من أجل إسلام السلام لعام 2010


   
   من أجل إسلام السلام


    خطبة الشيخ خالد بن تونس في مؤتمر جنيف 2010 - "من أجل إسلام روحي حر ومسؤول"، المنعقد يومي 09 و 10 أكتوبر 2010، بمدينة جنيف، في قصر المؤتمرات باليكسبو.


                    الشيخ خالد بن تونس وهو يلقي خطبته (تصوير: كاترين طوايبي)

    إن هذا اللقاء الذي ينظمه الفرع السويسري، للجمعية الدولية الصوفية العلاوية "عيسى"، هو استمرار لنضال يُقاد منذ سنوات، من أجل  أن يتم إسماع صوت الإسلام "الروحي"، والتعريف بميراثه. كما أنه صدى للتجمع الكبير، الذي عقد بمستغانم شهر جويلية 2009، للإحتفال بمئوية الطريقة العلاوية. يدعونا هذا الإرث الذي يصل إلى منابع الرسالة المحمدية، إلى التساؤل، عن جوهر الإسلام، وممارسته، ورؤيته، ومساهمته في الحوار والعدالة والإخاء والسلام، وسط إنسانية، تزداد تعقيدا، أكثر فأكثر. قال الفيلسوف إدغار مورين في كتابه "وحشية الإنسانية"، "لا شيء مضمون، بما في ذلك الأسوأ". ويضيف "إن العدوانية عنصر ثابت في الجنس البشري، وكل مجازر تاريخنا، تثبت أننا جنس إجرامي. في حين أن العالم الحيواني يتقاتل من أجل الغذاء أو الدفاع، فإن عند الإنسان، قد يبلغ العنف الإجرامي العنان، إذا لم يتم ضبطه باستظهار العاطفة والتحلي بالعقلانية ولعب الدور الإجتماعي والثقافي، ولحسن الحظ، أنها أقامت حواجز وحظر على العنف. وفي ذلك، فإن مورين محق في كلامه، عن وحشية الإنسانية".  ذكره مارك دو سميدث – المسألة رقم 126 – من أجل إسلام السلام – يناير 2001.

    كيف يمكننا التخلص من هذه المعضلة التي تميز الإنسان، بأن يكون في الآن نفسه، تجسيدا للحكمة البالغة والرائعة، وللعته الوحشي واللاإنساني؟ فهو يخضع لكل من، غريزة الأصل السفلي (المعدني والنباتي والحيواني)، والبيئة الخارجية، لما يلقيه الميراث الثقافي من ثقل، والمجتمع الذي هو في تغير مستمر، وأخيرا باطنيتا التي تثير ضميرنا باستمرار. في النهاية المطاف، أليس الذي يحدد ويثمّن فينا الكائن البشري، هو حالة ضميره؟ بغض النظر عن عرقه ولونه وفلسفته ودينه. إن الذي يميزه من بين أقرانه، و يغذي مثله الإنساني، هو إدراكه الذاتي وإدراكه المعنى والقيم، التي تقيم كيانه.

    أمام التحديات الكبرى التي تواجهها الإنسانية اليوم، والدوامة المستمرة من الأزمات، التي تهز النظام، الذي أفضته عولمة، وأمام حداثة تتميز بنزعة إستهلاكية أطلقت العنان لكل  شيء، وعلى أية حال. قال بيير سيغيرز في مقدمة الكتاب الشعري، "طينة آدم"، لأفريد سابين"، هل سمعتم في أنفسكم 'الكالمات المرتبكة'، استمع إلى دقات قلبك، واعطي معنى لحياتك؟ هل فكرتم، أن الشعر والموسيقى والرسم والرقص والخط والنحت وجميع الفنون، كانت في نهاية المطاف صلاة، سواء دينية أو علمانية، ووحي، لتلك الخيرات المجهولة، التي يحملها الإنسان في نفسه، تلك التي للخليقة"؟

    اليوم، لكل منا خيار، اختيار المسارات والحلول المتاحة لنا لإدارة الحاضر وتوقع المستقبل. يوضع الجميع أمام مسؤوليتهم وحريتهم ودورهم في الحياة وأمام العالم، إزاء الصراعات الحالية. جميع الجهات الفاعلة في المجتمع (السياسي والثقافي والإقتصادي والإجتماعي والعلمي والديني ووسائل الإعلام وغيرها)، مدعوة للتفكير والعمل معا، كشركاء على قدم المساواة و المسؤولية. إنه إصلاح باطني، بعيدا عن كل تحيز (عرقي أو ثقافي أو ديني)، يصبو إلى تطوير ومرافقة إنسانية ناشئة، لتكتسي فضائل وقيم عالمية، تكسوها محبة وأخوة. في مقال، صدر في"Les nouvelles clefs"، نسخة، أكتوبر-نوفمبر 2010، المعنون بالقريحة الجماعية، قال لنا باتريك فان إيرسل "خلّف الإنسان المُتواصِل، الإنسان العاقل، الذي تطور في فضاء أنتربولوجي جديد. بعد فضاء الأرض (إنسان ما قبل التاريخ)، وفضاء الإقليم (إنسان العصر الحجري الحديث)، وفضاء البضائع (إنسان النهضة)، فإن الفضاء المعرفي، بصدد ترجيحنا نحو بُعد، لم يسبق له مثيل، تكمن القيمة فيه، من الآن، في المعرفة، أكثر ما تكمن في الرأسمال أو العمل. نحن مرتبطين ببعضنا البعض، بواسطة شبكة الأنترنيت العالمية، التي تخترق حياتنا الخاصة، حسب ليفي، إننا نقوم بعبور ممر، لا يقل قوة، عن ممر اختراع الكتابة، منذ 7000 أو 8000 سنة"(1).

    يكثف هذا التحور قريحتنا الجماعية، التي يُعرفها الإنسان الحالم، في ثلاث نقاط:

    - الجميع يعرف شيء ما.
    - لا أحد يعرف كل شيء.
    - التبادل هو مفتاح أي تقدم.

    أمام الآفاق الجديدة التي أتيحت لنا، كيف نقوم بإحلال النظام في هذه الفوضى، من خلال المعلومات التي تتزايد باضطراد؟ كيف نمكّن لهذه القريحة الجماعية، حتى تشارك في التنمية الشخصية والفردية، نحو إدارة أكثر مسؤولية، مع توافق عام في الآراء وتراض، ومراعاة التنوع الثقافي-الديني، مع كل ثقل الماضي، الذي يربطه بتقاليد وعادات، تكون أحيانا عدائية؟

    كيف على سبيل المثال، نتجاوز القريحة القبلية، المحدودة في فضاء وعدد من الأفراد، يتعارفون ويتكلمون نفس اللغة، في محيط جغرافي محدود؟

     إضافة إلى ثقل تراث الدول القومية، القائم على أساس نظام هرمي، تديره أقلية، مُنصبة على توزيع الوظائف والمسؤوليات والسلطات والثروات، وتسلسل هرمي إجتماعي، مندرج في الذاكرات، منذ بناء الإهرامات حتى أيامنا هذه. ولكن هذا الواقع، يقلل من شأن الإمكانات البشرية، ويخلق تعقيدا، بات يتجاوزه.

    في العديد من البلدان، حيث يعاني الناس من نقص الديمقراطية، في مجتمع قائم، على عدم الاحترام، لأبسط الحقوق، لا تزال الصراعات المسلحة، تسفك كثيرا من دماء الأبرياء، ويعاني البعض، من نهب أراضيهم، وعدم الإعتراف بكرامتهم، في أن تكون لهم دولة. تثري المضاربة المفرطة الأقلية، على حساب معاناة الأغلبية، معيلة نظام مالي مفلس، يقود العالم نحو اختلال متزايد، في حين، أن ثلث الأصول المالية والمهارات العلمية، مكرسة لإنتاج أسلحة أكثر فأكثر تدميرا.

    في مواجهة أزمات وتحديات لا تعد ولا تحصى، أصبحت تحدق بنا، يعتقد البعض أن القريحة الجماعية، أصبحت المفهوم الرئيسي، الذي تتعلق به الآمال، أكثر فأكثر. يقول لنا باتريس فان إيرسل "ينبغي أن تكون قادرة على حل العديد من المشاكل – مآزق بيئية ومظالم كبيرة–، ما دام منطقها يُعلم الفرد، أن من مصلحته، وحتى الأنانية منها، مساعدة الغير في انشراحه... نحن بصدد التحور، نحو قريحة جماعية عالمية، تعكس صفات القريحة الأصلية، المدمجة في "القرية الكوكبية"، للفضاء المعلوماتي الإفتراضي (فضاء الأنترنيت). روح التعاون مطلوب، ما يعني حتما، سعي لمعرفة النفس، وتلقين في فن الإتصالات اللاعنفية".

    هذا ما يقودنا إلى التساؤل عن اختيار وأهداف اجتماعنا اليوم، في هذه المدينة الجمهورية، بمقاطعة جنيف. إن إختيار هذا البلد لمناقشة المستقبل الذي يهمنا جميعا، ويهم الأجيال القادمة، ليس وليد اللحظة. هذا البلد سويسرا، كما تعلمون، يتألف من عدة مقاطعات، إتحدت بعد حرب دينية دامية. موحدها لم يكن أميرا سياسيا، ولا راهبا من أي كنيسة. كان أبا فلاحا لعائلة كبيرة، إسمه نيكولا دو فلي (1417-1487)، ناسك اعتزل الدنيا للصلاة والتأمل. منذ تدخله في المسألة سنة 1481، بات ازدهار الاتحاد السويسري يستند على حياده، ومساواة مواطنيه، والسلام والأمن فيما بينهم ومع جيرانهم. هذا ما جنّب شعب هذا البلد من أن يعيش ويتعرض للمعاناة الرهيبة والدمار، الذي عانى منه العالم، خلال الحربين العالميتين، الذين شهدتهما معظم بلدان العالم في القرن العشرين. من هذا البلد الصغير، تعالت أصوات ضد الظلم، والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان، وفي هذا المكان نوقشت إتفاقيات السلام، التي أدت إلى إستقلال عدة دول، من بينها إتفاقيات إيفيان في مارس 1962، التي كرست تحرير بلادي الجزائر. ناهيك عن أنه في هذا البلد أيضا، تجذر تصوف الطريقة العلاوية سنة 1935. أما عن الأهداف المنشودة والمرجوة، من خلال هذا اللقاء في عاصمة العالم، موطِن العديد من المؤسسات والمنظمات غير الحكومية الدولية، هو أن يُسمع ندائنا من قِبل الجميع، وأن في قلب أوروبا، حيث ولدت مبادرة السلام والأمل، يقوم رجال ونساء، من كل الخلفيات والمعتقدات، وهم على بيّنة من التحديات التي يتوقف عليها المستقبل، يقومون وينسجون أواصر الأخوة والسلام الدائم. ولكن كيف نعزز هذا السلام؟ وكيف نجعله واقعا، بإجراءات ملموسة وفعالة؟ كيف نتحدث عن السلام، لأولئك الذين يعانون في جسدهم، ويرون حقوقهم تهضم، وكرامتهم تنتهك كل يوم؟ من هنا، نرجع إلى الحكمة الألفية، الإرث المشترك  للإنسانية جمعاء؛ نحو روحانية فعالة، أسُسها تقديس الحياة والإيثار والتضحية بالنفس والامتناع عن القيام بغيرنا ما لا نحبه لأنفسنا، والغيرية في احترام الغير؛ لأننا مرايا بعضنا البعض، وكل واحد منا بحاجة للغير، ليعرف نفسه. في كل واحد منا يتواجد الأفضل والأسوأ. كيف نتجنب الأسوأ، ونُنمي الأفضل في أنفسنا، هذا الأفضل الأكرم والأنبل لدى الإنسان.

    في كل واحد منا، يوجد جزء من الحل لهذه الأسئلة، وكل منا يمكنه، أن يجلب لبنته لبناء هذا الأمل. بصفتي مسلم، أتوجه أولا إلى أهل ملتي. في يناير 2001، عقدنا بمقر اليونسكو على مدى يومين، ندوة دولية تحت عنوان "من أجل إسلام السلام". نُشرت وقائع هذا المؤتمر من قِبَل إصدارات ألبين ميشال، في عددها 126. إن الأحداث التالية، في العام نفسه، أكدت مخاوفنا وانشغالاتنا، بشأن أقلية هامشية وراديكالية، تستند إلى تأويل، هو في الأساس، تفسير سياسي للقرآن الكريم. في الواقع، إنهم يتهمون قادة الدول الإسلامية، وكذلك بقية المجتمع المسلم، الذين لا يتفقون مع أطروحتهم، بالكفر والمعصية، حيث لا يطبقون بمجتمعهم متطلبات الشريعة الإسلامية. وبالتالي، يعطون لأنفسهم الحق، في مخالفة القوانين التي تحكم الدول، وحتى التمرد عليهم، والدعوة إلى الجهاد في سبيل الله، ونصرة أفكارهم بالقوة. ومع ذلك، لم يدرك العالم وخصوصا الغرب خطورة الموقف، إلا بعد تسعة أشهر. نجمت من صدمة هجمات 11 سبتمبر 2001، موجة صدمة، لا تزال تثير موجات متوالية من السخط والإحتقار ورفض الإسلام وحضارته ورسالته الأصيلة الشاملة. يشعر كل مسلم أينما كان، أنه مصاب في كرامة إيمانه. أصبح رغما عنه إرهابي محتمل، نريد إخفاءه في الظل، وعلى استعداد ليظهر في أي وقت، لارتكاب اعتداء. الترويج الإعلامي المفرط، والخلط  المقصود بين الإسلام والإسلاموية، ومعاداة للإسلام زاحفة ومعدية، ولدت ضغط نفسي يومي لا يطاق، وعبء الشعور بالذنب مقرونا بالخطر الأخضر المتدفق على أوروبا والغرب، من خلال نظرية صراع الحضارات. أصبح الإسلام يساوي العنف، يساوي التخلف، يساوي التضارب مع العصرنة والسلام العالمي. إنه تبسيط للتاريخ والخبرة المشتركة. أنسى الإسهامات الحضارية التي أنتجها ونقلها إلى أوروبا النهضة، في الفن والثقافة والعلوم والفلسفة. إنطوى العالم الإسلامي بعدها على نفسه، ويبدو أنه نائما منذ ذلك الحين. بالمقابل، يجب أن نحيي موضوعية كتاب ومفكرين غربيين، الذين حللوا وقارنوا مختلف العصور والفضاءات الجغرافية للعالم الإسلامي، التي كانت تعيش فيها جاليات يهودية ومسيحية، تحت نظام "أهل الذمة". وضع الأقليات المحمية. خلصوا إلى أنه "إذا وجدت بالفعل أمثلة على التمييز الديني عند بعض الخلفاء، في وقت لاحق، فمن الواضح، أنه لا يمكن مقارنتها بالمجازر الدينية في الغرب بذلك العصر، وخاصة أن التعايش ساد دائما على مقاييس التمييز، لأن عامة الناس ينتهي بهم الأمر دائما إلى التخلص، من مثل تلك الصفات، التي لا تعكس جوهر الإسلام، ولا تقاليد ذلك الشرق المتعدد الأعراق والأديان".

    كيف نرفع التحدي لاستعادة صورة هذا الدين، من دون الرجوع إلى الجوهر الروحي لرسالته، إذا بقي عموم الأمة الإسلامية صامتا ومشلولا، وإذا لم تبين النخبة الدينية والثقافية، بالنصوص الفقهية والقانونية الدالة على ضعف حجج الذين يدعمون هذه الموجة الجهادية، وتفضح معرفتها السطحية والذاتية؟ خاصة عندما يتم التطرق إلى مسألة خطيرة وحساسة مثل الجهاد؟ كيف نقنع الباحثين والكُتاب والصحفيين الجادين في الغرب، على الخصوص عندما يتعلق الأمر، بالتعامل مع القضايا الخلافية، التي أثارتها القضية العامة للجهاد؟ في الواقع، إن عمل أو تطرفية أو نضالية الذين ينادون بالجهاد، لا تهدف في الحقيقة إلا السلطة. أفرغوا جوهر هذا المبدأ، الذي هو الجهاد في الإسلام، الذي يدعو إلى بذل جهد على النفس، حتى تسكن شهواتها ويتقن عملها. اشتقت كلمة جهاد من الجذر، جدّ (قوة)، وبالتالي البحث في ذاتنا، عن الطاقة والقوة الخلاّقة كي نتحسن، ونُحسن المجتمع الذي نعيش فيه. ولكن كيف يمكننا أن نتحسن ونطور المجتمع، إذا لم يتم ذلك من خلال جهد متواصل، لمكافحة الجهل وطلب العلم؟ يجري بواسطة جهد من العدالة السياسية والإجتماعية والعالمية.. في الإسلام التقليدي، تم تكليف الأئمة الدعاة بهذه المهمة التربوية. بمعرفتهم لمبادئ وقواعد ومتطلبات ومعايير الدعوة، كانوا يحضون المؤمنين على الرحمة والتسامح والعدل وإدانة الظلم المرتكب ضد أي شخص، بمن فيهم أتباع الديانات الأخرى. كان تعليمهم في المقام الأول يصبو إلى ضمان السلام ووحدة المجتمع الإنساني والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا يعني حرفيا، أن ما كان معترف به من طرف الجميع، هو المعروف، وما كان مرفوض من قِبَلهم هو المنكر. إن الهدف من مثل هذا الجهاد الإسنادي التربوي، هو إعلاء الأخلاق الفاضلة الشاملة، التي تأمر بفعل الخير، والتمسك بالمبادئ التي تحمي الإنسانية، لكي لا تغرق في الفوضى والفتنة. وكذا تعزيز مجتمع قائم على التقوى والصفاء والصدق والعدالة والإخلاص لرحمة الله، ومتمسك بمبدأ التوحيد، الذي يذكّر كل فرد، أن الناس هم على قدم المساواة أمام الله سبحانه وتعالى. يسمى هذا الجهاد بالأكبر، مقارنة بالجهاد الأصغر الذي هو دفاعي، ويدعو الإنسان، كي يعيش سلام مشترك سائد في مجتمع تعاوني، تمارس فيه، الأنشطة في إطار الشراكة. يمهد السلام الإجتماعي للسلام الدولي والسياسي. إن الميزات ذات الصلة بمثل هذا السلام، تدعونا إلى المساهمة والتعايش والتراضي والتفاهم والتلاحم والشفافية والتضامن، بين جميع الناس، وبين الأجيال. إن هذه الأنسية التي يحث عليها هذا الجهاد، مجبولة على الرحمة ومحبة الله تعالى، حيث دعا الأمير عبد القادر الجزائري إلى الحقوق الإنسانية، أثناء أعمال الشغب بدمشق سنة 1863 م. إن الملاحظَ، أن لموعظة الجهاد إهتمام قليل لدى الأصوليين، فهم مكتفون بالقيام بعملية تلقين، داخل جماعات أو فصائل منغلقة، مفضلين الإنعزال عن المجتمع الإسلامي، الذي أصبح في نظرهم جاهلي وكافر، جاعلين البلدان الإسلامية ديار كفر وخيانة، وذلك ما يبرر الحرب. إذا اعتمدنا أن من بين الجوانب العديدة للجهاد، يوجد الجهاد الدفاعي أو المحربي، الذي ينص كما تؤكد غالبية الفقهاء المسلمين، على الدفاع عن شيئ موجود، وطن، أو ممتلكات، أو شرف. لا يمكن أن يكون لخلق شيئ غير موجود. بعبارة أخرى، لا يكون الجهاد المحربي المسلح وسيلة لإقامة دولة أو نظام إسلامي، لأن بلاد الإسلام بنيت بجهاد مسند مؤسس على الحوار والإختيار الحر لكل مواطن. لا تُفرض الأنظمة الإسلامية من فوق، لأنه ليس للإسلام، كهنوت أو الكهنة المكرسة. ينبغي أن تتم إقامتها بالشورى والإجماع الديمقراطي.

    يذكر السيد أوليفيي روي، في كتابه "فشل الإسلام السياسي"، أن "الجهادية الإسلامية تستمد في عملها واحترابها من الماركسية البروليتارية ومعاداة الإمبريالية، ولم يقم الإسلاميين إلا بإعطاء شعارات إسلامية لها". كان دائما الشغل الشاغل للفقهاء المسلمين، هو الحفاظ على وحدة الأمة، حتى لو اعترف مؤقتا بسلطة منحرفة، لمنع اضطراب ثوري، يؤدي إلى حرب أهلية. إن الروح الثورية ليس لها اتجاه ديني حسب الشريعة. إن الهيمنة المؤقتة لمثل هذه الروح في العالم الإسلامي، مع انتشار الحركات الأصولية، لا يمكن تفسيرها، إلا بالتأثر والإعجاب طوال هذا القرن، بالإيديولوجيات الثورية المعاصرة.

    أود أن أشير إلى النقاط المهمة والإيجابية من هذا المحضر،  التي يمكن أن تساعدنا في التفكير، للخروج من هذا الوضع، الذي يبدو، أنه ميؤوس منه، لبناء والحفاظ على العيش معا، في مجتمع في أوج تحوره، من خلال مزج بين الأفكار والثقافات، وتدفق المهاجرين، الذي لا يزال يواصل في تحويل المجتمع في العمق. سيحدث القرن الواحد والعشرين بكل تأكيد، ثورة في معرفتنا وعلومنا وثوابتنا، في جميع المجالات. العالم يتغير بما في ذلك العالم الإسلامي. يعمل كبار الباحثين في العلوم الإسلامية، على إظهار الحقيقة المخفية على نحو مضاعف، من خلال تسييس مرَضي للإسلام، عند الإسلاميين، وبحملة ذكية، تُقاد لتشويه صورة هذا الدين، جهلا بسنة التاريخ، مثل العمل الممتاز الذي قام به الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، في كتابه "الجهاد في الإسلام، كيف نفهمه؟ و كيف نمارسه؟"، صدر عن منشورات دار الفقه ببيروت، والمُعرّب الدكتور في العلوم السياسية، ستيفان لاكروا، في كتابه "الإسلاميون السعوديون، تمرد مخفق"، إصدار (Proche Orient PUF) . فضلا عن باحثين ومختصين أخرين، الذين يدعوننا إلى إعادة النظر، في رؤيتنا القاضية باستبعاد دور أو حتى وجود ربع الإنسانية، التي تدّعي الإسلام.

    في العديد من الدول الأروبية، أصبح الإسلام الديانة الثانية بعد المسيحية، والمسلمين هم أحد مكونات المجتمع الأوروبي. لا يزيد عدم الإعتراف به، أو استبعاده، أو تهميشه، إلا في صعوبة إندماجه. أما بالنسبة للمسلمين الأوروبيين، فمن واجبهم ومصلحتهم التعزيز، لإسلام الإنفتاح، والتماسك الإجتماعي، والمواطنة المثالية. بما أنهم يعيشون في بلدان ديمقراطية، تضمن  لكل شخص احترام حقوقه وحرية معتقدته، فهم مدعوون لإعادة إكتشاف، ثراء هذا الإرث الروحاني للإسلام، والتعريف به لأطفالهم، لحمايتهم من التهميش والطائفية الإنتحارية، التي تصب في مصلحة الذين يرون في الإسلام تهديدا للمجتمع؛ وتجنيب أطفالهم الوقوع في فخ الدفاع عن الجهادية الناشطة، التي تجبر الناس على اعتناق الإسلام، كما تميل إلى تغليب قراءة مختزلة لتاريخنا؛ وأن يكونوا همزة وصل، بين الشرق والغرب، وهم مدعوون لبناء أسس عالم من التبادلات، تبادلات السلام والإزدهار، في ظل احترام الإختلافات.

    في ذلك، قد يدفعنا الإسلام الراديكالي، دون قصد، إلى اكتشاف حقيقة الرسالة الروحية والعالمية للإسلام الصحيح، الحر والمسؤول. إذا كان إنسان اليوم متعطش للكمال، متعطش للعدالة والمحبة؛ فأجل، إن رسالة التوحيد هي إجابة. ولكن هل سنكون حكماء بما يكفي لفهمها؟ يعتبر الشيخ العلاوي، مجدد التقليد الصوفي في القرن العشرين، في أطروحته "الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلامية"، إصدارات" les amis de l’islam  باريس 1984، عندما عالج مشاريع المجتمع الإسلامي، لم يقم كما يفعل البعض، يدّعون أنهم يأتون بإجابات جاهزة. بل قام بطرح أسئلة أساسية، واقترح وسائل للإجابة، تمر باكتساب الفضائل. وضع بعدها إطار على نموذج الشرائع الإلهية، التي تربط السماء بالأرض، والكوني بالتوحيد. فعلى الرجال المحققين والحكماء، ملئ الفراغ الوسيط، و خياطة ثوب القرن القادم. ودحض الإعتراضات الرئيسية، التي يتعرض لها الدين:

   - الكفر الحقيقي غير موجود. كل إنسان يحتاج إلى الإعتقاد، ولو في نفسه.
   - يخترع الكافر مذهب شخصي، ليكون بديلا عن الدين الصحيح.
   - حتى الشك هو إثبات للألوهية، بما أنه يفترض، بأن يكون في اتصال معه.

    هكذا يصبح النفي إثباتا، عندما يجتمع بروح الشيخ العلاوي. وأيضا، إن الصلة بالسمو، تتجلى لدى الإنسان، في علاقاته مع الطبيعة. إن المعادن والنباتات والحيوانات، هي جزء لا يتجزأ منه. إنهم لحمه. كيف لا يكنّ لهم الإحترام؟ بعض الناس يعون فعلا ذلك، غير أن  تصريحاتهم تبقى بدون صدى. ربما تكون عقيدة التوحيد، هي ذلك الأمر، الذي من المنتظر أن يمس البشرية.

    حتى ولو أن الشيخ العلاوي يلقي نظرة انتقادية، على الحالة الراهنة للعالم،  فهو ليس من أولئك الذين يرفضون كل إنجازات التطور البشري، وينغلقون في دوغماتية مضللة، عقيمة أو متعصبة. بالعكس، إن العالم الراهن هو إرادة إلهية، على صورة إبتعادنا عن المبدأ الكوني. لا يحق لنا الحكم عليه. ولكن الإنسان أعمته نفسه، فهو يرى سببا للإنكار أو الشك. نسب لنفسه هذ التطور، كما لو أن الله وحده، ليس له هذه القدرة. حرم نفسه عمدا من مزايا الإمتثال للشرائع الإلهية. لهذا السبب، فإن المجتمعات الإنسانية بما فيها مجتمعات اليوم، التي لها سلطة وثروة لا تضاهى، تبقى عاجزة عن حل المشاكل الأساسية.

    ليست أبحاثه الفلسفية، نداء من وراء القبور، إلى ذوي النوايا الحسنة من الناس. شأنها، شأن أي رسالة شاملة في الوقت الحاضر.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). وردت أحاديث كثيرة، تنبئ بحدوث طفرة في المستقبل ويقظة، يرتقي من خلالها الإنسان إلى بعد أعلى، ويصبح يعي ما يعتبر اليوم من قبيل الخوارق. قال صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده". حديث صحيح رواه الترمذي والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه وابن أبي شيبة في المصنف. وأخبر تعالى عن هذا الأمر بقوله "ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰٓ أَفْوَٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ". الآية 65 من سورة يس. يلعب الحامض النووي في وقتنا دورا حيويا في تحديد مواصفات الشخص، فهو يخبر عن تفاصيل دقيقة عن الفرد. وكأن الإنسان يحتج "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء". سورة فصلت، الآية 21. وللمعلم البلغاري بيتر دونوف، المتوفي سنة 1944، وصفا مميزا عن العالم القادم في طرح عرف باسم "النبوءة الأخيرة لبيتر دونوف".