من كتاب علاج النفس، أركان الإسلام الثلاثة


أركان الإسلام الثلاثة


الإسلام، الشريعة
    تحوي الرسالة التي جاء بها الإسلام، مظهرا علاجيا إرتبط بشفاء النفس الإنسانية "هو شفاء للقلوب" (يونس،37)، و هي تشبع حاجة الإنسان الروحية للمعرفة المطلقة من جهة، و من جهة أخرى، تستجيب لمتطلباته في معرفة النفس. يشير التقليد الإسلامي إلى ثلاثة أركان أساسية للإتباع – الشريعة، و الإيمان، و الإحسان - حتى يوحى  إلينا جوهر الرسالة الإلهية.   
                         
    توجد مناسبة مهمة بين هذه الأركان الثلاثة و الحالات الثلاث للنفس. نستطيع أن نرى أن الشريعة - بحصر المعنى – في الإسلام، تتناسب مع المقام الأول للنفس ،النفس الأمارة، النرجسية و الفردية. لقد جاءت الشريعة، لتنظيم سلوك هذه النفس، التي ترفض الإصغاء و دائمة التمرد، و لتبين لها ماهي أحكام الحلال و الحرام. لا تستسلم النفس الأمارة تلقائيا لسلطة خارجية، فالشرع هو الذي يوضح لها ما هو جائز، و ما هو ممنوع. على سبيل المثال، الوصايا العشر التي ألهمت تاريخيا القوانين اللائكية للمجتمعات الحديثة، فهي تقوم بهذه الوظيفة.

الإيمان
    المرحلة الثانية من مراحل النفس هي النفس الوسطية أو النفس اللوامة التي تتناسب مع المبدأ الثاني للدين الإسلامي، ألا و هو الإيمان. حينما تكون نفسنا مضطربة و تائهة، سنكون مدفوعين إلى القيام بأعمال سيئة، و إن الإيمان هو من يجعلها تندم بعد ذلك. هي لعبة دائمة، أخذ و رد، بدون انقطاع، بين رضاها و ندمها.

    الإيمان بالله راحة و مواساة للكثير من الرجال، فهو يمكنهم من مواجهة إبتلاءات الحياة الإنسانية، و يساعدهم و يشجعهم على السعي في الخير، لهم و لغيرهم. يقيم الإيمان حالة من الثقة و الأمان بين الكائن و الله سبحانه وتعالى، ويجعله يشعر بأمانة ثمينة مخفية في قلب الإنسان. من جهة أخرى، إن كلمات إيمان، و أمان، و أمانة، لها نفس الجذر: أمن.

    لا يكتسب الإيمان تلقائيا و لا نهائيا بطريقة وراثية عن الأباء. بل هو طاقة و نور يلج كينونة الإنسان و يستطيع أن يغادرها في أي لحظة.

الإحسان
   إن مقصد الإسلام هو الإحسان الذي يتناسب مع المرحلة الثالثة للنفس، و هي النفس المطمئنة. لقد بلغت هذه النفس حالا من التوازن التام، تتعرض فيه، إلى تشويشات أقل، و تعيش في سلام. تتوافق حالتها مع الإحسان... تمر مرحلة الإحسان بتحقيق مختلف حالات النفس الإنسانية. لا تحتاج هذه المرحلة إلى النار أو الجنة لكي تتحقق. من هنا تحمل إشارة رابعة العدوية كل معناها، و هي التي خرجت تحمل في يد دلو ماء لإطفاء نيران جهنم، و في اليد الأخرى حزمة حطب لإبرام النار في الجنة. تتواجد حالة الإحسان في وحدة الكائن، وراء كل الأشكال الثنائية التي ينغلق فيها العقل الإنساني. في حين أن الإسلام يجعلنا نعيش في خوف  العقاب الإلهي عند المعصية، يعتمد الإيمان على وعد الفوز بالجنة أو على الخلاص، لكل الذين أحسنوا العمل بتعاليم الدين. يشجعنا الإيمان على فعل الخير للحصول على الجزاء من الله. بالمقابل، في مقام الإحسان، تلتحق النفس المسالمة  بالوحدة و تعيش فيها. لا تعرف حالة السلم العقاب أو الجزاء  أو الخوف أو الأمل، فهي تتميز بتجرد تام. لقد استرجعت نقطة توازنها التي تضعها بمسافات متساوية اتجاه كل شيء.

    لا نكون مثل الله، كون النفس وصلت إلى تجريد كلي، و أصبحت تشكل واحدا مع كل شيئ. و كوننا جربنا حضرته تعالى في أنفسنا، فلا يعني أننا هو. لهذا يجب أن تسير هذه الأركان الثلاثة معا، حتى لا تدعي النفس بمجرد معرفتها أو علمها أو صفائها، أنها توجد فوق الرجال و القوانين الإنسانية و الربانية. و ذلك أن الإحسان لا يتجلى في علاقته النوعية مع الله فحسب، بل حتى في نوعية الصلات التي تربط الإنسان بغيره.
 "و أحسن كما أحسن الله إليك". (القصص،77).
   
  لا يخضع حال الإحسان للمعايير و القوانين التي تدير المظهر الخارجي لدين ما، و لكنه حقيقة نعيشها، و قاعدة سلوك راسخة في أعماق الضمير. يذكرنا تحقيق الإحسان في النفس بأن البعد الأدبي هو أهم أبعاد القرآن الكريم. الذي لم تكن وظيفته الأولى سن القوانين لكل شيء، بل في تقديم توجيهات تشرف أخلاق الإنسان و تشجعه على فعل الخير.
"و أحسنوا إن الله يحب المحسنين". (البقرة،195).

    تعبر السنة النبوية هي أيضا، عن هذه القاعدة التي تحكم علاقتنا بغيرنا في الحديث الآتي:
"اعبد الله كأنك تراه فإذا لم تكن تراه فإنه يراك". 
    يوجد الشخص الذي بلغ حال الإحسان في مقام أعلى عن الإيمان، إنه في الشهود و اليقين المطلق. و هو يجرب تلك السكينة التي تكلم عنها الأولياء و الحكماء بعدما تحرروا من حجبهم.

عندما تستحوذ النفس على الشريعة
    يؤدي البحث عن مقام الإحسان إلى ظهور صلة أخرى بالشريعة غير محدودة و لا تتوقف عند الحروف. يعتقد البعض أن الدين ليس سوى مجموعة من القواعد و المحظورات، يمكن من خلالها أن نحكم على الناس و العالم بدون خطأ. ينتهي الأمر دائما، بأمثال هؤلاء إلى أن يحكموا على كل شيئ، و يشاهدوا الشر في كل مكان. يتواجد الشخص الذي يعيش الإيمان بهذه الكيفية لا محالة في حال من الألم الشديد. أليس هذا حال أغلبية الناس الذين يستندون إلى دين، و يمارسونه بمنظور الشريعة فقط.

    ليس الشرائع السماوية وحدها قادرة على أن تستغل كأداة للسيطرة و لخدمة إيديولوجية حزبية، بل حتى القوانين الوضعية للأنظمة السياسية، يمكن أن تكون كذلك، لا ننسى ذلك. اليوم، عندما يصوت على قانون في المجلس المتكوّن من أغلبية سياسية معينة، لا محالة أنه سيميل إلى خدمة مصالحها. غالبا ما يستعمل الإنسان حق التشريع لجانب حزبه، و ناذرا ما يكون للمصلحة العامة. يجب التنبيه على هذا الأمر.

     في حين تخدم القوانين السياسية غالبا مصالح جماعة معينة، تتجه الشرائع الإلهية في أصلها إلى الجميع، بدون تمييز و لا تفضيل جماعة على أخرى. ذلك أنها لم تتولد من أراء مسبقة بل نشأتها عالمية. و عليه، فإن الرسالة المنقولة في شريعة الله بسيطة و لا تبديل فيها. ثم تدريجيا بالمجادلات و الرهانات السياسة و المنافسة، غيّر الإنسان طبيعتها الأصلية. و عليه، ظهرت تيارات دينية جديدة تتناحر فيما بينها حول حقيقة الرسالة، ينتهي بنا الأمر عندئذ إلى النسيان بأن دين واحد و الرسالة الفطرية في أصلها لم تكن موجهة إلى جماعة معينة بل إلى الإنسانية جمعاء. تلكم الفكرة التي تكلم عنها الحلاج في ديوانه:

     تفكرت في الأديان جد تحقق     فألفيتها أصلا له شعبا جما
     فلا تطلبن للمرء دينا فإنه     يصد عن الأصل الوثيق و إنما
     يطالبه أصل يعبر عنده      جميع المعالي و المعاني ففيهما



    نستطيع أن نقيس إذن، إلى أي نقطة إبتعدنا عن الروح الشمولي لدين الفطرة الذي بثه الإسلام. فعلى سبيل المثال من غير الممكن اليوم التكلم عن الشريعة بدون ما يوحي ذلك فورا للمسلمين و لغير المسلمين، قانون عقابي أو نظام قضائي معقد و شديد، مقتبس من التنزيل القرآني. اقتُحِم هذا الفهم للقانون الإلهي حديثا، في خطابات الإسلاميين، و نظن أنه أتى مباشرة من الله، و فُهِم بهذه الكيفية منذ ظهور الإسلام. الأمر ليس كذلك فهو لا يعني بأي حال عبارة قرآنية. 

    لكن إذا رجعنا إلى التعبير القرآني، نجد الأمر مخالفا و هو يعني "رسم الطريق للوصول إلى مجرى الماء العذب"، ثم أصبحت الشريعة الطريق الذي يجب اتباعه للوصول إلى الهدف، أو الطريق الواسع". كل التفاسير القرآنية تنص على نفس الفكرة، الطريق المرسوم الذي يوصل إلى الله تعالى. نلاحظ جيدا عدم وجود أي علاقة بين كلمة "الشريعة" و "القانون" الذي يبين كيف يجب أن نعيش إيماننا، بدلا من أن تكون الشريعة (القانون الإسلامي) مقيدة و معيارية، فإنها تسمح للشخص مع سلوكه، أن يوسع وجهة نظره و يعيش علاقته الدينية مع قريبه. إن التدخلات المتعددة للإنسان في الشريعة أدى إلى تبديل معناها الأول. فكل واحد انطلق من محدثته معتمدا على مذاهب قضائية و فقهية دُرست سريعا في المدارس و دُفِع عنها من طرف الأتباع. 

    عند السنة يوجد أربع مدارس أساسية، و عند الشيعة مدارس متعددة: الإسماعيلية، الإثناعشرية،  العلاويين السوريين، و الزيديين باليمن، إلخ...لقد أنجبت هذه المدارس طرقا عديدة للفكر و لعيش الشريعة.

   أما اليوم توجد طائفة أخرى: إنهم الإسلاميين الذين أعادوا إبتكار بعض مظاهر قانونية و نسبوها للشريعة ليعطوها معنى لم يكن لديها. لقد فوجئ عديد كبير من المسلمين بخطاب الإسلاميين، لأن ذلك لا أصل له في السنة، و لا يستطيع أي منقول أن يبرر بدعتهم. مثلا فهم يحكمون على فلان بأنه ليس بمسلم على الحقيقة، لأنه لا يطبق حرفيا نظرتهم الضيقة للشريعة. تعطي خطاباتهم  انطباع أنها عصرية. نقول ذلك لنبين، أن حتى التشريع الإلهي، يمكن أن يوجه لأهداف سيئة من طرف الرجال، و يحوّل عن أهدافه الحقيقية الشاملة.

انحراف التيار الإسلاموي
    لكي ندرك حقيقة انحراف التيار الإسلاموي، يجب أن نميز جيدا بين القانون الإنساني – سواء أكان سياسيا أو دينيا – الذي هو محصلة مبادرات و إتفاقيات تسعى لتغليب مصالح حزب أو مدرسة، و بين القانون السماوي الشامل الراسخ في ضمير و قلب كل إنسان. 

    تعتمد القوانين التي أسستها مختلف المدارس الفقهية على تفسيرها الخاص، دون أن تتساءل أبدا عن روح التوجيهات القرآنية. لا نستطيع أن نقول، خلاف ذلك، حول التفسيرات التي يمنحها الإسلاميون، عندما يتلاعبون بالمبادئ الأساسية لدينهم. يرى الإسلاميون في الإيمان، المبدأ الأول و أن الشريعة المبدأ الثاني، أما الإحسان فلا يتكلمون عنه إلا ناذرا. و عليه نستطيع القول، أنهم قلبوا بمكر عملية السلوك الروحي. في حين ينص الحديث على أن الدين يتكون من ثلاثة (أشياء): إسلام، و الإيمان، و الإحسان، من ناحيتهم يصرحون بأنه مبني على الإيمان أولا.
    و لكن أي إيمان يعنون به؟ هل يمكن الكلام أيضا عن إيمان يخضع فيه الشخص بإكراه لقواعد و إعتقادات تسلبه كل قدرة على الحكم و التمييز؟ لا شك أنه في صالح بعض الناس تعريف الإيمان، بأنه الخوف من الإنتهاك و المخالفة. من السهل التسلط على إنسان، عندما نمنعه من التفكير بنفسه و نكرر عليه في القول بأن على المؤمن الحق أن يطيع الله، و إلا يحل به عقاب شديد. لا يبقى للعقل أدنى سبب لأن يتدخل بل يكتفي بما أنزله الله تعالى في القرآن. ولكن توجد آيات عديدة في كتاب الله، تدعو القارئ إلى الإجتهاد و التدبر و التحليل النقدي.
"كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولوا الألباب". (ص،29).
"إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولوا الألباب الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السموات والأرض".(آل عمران، 190).

    إنه من المهم بالنسبة للإسلاميين إبقاء الناس في عقيدة خالية من كل معنى نقدي، حتى يقطعوا الطريق عن كل تفكير، و أي حوار مع الذين يعيشون و يفكرون بطريقة مختلفة. يجد الكائن نفسه عندئذ أسير نظام عقائدي لا يستطيع فيه أن يبدي بأي رأي، دون أن يخشى الإعتداء على تابو أو أن يتهم بالكفر من طرف جماعته. في هذه الحالة، هل نستطيع التكلم مرة أخرى عن الإيمان؟

إنحرافات الإعتقاد
    إن "الإيمان" الذي يتكلم عنه الإسلاميون، هو في الواقع، تابع للإعتقاد و ليس للإيمان، و بالمعنى الذي عرفه التقليد. فهو طاقة تجعلنا في حالة من اليقين الباطني فيما يخص حقيقة الحضرة الإلهية في حياتنا، و في الخليقة، دون أن نستثني مساورة الشك لنا. تدخل هذه الطاقة في القلب على شكل نور و تقيم علاقة ثقة بين الشخص و مبدأه الرباني. في المقابل، يعتمد الإعتقاد أكثر، على قناعة خاصة، عديمة التفكير، ناتجة عن الظروف النفسية و البسيكولوجية، الذي تصدر عنها كل الأحكام المسبقة. لا نستطيع أن نجعل الإعتقاد و الإيمان في نسق واحد. في مقام الإعتقاد، يندرج الروح في المبدأ ويمارس شعائر دينية دون أن يدرك معناها الحقيقي، بل يكتفي باعتبارها عادات أو تقاليد.في حين أن الإيمان يفترض حرية  شخصية، في تجريب هذه الحضرة الإلهية التي تقلب باطنيا كينونته. و عليه قد يكون للإنسان جملة من المعتقدات غير المنطقية دون أن يقوم بتجربة إيمان حقيقي.

    يلتقي أطباء الأمراض العقلية، و علماء النفس، و المحللين النفسيين، عادة بمرضى لهم تصرفات إستحواذية تستجيب لبنية عقلية مجمدة. إن الذين ينصبون دائما على فرض على الآخرين قوانين عديدة و معقدة، و الذين يلجأون بدون توقف و إنقطاع إلى قوانين صارمة ليعلموا ما ألذي يجب فعله، هم آبلون من هذه الأمراض و ليسوا قادرين على التقرير بأنفسهم. لابد لهم من قاعدة قانونية، ركائز في كل ما يقومون به، بما فيها الأمور التافهة للحياة اليومية. يتساءلون دائما عما هو حلال أو حرام في الإسلام. نجد مثلا أن بعض الأشخاص يتساءلون هل إشعال نار حمراء حلال أم حرام في الدين، لا يأتي على بالهم أن يتساءلوا هل مسموح به في نظر قوانين الجمهورية. و ممنوع في قوانين المرور. هذا كل ما في الأمر. ليس للدين مهمة التشريع في كل جوانب الحياة الخاصة و العامة، هذا التصرف ليس خاصا بالمسلمين، نجده بكيفيات عديدة في ديانات أخرى، و كذلك في المؤسسات الإنسانية التي تأخذ بالشكلية الحقوقية و مبدأ الإجراءات القضائية.

    تشير هذه الطرفة المضحكة، إلى الضلال الذي يتخبط فيه الأشخاص، عندما ينضمون إلى مثل هذا النظام العقائدي. ليس لدينا فكرة إلى أي مدى يُجمد الدين المفرغ من محتواه الروحي الفكر، و يُصيغ الشخص عندما يكون تحت وطأة التعصب و الحرفية. يحطم تصرف مثل هذا كنه المُقدّس و جوهر الدين نفسه. قال سيدنا عمر بن الخطاب، الخليفة الثاني في هذا السياق "إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله، و إن الوحي قد انقطع، و إنما نأخذكم الآن بما ظهرلنا من أعمالكم".  

    من الإسراف أيضا، الإدعاء أن الكتاب العزيز هو دستورالمسلمين، كأنه يحمل في طياته نظريات سياسية، تبرر قيام تيوقراطية (*) إسلامية. لم يعتبر الرسول صلى الله عليه و سلم يوما القرآن بمثابة دستور سياسي، و لا خلفائه و لا التابعون. نجحت هذه الفكرة التي تلقيناها، و تستمر في الإنتشار رغم كل شيئ، في العالم الإسلامي و غير الإسلامي، مفسرة بعض التهم التي توجه للدين الإسلامي. يجب التذكير بأن القرآن لم يشرع نموذج سياسي، عكس ذلك نص بوضوح، على الفصل بين السلطة الروحية و الدنيوية.
"يا أيها اللذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم". (سورة النساء، 59).

    إذا لم نجد أي أثر في أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم، و في القرآن لنظرية سياسية، فإنه بالمقابل، أشارت مصادر إلى مبدأ مشاورة الشعب: الشورى، التي صورت مسبقا عمل النظام الديمقراطي.
 "و الذين استجابوا لربهم و أقاموا الصلاة و أمرهم شورى بينهم". (الشورى،38)..
    
     بل يدعو القرآن الرسول صلى الله عليه و سلم إلى استشارة أهله في كل الأمور ألتي تهمهم.
 "و شاورهم في الأمر". (آل عمران، 159).

لا تخلط الغاية بالوسائل
    كيف وصلنا إلى هذه الوضعية؟ بكل بساطة لأن كلمة إسلام، بمعنى الشريعة أصبحت تشير بدون تمييز للأركان الثلاثة للدين (الشريعة، و الإيمان، و الإحسان)، و أعطت إسمها للدين الذي ظهر حديثا. هكذا الإسلام الذي كان في الأصل، فقط وسيلة لاختصار الطريق الواجب اتباعه للوصول إلى مقام الإحسان، و بالتالي التسليم لإرادة الله، أصبح بعد ذلك، الغاية النهائية.

    الخلط بين الإسلام كدين منزل و الإسلام كشريعة مستمر و قائم منذ خمسة عشرة قرن، له حقا دلالة مخفية. استعمل الرسول صلى الله عليه و سلم نفسه، كلمة إسلام كإسم للدين. تاركا إيانا أمام مشتبه، كي يجعلنا نفكر عن مبرر وجوده. مهما يكن فالدين الإسلامي قائم على ثلاثة أركان تم تلقينها من طرف الرسول صلى الله عليه و سلم لصحابته و أقربيه.
 
    ليس للمسلمين و بالأخص الأجيال الجديدة فهم صحيح لتقليدهم. بالنسبة لغالبيتهم لا يوجد سوى الشريعة، و هذا كل شيء. لقد فضلوا بصفة لا إرادية هذا الخلط، حيث يطلقون على دينهم إسم الإسلام، متناسين أن الأمر يتعلق فقط بالركن الأول. لقد أصبح الدين الإسلامي دين الشريعة فقط، في حين أنه حالة كينونة. هذا يعني أنه يمكنأن يكون المرء على الإسلام دون أن يكون مستلما لإرادة الله، من دون أن يكون "مسلما".
"و له أسلم من في السموات و الأرض طوعا و كرها". (آل عمران، 83).

    الجدير بالذكر، أن الثقافات و الديانات الأخرى، هي التي ساهمت بصفة غير مباشرة في انتشار هذا المصطلح. فعلا فمنذ عهد قريب، كان في الغرب تستعمل كثيرا كلمة المحمديين للإشارة إلى أتباع الدين الإسلامي. يمكن تفسير ذلك من الناحية التاريخية، كون الدين الإسلامي آخر الديانات السماوية المنزلية، لذلك سمي أتباع هذا الدين من طرف النصارى خاصة تبعا لاسم النبي الذي أتى به: محمد صلى الله عليه وسلم. من أجل التأكيد على هوية الدين الإسلامي، و اجتناب أي خلط أو جمع بين التنزيل القرآني و الرسول صلى الله عليه وسلم، تبنى المسلمين هذه التسمية.

    يندرج الإسلام  دائما في استمرارية الرسالة الإبراهيمية، و اليهودية، و المسيحية، فالقرآن يؤكد ذلك بوضوح.
"إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابين من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون".(البقرة، 62).
    يعلمنا القرآن الكريم أن سيدنا إبراهيم، من أدخل كلمة مسلم ليشير إلى إستسلامه لله الواحد.
"أسلمت وجهي لله رب العالمين". (البقرة، 131).
   
    و بالتالي، قبل مجيء الإسلام، كان سيدنا إبراهيم مسلما. كونك "مسلما"، يعني أنك تعيش في "دين الله"، و دينه واحد. و من ثمة، نستطيع القول أن الشخص الذي لم يولد في الإسلام، و يعتنق عقيدة أخرى، قد يكون في الباطن "مسلما"، شريطة أن يبحث عن إرادة الله.
" قولوا آمنا بالله و ما أنزل إلينا و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط و ما أوتي موسى و عيسى و ما أوتي النبيئون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم و نحن له مسلمون". (البقرة، 136).

    لقد نتج من الإستغلال السياسي للإسلام، التأثير على الهويات الدينية و الثقافية، وإخفاء الرسالة العالمية و السمحاء للقرآن. يساهم الإرهاب الإسلاموي و الحروب القائمة بالشرق الأوسط في نقل صورة سيئة، بواسطة الإعلام، عن هذا التقليد. إن جهل الرسالة الروحية الأصلية للإسلام، جعل الناس ينظرون إليه كدين عدائي لليهودية، و المسيحية، و الديانات الأخرى. للحكام السياسيين و المفكرين في البلدان الغربية طرف من المسؤولية في الخلط السائد لدى الرأي العام بين الإسلام و الإسلاموية، عندما يتركون  فكرة "صدام الحضارات" تغزو في المستقبل القريب. هل نستطيع أن نقول بأن المسلمين سيفعلون كل ما في وسعهم لتوضيح هذه الوضعية، و يتبرؤون نهائيا من دعاة الإسلام المتطرف؟

أسباب عيش الإسلام
    لقد آن الأوان للمسلمين، بأن يتصالحوا مع الحكمة الأبدية لرسالتهم المنزلة. و ما يجعل الأمر أكثر استعجالا، كون هذا التراث يمثل نوعا ما دَينا (فتح الدال) تجاه الله. هذه نقطة مهمة يجب التذكير بها. هذا يحتم عليهم مسؤولية خاصة تجاه مصير البشرية. الدَين تجاه الله و اتجاه الناس، في نفس الوقت. هذا يعني أن الدِين (كسر الدال) ليس فقط ما يربطهم بالله في لقاء صامت و منعزل، أو فيما بينهم (المسلمين) في انغلاق طائفي. بل رابطتهم أيضا بـ "الملحد"، و بكل من لا يشاركهم العقيدة، حتى يقع معهم تحاور و تفاهم.

    يترجم هذا الدَين الذي إقترضناه من الله في الوجود، بنقص يدعو الإنسان دون توقف، حتى ينتبه لإرادة علوية. فهو مدعو  طوعا أو كرها، لمحو إرادته الخاصة أمام الإرادة الإلهية. ناذرا ما يقوم بذلك آنيا، من تلقاء نفسه، و إذا تهيأ لذلك، يقوم به، بدون بصيرة. أما إذا لم يتمكن من الإستسلام للإرادة الإلهية، سينتهي به الأمر، في السراء أو الضراء، للإستسلام لإرادته في البأس، أو لإرادة الغير. هذا ما يفسر وجود دائما في التاريخ الإنساني طغاة استولوا على السلطة، و ادعوا الربوبية، و وجود أشخاص آخرين مستعدين لعبادتهم، و الخضوع لإرادتهم.

    إذا اعتبرنا الدِين (بكسر الدال) دَينا (بفتح الدال)، لما ظن الإنسان بعد، أنه قادر على الإستغناء عن علاقته بالله. سيعيش في نقصان دائم، باحثا باستمرار عن السعادة. و لن يتمكن من الإمتناع عن تأليه مخلوقات فانية و محددة، لعدم قدرته على عبادة الحق الواحد. يتوجه بجهل إلى آلهة إستعاضية. لقد أله رجال غيرهم في التاريخ، بل ألهوا حيوانات، و نجوما، و نباتاتا، و أحجارا، و أشياء أخرى. و مازالوا حتى اليوم، محتاجين لمعبودات جديدة، و هذا ابتداءا بأنفسنا. و في سر حميميتنا، نضل مشركين سواء شعرنا بذلك أم لم نشعر. و من ثمة، هل "الذين أسلموا" لإرادة الله موجودين حقا؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*).تيوقراطية: ترببية ( حكومة يشرف عليها رجال الدين، تدعي الحكم باسم الله).