الحي


الحــي

الحــي
    إن تعميق المغامرة في تجربة الحق الباطنية، يفترض أن نستيقظ للحي و نكتشف ثراءه. فآية الكرسي التي يتلوها المسلمون كثيرا - يقرأها البعض كل يوم، بعد كل صلاة -، هي دعوة لأن نعيش هذه الصفة الإلهية بكل انشراح.
"الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم". (البقرة، 255).
    الحي هو أهم الصفات الإلهية، التي تلقاها الإنسان في عالم الملك، بعد أن استودعه الله الأمانة. يَذكر ابن العربي في الفتوحات المكية، أن  مقام "الحي" أعظم الصفات الإلهية، لأنه شرط في وجود الصفات الأخرى. لو أننا شيدنا علاقتنا بالله على أساس صفة الحي، لشعرنا بأن كل ما هو حي في أنفسنا أو خارجها، يسمح لنا بلقائه تعالى. عندما نتصور الله سبحانه و تعالى، أنه هو الحي على الحقيقة، سنجعل من كل شيء حي. سنتمكن من الإرتقاء إلى مستوى شعور هائل، تبعا لقدراتنا على تجسيد هذه الطاقة فينا. لا يتعلق الأمر بأي مستوى شعور، بل إن الشعور نفسه، من سيحرك التجلي الإلهي في كليته. من يريد الوصول إلى مستوى مثل هذا، يجب عليه أولا، إيجاد الحي الذي لا يتغير و الشامل في كينونته. فبعدما يكتشف، أن مصدر و كنه شعور الحي موجودان في نفسه، تنسجم علاقته بالعالم، و بالآخرين.
    المسألة هي أن نعرف، إلى أي مدى نحن حقيقة أحياء؟ هل الحي الذي ينشطنا، هو من أصل رباني أو من أصل إنساني محض؟ نحن أحياء، طبعا من وجهة نظر بيولوجية. منحنا أباؤنا الحياة، و تحصلنا على تراثهم الإرثي. من خلال التكاثر، تنتقل الحياة من جيل إلى جيل. يجب أن لا نكتفي بالعيش فقط، فنحن بحاجة إلى أن نتصرف بأنفسنا، و أن نعبرعن حياتنا الباطنية. يتحلى الإنسان بفكر و عقل، يسمحان له بمعرفة الحقيقة و تمييز الصح من الخطأ، و الخير من الشر، و هو ليس كائنا حيا مثل كغيره من الكائنات، يكتفي بالحفاظ على حياته أو زيادة متعاته المادية. إن الحي الذي يستطيع الوصول إليه، و الذي نحن بسياق الكلام عنه، هو طاقة ربانية، تشمل الحياة البيولوجية و النفسية معا.
"هو الحي الذي لا إله إلا هو". (غافر، 65).
    بعد أن يكتشف الإنسان في نفسه صفة الكائن الأساسية، سيكون قادر على التنبؤ الفوري بحقيقة الأشياء الواقعية. كل إنسان يحمل في نفسه هذه الطاقة. و القليل من يصل إلى تحيينها. عموما، نتيجة صدمة عنيفة إنفعالية، أو مشاكل صحية خطيرة، أو تحت ظروف شاذة، يتمكن بعض الأشخاص من إيجاد طاقة الحي فيهم، لم يكونوا قبلها يتصورون أنهم يملكونها، لمّا كانوا يعيشون حياة عادية.

قصة سليمان مع النملة
    لا يجب الخلط بين الحي بالله و الفطرة. فهذه الصفة الإلهية ليست ذاتية، فهو الحي بذاته، و كل شيء موجود به و فيه، في حين أن الفطرة ترتبط بشخصية الكائن. عادة ما يمثله القرآن، بإنطاق الحيوانات، و الطبيعة، و غيرها من المخلوقات، كما هو الحال في سورة "النمل". عندما رأت نملة مرور سليمان بجيشه، نادت النملات الأخريات قائلة.
"يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون".(النمل، 18).
    سمع سليمان نداءها و أوقف جيشه، للوقت الكافي، كي يختبئ النمل. تبرز هذه القصة أن علاقة أخرى ممكنة بين الإنسان و الخليقة، في نطاق أن سليمان، تمكن من الدخول في اتصال مع النملة، و هذا بخلاف التجربة الإنسانية العادية. لغة النمل ليست لغة سليمان، و رغم ذلك تكلمت، و فهم سليمان كلامها. سمعها و أعطاها الحق، معترفا بها، على ما هي عليه. عندنا هنا مثالا، لما نسميه الحي بالله.
    هذه القصة معبرة. لقد ذكرها القرآن ليعطينا تعليما. كان سليمان الرجل الأكثر تحقيقا في زمانه، حيث أنه كان ملكا و رسولا. كان يملك إلى أعلى درجة السلطة الزمنية و الروحية. ينقل التقليد، أنه لم توجد حكمة أكبر من حكمته. كان بمقدوره سماع هذه الحشرة الصغيرة و التعرف بنفسه على الحي بالله. فضميرالحي بالله تجسد في سليمان إلى درجة كبيرة، جعلته يصل إلى شمولية لغة الخليقة. إنه قادر على الاستماع إلى كائن و يهتم به، و يقدره. لا شيء في السموات و الأرض موجود خارج هذا الحي تعالى.
"لا تأخذه سنة و لا نوم له ما في السموات و ما في الأرض". (البقرة، 255).

منطق الطير
    عندما تحدث كيمياء الحي في الإنسان، تصبح الخليقة شبيهة بسمفونية موسيقية أو معادلة رياضية يمكن حلها و فهم لغتها. و سنشعر بأننا متحدين مع الخليقة، و بمقدورنا أن نقرأ بها، كل الآيات البالغة، التي تخفيها.
"إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس و ما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها و بث فيها من كل دابة و تصريف الرياح و السحاب المسخر بين السماء و الأرض لآيات لقوم يعقلون". (البقرة، 164).
    عندما تعلمنا بالمدرسة الحساب من واحد إلى تسعة، و قراءة الأبجدية من ألف إلى ياء، استطعنا عد الأشياء و معرفة الكلمات، و حوار بيننا و بين العالم تأسس، بفضل التحكم في هذه اللغات. إكتشفنا من ناحية أن بالأحرف نستطيع ربط كلمات و بناء جمل مفيدة، بشرط احترام بعض القواعد النحوية، و من ناحية أخرى، نستطيع بالأعداد،  مع معرفة خواصها، القيام بحسابات دقيقة. كل ما تعلمناه أغلبه، هو نتيجة تدريب شاق.
    حين يتكلم علماء الطبيعة عن الماء، لا يكتفون بذكر إسمه، بل يرمزون إليه بصيغة كيميائية، H₂O، نفس الأمر، بالنسبة إلى الأكسجين أو الهيدروجين أو الكربون، فإنهم يستعملون رموزا كيميائية. فعلا، كل الظواهر التي سيكتشفها العلميين، أو سيلاحظونها يمكن أن تجعل على شكل لغة رياضية، أو كيميائية، أو فيزيائية. هي لغات إبتكرها الإنسان بنفسه، ليست من أصل رباني. يبتكر الفيزيائيون بانتظام حدودا لتحديد الجزيئات العنصرية التي تكتشف. ويعدّون معادلات جديدة لمعرفة خواصها. بالمقابل، يوجد لغة إلهية موجهة إلى المخلوقات، تظهر على شكل آيات في الخليقة للذين تعلموا فهم المعنى. فالتحكم في هذه اللغة الإلهية هو الذي سمح لسليمان، سماع و فهم النملة. لقد ذكر القرآن هذه اللغة العجيبة.
"عُلمنا منطق الطير و أوتينا من كل شيء". (النمل،16).
    كل كائن يصل لمثل  ما وصل إليه سليمان، في معرفة الحي في نفسه، يتوصل إلى اللغة الكونية التي تتكلمها الخليقة. هي تجربة عظيمة بها يمكن إيجاد السلام، و لذة العيش.
    في مقابل هذا الحال، توجد أمراض مثل القلق أو الاكتئاب، التي تدل على ضياع علاقتنا بالحي. الآلام التي نشعر بها، سببها نسيان هذه الصفة الإلهية. عندما يتمكن الكائن من إصلاح هذه العلاقة، فالكل يجيب حاضر. يكون أكثر يقظة، لكل ما ينكشف له، و يقع له، في الحياة اليومية. هذا حال عميق جدا يلزم علينا، مجانبة طروء اللاشعور، بالحي. عندئذ ينشأ إتصال بين الإنسان، و بين الذي يتجلى، بأشكال متعددة محسوسة و غير محسوسة.
    في اليوم الذي يؤذن لنا، القيام بتجربة هذه الحالة، التي هي في متناول الجميع، يجب أن نكون شاكرين للخالق، حتى نجتنب الإعتقاد أنها من كسبنا.

الفطري (الغريزي) و المكتسب
    تكمن الصعوبة التي يجدها الإنسان اليوم، كي يعيد إرتباطه بهذه الصفة الإلهية، كون المجتمع يدعو، إلى تنمية أطراف الكائن، بدلا من مركزه. فيسقطنا في فخ، تقوية ما هو مكتسب بتكيفاتنا الثقافية، و ينسينا الصفات الإلهية الفطرية، الموجودة لدى كل إنسان.
"كل نفس بما كسبت رهينة". (المدثر،38).
    أول ما يفعله الطفل عندما يأتي إلى العالم، هو الصراخ، ليتمكن من التنفس و البقاء حيا. رغم أن الحي فطري في أنفسنا، إلا أننا نخفيه بالمكاسب الإجتماعية، و الثقافية، و الدينية، و كذلك الفلسفية.
    تلعب التربية المقدمة لأطفالنا في مجتمعنا، دورا حاسما في حجب ما هو فطري. و الحالة أن الطبيعة الأصلية للإنسان تمتلك إستهياءا، لمعرفة ما إذا كانت التربية ستوجّه جراء ذلك، في اتجاه دون آخر. أكيد، أنه من المستحيل، ترك الطفل دون إعطاءه تعليما. فإننا سنمنعه من تنمية قدراته البدنية و العقلية، التي تجعل منه إنسانا. مع ذلك، ماذا نفعل في غالب الأوقات عندما نقوم بتعليمه؟
    نُخفي طبيعته العذراء، و نقول له، ما يجب أن يفعله و يقوله، بل و حتى كيف يفكر. يكفل الطفل باكرا من طرف نظام، ذي قيم و تصرفات لقنت إليه من طرف أبائه أو مجتمعه. ذلك أمر عاد و نافع لانشراحه، و لكننا غالبا ما نبحث بصفتنا آباء، أن نطاوعه حسب طموحاتنا، أو تجاربنا، أو نداماتنا، بدلا من أن نتركه يجد طريقه بنفسه. نرغب أن نشكل كائنا من كان على صورتنا. كل اختلاف حاد مع الأبناء يعاش كمأساة عائلية. نرغب أن يكون أبناءنا جزء منا، لا بل نسخة، على هذا النحو. صحيح، أنهم بيولوجيا، يملكون نصف الإرث الوراثي للأم و النصف لما هو للأب، و لكن الآباء يريدون أن يكون نفس الشيء، عند نقل الخصال الفكرية و الأخلاقية. ينسون أن الحي يبدي إبداعية مطلقة.
    و عليه، لا يجب أن نفرض على أبنائنا، أن يتشبهوا بنا، لأنهم سيسقطون في نفس الأخطاء، التي سقطنا فيها.

    ... يحتاج الإنسان اليوم، إلى استرجاع كل صفاته التي أودعها الله فيه، منذ نشأة أول إنسان على الأرض. كما يذكر القرآن.
"و علّم آدم الأسماء كلها". (البقرة، 31).
   إن الوصول إلى هذا المقام، يشترط وجود عامل محفز. قد يلعب الإلهام هذا الدور، و علينا أن نشعر به. كل إنسان قادر على استلام الهدى، رغم أن كل واحد، يسمع نداءه و يفكر فيه بطريقته الخاصة. يرتبط الهدى بذواتنا، لأننا جميعا أتينا من الحي بذاته. فالشخص الذي لا يقرّ بوجود الهدى في نفسه، يعيش على شكل ميت في صورة حي، قد تكون حياته متفوقة على المستوى المادي، أما في الباطن، فهو فارغ. كم من أناس يبدون أنهم أحياء في الظاهر، في حين أنهم أموات في الحقيقة؟

الحي و النفس
    لا يمكن أن نكون حقيقة أحياءا، إلا لأنه تعالى هو الحيّ. ليس التفكير المتعلق بهذه الصفة الإلهية، من يُديم حياتنا، و يجعلنا قادرين على التعبير، و على اكتشاف القدرات الموجودة فينا، بل هو، تعالى الذي يمنحنا أولا الحياة، و يحفظها حسب أمره.
" هو يحيي و يميت و إليه ترجعون". (يونس، 56).
    لا تعتبر تجربة الوجود في التصوف، كفلسفة كوجيتو ديكارتي (1)، الذي تجعل الكنه الإنساني مادة مفكرة، و لكن، إن تجربة التوحيد، التي تجعلنا نشعر بالحي الأبدي الذي نحمله في أنفسنا. لا تظهر النفس من العدم، و لكن تأتي من الحي الذاتي، و غايتها الرجوع إليه. للرجال دوما ميل إلى جعل من تجاربهم الذاتية، أو من مبتغاهم الشخصي شيئا مطلقا. قام الشيخ العلاوي بهذا التأكيد في حكمه.
"من صدق؟ الوردة التي تتخيل الله و كأنه عطر أم أريسطو الذي يرى الله ذلك المفكر الأبدي؟ يتبع أريسطو و الوردة نفس السبيل، الأول يؤله فكره و الآخر يِؤله فوحانه. كلاهما على صواب [...]. لأن الله هو الكل. و كل جرم صغيرمن الخلق لا يفتح إلاّ زاوية صغيرة لمشاهدة الحق".
    و من ثمة، كان من عادة الصوفية، إن بدأوا كلامهم بضمير المتكلم، قالوا "أعوذ بالله من كلمة أنا". هي طريقة للإعتراف بأنهم كانوا مضطرين إلى استعمال الضمير "أنا"، و في نفس الوقت يخافونه، و كأن الشيطان يمكنه أن يعبر بدلا منهم.
    إن استعمال "الأنا" يقوي لاشعوريا أنانيتنا، و يجعلنا فرادى، بمعزل عن بقية العالم. هذا التعبير الذي لا قيمة له في الظاهر، يعمل في الحقيقة، على تقوية أنفسنا إلى درجة، تحجب فيها علاقتنا بالحي. عندما تكتشف النفس الصفات التي يحويها كائنها، هل سترضى بالإقرار بأصلها الرباني، أم أنها ستحاول الاستئثار بها في شعورها الذاتي؟ هل يمكن أن تعيد هذه الصفات، مرة أخرى إلى الشعور الكوني؟ إذا كان الرد بالإيجاب، إذن فإعادة إكتشاف الإنسان للحي الذاتي يمكن، أن يتحقق.
    قد يؤدي بنا التسرع في الحكم، إلى اعتبار النفس عائق أساسي، لانفتاحنا و تحقيقنا. إلا أن الأمر لا يعني أن ننقوم بتحطيمها، نحن بحاجة إليها لتشييد كينونتنا. هي ليست في حد ذاتها ضارة أو سلبية، و لكن يمكن أن تكون كذلك، حسب الحيز الذي تشغله فينا. على كل حال، يبقى وجودها ضروري لتأكيد ذاتيتنا. يختلف كل منا عن غيره سواء، على مستوى النفس أو الجسد. فهي التي تمكننا من تحديد هويتنا الشخصية. نستطيع بواسطتها، أن نعلم من نحن، و نجذب إحساسات العالم الظاهري إلينا.
    لكن هذه النفس، التي تكون شخصيتنا، تتناسب مع الحال الأول، حال النفس الأمارة بالسوء. إذا ما نمت و انقلبت نحو التفكير، و تعلمت التمييز بين الحق و الباطل، و الخير و الشر، فإنها لم تعد مستسلمة لأهوائها، بل تتناسب مع حال النفس اللوامة. بمجرد ما تقوم بسوء، تندم عليه فورا، و تطلب كيفية إصلاح خطئها. أخيرا، عند الدرجة الثالثة، تمر النفس بمرحلة جديدة تسمح لها بالسكينة. هنا، تتناسب مع "النفس المطمئنة"، القادرة من الآن، على إيجاد الحي في نفسها. هذا ما يسميه الوحي القرآني بـ"الرجوع إلى ربك"، يعني الرجوع إلى الحي الأبدي الموجود في أنفسنا.

مستويات الحي الثلاث
    توجد النفس دائما في الحي. إلا أنها تقابل هذه الصفة الإلهية بطريقة مختلفة، حسب مراحل تطورها. ففي المستوى الأول، تجعلنا النفس ننظر إلى الحي بواسطة الحواس، في حين أن في المستوى الثاني، تمكننا من معرفته بالفكر، و في الأخير،  في مستوى النفس المطمئنة، فإنها توصلنا إلى الحي به.
"يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية". (الفجر،28).
    الرجوع إلى الله، هو الرجوع إلى الحي الموجود فينا. في هذه اللحظة تطمئن النفس بالكلية. ولكنها لم تختف تماما، فالحيز الذي تشغله يقل كثيرا، بحسب تطور الإنسان الروحي.
    لا يعني هذا، أن المرحلة الأخيرة، هي التي يعتمد الإنسان عليها في تطوره. في التقليد الصوفي، تلعب الحواس دورا مهما جدا في إعادة اكتشاف الحي. من الضروري العمل بطريقة منهجية على إيقاظ شعور الإنسان. يمثل إيقاظ الحواس مرحلة إجبارية في علاج النفس، لتمكين الشخص من التخلص من آلامه، لأنه كلما كان شاعرا بمحيطه و بنفسه، كلما اقترب من الحي. يتمثل الشفاء في مشاهدته تعالى في كل شيء.

الشفاء بالحي
    الرهان الحقيقي للمعالج هو إشفاء الحي المريض. عندما يصاب مثلا شخص بفيروس، سيداوى باتباع علاج، يصفه له طبيبه. بعد دخولها في المعدة، تنتج الأدوية تفاعلات بسيكولوجية و كيميائية في الجسم، و يحصل نتيجة ذلك علاج الأجزاء المريضة من جسمنا. تقوم مواد الأدوية بمساعدة الحي المريض على استرجاع توازنه. إذا ما قمنا بفحص الفيروس و الجزيئات الكيميائية المكونة للدواء، سنبقى دائما في سلسلة الحي. و ابتداءا من اللحظة التي ننظر فيها إلى الحقيقة، بطريقة مختلفة، يعني عندما ننسى أن نعيد الارتباط بالمصدر الذي تنبعث منه كل حياة، سنمهد لعملية عكسية، و هي الموت الروحي. كما قال إبراهيم عليه السلام في القرآن.
"و الذي هو يطعمني و يسقين و إذا مرضت فهو يشفين و الذي يميتني ثم يحيين". القرآن (الشعراء، 79-81).
    حقا، أننا نبقى أحياء باستهلاكنا للحي، و ذلك للحفاظ على  صحة الجسم البيولوجي، كما هو ملاحظ عند أي حيوان. و إذا أردنا أن نتمتع بقدرة الحي التي منحت لنا، و التي نمتلكها في أنفسنا و المعطى لنا، يجب أن نعي العلاقة التي تربطنا بالمنبع، الحي الأبدي، حتى نقتبس منه الطاقة التي تغذي أجسامنا و أرواحنا. في حالة، إذا ما حدنا عن المنبع المحيي، سيندلع العامل المضاد. ننظر إلى عيش سلسلة الزمن، الذي يحمل معه، زمر من الآلام، و الذي يؤدي بنا، لا محالة إلى الموت. فالنظر إلى الحياة، بمنظور أرضي محض و مادي يفقدها معناها و قيمها. كل يوم يمر، و كل لحظة تستهلك، نقترب أكثر و بقلق، من المصير القاتل.

الرغبة في الحي
    يتوقف مستقبل الإنسان على المكانة التي يمنحها المجتمع للحي في تربية الإيقاظ. فالمجتمع الذي لا تحتل فيه هذه الصفة الإلهية،  مركز اهتمام، في أفعالنا و في أسس الدين أو الفلسفة، تكون الحياة فيه، تعيسة و حزينة و مملة. و سيترك مكانه لمجتمع آخر فوضوي، يمارس فيه الناس، على الخصوص نشاطات سطحية.
    يسبب فقدان العلاقة بالحي الذاتي، لدى الإنسان، رغبات متعددة، من شأنها تعويض رغبته الأساسية في الحي، فهو يسعى بدون انقطاع لاشباع رغبات باطلة و متزايدة. يظن الإنسان أن بإمكانه تعويض هذا النقص الذي يعاني منه، بتسخير ذكاءه المبدع في خدمة شهواته الجسدية و المادية. لسوء حظه لا شيء يبدو أنه يعوض الفراغ الباطني الذي يشعر به، و سرعان ما تتحول حياته إلى سباق جامح نحو الإمتلاك. الرغبة في الحي تبقى أساسية لدى الإنسان، فإذا فقد أثرها فلن يعود يهتم بوجوده، أو بتحسين أحواله، بل بالتملك و الظهور.
    لا يستطيع أي شيئ أن يفني طاقة الحي، التي تنشط باستمرار كل الحقيقة. حتى في الأوقات، التي نظن فيها أنها انسحبت من حياتنا، إلا أنها مازالت حاضرة فينا، و يمكن أن تنشط من جديد، في أي لحظة. لننظر إلى علاقات المحبة، فإن وجودها، هو الذي يوحّد بين الرجل و المرأة. أيضا، الرغبة في تكوين أسرة، هي سوى اثرا من آثار طاقة الحي. تتجلى هذه الطاقة في علاقات المودة التي يحفظها الأباء لأطفالهم، و تتحول أحيانا إلى حب إمتلاكي و إشكالي. فكل الناس، تبحث من خلال الآخر، عن الجزء الذي ينقصها، لكن كثيرا ما يحدث و أن نقع في المعاناة و الخيبة.

التجربة الروحية للموت و البعث
    كيف نستطيع الذهاب بأنفسنا إلى الله سبحانه و تعالى؟ كيف يمكن العودة من جديد إلى الفطرة؟ في التصوف،  فإن الأشخاص الذين يشعرون باستعداد لِسَيْر مثل هذا، يدخلون الخلوة في كهف. وقع ذلك للرسول صلى الله عليه و سلّم، بنفس الطريقة . لكن ما معنى الكهف؟ هو القبر. من يدخله بذاته يخرج منه متحولا كلية. التحول الذي يحدث بين تلك اللحظة التي دخل فيها هذا القالب، في أمنا الأرض، و بين اللحظة التي خرج منها، هو نتيجة موت بعثي.
"[...] ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء نشره". (عبس، 21-22).
    في بلاد القبائل. تقام هذه الخلوات الروحية في مغارات، دائما في أماكن غير مضيافة و معزولة. نلاحظ وجود نفس الظاهرة في كل التقاليد الروحية.
    فالأمر يتعلق، بأن يرضى السالك، بالموت عن كل ما اكتسبه، كي يحيي الفطرة من جديد. تسمى هذه التجربة الروحية بالموت البعثي. يجب على الإنسان، أن يعمل للموت عن هذه حياة الدنيا، كي ينصر الحق في نفسه.
    لا يمكن تصور ولادة روحية جديدة للكائن، دون موت الأهواء السلبية للنفس. لا أحد يتكلم عن هذه الحقيقة اليوم. عكس ذلك، نلاحظ أن كل شيئ يعمل في مجتماتنا، على تقوية السلوك الأناني. عموما، تعمل المؤسسات الإنسانية على تلقين العلوم المكتسبة، و بذلك، فهي تساهم في النكوص الفطري. إن نظام الإمتحانات هو مثال نموذجي.  يرفض المجتمع، أن يخوض الإنسان تجربة عيش، خارج  نظام، لا يستطيع التحكم فيه. في حين أن العيش في الفطرة، و خارج كل ظرفية نفسية أو اجتماعية، يجعلنا نتساءل عن مدى صحة القيم و الأسس، التي تقوم عليها الدول و المجتمعات، لذلك فإنها ترى، أنه من الأحسن إخفاء وجودها. عندما ترفض طريق الخلاص، و الاستقلالية و التحرر، فإنها تنترك المجال لرغبات متعددة، شرهة، تنسج العالم بنسيج، من القيم السطحية، متشبعة  بالقلق، و التناقضات، و المنافسة. حتى في الحالات التي لا نرضى فيها عن حياتنا، تجدنا لا نريد تغيير مجراها، بل نقتنع بالأمل الوهمي، في استرجاع السعادة، غدا بواسطة تحقيق الطموحات الشخصية.
    لا يجب أن ننسى، بأن الحي يبقى دائما حيا، و إن انقلبنا عليه، بتبذير طاقتنا في أنشطة غير مجدية و مرهقة. الحي لا يقلله شيء، و هو لا يتغير، لأنه الباقي بذاته. فهو ليس بأقل حضورا في مجتمعاتنا اليوم، مما كان عليه في الماضي، و لكنه حاليا هو أكثر بطونا، من جراء نمط الحياة المركز أكثر، على النجاح الإجتماعي و المادي، بدلا من الإنشراح الباطني.
الحي في الهندوسية
    لنتطرق إلى تعريف النفس في تقليد آخر غير الإسلام. يُخبرنا رينيه غينون في دراساته حول العقائد الهندوسية، و بالأخص المتعلقة منها بـ "فيدانتا"، أن النفس حية. تعتبر "النفس الحية" (جيفاتما)، تجليا فرديا للمبدأ الأعلى "الذات" (براهما). نحن متواجدين أمام واحدة من أقدم فلسفات و ديانات العالم، تتعايش فيها آلهة عديدة، دون أن يتساءل عن وجود مبدأ واحد يربط فيما بينها. "براهما" هو أحد الأسماء التي تذكر في الهندوسية؛  و هو أكثر الأسماء الإلهية لطفا، و التي ينبثق منها كل شيئ و حتى الذاتية. في هذا التقليد، فإن "الأنا الفردي"، ما هو سوى انعكاس للذات الأبدية  في العالم المخلوق. يُلفِت رينية غينون في العقائد الشرقية، أن الشخصية البشرية لا تتناسب مع مفهوم الذاتية الذي غرقت فيه الروح المعاصرة. مفهوم الذاتية وهمي، و ليس سوى انعكاس للذات الأساسية.
" 'الذات' هي المبدأ السامي و الدائم التي يكون بها، الكائن الظاهر، كالإنسان مثلا، تعديل انتقالي و عارض، تعديل لا يؤثر شيئ فيه على المبدأ الأصلي".
    تدعم الفلسفة الحديثة الإنسان فقط في منظوره الذاتي، جاعلة نشاطه الفكري في مقام الضمير. يرى الإنسان نفسه محدودا إلى "الأنا" الذاتي، أو الجماعي الذي هو، سوى تجلى سطحي للكائن. يرجع هذا الخلط بين الملكة الخاصة بالإنسان المسماة في الفلسفة بالعقل، و بين أحوال الضمير التي لا يمكن حصرها،  وقد تسببت في سوء فهم لحقيقة المعرفة و التجربة الميتافيزيقية. ينتهي بنا الأمر إلى أن نجعل الفكر حبيس نظام معتزل، و منغلق اتجاه الشمولية، يبعده لا محالة عن الحي الذاتي. إذا لم يربط الإنسان شعوره بمركز كينونته، أي الحي الباقي و الأبدي، فسيحرم نفسه من اكتشاف الإمكانيات الكبيرة و الشاملة التي يخفيها هذا الشعور. من جراء انفصاله عن جوهر الحياة، أصبح العالم العصري من الناحية الروحية، شبيه بميت في صورة حي.
    يسمح هذا المرور الموجز في الروحانية الفيدانتية، بتبيين إلى أي درجة تحمل التقاليد الروحية حقيقة شاملة. سواء توجهنا نحو التقليد الصوفي، أو الهندوسي، تعطى لنا الفرصة للتصالح مع تعليم عريق، و تذكّر جوهر النفس البشرية. تنبثق هذه الحقيقة من المبدأ الرباني الأعظم: الحي بذاته، و تتجلى، و تتجسد في عدد لا متناهي من حالات الشعور، تزامنا مع إبتعادها عن مبدأها الأول.

الرباني كأي كان
    ما إن نتكلم عن الحي، حتى نجد مكاننا و دورنا من خلاله، و إلاَّ فكل شيء يصبح غير مفهوم. تكمن الصعوبة التي يتعرض لها الإنسان في علاقته بالله، في أنه يقوم بتجربة غيرية جذرية. يواجه أيَََّا كان عداه. في هذه الحالة كيف يمكن لكائن نسبي و محدود أن يقوم بتجربة سمو مطلق لجزء من نفسه؟
"و هو معكم أينما كنتم". (الحديد، 4).
    تبدو الإشارة القرآنية "و هو معكم أينما كنتم"، مستحيلة من وجهة نظر دينية. وجد المفسرون الظاهريون للقرآن أنفسهم أمام عقبة حقيقية، فهم يصطدمون مع هذا النوع من الآيات. لهذا يفضلون التعبير عنها، حسب فهمهم، قائلين "إنه معكم بعلمه". و لكن لماذا "بعلمه"؟ لماذا نزيف الحقيقة؟
    تلكم هي طريقة الإنسان، للتحكم في الآخر و في تفكيره. لو أردنا بالحي، تلك الصفة الإلهية الأساسية، يعني ذلك الموجود في أنفسنا ، فإن الحي هو الذي ينشطنا.  و عليه لا يوجد إلا هو. من لم يرد معرفته، فقد أدار ظهره لهذه الحقيقة النهائية، لكي يعيش كحي في صورة ميت. و العجيب في الأمر، أنه لا يستوجب علينا البحث عنه، بما أنه قائم بنفسه. البحث عن الحي هو طريقة للهروب منه، و إبعاده، لأننا نُدخل في أنفسنا الثنائية. ما الذي يمنع الإنسان من معرفة ربه؟ التكبر يحول بين الإنسان و الحق تعالى، و يوهمه أنه وحده سيد مصيره. لو تفوقنا على تكبرنا، و ظرفية إنسانيتنا، لظهر كل شيئ، في زاوية الحق عز و جل.

الله حرية مطلقة
    إذا كان الحي هو الدائم القائم بكل شيء، كيف يتسنى لنا أن نحيد عنه؟ ذلك أننا نعيش في النسيان، و لكن ليس أي نسيان، فهنا الأمر يتعلق بالله.
"و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما". (طه، 115).
    يجعلنا هذا الحال، نشعر و كأننا نخلق وجودنا بكل حرية. لكننا لا نخلق في الواقع، سوى سجننا، و نحدد أنفسنا على كل المستويات. في حين أن الله حرية محضة. لن نكون قريبين من الله، عندما نفرض على أنفسنا كل أنواع الحدود العقلية . يعتبر ذلك جهلا بحريته المطلقة، و بكونه أعلى عن كل الحدود و الأشكال. لكي نفهم ماذا يعني هذا حقيقة، علينا أن نتعلم كيف ننسى ما حفظناه. المشكلة أننا نعوض الحي المطلق و الأبدي الذي فينا، بإرادة ذاتية محدودة و نزوية، تجد أصلها في خيالنا، و إشتياهاتنا، و إعتقاداتنا. ينقل الرومي في مؤلفه، (كتاب الباطن).
"أنا عند ظن عبدي بي، كل مخلوق يتصورني على غير ما أنا عليه، و كيفما تصورني، فأنا ثم. يا عبادي طهروا خيالكم، فهو بيتي و محل إقامتي".
    من هنا، تظهر ضرورة تغذية بحثنا الباطني بالعبادات (الصلاة، و السماع، و التأمل، إلخ...)، و تطهير خيالنا من كل شكل و صورة، مخالِفة للأصول، عند تمثيل الحقيقة الإلهية، في عملها الخلاّق. إن ربط وجودنا بحياتنا القصيرة و الزائلة، في حين أن أصلها، يعود إلى الزمن الفطري، يمنحنا فكرة خاطئة حول حقيقتنا. يتوهم الإنسان نفسه، على هذا النحو، أنه الخالق، و ما هو إلا مخلوق، مصيره مرتبط بإرادة إلهية أعلى منه.
    يجعلنا جهلنا و نسياننا كنه حقيقتنا، شبيهين بالمساجين الذين إقتطعوا حريتهم، مقابل سلاسل غير مرئية، خوفا من تحمّل وجودهم بالكلية. لا يجلب هذا الوضع الذي يقتسمه أغلبيتنا أي ارتياح. إذ هو مصدر معاناتنا. رغم ذلك غالبا ما نفضل الرضى بحدودنا العقلية و الثقافية، بدلا من مواجهة فقدان أوهامنا. و الأسوأ أننا نفرض هذه المعاناة على غيرنا. نريد أن يفعل الجميع ما نفعله بالضبط ، و يقتسمون سجننا الذي نراه جميلا، رغم أنه ضيق و مظلم. نتساءل لماذا لا يصبح مثلنا مسلما، أو يهوديا، أو مسيحيا، أو بوديا؟ لماذا لا يعتنق إيماننا أو عقيدتنا ما دام في أعيننا هي الضامن لسلامنا و الفوز بالجنة في الآخرة؟ يبدو هذا التصرف أحمقا، لمن عرف كيف يتحرر من قيوده.
    تقترح المقاربة العلاجية للتصوف، تربية الفرد حتى يسترجع حريته الفطرية. يتعلق الأمر بمساعدته على إيقاظ ذلك الإلهام الفطري، الموجود في نفسه. إن الإلهام  حاضر فينا، و لكننا لم نتعلم كيفية تسييره. هذا ما يفسر الصعوبات التي نتلقاها في معرفة ذواتنا، و رغبتنا عما يستشكل علينا في أعماق كينونتنا. نعلم حقا أننا أحياء، حين نجرب ذلك في كل لحظة، و لكننا لا نشعر أن وجودنا مرتبط بالحي. لشدة جلاء الأمر،  أصبح لا يهتم به أحد. يجب أن يُذكر المعالج مريضه بأهمية هذه الحقيقة، و فوريتها، إذا ما أراد مساعدته على العلاج. لن يصل إلى تشخيص، إلا على قدر إستطاعة المريض وصف معاناته. و سيكون العلاج الموصوف على حسب المرض. لكن ما دمنا نتجاهل الإضطرابات التي تصيب أنفسنا، لن يتمكن أي طبيب من معالجتنا. الأمر المثالي هو الوصول بأنفسنا إلى تشخيص المرض، و إيجاد فينا الوسيلة لعلاجه، و هذا ما يفرض علينا العودة إلى مبدأ وحدة الكينونة، الذي هو مصدر توازننا.
    لنبدأ إذن بالتيقظ لحضرة الحي في أنفسنا، و خارجها.  حتى نكون أكثر يقظة لهذه الصفة الإلهية الأساسية، و حتى لا نتيه و نغرق في حياة لاشعورية. بالمناسبة، يحذرنا الشيخ العلاوي من تحكم الحواس، لأن عالم الحس سكر. لقد غرقنا في العالم المحسوس و أعجبنا بأشكاله المتغيرة و المتنوعة، حتى أصبحنا نعيش في حال دائم من السكر و النسيان. شعورنا مدبق كلية في الحقائق المحسوسة، حتى فقد اتصاله بالأمر الأساسي الذي يغذيه. إننا منهمكون في كل لحظة و حين، بأمورنا و مشاغلنا اليومية، لكسب معاشنا. فبإعراضنا عن الحي، فإننا نهمل و نضحي بالمظهر الأساسي لكينونتنا.

القـراءة بالحي
    عندما ضم الملاك جبريل الرسول صلى الله عليه و سلم إليه، إلى درجة، كاد يخنقه أمره كما يلي:
"اقرا، قال: قلت ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ باسم ربك ... ". فقرأ عندئذ النبي صلى الله عليه و سلم.
    من لم يبدأ قراءة حياته الخاصة "باسم ربه"، يترك جوارحه و عقله يقودانه، رغم محدوديتهما. مفهوم القراءة باسم ربك جد متطلب. إن قراءة حياتنا به تعالى، أمر صعب لأنه يتطلب الإعتراف بعيوبنا، و ضعفنا و حدودنا.
    عندما نبدأ نشعر بأننا لا نتواجد إلا به، لم يعد يخطر بالبال أبدا، التساؤل عن مدى إمكانية وجودنا أو عدمنا، لأن فقط، الكائن و الحي هما الموجودان. قال الله تعالى.
"و هو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم". (الحج، 66).
    ليس الموت سوى تحول الكائن، أو تحول مرحلة مؤقتة، تؤدي بنا نحو شكل جديد، من حياة ذات أصالة كبيرة. لا يوجد في الكون كله، سوى الحي. مهما تولينا، لن نلتقي إلاّ بالحي الأبدي
"و لله المشرق و المغرب فأينما تولوا فثم وجه الله، إن الله واسع عليم". (البقرة، 115).
    بمجرد تحقيق القراءة بالحي، نصبح قادرين على فهم لغة الخليقة، و كذلك مختلف التقاليد الروحية التي تعرفها الإنسانية. ينفتح منظور جديد أمام الإنسان. يصبح كمُستقبِل يأتيه الخبر من المخلوقات المتحركة و الساكنة: الحجارة، و الشجرة، و العصفورة، و الإنسان، و تتجلى عليه الكيانات الروحية و تكشف له ذواتها، لتعزز معرفته، و تقوي بصيرته اتجاه السير الذي يربط مختلف الأشكال و الحقائق، في حركة مستمرة و خلاَّقة. يَفهم الهيجان الذي يرفع الأمواج و يعكر سطح المحيط، ورغبتها الملحة التي تبديها للتجلي حتى تستمر الحياة، و تتحول، و تكتمل للشهادة أن لا إله إلا هو. كل الأشياء ترجع بالإنسان المحقق، نحو هذه الحقيقة الثابتة و الأبدية. تترابط الأحداث الماضية و المستقبلية كالخيوط التي تشتبك، مكونة نسيج ذو عمل غير متوقع، يفوق و يتحدى أي إحساس و تخيل. لا يعرف بدايته و منتهاه إلا الفعال المتعالي. فالإنسان الذي شاهد في حيرة هذا الأمر، يعود نحو نفسه بمثابة شاهد على هذه الحقيقة المحيطة بكل شيئ.
    يستولي عليه حينئذ، حال الحمد و الشكر لله، على حال النعمة التي يعيشها. و ليست صلاته  سوى رد جميل الله. مَن يشعر أنه الحي، سيعيش في سلام. تصبح هذه الحضرة مستمرة. تنشأ علاقة من المحبة و حوار دائم بين الإنسان و الخليقة و الخالق. من الخطأ تخصيص تجربة الوحدة لأفراد خارقة للعادة، في حين أن الحي يتحاور باستمرار، مع كل الأشخاص الذين يسعون إلى إيقاظ ضمائرهم، و لو قليلا.

القراءة بالجوارح
    نساهم بكل كينونتنا في الحي. نحن متكونين مثل أي مخلوق من خلايا، و ماء، و جهاز عصبي، و جلد، و غيرها من عناصر حية أخرى. نتلقى الحياة، ثم نريد أن نحافظ عليها أو ننميها، و كذلك منحها قبل أن نعرف بدورنا الموت. تتجلى علينا الحياة فورا، و تتعرف إلينا من خلال الحواس أولا. بمجرد الكلام، و السمع، و اللمس يظهر لنا، أننا أحياء. يجعلنا التفاعل المتبادل بين الحواس، في اتصال مع العالم، و يسمح لنا باكتشافه، و تعلم كيفية معرفته. حول هذه النقطة يعطينا الإسلام الباطني توضيح مهم، ما دامت الحواس هي الوسائل الأولى لمعرفة النفس و العالم، فبواسطتها نستطيع أن نتعلم، كيفية البحث عن الله في كل شيء. يكون ذلك ممكنا، إذا عودنا حواسنا على إدراك الله، في كل مظاهر الوجود. 

   الجدير بالملاحظة، أننا نقوم غالبا بعكس ذلك، نظن أن حواسنا حجب تحول بيننا و بين الله، في حين أنها المنفذ الأول الذي يوصلنا إليه. عند بحثنا عن الله، ننكر في أغلب الأوقات، تجلياته المحسوسة. و عليه، نرى أن عمل الحواس يتوقف عند الحقائق المادية السطحية، بل حتى الوهمية. و الحال أن تربية الإيقاظ، تمر بالضرورة، عبر تحول الحواس.  
    ترتبط هذه التربية في التصوف بأحكام الشريعة. لكن الإشكال يكمن هنا، في سوء التفسيرالذي يمنح للشريعة. ينظر إليها كمجموعة أحكام محدثة و مقيِدة، ناسين، أنها وسيلة لتركيز حواسنا، و إصباغها بالروحانية، و إيصالها بالتدريج، إلى إدراك  بلطف، حقيقة المبدأ الأعظم.
    تأخذ النظرة الصوفية في العلاج بعين الاعتبار، أهمية إيقاظ الحواس في شفاء النفس البشرية. يمكن ملاحظة لدى مريض فقدان بعض الحواس أو إضطرابها. كيف يُعَلِّم المعالج مريضه السمع، من جديد، و النظر، و الإدراك، و اللمس؟ واضح أن تحويل الحواس، من أولويات مسيرة علاج النفس. و لكن ما هي العلاقة بين الحواس و الحي؟ مثلا، عندما نأخذ الماء لشربه، نقوم بذلك، أولا لنرتوي، و لكن إذا استشعرنا في فعلنا، و تحققنا بأن الماء حي و نحن أحياء، كما أننا بحاجة إلى بعضنا البعض، لوجود الحياة، و استمرارها.  إذن سيكون الجي موجودا، في كل ما نقوم به. حين نشرب و نأكل باسم الله، نصبغ أفعالنا بالشعور، و نغذي في آن واحد، جسدنا المادي و جسدنا الروحي.

القراءة بواسطة العقل
    يتم المستوى الثاني للقراءة بواسطة العقل. إذن، ما هو الدور الذي يلعبه العقل في إدراكنا للألوهية؟ إن حواسنا هي التي تشيد و تغذي عقلنا بالمعرفة. إذا كنا نشعر بواسطة إدراكاتنا الحسية، بتجلى الحضرة الإلهية في أنفسنا، لانتفعت بنعمها كينونتنا الحسية و المعنوية. إبتداءا من هذه اللحظة، يمكن أن يلعب العقل دورا فعالا و إيجابيا لدى الإيمان، حيث يعززه بالإدراك و الفكر. إلا أن العقل يبقى ناقصا، و لو منحنا، أحسن معرفة ممكنة من الحق. لا يمكن الإكتفاء بمقاربة عقلية، لإدراك الحقائق الأساسية. إذا كان تلقين الإرث الروحي يتم أولا بالحواس، فإن العقل يشيد، بعد ذلك، ارتباطات و تصورات، اعتمادا على المعلومات الحسية، التي تلقاها. تصبح عندها، مختلف التصورات التي لدينا عن الجنة و النار و أسماء الله الحسنى، إنشاءات ذهنية.
    يجب أن يشعر العقل بأن التصورات التي شيدها، يمكن أن تغلقه في تنظير عويص و غامض. في إدراكاتنا، فإن الحواس ليست، إلا وسائل تسمح بالحصول على الخبر القادم من العالم الخارجي، و للعقل يعود دور التحليل و الشرح. كل ما نراه مثلا بأعيننا، يسبب آنيا في ذهننا أحكاما. تنشئ هذه الخصلة الفكرية لدى الإنسان المفتاح، الذي يسمح بفتح و غلق المنفذ، الذي يؤدي إلى فهم أكثر عمقا للألوهية.

القراءة به هو
    كيف نجنب العقل كي لا ينغلق في إنشاءات ذهنية مميتة؟ يقترح التعليم التقليدي الصوفي مستوى ثالث للقراءة، يتمثل في قراءة الوجود، ليس بالعقل، أو بالحواس فحسب، و لكن "بربك". حددت الآية جيدا بالقول "بـ" ربك ، و ليس بـ "الـ" رب، لأن هذه القراءة تصبح وحي منه إلينا. في هذا الموضوع، نقرأ حكمة لسيدي بومدين، تقول "اللهم فهمنا عنك، فإنا لا نفهم عنك إلا بك". و أشار الشيخ العلاوي لهذه الحكمة.
"هذا المقام من أشرف المقامات عند العارفين خصوصا الدالين على الله، و هو المسمى عندهم بوحي الإلهام. فلا يسير العارف تلامذته و نفسه إلا به [...] لأنه الحامل لسر الألوهية، إذ لربما يضعه في غير محله، أو يتكلم به مع غير أهله، و بسبب فهمه عن الله ينزل الأشياء منازلها، و يوفي الأوقات مستحقاتها.
    هذه السيرة هي الفطانة الواجبة في حق المرسلين صلوات الله عليهم. و من فاته الفهم عن الله، فاته كل شيئ. و في مثل ذلك قلت:
فمن يفهم عن الله عاش منعما     يسير بسيره بصيرا على خبر
و من جهل الأمور كان معذبا     لم يدر حكمة الله في النفع و الضر".
    يُشترط أن يقوم الإنسان بتجربة وحي الإلهام حتى يصبح قناة تنكشف من خلالها، معرفة الحقيقة الأساسية. لا تعني قراءة الحياة به سبحانه، نفيا للذات، بل بالعكس تعتبر تأكيدا فعليا لها، و لكن هذا التأكيد، يتم به. كانت الشهادة مبنية من قبل، على قدرات الحواس و العقل معا، و هما ملكتان محدودتان. أما الآن، تتم الشهادة بالحق نفسه. قال علي كرم الله وجهه، ابن عم و صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم.
"لا تكن ممن يعرف الحق بالرجال و لكن اعرف الحق تعرف أهله".
    حتى الأفكار و النظريات الحاذقة غير قادرة على إدراك الحقيقة الإلهية. بالمقابل عند تحقيق، القراءة الثالثة به، أي بـ "ربك"، فهو الذي يعبر عن نفسه من خلالنا.

إستمرارية القـراءات الثـلاث
    تعني "بربك"، الحصول على شعور أكثر تيقظا اتجاه الحي. إذا كنا بإيقاظ حواسنا، تحصلنا على تلقيننا الأول عن الحي، فبالعقل يستمر هذا التلقين، بشرط أن يعترف العقل بمحدوديته. عندما نستعمل قبل كل وجبة العبارة المقدسة، "بسم الله"، نقولها غالبا على سبيل العادة، دون أن ندرك، معناها الحقيقي. نفس الشيء بالنسبة للعديد من الشعائر الدينية، التي اعتنقناها تقليدا محضا، دون أي اعتبار للمعنى العميق الذي تحويه. يشهد هذا الأمر جليا، بأن التلقين لم يعد مضمونا، لأن المحتوى الروحي قد ضاع، و يجب علينا إعادة إكتشافه. لكي نعيش بصفة عميقة، ما تخفيه هذه الصيغ، علينا المرور تدريجيا بمستويات القراءة الثلاثة، بالجوارح، ثم بالعقل، للوصول في الأخير إلى القراءة بالعقل الأعظم "بربك".
    توجد إستمرارية بين هذه القراءات الثلاث. لهذا يعتمد نجاح الواحدة على نجاح الأخرى. فلو اكتسبنا الشعور بذلك، لأصبحنا نوقر الحي في كليته. لكن يجب علينا، أن نقر أولا، بوجود هذه الصفة الإلهية، أو على الأقل، بإمكانية قراءة ثالثة للإنتقال نحو مرحلة الإلهام، و إلا سنسجن في القراءتين الأولى و الثانية، دون أن نتمكن من أداء تجربة وحدة الحي في أنفسنا.

    في كل مرحلة من هذه المراحل، نتعامل باستمرار مع آثار الأوهام، لأننا لا نشعر بعد، بأن الحواس و العقل، مجرد قدرات معرفية محدودة. لا تزول الأوهام بالكلية، إلا عند المستوى الثالث من القراءة، لأنها تتم به سبحانه و تعالى. عندما تصبح الروح قادرة على الفهم بالله، يستطيع الكائن أن يولد وحيه الخاص.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). كوجيتو: الكلمة تلخيص لعبارة الفيلسوف ديكارت القائل : أنا أفكر فأنا إذا موجود.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق