الأربعاء، 21 يوليو 2021

طريق الشفاء

   

بسم الله الرحمن الرحيم

طريق الشفاء

 

  إلى إخواننا وأخواتنا في الله، وجميع محبي السلام. 

 

    في هذا اليوم الإحتفالي المشهود لعيد الأضحى المبارك، في عيد تضحية نبي الله إبراهيم عليه السلام، أتوجه إليكم جميعا بأخلص تمنياتي، التي يملؤها السلام والإخاء وموفور الصحة، لكم ولجميع عائلاتكم وأقاربكم، وجميع من يأمل ويعمل من أجل عالم يسوده العدل والتضامن والمصالحة.

    عالمنا المريض بحاجة ماسة إلى العمل من أجل تمكين شفاءه. في أوقات الشك والغموض هذه، من الأهمية بمكان بالنسبة لكل واحد منا، بملء ضميره، أن يضطلع بمسؤولياته، قبل أن تنهار حضارتنا وتنطبق على نفسها. إن اليوم، قد خلفت جائحة كوفيد 19 ملايين الموتى، فإن الحقيقة التي لا مناص منها، إأن زمن الشفاء قد أظلنا، ويخلف وراءه زمن المرض والقتل.

    تحت وطأة الذهول، ننظر مكتوفي الأيدي إلى صنع الجنون الإنساني، من حروب طائفية وعرقية وايديولوجية، وقهر الإستغلال والفقر، وأضرار التلوث، وتفشي سوء الفهم والجهل، وصدام الحضارات والعناد والمضاربة... نرى في كل مكان جموعا ترفع راياتها وشعاراتها وتشهر أسلحتها، منقادة لرأي زعمائها وكبرائها وقادة الفكر، الذين بإطراء استعلائهم، يحرضونهم ويدفعونهم للقطيعة، مرة وللأبد، مع صديق الأمس... الذي أصبح اليوم عدوهم... يصرخ البعض "اقتلوهم جميعا، فالله يعرف أهل حزبه". وآخرين يناشدون "اقتلوهم محبة في وطنكم وعرقكم ودينكم". وأخرون أيضا يجهرون "نحن أهل الخير وهم أهل الشر، اقضوا على الشر، فتتحرر الأرض".

    لا يسعنا إلا أن نقرّ ضرورة، ونأخذ بعين الإعتبار، أن جائحات الحرب والكراهية والعداوة تزهق أكبر عدد من الأرواح، أكثر من جائحة كورونا نفسها، وتمتص موارد أكثر من ما يكلفه أي لقاح، وتزرع اليأس والخوف، وتؤجج أحقادا وعداوات وحروب جديدة.

    إذا نظرنا إلى المحنة التي نمر بها اليوم، فإن الروحانية ليست استرخاءا ولا تنمية شخصية. إنها رسالة لتغذية ضميرنا بالقيم الشاملة، وحتى بالنسبة للذي لا ينتمي إلى أي تقليد ولا دين، يملكها في أعماق نفسه. مثل الزبد في اللبن، ينبغي خض اللبن للحصول على الزبد. في كل إنسان يبقى كامنا هذا الجانب من الروح. وهذا يعرف في جانب الغيرية. إذا كان وضعي سيوقفني في مقام الروحاني، فإن هذا الأمر يبقى غير صحيح. ينبغي النزول من هذا البرج. إن التواضع حالة كينونة. إذا كنت ترغب في مساعدة الناس، ساعد شخصا على وشك السقوط، اخفض كتفك لترفعه، إنحنِ. إن العالم بحاجة إلى مساعدة، ومساعدة تأتي من الأسفل، وليس من فوق، بإغراقه في حقائق جاهزة. إنه تدريبا يحدث تغييرا في حياتنا. يدعونا هذا التعليم إلى أن نعيش ثقافة السلام، وننقلها إلى أبنائنا، حتى يتسنى لهم بناء مستقبلهم، الواحد مع الآخر وليس الواحد ضد الآخر.

    مهما قيل، فإنها نهاية نظام بادية، نظام لا يعرف كيف يستجيب لاحتياجات مجتمع اليوم، ناهيك عن احتياجات مجتمع الغد. لنتحدث بصراحة عن فيروس بسيط، ظهر وجعل الآلة العالمية في حالة توقف. كيف يمكن لمجتمعنا أن يضع ثقته ويأمل في نظام يعطي الأسبقية للربح على الرفاه العام؟ عندما جزء كبير من الإنسانية لا يحصل على اللقاح ويطالب به، في حين أن مجموعة أخرى لها الخيار الإستغناء عنه، خوفا من الأثار الجانبية المحتملة أو الوهمية. هل يجب القيام بالإرغام أو مشاركة الذين يريدونه؟ وفعالية حملة تطعيم تعتمد على عالميتها. ينبغي على الحكومات أن تجعله متاحا وبالمجان. في هذا السياق، يمكن أن تلهمنا وقائع سابقة. إنها قصة لقاح شلل الأطفال. في سنوات الخمسينيات، كان يعتبر مرضا رهيبا، يسببه أيضا فيروس، يصيب الأطفال، وكانت تسجل حوالي 20000 حالة سنويا، ويتسبب في شلل مدى الحياة. اخترع جوناس سالك، العالم البيولوجي الأمريكي اللقاح الأول ضد هذا المرض، ولم يسجله أبدا كبراءة إختراع، ولم يطالب بعائدات الملكية. الشيء الوحيد الذي كان يهمه من أجل رفاه الجميع هو نشر اللقاح على أوسع نطاق ممكن، وأسرع وقت ممكن.

    حان الوقت لتوقظ الضمائر، وتنفتح للإنسجام الحميمي والحوار الدائم مع ضمير نحن، ثمرة تجربة طويلة ونضج روحي يتخلل مجمل أفكارنا وأدق تفاصيل أفعالنا. إنه يدعوننا في كل لحظة، في السراء والضراء، في الشك واليقين، في العمل كما في التأمل، إلى جني وتوطيد هذه العلاقة المتينة، التي تسمو وتوحّد نفْس العالم، وتقودها لتذوق لحظات السلام.

    ليمنح كلٌ لنفسه ضمير مرتاح، يشارك ويوافق، وإما ليصمت أمام المشهد الرهيب الذي تقدمه يوميا ساحة العالم، العديم الرحمة، ثمرة أوهامنا، في حين يقف الشخص المحبط ويصرخ "السلام على الأرض، السلام بين الناس. اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون. اللهم افتح بصيرتهم حتى يعلموا أن محبتك هي محبة جميع مخلوقاتك، في احترام الإختلافات التي أردتَها، وحتى يكتشف كل واحد من خلال الغير ثراء وعظمة رحمتك".

    يا رب إني أتوجه إليك من خلال كل القلوب والضمائر الموجودة في كل واحد وواحدة من مخلوقاتك، أن تخلصنا من التكبر والخيلاء وفورة القتل التي تتربص كل واحد منا. اللهم تقبل دعاءنا، كهدْي من الذين يأملون فيك، في محنتهم، وهم أشداء، ويرغبون على مرادك، أن يعيشوا ويتقاسموا في الأخوة والسلام الهبة التي منحنتهم إياها، التي هي الحياة.

 

    كانت هذه رسالة الشيخ خالد بن تونس، حررها بمناسبة عيد الأضحى المبارك، يوم 10 من ذي الحجة 1442، الموافق لـ 20 يوليو 2021.