الفصل الثالث: التجديد، طابو رئيسي؟


الفصل الثالث
                    الإسلام والغرب: دعوة للعيش معا
التجديد، طابو رئيسي؟



    يعتبر اليوم، التجديد أحد المحرمات الرئيسية في الاسلام. كيف نقوم بالإصلاح، إذا قبلنا بأن يظل المجتمع مجمداً، إزاء خيالية مثالية، تخص المجتمع المسلم الأول؟ ليس لدي أي مشكلة، مع ميراث السلف الصالح، ولكن ينبغي وضع هذا الميراث في سياقه، من خلال الحوار والنقاش، لإعادة إدماجه وتكييفه مع الحاضر. كيف يمكننا أن نتقبل الخطاب الذي يحمله بعض الفقهاء، يريدون تزويج صبية بعمر تسع سنوات، لم تصل إلى سنها القانوني، يمنعونها من الذهاب إلى المدرسة، ويريدون تحميلها مسؤولية، مشابهة لمسؤولية أمها أو جدتها...؟ بيد أن هذا العرف، لم يكن مقصورا على المسلمين. ولذلك من المهم، بل ومن الملح، التشكيك في مبادئ من عصر آخر، يحاول البعض فرضها، كحقائق منزلة. النموذج الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية السابقة، لم يعد يتوافق مع نموذج اليوم.(1)

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث صحيح مشهور "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا". رواه أبو داود، من رواية أبو هريرة. هذه ليست كلمات، تدين المستقبل، بل على العكس تماما، تعِد بضمان تجديد، يمس الرسالة الروحية. علاوة على ذلك، فإن إسناد هذا الأمر، لا يقتصر على العالَم الروحي أو الديني، لأنه يمكن أن يخص عالَم العلوم، وكذلك عالم الإقتصاد أو الفن. ألم يكن القرن العشرين، مثالاً على الكثرة الاستثنائية في الاكتشافات والابتكارات، أكثر من كل ما سبق؟ على الرغم من هذا التقدم، لا يزال العالم يواجه تحديات كبيرة، مثل تغير المناخ، والتلوث...

الإسلام دين التجديد
    من الواضح أن التجديد، يعرب أيضًا، عن أمل كبير للإنسان. للأسف، فإن هذه الفكرة ستُعترض، لأن بالنسبة لبعض المسلمين المتطرفين، كل تجديد ديني هو أمر مستنكر. عندئذ، كيف يمكن أن نأمل أن نرى، ظهورأحد الرواد، مادام أنه على الفور، سيقع في شباك الظلامية؟ لقد أعاقت هذه الحالة الذهنية، تطور الحضارة الإسلامية، ومنعتها من التقدم.

    والأشخاص غير المسؤولين، الذين يتبنون هذا الخطاب الرجعي، ويلوِّحون بموبقة البدعة، سيبقوننا بعيدين عن الحقيقة. يرفضون أن الإسلام كان دائما دين التجديد. هو كلي الوجود، منذ ظهوره. بالفعل، في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تكن الأحاديث مضبوطة، ولم تكن قد نسخت بعد. كان هذا هو العمل الرائع لأولئك الذين خلفوه. والقرآن لم يكن موجودا في شكله الحالي، كان فقط منسوخ على عظام أكتاف الجمال، أوقطع من الجلد، أو ورق البردي... ألم يكن جمع هذه الأجزاء المبعثرة، دليلاً على الإبداع؟ هل يمكن أن نتخيل، ولو للحظة واحدة، أن في عصر الأنترنيت، نواصل القراءة على عظام أكتاف الجمال؟ سيكون من الغباوة التأكيد عليها، وإدانة هذه التقنية، في حين أن بفضل هذه الأداة، أصبحت الكتب متاحة للعالم بأسره. أما المذاهب الفقهية، فلم تظهر إلا بعد قرون، من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هاهو شيئ آخر يمكن اعتباره بدعة. دائما في نفس الزمن، لم يعترض المسلمون التقليد. كان السلف يبتكرون باستمرار. على سبيل المثال، في سنة 708، أثناء حكم الخليفة الوليد، تم نقل محراب القصر، إلى كنيسة يوحنا المعمدان (وهو الإسم المسيحي لني الله سيدنا يحي)، التي أصبحت المسجد الأموي(2). استعمل لحوالي سبعين سنة، كمكان للصلاة، يشترك فيه المسيحيين والمسلمين.

    مستجدات أخرى ظهرت، كصلاة التراويح في شهر رمضان المعظم، وكذلك جميع العلوم الفقهية  والعقائدية وتفسير القرآن، وغيرها. تأسست بعد فترة طويلة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقٌبلت كأساسات للاسلام.

    كما هوالحال في المجال الديني، فقد اهتموا بالعلوم الدقيقة. لماذا أبدعوا في الرياضيات، واخترعوا الأعداد العربية، وعلى الخصوص الصفر، وكذا الجبر، الذي أحدث ثورة في المعارف وتطبيقاتها، حتى تكنولوجيات اليوم. ولماذا اهتموا بالطب؟ ولتوفير الرعاية، لأكبر عدد ممكن، أبدعوا أول براميستان(3)، حيث نجد أثره، بالقرب من قصر هارون الرشيد، في بغداد. 

    ليس التجديد أمرا منكرا، ولكنه ضروري، وبشكل ملح. في الإسلام، يكافأ المبتكِر على نحو مضاعف. أولا من أقرانه، مادام أنه قدم خدمة، ثم الله عز وجل.

كبار مصلحي النهضة
لا يمكننا أن نذكر التجديد، دون الحديث عن المصلحين الكبار في الإسلام، مع هذين الفاعلَين، في فترة النهضة (النهضة العربية الإسلامية في القرن 19)، وهما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، بقيا مشهورين حتى اليوم، لكتاباتهما. كان هذا الأخير رئيس جامعة الأزهر، في حين كان الأول يشغل منصبا كبيرا في الحكومة الأفغانية، وحاول إدخال إصلاحات داخل المجتمع الأفغاني، حتى يتمكن بلده من اللحاق بالركب. كما تطرقت إصلاحاته إلى العالم الإسلامي بأكمله.

    ترك الأفغاني (1839 – 1897) العديد من الكتب، ولكن في أحدها طعن في النزعة المادية. يمكن تلخيص فكرته، في أنه كان يرغب أن يصلح في المجتمع الإسلامي، دون استعمال العنف. وللأسف، عندما نرى حالة تفكك أفغانستان اليوم، يصعب التصديق أن رجلا من هذا البعد العالمي وسعة الاطلاع، كان من الممكن أن يولد في هذا البلد. من الإنصاف القول، إن المجتمع الأفغاني في القرن التاسع عشر، لم يكن ناضجًا بما يكفي، لاحتضان أفكار الأفغاني المبتكرة. من الواضح أن أفكاره لم تقبل من قبل السلطة المحافظة للبلاد. اضطر إلى الفرار واللجوء إلى تركيا، حيث حاول أيضا أن يقنع الخليفة، في ذلك الوقت، بضرورة إجراء إصلاحات في المجتمع الإسلامي، حتى يستعيد مكانته في الإسلام.

    أما الثاني فهو محمد عبده (1849 – 1905)، فمنذ نعومة أظفاره، كان حريصًا على التعليم والمعرفة. حالفه الحظ، لأن يكون خال أبيه، رجل صالح، وهو الشيخ درويش الخضر، مرتبطاً بالطريقة الصوفية الشاذلية. كما وصفهم برنار ميشال والشيخ مصطفى عبد الرزاق ".... المتصوفة، هم رجال ذوي شعور ديني رقيق، ويتمتعون بإدراك عال، نحو الالتزامات الأخلاقية؛ ومسلمون يوطدون إيمانهم بمصادر الدين، من خلال السعي إلى التعمق في القرآن، ويتحلون بالطيبة والبساطة، ويبحثون حتى في المعتقد، ما يُكلم القلب ويجدد الإيمان...". بفضلهم تمكنت العناصر الحية للإسلام، من الثبات حتى يومنا هذا، ولهم نعهد بالتجديد الذي نشهده. إنها بركة نالها الشيخ عبده، وهذا من أجل صالحه الخاص. نحن نعرف أنه بقي في علاقة دائمة مع الشيخ درويش، حتى وفاة هذا الرجل المتميز. كان يستشيره في كل مصاعب الحياة، وكانت نصائحه دائمًا، توجهه إلى التحلي بالفطرة السليمة، والمسامحة بصدر رحب.(4)

    يعتبر محمد عبده، واحداً من أعظم المصلحين المسلمين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. عمل رئيسا لجامعة الأزهر من سنة 1886 حتى وفاته، وألف كتابه الشهير "رسالة التوحيد"، ولقد كان ذو سلطة بلا منازع في بلاده، كما في سائر بلاد المسلمين.

    لقد حاول هذان العالمان، إجراء إصلاحات عميقة، ومفيدة للمجتمع الإسلامي، لكن كلاهما، سيخيب أمله، من كل، من السلطة السياسية، والفقهاء المعاصرين، الذين ليست لديهم رؤية مستقبلية، عن الإسلام والمجتمعات الإسلامية. فالمحافظة التي تنزع الواحد والآخر، وعدم الوثوق في الأفكار الجديدة، لا يمكن إلا أن تعيق المجتمعات، وتجبرها على الجمود. في الواقع، إن الأفكار الجديدة، تخيف السلطات الزمنية والسلطات الروحية. في هذا السياق، لجأ كليهما إلى باريس، وتوج اجتماعهما باتفاقهما، وكتابة صفحة في تاريخ المجتمعات الإسلامية. فقد أدركا الحاجة إلى جعل الأمور تتطور، وقررا إنشاء جمعية العروة الوثقى، في عام 1883، التي سوف تنشئ ما يسمى السلفية، ما يعنيه العودة إلى السلف الصالح. كانت الفكرة، هي تغيير الظروف المعيشية للمجتمعات الإسلامية، من خلال تنظيف العادات والتقاليد، التي يمكن أن تمنعهم من التطور. لتحقيق ذلك، كان ينبغي إرساء تعليم حديث، وإنشاء النظام السياسي للشورى، أي البرلمان أو المجلس. هي العديد من الأفكار، التي سيتم تلقيها من قبل خلفائهم، ولكن للأسف، انحرفت عن غرضهما، وتم إفراغها من محتواها الأصلي. كما عبر عنه ذلك، بشكل جيد، طه حسين، في عام 1946، في حديثه عن آباء من النهضة "لا أحد كان يتصور، أن موجة مثل تلك الأدبيات، ستفترض عودة رجعية للدين. عودة روح تمجيد الماضي. ليس الأمر كذلك. كان العالم العربي في وضع متناقض للغاية، منذ نهاية القرن الماضي. ودفعته ظروف الحياة العصرية، على تبني الحضارة الغربية، ومع ذلك ظل مرتبطًا جدًا بالتقاليد، ومغرمًا جدًا بالمثل الدينية. تحت طائل المطالبة، من طرف الدين من جهة، والحضارة اللبيرالية من الجهة الأخرى؛ تمكن من التحرر من قبضة الأولى، في السنوات الأولى من القرن العشرين، واستعد لتذوق تقليد متجدد حديث، ويعيش في نهاية المطاف ماضيه، بالنظر إلى المستقبل بكل حرية .ليست هذه الأدبيات الجديدة في النهاية، سوى تكريس وانتصار الكفاح، من أجل حرية الضمير، واستمرارية الماضي، الذي يعتزم العرب المحافظة عليه، لمواجهة المستقبل بثقة وأمل".(5)

نشأة السلفية
    كيف، بعد هذا الأمل، وصل العالم الإسلامي إلى المحنة المؤلمة، التي يمر بها اليوم؟ بعد عبده والأفغاني، سوف تتحول السلفية، وتتخلى عن الأفكار الوَلادة لمؤسسيها، لتتوافق مع إصلاح ضيق، ينوء بعبئه، حتى أيامنا، مصير المجتمعات الإسلامية.

    عندما عاد محمد عبده من المنفى، تم تعيينه رئيسا لجامعة الأزهر. حاول مرة أخرى تجديد التعليم، لأنه يعتقد دائمًا، أنه بهذه الطريقة، وفقط بهذه الطريقة، تكون العقليات قادرة على التطور، ويدرك المجتمع الإسلامي تأخره، ويأخذ مكانه بين الأمم العصرية. نشّط أيضا محمد عبده مجلة المنار، الكثيرة المقروئية من طرف المفكرين في ذلك الوقت، في المغرب كما في المشرق، وحتى في الهند. ساهمت هذه المجلة كثيرا في انعكاس الفكر المسلم، وأثارت حركة النهضة.

    عند وفاة محمد عبده، تولى محمد رضا إدارة المجلة، وبالتدريج أخذت أفكار الإصلاح، القائمة على الرجوع إلى السلف الصالح؛ في الإنحراف، نحو أفكار محافظة ورجعية. وهكذا، فإن رضا شكك في التراث الألفي لمختلف المدارس وتعدديتها، في الفكر الفقهي والفلسفي والروحي، لطرح ما يسمى بإسلام الأصول. بتر بهذه الطريقة، المجتمعات الإسلامية من ذاكرتها الجماعية. قوّض أسس مبنى، بدلاً من أن يرتفع، تدهور تدريجياً. في يونيو ويوليو 1926، وبعد لقائه مع ابن سعود، ملك المملكة العربية السعودية، في مؤتمر مكة المكرمة، قام رشيد رضا، بتحويل الأفكار السلفية للأفغاني وعبده، من خلال التقارب مع الوهابية، التي تقوم على مفاهيم المدرسة المتشددة، لفقيه القرن 13، ابن تيمية. بمجرد التلاعب، بالأفكار الإصلاحية، أفضت إلى إيديولوجية طائفية، متناقضة تماما.

    على سبيل المثال، نحن نعلم أن المدارس الفقهية للإسلام، مبنية على مفهوم الإجماع. ومع ذلك، فإن الوهابية لا تعترف بهذه الفكرة، والظروف السياسية للعالم الإسلامي، في ذلك الوقت، ساعدت شيئا فشيئا، في أن تكون فقط الوهابية، المتمكنة من السيطرة على العقول، وتظهر كالمدافع الوحيد عن الإسلام السني، وتقوم بتطهيره من الخرافات، وجميع إبداعات القرون الماضية. في ذلك الوقت، في بداية القرن العشرين، بما أن معظم الدول الإسلامية كانت تحت الحكم الغربي، لم تكن القومية الوطنية قادرة، إلا على تأييد أفكار الإصلاحيين الوهابيين الجدد. وهكذا تم مصادرة الكلمة، وحوصر الفكر الإسلامي، حيث كان أي تفكير، خارج الأيديولوجية الدينية المفروضة، يعتبر مخالفاً لمبادئ الإسلام المتطرف.

رؤيتان للإسلام
    نواجه اليوم نوعين من الإسلام، أحدهما متطرف وأيديولوجي، ينكر تنوع ثراء الفكر، الذي أُنتج لقرون، إسلاموية منطوية على نفسها وعصبية وعاجزة عن التغيير والتكيف مع العصر. والآخر، على العكس، روحي ومتسامح، يحمل رسالة تقليدية، حية وعالمية. ترتبط هذه الرسالة، بجوهر قلب الإسلام، وتنادي كل كائن بالمبدأ الأساسي، المتمثل في التوحيد، وتكشف له الصلة الدقيقة والخفية، بين الإنسان والمخلوقات والإلهي. إنها دعوة لبناء دائرة الأخوة الإنسانية، مع الاحترام المتبادل للاختلافات. وبالتالي يمكن أن تساعد العالم الإسلامي، على إيجاد السلام ووحدته، من خلال تنوع التيارات التي تميزه، وقبول التسامح، والحوار مع التقاليد الأخرى.

    إن القيام برفض الإرث كله، والأخذ كمعيار، فقط الجيلين أو الأجيال الثلاثة الأولى، التي تلت الهجرة النبوية (622)، هو في رأيي، عبثية، ندفع ثمنها حتى اليوم. نشهد اليوم مصادرة الكلمة، في حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، أكد على أن التنوع في الآراء في أمته رحمة. أصبحت الأماكن المقدسة، أماكن يسيطر عليها رجال الدين، الذين جمّدوا الإسلام، والفكر الإسلامي، بينما كانت مكة في وقتها، نموذجا، يأتيها الحجاج، للبحث عن أمثلة للفكر والسلوك، بين مختلف المدارس التي تلقنهما. يجب علينا أن نحاول العثور على هذه التعددية للأفكار والآراء، لاسترجاع العلاقة بالماضي، من أجل الاستجابة بشكل أفضل، لشواغل الحاضر وتحديات المستقبل.

    الإسلام غير متجمد، ويعطي للتجديد، مكانة إختيارية، حتى يتمكن الإنسان من مواصلة تطوره، نحو مصيره، الذي يجعل منه، خليفة الله في الأرض. يأمره بالتحسن الدائم، حتى يبلغ انفتاح الضمير الإنساني. ويتمكن من التطور في علاقاته الإنسانية، وصلته بالوحدة، حتى يسمح للعدل والسلام أن يتحققا، على وجه الأرض. هو الوسيط بين الأفقي والعمودي، بين المدنس والمقدس، وبين الماثل والمتسامي. الإنسان هو في الآن نفسه، حامل مصير، ورسالة تدفعه نحو التوحيد. مبدأ يحكم علاقاته مع نفسه والآخر، ومع كل شيئ ... ومجموع الخليقة.

التطرف ليس حصرا على الإسلام
    منذ عدة عقود، يمر العالم الإسلامي بأزمة عميقة، ولكنها مفيدة للإسلام، وكذلك بالنسبة لبقية العالم، مادام أنها لا تترك أي شخص، غير مبال. إنها تستوقفنا وتثير الشكوك. لماذا هذا الكم من العنف في هذا العالم؟

    ظاهرة التطرف، ظاهرة عالمية. نجدها في جميع التقاليد. إنها ليست حصرا على الإسلام. تقوم على ثلاثة مبادئ: الخوف، وإضفاء الطابع الإيديولوجي، والفكر الواحد.

    الخوف من الآخر هو غريزة البقاء لكل إنسان. إنها تتفاقم بسبب حالة الصراع. وتجلب المرء نحو الإنطواء على النفس، والدفاع عن القيم الخاصة به. في تلك اللحظة، يحتاج الإنسان لبناء الآخر، ذلك الخصم والمعتدي. يضفي الشرعية على حالة العنف التي تسكنه، مبررا كل التجاوزات، من خلال العدوانية العرقية أو الأخلاقية. يفسر التاريخ، ولا يتردد في تحريف معناه، لتبرير هذا أو ذاك العمل، لصالحه. لا يتردد في الاعتماد على النصوص المقدسة، والقوانين الطبيعية، وعلى تفوق عرقي مزعوم، لتبرير ما لا يمكن تبريره. وإذا لم يوجد ذلك الآخر، فيجب أن يتم اختراعه، لأن هناك حاجة دائمة، إلى كبش الفداء ... إنها ظاهرة تتجدد سواء في المجتمعات، أو داخل القبائل والعائلات والأديان.

    بيد أن أدلجة الأفكار أوالفلسفات أو الرسالات الدينية، مازالت أكثر خبثا، وقد استخدمت في ما يمس المثل الأعلى، لدى الإنسان. في هذه المرحلة، يتغذى الصراع على الحب الإنفرادي والأناني: عائلتي، وطنى، ديني.... يصبح الإعتداء على الآخر، تصرفا ينم عن حب، يؤدي إلى البطولة، أو الشهادة، أو ما يجعل من المرء، كائنا إستثنائيا، يهب حياته لأولئك الذين يحبهم، من أجل حمايتهم من الأعداء. كم من لوحة تذكارية، تم رفعها في العالم، لتمجيد أولئك الذين سقطوا في ساحة المعركة، من أجل هذه القضية النبيلة؟ لا تزال هذه الاستراتيجية فعالة. لا ينبغي في أي حال من الأحوال، أن تستخدم الحرب للأهداف الشخصية. لسوء الحظ، إنه شر يتكرر في المجتمع البشري، غالباً ما توظفه نخبة، تتمتع بالسلطة، وتريد الاحتفاظ بها. الثورات وحروب الإستقلال، استفاد دائما منها، قلة عرفت كيفية الاستفادة من الوضع، على حساب الشعب. يقول المثل "الحرب غشوم"، ويقول آخر "البادئ أظلم". أما الجهاد الأكبر، فهو الجهاد ضد النفس، ويجري بسيف اقتلاع أنانية النفس، والهوى والأوهام الفردية.(6)

    في النهاية، هناك تطرف الفكر الواحد، الراكد، الذي عندما يتزعزع، ويفقد دينامياته الداخلية؛ لم يعد باستطاعته الاستجابة للتحديات والمشاكل، التي يطرحها المجتمع. يصبح غير متسامح ومشبوه. يطارد بلا هوادة، أي رأي غير مؤات له. لا يقبل حرية الفكر. إنها مطاردة الساحرات، سلطة الإدانة والوشاية... يتحول النظام إلى دولة بوليسية، أمنية. باسم الفكر الواحد، يُتعقب العدو أينما كان. تصبح محاكم التفتيش، العلاج السليم، لاقتلاع الشر الذي يتخبط فيه المرء. تستخدم الرقابة لتطهير الأفكار والكتابات والكلمات وحتى الألعاب، والضحك و الدعابة الساخرة. إننا نفكر فيك، نرشدك إلى طريق خلاصك الأبدي. كل منتهك، سيتم التعامل معه، كما ينبغي، وهذا يعني، بنعته زنديق، مجاهر بالكفر، مضاد للثورة... منزله في دار الدنيا، لا يمكن إلا يكون السجن أو معسكر الإعتقال أو مصحة نفسية، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإنها المقبرة... أما عن الآخرة، فمن الواضح أنه ينتظره عذاب جهنم، خالد فيه...

عندما تحجب الإسلاموية الإسلام
    بمأن الإسلام ظهر في جزيرة العرب، ونزل الوحي المحمدي بلسان عربي، تدّعي بعض دول الخليج، أنها صاحبة رسالة الإسلام الصحيحة. لكن الميراث الثقافي والروحي للإسلام، لا يقتصر على هذه البلدان، مادام أنه موجود أيضا في الهند، وأفريقيا السوداء، وباكستان، وأوروبا... ناهيك عن الصين، التي يوظف فيها نساء إمامات، سيرة لم تنقطع لقرون، وباقية حتى اليوم حتى اليوم. وأخيراً هناك إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية في العالم، بوجود 250 مليون مؤمن، حتى أنه كان على رأسها، بين عامي 2001 و 2004، امرأة، السيدة ميغاواتي سوكارنبوري. هذا البلد هو مثال يحتذى به جميعنا. يكشف لنا، كيف يمكننا أن نتقبل بعضنا البعض، بشكل أفضل، ونتكامل، بجعل تعددية الثقافات والعلاقات ثراءا.(7)

    في السياق الحالي، هل اللواتي ترتدين الحجاب في أوروبا أو المغرب الكبير، أو أي مكان آخر، ترتبطن حقاً بالوهابية؟ لا على الاطلاق. في باريس، أو الجزائر العاصمة، أو القاهرة أو المدينة المنورة، تم دفعهن إلى الإعتقاد، أنهن لكي تكن مسلمات، فهن مطالبات بزي يميزهن عن الآخريات. في الواقع، هذه القضية تخفي دعاية إسلاموية، قادمة من الخليج العربي. يتم تمويل معظم القنوات الفضائية، من قبل أيديولوجيين إسلاميين، يدعمهم أصحاب البترودولارات. في مواجهة هذا الوضع، تود تيارات فكرية أخرى، أن ترد وتعارض هذه الخطابات، من عصر آخر، - بما في ذلك جامعة الأزهر، التي تعترف على سبيل المثال، أن الحجاب ليس زيا إسلاميا-، ولكنها غير مسموعة تماما. إن القيم المتأصلة للمساواة بين الرجل والمرأة، التي يعظ بها الإسلام مخفية بالكامل، ووضع المرأة مضلل به، في العديد من البلدان. وسبّب، إنتشار عصبية في المجتمع، و ساهم في تقديم صورة كاريكاتورية، عن المبادئ التأسيسية. سيكون من المفيد، لوسائل الإعلام، عند تحري الأخبار، أن تكون حذرة، حتى لا تسلط الأضواء جهلا، على فكر وأفعال الإسلاميين، على حساب ما يعرب عنه، إيمان الأغلبية الساحقة من المؤمنين. لنكن حذرين، حتى لا تحجب الإسلاموية الإسلام.

    الإسلام قبل كل شيء، تسليم للإرادة الإلهية وقدسية الحياة. الخطر الحالي، هو أننا لا نتحدث إلا عن الإسلاموية، وهو مصطلح شامل، من شدة ما تلقيناه، أصبح يشير بغير هدى، إلى الإسلام في عقول الكثيرين. لا ننسى أن الرسالة النبوية، موجهة إلى ضمائر، لها الحرية في أن تعتنقها، أو لا تعتنقها. على الرغم من أنه ظهر في شبه الجزيرة العربية، إلا أن هذا البلد لا يحق له، أن يستحوذ على نشأته، ناهيك عن الأماكن المقدسة، التي هي ملكية مشتركة، لجميع المسلمين. لم تكن أبدا إرادة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم "تعريب" الناس، لأنه كان يحترمهم، فيما هم عليه. وقال "لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ". رواه الإمام أحمد.

قيم أساسية
    منذ البداية، كان الإسلام يقوم على القيم الأساسية: الرحمة الإلهية، والعدالة والمساواة. إنها روحانية حية، تم تطهيرها من كل نير عقائدي ومذهبي.

    في قضية الحجاب، يقول الإسلاميون إنه بالتأكيد ليس فريضة دينية، ولكن ارتداءه هو مسألة إيمان، مما يجعله إلزاميًا. يُظهر هذا التلاعب، مدى سجننا للإسلام، في ظل اندماج عاطفي واجتماعي. نحن نعتني بالمظهر قبل الذات. ليس للحرية الفردية معنى عند الإسلاميين. ألم يضعوا ثقافة الاستبدال، موضع التنفيذ، التي لا علاقة لها بالإسلام؟ مثال الحجاب شديد المغزى. إنه قبل كل شيء عادة ثقافية، وأصبحت موضة اليوم، وعلامة مميزة للانتماء، وحتى وسيلة للضغط الاجتماعي والسياسي. على أي حال، بحكم تعريفها، أي موضة يمر عليها الزمن. إن الإسلاموية هي مؤشر على إفقار ثقافة، أصلها متعدد، وضاربة في الانفتاح والتسامح، والتي معها، تتكيف رسالة الإسلام العالمية، التي لم تعرف الدول المستقلة حديثًا، كيف تنهض بها. قد اعتبرت هذه الثقافة خطأً، هوية موروثة. بدلاً من إبراز الرسالة الروحية التي هي جوهرها، أصبح الإسلام جهازًا للدولة، مع وزارة للشؤون الدينية. لقد عاشه المسلم كصدمة، وتساءل عما يمكن أن يثريه باطنيا، فيما يتعلق بهذه الشعائر الإسلامية، التي جفّت القيم السامية لهذا الدين. استفاد الوهابيون الجدد من هذا السياق، ليتوغلوا في الثغرة، ويوسعون دعايتهم عبر مكة المكرمة. لقد أصبح الحج المكان المثالي، لتمديد الهيمنة السياسية والدينية.

    تبذل السلطات السعودية جهودًا كبيرة للتحديث، مع القيام بإستثمارات ضخمة. وتستغل موسم الحج، لبناء صورة حداثة لها. كل طالب علم، وكل حاج، يصبح شاهداً معجباً لهذا النظام، الذي استطاع في نظره، أن يُسلِم الحداثة. جاء في مجلة "courrier international" في العدد (1252، الصادر من 30 أكتوبر إلى 5 نوفمبر 2014)، مقالا، تقارن فيه صاحبته، ما ورد في صحيفة "اليوم" السعودية، الصادرة بالدمام، حيث رصدت، بأن "'الاقتصاديون والمتخصون يتنبئون في السنة القادمة، أن العائدات التي حققها الحج في مكة المكرمة، ستتقدم بشكل منتظم، لتصل بحلول عام 2020، 47 مليار ريال (حوالي 10 مليار يورو سنوياً)'. وبلغت الذروة الأولى في عام 2012، بواقع 26.9 مليار ريال (5.6 مليار يورو) ... ويبلغ متوسط الإنفاق لكل شخص 8000 ريال (1700 يورو). أما العمرة التي تمارس شعائرها، على مدار العام، يجب أن تخص 20 مليون شخص سنويا، و تسجل إيرادات قياسية تبلغ 25.8 مليار ريال (5.4 مليار يورو). في مقالها تقارن نادية بايكن، الدور الاقتصادي للحج، بمتنزه ديزني لاند الترفيهي، في كاليفورنيا. وفقا لها، ينبغي علينا تطوير صناعة السياحة الدينية، واستغلال جميع الفرص". تأخذ الحركات الإسلامية نموذجها المحافظ، من النجاح المرتكز، على الشريعة المصاغة، على حسب معايير المجتمع الاستهلاكي الغربي. كل شيء من أجل أسلمة الحداثة، بدلاً من تحديث المجتمع الإسلامي.

    في وقتها، كانت مكة المكرمة، مكان التبادل بامتياز. تأتيها القوافل من آسيا الوسطى والهند، ومن الصين و أفريقيا السوداء، والشمال الأفريقي والأندلس. في ذلك الوقت، كان هناك مزيج رائع من الأفكار، ولكن في اليوم الذي هيمن فيه، في مكة الفكر الواحد، الذي للوهابيين الجدد، فإن شدة تبادل الأفكار أو الآراء التي صاغت ثراء الإسلام، قد اختفت.

    ومن حينها، عندما يزور الحجاج مكة، يتشربون بهذا الإسلام المتعصب والأصولي والصارم، الذي يدّعي أنه حامي السنة، في حين أنه يؤدي إلى مسخ الشخصية، تحت ستار الحداثة. لذلك نشهد تعقيم الفكر. لم يعد لدى المجتمع المسلم مكان ملائم للتبادل، يسمح بمواجهة أفكار جريئة، ونقدها الحر. لا ينبغي أن ننسى أبداً، أن أبي حامد الغزالي (10581111)، ومحيي الدين ابن عربي (1165 – 1240) وآخرين، كتبوا أجزاءا كبيرة من أعمالهم، في مكة المكرمة، كانوا يصِلونها عندما يتعرضون للاضطهاد في بلدانهم الأصلية، ولم تعد لهم ملاذاً. كان هذا المكان آنذاك، أرض حرية التعبير. أما اليوم، فهذا المنظور مستحيل. لا يمكن تصور، أن يذهب أحد المفكرين المسلمين، إلى هذا المكان المقدس، لإيصال أفكاره، بكتابة كتاب أو جعله كعبة النقاش.

    في هذا السياق من التبادل، يجب علينا أيضا استحضار بغداد، هذه المدينة الدائرية، التي تسمى أيضا، مدينة السلام. تأسست في عام 762، من قبل الخليفة العباسي الثاني، أبو جعفر المنصور (حوالي 707-775)، وأصبحت المركز السياسي للبلاد، وشهدت بلوغ، ذروة الفكر الإسلامي. انبثق حينها توحيد لغوي، وأصبحت العربية، اللغة العالمية للمعرفة والعلوم، واللغة الأصلية لجميع العلماء. بطريقة ما، حلت محل اللاتينية، في جميع أنحاء حوض البحر الأبيض المتوسط، بين القرنين السابع والتاسع الميلاديين.

    بعد أن تعلموا سر صناعة الورق، الذي كان حكرا على الصينيين، استخدم المسلمون هذه المعرفة، لبيع ونشر المخطوطات. وبفضل الناسخين، أصبحت الكتابات في متناول اليد، ولم تعد حصرا على الوجهاء ورجال الدين. في ذلك العصر، كلما صدر كتاب في مصر، يجد مقروئيته، بعد بضعة أشهر في بغداد. أما اليوم، يوجد ما هو أكثر من مصر ولبنان، من يطبع ويوزع، ولكن هي نصوص قديمة كثيرة، يعاد إصدارها. نجد القليل، من النصوص المبتكرة، حول الأفكار والمواضيع الدينية، جراء الرقابة الممارسة. على سبيل المثال، تم نشر ترجمة كتابي "التصوف قلب الإسلام"، باللغة الإنجليزية ثم الإسبانية، قبل ترجمته إلى اللغة العربية بوقت طويل، حيث تم إخضاعه في الأول، لقراءة علماء الأزهر في القاهرة، للتحقق من امتثاله لقوانين شريعة الإسلام، والحصول على موافقته الرسمية، حتى يبث في الدول العربية. أحد كتبي، وهو "التصوف الإرث المشترك"، وضع على القائمة السوداء، من قبل العديد من الفقهاء، الذين يلومونني، لأنني ضمنته صور المنمنمات القديمة، تراث حقيقي للفن الإسلامي، يشخص النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته.

    يكمن أحد المشاكل الرئيسية، للمجتمع المسلم الحالي، في أنه يفتقر إلى ديناميكية مكثفة، من حيث الأفكار، وكذلك في وجود أماكن تحتضن مختلف أشكال التعبير، تسمح بإلتقاء الأفكار المبتكرة، التي تساعد على تطور المجتمع. وأخيراً، يجب أن نتوقف عن الإسهاب في ذكر الماضي، وذكر عظمة إسلام العصور السابقة، فالإسلام يعاش في الحاضر.

الإسلاموية فكر إنتحاري
    من المفارقات، أن نماذج متحف اللوفر، يتم بناؤها في دول الخليج، في حين تتم محاربة، الفنانين الذين يمارسون الفن الكبير والعريق للمنمنمات الإسلامية، بدعوى أنها تتنافى مع الشرع. هل يجب علينا بصفتنا مسلمين، أن ننتظر حتى نذهب إلى نيويورك أو لندن أو برلين،  كي نتمكن من مشاهدة رسومات حضارتنا؟ فبدلاً من الاستثمار في تجديد تفكير، يبلغنا الكرامة الاجتماعية وروحانية حية، يتم تبديد ثروات، في تمويل سخيف، لتلبية نزوات مجد ومكانة أقلية. للذكر، فإن المملكة العربية السعودية، قد وزعت الآلاف من المنح، لتمكين الشباب من القدوم للدراسة في جامعاتها، التي تعتبر بشكل خاطئ، كنماذج مقدسة ومصونة، لتدريس الإسلام. إسلام الواجهة بدون تعمق، في بلد، من رحم التناقضات، قد طور حداثة تكنولوجية مثيرة، على النموذج الأمريكي. في ناحية، توجد كولا كولا، ومن الناحية الأخرى، مكة كولا، ومن جانب همبرغر، ومن الآخر همبرغر حلال. هاتان حداثتان تتعارضان، كتعارض انعكاس المرايا.

    بتدمير كل الأثار التاريخية، كبيت مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وضريح زوجته خديجة رضي الله عنها، والمنزل الذي عاش فيه معها في مكة، وجميع المواقع الثقافية والرمزية لمهد الإسلام؛ سعى حكام هذا البلد، إلى القيام بعملية مسح الماضي، لإعادة كتابته، وإعادة استثماره، بطريقتهم الخاصة. ولكن العلامات المسبقة، لانحدار هذه الحركة، ملموسة بالفعل. لأننا لا نستطيع أن نكون بمنأى عن العقاب، ونحن نشجع إسلامًا متعصبًا، يغذَى من كراهية الآخر، دون أن يتحمل يومًا ما العواقب. يوجد حاليا في هذا البلد، نزعة متطرفة، أكثر مَلكية من الملك. لقد أدت الأصولية إلى نشأة، تطرف عالي، وهو الجهادية. في مواجهة هذا، يعرف الكثيرون في أعماق أنفسهم، أن لا الوهابية ولا الجهادية، هي استجابة مناسبة لاحتياجات المجتمع الإسلامي اليوم. هذه المذاهب مدينة لبقائها فقط، للدعاية والوسائل الهائلة، التي يستثمرها مؤيدوها في الإعلام.

    في البداية، يكون الشاب المسلم، مفتون بنموذج، يدعو إلى الإستقامة، والرجوع إلى الله، ولكنه شيئًا فشيئًا، سيدرك أنها رسالة عدمية وفارغة. "تقتفي صراعا مسدودًا، يؤدي دومًا إلى الموت. موت جمالي يفتن الشباب"(8). والسبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق البشري هو الاستشهاد، بينما يُلقى اللوم على عالم، يعتبر سلبيا. الإسلاموية تدفع إلى الانتحار. إنها عقيدة الموت. إنها تُكوّن كائنات انتحارية، بشكل متأصل، تفر من مسؤولياتها، باختيار طريق الموت، وليس الحياة(9). كل كائن مسؤول عن وجوده، حتى النهاية. إذا لم نكن مستهلكين ومنتجين للرحمة والحياة، فعندئذ نصبح، من أجل الكراهية والموت. من خلال هذه الفكر العدمي، كل شيء يكون مشروطا بالتدين الظاهري. لم يعد الإسلام تجربة حميمة، في التحول الباطني، ينيره السلام والتناغم والتوازن والمحبة، فقد أصبح مجلسا للصراعات السياسية والاقتصادية. وعليه، نفقد تماما هذه العلاقة، بالإنسانية وقدسية الحياة.

    إن المجتمع الحديث، الذي ينادي به الإسلاميين، متوتر تمامًا. لا توجد سوى فكرة مهيمنة متكررة، تسيطر عليه، إني أعيش توعكًا، وخطأ الآخر. سيؤدي إلى انفصام الشخصية. لا بد من الاعتراف، بأن هذا النمط من العمل، وهذا الغياب للغيرية، يلائم العديد من القوى السياسية، التي ترغب في قيادة العالم، فقط، بالتفرقة، وصدام الجهالات. تتضح هذه العملية من حقيقة، أن أتباع هذه الحركة الإسلامية المتطرفة، يتصورون الآخر، بطريقة مبسطة ومختزلة. إنهم غير قادرين على اتخاذ موقف، يفكرون فيه، بطريقة تواصلية، متأصلة في العمق. إن الأوقات الحديثة، هي أعراض، لهطول مستمر، بدون وعي أو تفكير حقيقي. إنهم يصْدرون أحكامًا متسرّعة، حول صورٍ، ويودون أن تكون أفكارهم المنحازة، حول الآخر، مطابقة للحقيقة، حتى لو كانوا يخفونها.

    في القرن التاسع عشر، حتى لو كان الحوار صعباً بين الغرب والإسلام، في بعض الأحيان، كان التفكير أكثر صراحة وأكثر وضوحاً. أما اليوم، مع تطور الاتصالات ووسائل الإعلام والأخبار المزيفة، فنحن نعيش في ارتباك كلي. من خلال الإفراط في التبسيط، نجحنا في إفراغ كل شيء من مضمونه. نصف الآخر كما يتم تصوره، وهذا يعني أننا سنغير الرأي بشأنه، بعد فترة.

    لا ننسى أبدا، أن في أحد الأوقات، تحالف الإسلاميون مع الولايات المتحدة، كما كان الحال، في أفغانستان، مع طالبان وغيرها من المنظمات الإسلامية. لقد قاموا بتشكيل تحالف، لإضعاف الاتحاد السوفييتي السابق، عندما غزا البلاد، عام 1979. ولكن الآن، حيث تباعدت مصالحهم، فكلٌ يحاول تشويه سمعة الآخر وتحييده. ومن يدفع الثمن؟ إنه المجتمع البشري بإسره، فكل جزء منه، يعاني من عنف موجة الصدام، التي أطلقتها هذه الحرب. إن إعادة بناء العالم اليوم، هو الرهان على سلوك الاتجاه المعاكس.

    لتحقيق ذلك وفهم بعضنا البعض، من الضروري توضيح النقاش. ما هو البعد الإنساني للغرب الحالي؟ ما هو البعد الإنساني للإسلام؟ ماالذي ورثناه؟ ألسنا بصدد تضييع المعالم؟ فيما يتعلق بالإسلام، أعتقد أننا نتحدث عن كل شيئ، إلا عن الجوهر، ولكن عدم الوضوح، يناسب بالتأكيد، شؤون بعض القوى السياسية.


ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)كان جواب الأمير عبد القادر، عن السؤال المطروح، عن أسباب تخلف الامة المحمدية في غاية الأهمية. حيث قدّم الأمير مستويين من الإجابات. فقد ُسئل الامير كما ورد في كتاب "المواقف"، عن أسباب انكباب المسلمين على استحسان أحوال الغرب، والاقتداء بعادات أهله وعقائدهم، وظنهم بأن الغرب حصلت له الغلبة بنصر الله له، لصفاته وأحواله. وأجاب الامير: اعلم أن أكثر الناس أو كلهم إلا الخواص من عباد الله تعالى، يظنون أن الغلبة إذا حصلت للكافر على المسلم، أن ذلك بنصر الله تعالى للكافر على المسلم، وليس كذلك. ولكن المسلم لما خالف أمر ربه، ونبذ شريعة نبيه، خذله الله تعالى. فلما تقابل المسلم والكافر، تولى الإسم الإلهي الخاذل المسلم، وألقى في قلبه الرعب فانهزم المسلم.. فلما رأى ملوك الإسلام وذووا أرائهم وأمرائهم ما يحصل على جيوشهم، من غلبة الكفار، مع شحهم على ملكهم، توهموا أن ذلك ما عليه الكفار من الزي والأحوال والصفات، فاستحسنوا متابعتهم والتشبه بهم في جميع أحوالهم وتصرفاتهم.. ثم سرى ذلك السم في الرعايا، على طبقاتهم، ممن ضعف إيمانه الأضعف فالأضعف، كما ورد "الناس على دين ملوكهم"، فعظم الخطب وعمت المصيبة.اهـ. وبعبارة أخرى، أن المسلمين قد نظروا في مرآة أعدائهم، لإيجاد أسباب تراجعهم. لذا فقد رأوا أنفسهم، في كل ما يبرز كفارقًا، سواء كان الزي أو اللغة أو معاملة المرأة أو الثقافة أو الدين نفسه. وحتما تكون المعرفة المكتسبة، مشكلة بالنظر إلى الآخر. هذه مقاربة وجدت لاحقا صدى، في كتاب إدوار سعيد "الإستشراق".

    الجواب الثاني الذي قدمه الأميرعبد القادر، والذي يهمنا هنا، هو نتيجة معرفة نبوية، تسبق العالم الظاهري، و بالتالي فهي لا تتأثر بعوارض (التجربة الاستعمارية، والتأثيرات غير العربية، وعلاقات القوة الاقتصادية). بالنسبة للأمير عبد القادر، جميع طرائق الخلق، هي انعكاس لمختلف أسماء وصفات الله عز وجل، وهي تجليات تسير في كل لحظة، وتملي شروط الدهور. تعكس أسماء الله، التي تُسير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلاقة الأمة بنبيها. طالما كانت الأمة تراقب نبيها صلى الله عليه وسلم وتحافظ على تعاليمه، كانت تسير تحت حكم وحماية إسم الله "الرب". ولكن عندما ابتعدت عن نبيها، واستغنت عنه، وتخلت عن المعرفة النبوية الموروثة، التي مكنتها في المعارف الزمنية، أصبحت الأمة تحت تجلي "الخاذل".

    وفقا للأمير عبد القادر، عندما هاجم الغرب الأمة المهمِلة، تخلى عنها ربها، وأصبحت ثروتها مغنما للأمم الغربية. من خلال تدخل الاسم الإلهي الخاذل، توقفت حماية اسم الرب، فتعرضت الأمة إلى تجليات أسماء الله الحسنى، أسماء الجلالة، كالمنتقم والمذل والخافض والمضل، وسيبقى الأمر كذلك، حتى قيام الساعة.

    قد ابتعدت الأمة عن المعرفة النبوية، التي تتمكن بها، من فهم الأسباب الحقيقية لتدهورها، وتسعى بطريقة مبسطة، إلى البحث عن أسباب النجاح في الغرب. لذلك فهي تسعى لتقليده، لاستعادة مجدها الضائع. تبنّت هذه الأمة أسلوب حياة خصومها، الذين ظنوا أن القوة تقوم على أساس الثقافة واللغة والبنى الإجتماعية والإيديولوجيات وغيرها. رفضت طوال هذه السيرورة، صِلتها المميزة بالنموذج النبوي، وأصبحت تعرف فقط، في طرازها الغربي. وقعت الأمة في حبك من بغضتهم دائما، وازدرت أكثر فأكثر، هويتها الأصلية.

    لماذا لا تنظر الأمة إلى أصول حالتها، وتبقى مصرة على الهروب من تقاليدها، في سعيها لأن تصبح ذلك "الآخر"؟ يجد الأمير عبد القادر الإجابة على هذا السؤال، في وصف ابن عربي لنهاية الزمان، فيما يحدث في الجزء الثالث من الليل، في يوم الدورة المحمدية. خلال هذه الفترة يكون جميع المسلمون نائمين، في غفلة، حتى أنهم يجهلون تماما حالتهم، لأنهم يعتقدون أنهم واعون.

    إن حالة الجهل والظلمانية التي يعيشونها، تحجب عنهم المعرفة النبوية، التي غرضها أن "يعرف الفرق بين العلم والوهم" (الموقف 110). وهم قابعون في هذا الجهل، لا يدركون المعارف، التي يمكن أن تنير لهم الطريق، في هذا الزمن، زمن الفتن والظلمات. يسدل حجاب الجهل بينهم وبين كلام الله. "ألا ترى الجاهلين المحجوبين كيف يسمعون كلام الحق –تعالى- ولا يسمعونه؟ أعني لا يعرفونه". (الموقف 16). يذهبون إلى حد اتهام أولئك الذين يتبعون السنة المحمدية، أمثال الصوفية، بكونهم سبب تخلف الأمة.

    مقتبس من كتاب سناء مخلوف "الإصلاحات أو التجديد؟ مناقشة حول التغييرات في الإسلام خلال القرن 19
 "Reform or Renewal? The Debate about Change in Nineteenth Century Islam"، وورد في كتاب أداره ايريك جوفري "عبد القادر، روحاني في الحداثة"، "abdelkader un spirituel dans la modernité "

(2). الدولة الأموية، هي ثاني دولة في التاريخ الإسلامي (662 -750)، أسسها أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، معاوية ابن أبي سفيان (602 -680)، إمتدت في حكمهم أطراف الدولة، إلى حدود الصين شرقا، وجنوب فرنسا غربا، وسقطت، نتيجة نزاعات في نهاية المطاف، في يد العباسيين. أنفلت عبد الرحمن الداخل، وفر إلى الأندلس، وأسس إمارة قرطبة (756 – 1031).

(3). البرامستان، كلمة فارسية، تعني محل الشفاء، وهو المستشفى.
(4). وهو كتاب التوحيد لمحمد عبده.
(5). لم أقف على النص الأصلي بالعربية، وصونا لأمانة المؤلف، اضطررنا الى سرد نص يحاكي المعنى الوارد. نص لطه حسين، مقتبس من " الاتجاهات الدينية في الأدب المصري".
Cahiers du sud, l’islam et l’occident, Marseille, 1982.
(6). إميل ديرمينغام. بتصرف في   Cahiers du sud

(7). في إندونيسيا، الدولة الإسلامية الرائدة في العالم، لا يمنع التطور المساير للتدين، وتبني الشريعة، المواطنين، من تجنب الأحزاب الدينية، والتصويت لصالح الأحزاب التعددية. إن الإندونيسيون مع التمييز بين الدين والسياسة. في الوقت نفسه، يتم تطبيق الشريعة الإسلامية من قبل المحاكم. تتمتع المرأة بنفس حقوق الرجل، فيما يتعلق بحضانة الأطفال أو الطلاق، وعمليا تحظى بنفس الحقوق في الميراث. المرأة المسلمة ليست بالضرورة مستسلمة أكثر من غيرها. بعض البلدان مثل تركيا، في عام 1934، منحت لهم الحق في التصويت وإمكانية الإجهاض، قبل فرنسا.
 باون جون، في "المسلمون مثل البقية، يتأقلمون". مقابلة مع ماري فيردييه، فيla croix ، في 14 مارس 2014.

    ونذيلها برسالة، من مستشار الشؤون الخارجية، السيد رولاند دوبيرتراندو، في 28 فبراير 2014، موجهة إلى السيد خالد بن تونس، رئيس الكشافة الإسلامية الفرنسية. "سيدي الرئيس، أصدقائي الأعزاء. يشرفني أن أكتب إليكم، لأنني إنتهيت للتو، من زيارة إلى إندونيسيا، في الفترة من 17 إلى 19 فبراير الفارط، حيث كنت على اتصال، مع قادة وزارة الشؤون الدينية. طلبوا مني التكرم، بإبلاغ قادة المسلمين الفرنسيين، المهتمين بمسألة التكوين الدينيي، عن رغبتهم في استقبال الطلاب الفرنسيين الشباب، الذين يرغبون في تلقي تكوينا في الإمامة، ومتابعة تعليم إسلامي متعمق... تتضمن هذه الدورة، دروس تعلم اللغة الإندونيسية، في ستة أشهر، ويرغب المسؤولون الإندونيسيون، الترويج خارج بلادهم،  إسلاما معتدلا ومنفتحا، ويعتبرون أن هذا العرض، قد يثير اهتمامكم".

(8). Roy Olivier, « une generation nihiliste », dans sciences Humaines, n° 268, Mars 2015
(9). Roy Olivier, « Les jeunes radicalisés refusent la religion culturelle de leur parents  entretient avec Matthieu Megevand dans Le Monde des relivions, ganvier-fevrier 2017.  


هناك تعليق واحد:

  1. تمنيت لو أنكم نشرتم أسفل المقال أو في التعليقات النص الأصلي باللغة الفرنسية .

    ردحذف