.

    نرجع للقضية التي بدأنا بها في الملتقى، و الذي ذكرناه و يذكره أهل التصوف (6)، أننا قبل كل شيئ، قد لبينا النداء، و لكلمة "ألست بربكم". سورة الأعراف، الآية 172 (7). لم يكن لنا وجود قبلا، كنا في العالم الأزلي. لا جسد و لا زمان و لا فضاء. يُذكر لنا شيئ، هو خارج عن الذهن البشري. و رغم ذلك، فإن هذه الخصوصية الإنسانية، منحت لنفسها شهادة ميلاد، لقد ولدت في اللحظة التي اعترفت فيها، و قدمت الجواب، و إن الإجابة لا تكون إلا لمن سمع (السماع) نداء الله، أو خطاب الله أو سؤال الله. كان وجود الإنسان، بشكل ما، في العالم الأزلي، قبل العالم الحسي، و ما نقوم إلا باتباع عملية الإعتراف بالوحدانية، بوقوع ميلادنا و بتشكل الخلية الأولى، و بالحياة نفسها، و إن قيامنا في هذه الحياة هو كائن إلا بإثباتها. الحياة كلها إثبات لنداء (خطاب) الله، و الجواب عليه، بقول "بلى"، يوما بعد يوم، حتى نلقى الله. عند أهل التصوف لا شك في هذا. بلى يا الله، بلى يا الله، بلى يا الله، أنت مولانا، أنت ربنا. لا إله إلا الله، عادت الله، ثم كانت له، ثم رجعت ها. نَفَس.

    هذه الأمور لخاصة الخاصة، و لأناس مرتقين روحيا، و ليست لعامة الناس، أنا آسف، ليس للإنسان أن يكشفها لجميع المخلوقات، و إنما نحن في وقت صعب، و ما أقوله هو محاولة لخلق في القلوب رغبة الإثبات في التوحيد. "و إلى ربك فارغب". سورة الشرح، الآية 8. و نكون شهداء، كما يقول القرآن الكريم "و جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس". سورة البقرة، الآية 143. على أن يكون الإنسان شاهدا. و منه شهادة التوحيد، و هي الإقرار بكلمة التوحيد. نحن نقولها بكل بساطة، و لكن بأي عزيمة؟ و كيف يمكن قولها، و الشهادة لا تكون صحيحة إلا بالرؤية و الإدراك الحسي؟ هل رأينا الله، حتى يمكن الشهادة أنه واحد؟ هل رآه أحدنا و قام بلمسه؟ و رغم ذلك، فإن أساس الرسالة المحمدية، هو قول لا إله إلا الله، محمد رسول الله، و هو الشرط للدخول في (الإسلام). من غير المنطقي و غير مقبول شرعا إذا قالها الإنسان بدون تفكير و تمعن، و بدون وعي. عندما يصادق القاضي على شهادة شاهد، يقول له، هل رأيت؟ و هل سمعت، و هل لمست؟ و قائل الشهادة "لا إله إلا الله" أقام على نفسه حجة. إن الحجة فينا. نعم نحن موجودين بوجود الله. حتى يكون وصولنا إلى اليقين "كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم". سورة التكاثر، الآيات من 5 إلى 8. أقول أن هذه المسائل تثار، إلا من أجل إنشاء الرغبة لدى أبنائنا و بناتنا، في هذا الوقت الصعب، المليئ بالشهوات و النزوات، و بأمور سلبية كثيرة، و ننقذهم و نزودهم بإيمان و يقين و ثبات.

    مع وجود التطرف و التشدد، فإن دور التصوف الآن، هو نشر تربية اليقظة، و ضبطها حتى يكون الوصول إليها بسهولة، لأن في عهد السلف الصالح، و في عهد المشائخ و السالكين، كان هذا الأمر عاديا، كان المجتمع يستند على قاعدة و يملك عقيدة ثابتة، و تسير أموره بسهولة.

    أما اليوم، فإن الإنسان يتناول غذاءه بطنجة و يتعشى بباريس، و ربما يتغذى في طنجة و يتعشى في نيويورك، مع وجود كل هذه المسافة، و البعد الثقافي و الديني. كيف نستطيع أن نستخلص من هذه الرسالة ما هو لبا، ينفعني في ديني و دنياي؟ و كيف نعيش اليوم بما هو أساسي، مع الحفاظ في أنفسنا على الصلة بالألوهية حية، و الحفاظ على الإدراك الحسي و الإنفتاح، و التوجه الذي يساعدني على بناء حياتي، حول المركز الذي هو التوحيد نفسه، و الذهاب مهما أمكن إلى إستواء الإنسان و توازنه؟ و لا نطالب بغاية الكمال، نتكلم فقط عن الإستواء. إستواء التطرف، لأن الإنسان يكون أحيانا في شدة.

    لشدة تجرد العالم عن أصالته أمام الحداثة، و التحديات التي تواجه الإنسانية، أدى بالبعض إلى الثورة و رفض العالم، فأصبح لا يتقبله و لا يقبل أقرانه، و يرى نفسه المخلص، و يستعمل الموت. ليس المخلص الذي يأتيه الموت، بل المخلص الذي يأتيه الموت و يقدمه. يرون أن العالم يعيش فسادا كبيرا، يجب تخليصه بتدميره. الله يحفظ و يستر. عندما يدخل إنسان هذه الحقيقة، فمن الصعب عليه الخروج منها، فهي كالسقوط في جهنم. يقول الله سبحانه و تعالى "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين". سورة التين، الآيتان 4 و 5. بإمكان الإنسان السقوط في أسفل سافلين عدة مرات. مادام يوجد أسفل سافلين، فإنه يوجد أعلى عليين.

    بُعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رحمة، و نزل في حقه "و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". سورة الأنبياء، الآية 107. و قال عليه الصلاة و السلام "يسروا و لا تعسروا، بشروا و لا تنفروا". إنها دعوة دائمة للرأفة و الرحمة، و إلى الإعتدال و الصبر، و إلا نتعرض لنوع من الإنتحار. إنتحار شخصي و إنتحار بإشراك آخرين.

    سامحوني إن أطلت في الكلام. ندعوا الله سبحانه و تعالى أن يوفقنا لما فيه الخير و الصلاح، و أن يحفظنا من شر أنفسنا. عندما يدخل الإنسان هذا الملجأ "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، فهو يدخل كما قال الله سبحانه و تعالى في الحديث القدسي "لا إله إلا الله حصني و من دخل حصني نجا من عذابي". حصن لا إله إلا الله يرد البال. الحمد لله، حصن الذكر و الذاكرين.

    هذه رحمة، لابد علينا من المحافظة عليها. المحافظة عليها. المحافظة عليها. لنجتنب الروتينيات و لنعطيها الأهمية و الحق الذي تستحقه. لنحاول المحافظة على هذا التعليم، و ولوج دائرة التوحيد، هذه الدائرة التي تقينا شر أنفسنا. و ليعي كل واحد منا أنه الساهر و الحافظ على هذا الإرث، و يبلغه كما هو، لا تغيير فيه، و يحذر من إفساده، و يتوجه نحو ما هو أساسي، و لا يضيع الوقت في الأمور التافهة، و يجتنب نزوات النفس المحبة للظهور و المتبخترة. هذه النفس التي أفسدت أمما و شعوبا، و يحوم خطر تدمير إنسانية اليوم، لأنها تفتقد إلى الصلة بحضرة الإطلاق و بالرحمة الربانية، رغم ما ننعم به من خيرات، و مع وجود ستة ملايير إنسان، فنحن مازلنا نأكل و نشرب، و بالمقابل ينتشر فقر و ظلم كبيرين.

    أرى أننا نحن الذين نأكل و نشرب كل يوم، و نملك سقفا و يمكننا العلاج، لابد أن نحمد و نشكر الله، على ما أنعم علينا به سبحانه و تعالى من خير ظاهر و نِعم باطنية، و النعمة الأولى هي نعمة المحبة، و نعمة التوحيد، و نعمة الصلة الربانية الروحية، لهذه الطريق الميمونة السعيدة، طريق الله، طريق رسول الله، و طريق أهل الله، و السلام عليكم.   
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)  قال صلى الله عليه و سلم "جددوا إيمانكم، فإن الإيمان يبلى كما يبلى الثوب. فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا لا إله إلا الله".
    و قال أيضا "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم". رواه الطبراني و الحاكم.

(2)   نجد هذا الحديث بهذا المعنى، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه الفعل ، والعلم علمان علم بالقلب وهو العلم النافع ، وعلم باللسان فهو حجة الله على خلقه".
     جاء مأثورا، بأن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان وعمل بالجوارح.

(3)  حديث قدسي رواه الديلمي، مرفوعا عن السيدة عائشة رضي الله عنها.
(4)  من البيت الشعري للشيخ العلاوي:
      من لم يجد فليتواجد      قصدا يتعرض لفضل الله
(5)  من البيت الشعري للشيخ عدة بن تونس:                                                                   
               هذبني بانظارو      علمني نُرضيه
         كلمني باشفارو    نعرف ما يبغيه

(6)  حول هذه النقطة جاء عنه في الكلمة الإفتتاحية التي ألقاها في الملتقى، مايلي:
    و أهل التصوف عندما يتكلمون عن السماع، قبل كل شيئ، يرجعون إلى قوله سبحانه و تعالى، إلى النداء الذي خطب به أرواح بني آدم، في الأزل، قبل وجودنا، و قبل نشأتنا في العالم الحسي، لما خاطبهم بقوله "ألست بربكم". سورة الأعراف، الآية 172. الذي يُعرف بالميثاق الرباني بين الحق عز و جل، و بني الإنسان، مع اختلاف ألوانهم و أديانهم و لغاتهم، فكل الأرواح لبت و جاوبت على هذا السؤال "ألست بربكم قالوا بلى". سورة الأعراف، الآية 172. كل الأرواح لبت نداء الله، و اعترفت بوحدانية الله، و قدرة الله، و إرادته في مخلوقاته، و من هذا المنطلق، قد شرف الله بني آدم، و أكرم الجميع عندما نداهم، لأن النداء لا يكون إلا لمخلوق، له سمع، يسمع به النداء.

    حدث سماع نداء الله، و خطاب الله و سؤاله قبل الوجود، في العالم الأزلي، وبذلك سبق الإنسان الروحي و المعنوي، الإنسان الوجودي الذاتي و الحسي. من هذا الميثاق، عرف الإنسان عن طريق جوابه على النداء، بما أمده الله سبحانه و تعالى من علم و معرفة. و بواسطة السمع، أصبحنا كلنا معترفين بالتوحيد و ما بعد التوحيد، و بكل ما عرف الإنسان من بداية الحياة الإنسانية إلى يومنا هذا، من العلوم و التكنولوجيات، و المعرفة في الكونيات، و كذا المعرفة بنفسه و بربه. فالسماع الصوفي يشير إلى هذا الميثاق، إلى هذه النقطة الحساسة، التي بُنِيَ عليها الإنسان. مَلك الإنسان الحاسة و الشعور، لما صدر منه الجواب، فأهلّه ليكون خليفة الله في أرضه، و أهّله لحمل المسؤولية، أو ما تسمى بالأمانة، التي عرضها الله سبحانه و تعالى على السماوات و الأرض و الجبال فأبينا أن يحملنها و حملها الإنسان. مَن هو؟ الإنسان الذي لبى خطاب الله، و ردّ على سؤال الله بالإقرار. "ألست بربكم قالوا بلى". في "بلى"، قال وجودي. بالرد ثبت وجود الإنسان. ثبت وجودنا بوجود إقرارنا بوحدانية الله سبحانه و تعالى قبل وجودنا. إهـ.

(7)   قال الله تعالى "و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا عن هذا غافلين". سورة الأعراف، الآية 172.

         الشيخ خالد بن تونس. الملتقى الدولي التكويني الأول للسماع الصوفي، آداب و وجدان. أيام 29 و 30 أبريل و الفاتح مايو 2010.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق