السبت، 21 أغسطس 2021

قمة أفريقيا آسيا الروحية

قمة أفريقيا آسيا الروحية

تايبيه من 26 إلى 29 أكتوبر 2007

 

     أقيمت أول قمة روحية أسيا- إفريقيا بجنسهان، بمنطقة تايبي بجزيرة تايوان، مابين 26 و 29 أكتوبر 2007. ولقد جمع هذا الحدث الذي احتضنته المؤسسة البوذية لدهارما دروم مونتين، التي معربها "جبل الطبل لدهارما"، عدة زعماء روحيين و دينيين و كذا خبراء من مختلف الميادين لأجل التفكير في وسائل دعم الرأفة و التعاون الشامل عن طريق تشييد علاقات بين مختلف الديانات لهاتين القارتين. شارك فيها الشيخ خالد بن تونس، وألقى كلمة قيمة.

    إن "دارما دروم ماونتن" هي مؤسسة روحية وثقافية وتعليمية بوذية دولية، وتعد واحدة من أكثر المنظمات البوذية تأثيرًا في البوذية الصينية.

 

لقاء الشيخ خالد بن تونس بزعيم مؤسسة "دارما دروم ماونتن"


صلاته بأحد مساجد تايبيه







ـــــــــــــــــــــــــــ

كلمة الشيخ خالد بن تونس

 



    أيها الموقرون، أصحاب الفخامة، سيداتي سادتي، أصدقائي الأعزاء.

    أشكر مؤسسة "دارما دروم ماونتن" وجميع المنظمين الذين دعونا إلى هذا الاجتماع الذي يبقى في الذاكرة: قمة أفريقية آسيوية لتعزيز الحوار والتأكيد على القيم الروحية والإنسانية. أودّ سيداتي وسادتي، أن أقدم مساهمتي المتواضعة، وشهادتي من خلال خبرة طويلة في مجال العلاقات بين الأديان والثقافات.

    لطالما عملت الطريقة الإسلامية الصوفية العلاوية، التي يشرفني أن أمثلها، في هذا الاتجاه. في عام 1949، خلال المؤتمر العالمي الأول للحوار بين الأديان، الذي نظمته الجمعية الثيوصوفية في بروكسل، ألقى جدي الشيخ عدّة بن تونس خطابًا تاريخيًا، داعا فيه جميع أتباع الأديان إلى الحوار واللقاء ومشاركة القيم الروحية والأخلاقية المتوارثة والمتضمنَة في الكتب المقدسة، والحكم المتوارثة من جيل إلى جيل. في الوقت نفسه، أسس جمعية تسمى "أحباب الإسلام" ، حيث اجتمع فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون والبوذيون وغيرهم للعمل معًا من أجل التفاهم والتسامح والاحترام وعيش الأخوة العالمية. في الواقع، لم يدرك المجتمع الدولي الحاجة إلى الحوار إلا في عام 2001، حيث سُمي رسميًا، أثناء الجمعية العامة للأمم المتحدة، "عام الحوار بين الأديان والثقافات".

    منذ ذلك الحين، ماهي حصيلة السنوات السبع الماضية؟ ما هي النتائج وما هي التحسينات التي تم تحقيقها إزاء مشاكل العالم والعلاقات بين الدول والثقافات وأعضاء المجتمع البشري؟ بصراحة، لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن الوضع قد تدهور منذ ذلك الحين، خاصة منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 والصراع في العراق. وأنا بطبعي المتفائل، لا أستطيع أن أستنتج أن هذه التجربة كانت فاشلة. حدثت أشياء إيجابية كثيرة، أبرزها لقاء أسيزي في إيطاليا بين زعماء دينيين من جميع أنحاء العالم، والاجتماع التذكاري في وارسو ببولونيا في سبتمبر 1989، والاجتماعات بين الأديان في البلدان الإسلامية، في المغرب وليبيا ومصر، ولا سيما الرحلة الأخيرة للبابا يوحنا بولس الثاني إلى فلسطين.

    ومع ذلك، بصفتي صانعا نشطًا وشاهدًا متميزًا بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط​​، لا يمكنني للأسف إلا أن أشير إلى الواقع المرير لتدهور العلاقات بين الغرب والعالم العربي الإسلامي. وقد أدى ذلك إلى زيادة التوترات في عالم معولم، خاضع للقوانين الوحشية للسوق الحرة والعولمة بدون روح وبدون رحمة، تاركا ملايين البشر في فقر مدقع وعوز شديد. عالم بلا شفقة، خاضع لموجة الإستخفاف بصَول العنف والإرهاب الدولي والتعسف، باختصار خاضع لقانون الأقوى والأكثر عنفًا.

    إن تسارع التاريخ، من خلال ما يسمى الحداثة، ظهر في أوروبا خلال عصر النهضة، وأحدث بلا شك في القرون الأخيرة تقدمًا في المجالات العلمية والتقنية والطبية والصحية، وما إلى ذلك، ولكن للأسف لم يستطع تحقيق المصالحة بين الإنسان مع نفسه، وبين الإنسان وأقرانه.

    لا يزال الإنسان، كما في الماضي، يشكل مشكلة للإنسان. وعلى العكس من ذلك، نحن نشهد فقدان قيم المعنى وضياع المعالم، أكثر فأكثر، وتدهور البيئة الملوثة بشكل متزايد، فضلاً عن الدمار الهائل لكل النظام البيئي والنباتي والحيواني، ثمرة قرون من التطور، وكان المجتمع التقليدي قد عرف كيف يحافظ عليه وينقله إلينا. إن غريزة البقاء التي تستحوذ على الإنسان وتدفعه إلى حماية الطبيعة التي توفر له رزقه، تحولت إلى شهية متنامية، دفعته إلى التدمير دون تدبير، دون وعي، من أجل المنفعة فقط، المادية العاجلة، وبالتالي رهن مستقبل نسله.

    كتب المؤلف الفرنسي، السيد سان إكسبيري "نحن لا نرث الأرض من آبائنا، نحن نستعيرها من أبنائنا".

    تحول الإنسان المُسيِّر إلى إنسان مفترس، دون اكتراث لمن يأتي بعده. يضع هذا السلوك الإنسانية أمام تحديا جديدا.

    إن خلاصها لا يكمن في يد بلد أو دولة أو حضارة عظيمة مهما علت أو تعاظمت، ولكنه يمر من خلال القيام بتضامن والإضطلاع بمسؤولية يكونان على نطاق عالمي. يكمن التحدي في إيجاد أخلاقيات تسمح بطرق جديدة للتفكير وأنظمة إدارة جديدة للحفاظ على الحياة. وذلك من خلال مراعاة وإحياء القيم والفضائل الثابتة الموروثة من حكم وروحانيات الماضي. مهما بلغت اختلافاتنا وخلافاتنا، يبقى الحوار أساسياً لتماسك ووحدة البشرية والمصير الذي ينتظرها.

    يجب أن يكون لرجل الحوار مطلبًا دائمًا وهو البحث عن الحقيقة الشاملة. ومن خلال وضوح الأفكار بعيدًا عن أي أيديولوجية أو طائفية وبصدق الأفعال، يمكننا رعاية حوار عملي وغير طوباوي للتخفيف من حدة الشر الذي ينخر ضمير الإنسان، ومنه ربما نستطيع إيجاد الوسائل المناسبة للاستجابة للتحديات الكبرى لقرننا.

    يجب أن نواجه الأمر مواجهة صريحة، فالحداثة تشكل معضلة لجميع الأديان.

    مع تحرير الأخلاق، ودمقرطة المجتمع، ونظام استهلاك مُوحد، وعالم معلومات وإعلانات يغزو؛ خلقت الحداثة عالماً بمعيار عالمي ومقياس دولي. هذا يعني أنه في مواجهة هذه العملية، فإن الهياكل التقليدية التي يمكن للفرد من خلالها أن يفكر في نفسه ويعرفها، منتسبا لبيئته الثقافية أو الفلسفية أو الدينية، أصبحت مزعزعة بشكل تام. لقد أصبح الإنسان مواطنًا في عالم لا حدود له، في عالم متعدد الثقافات. بدون نقاط ارتكاز وبدون معالم.

    مواجهة لهذا الواقع الجديد، وهذا الترحال الجديد، فإن تقاربا جديد وتعليما جديد ضروريان حتى يجد الإنسان طمأنينته وتناغمه. فمن خلال تربية تيقظ روحية يستعيد الإنسان أملًا جديدًا ومعنى جديدًا لحياته، ويتحصل على إجابة لمخاوفه الوجودية، على عكس الإنطواء على النفس والتعصب العقدي اللذان يفضيان إلى أصولية انتحارية، تعتمد على قراءة حرفية للنصوص المقدسة. بالإضافة إلى ذلك، فإن نموذج التنمية الذي يعتمد فقط على التنمية غير المنضبطة، والنمو اللامتناهي، والندرة والتكلفة العالية للمواد الخام والطاقة، والتبذير وعدم احترام البيئة، لا يمكن إلا أن يمس بتوازن الحياة. وهذا يدعونا إلى مراجعة ثوابتنا وسلوكنا والتفكير من أجل إيجاد تنمية مستدامة، أو على الأقل يمكن تحملها، لتلبية احتياجات مجتمع معولم ناشئ. كما يدعونا إلى تعزيز تواصل حقيقي بين الشعوب والثقافات، مع مراعاة احتياجاتهم المادية والدينية والروحية. والعمل بحكمة واحتياط في القرارات التي تلزمنا جميعًا، في السراء والضراء.

    دعونا نعود إلى الأهمية التي تكتسيها هذه القمة الأفريقية الآسيوية بالنسبة لنا. لا يمكن إنكار فائدتها والفرصة التي يمكن أن تتيحها لنا للتفكير في الإجراءات التي يمكن أن تساعدنا على الخروج من الأزمة التي يمر بها عصرنا. تمثل آسيا اليوم أكثر من نصف البشرية التي تعيش في الأرض. من خلال يقظتها الاقتصادية وتحكمها التقني وقوتها المالية وماضيها المرموق الغني بحضارتها، أصبحت آسيا اليوم واحدة من القوى التي ستصنع عالم الغد.

    قال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم "اطلبوا العلم ولو في الصين".

    يشير كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهمية التبادل على المستوى العلمي والمعرفي. إذا كان هذا الأمر صالح في الماضي، فإن أهميته أكبر بكثير في أيامنا. ولاسيما أن هذا ما تفتقر إليه إفريقيا بشدة. إذا لجأت إلى آسيا، فذلك لأنه لم يكن هناك تاريخ من الصراع بين القارتين. ولم تعان أفريقيا من إمبريالية أو إستعمار آسيوي. على قدم المساواة يمكننا الحوار والتبادل وتقوية الروابط والتحالفات، التي تكون تجارية وفكرية وروحية. لأنه في كلتا القارتين، يظل الإيمان حاضرًا في قلب المجتمع وسلوك سكانه. أفريقيا سوق ضخم، يضم أكثر من نصف مليار مستهلك، وهي قارة فتية من حيث عدد سكانها وغنية بتقاليدها وترسباتها الهائلة من المواد الخام والطاقة. لطالما كانت مرغوبة، مستغلة، دون أن يتمكن سكانها من جني أي فائدة حقيقية منها. للأسف، في هذا المكان، يتم الشعور بشدة بالمرض والمجاعة والتصحر والحروب والصراعات والتخلف، على الرغم من أن بعض البلدان تمكنت من تحقيق تنمية مماثلة لتلك في بقية العالم.

    في كثير من الأحيان، بالنسبة للبعض، يكون الدين موضع الشك. وتوجه أصابع الإتهام إلى الإسلام أنه الدين الذي يتعارض مع الحداثة، متناسين أن العديد من البلدان الأفريقية مسيحية.

    غالبًا ما ترتبط المشكلة بنقص التعليم وفساد النُخب السياسية التي تساعد في نهب بلادها، في حين أن المرأة يمكن أن تلعب دورًا إيجابيًا في المجتمع وتحريره.

    في الختام، أود أن أشير إلى أن الإسلام، بعدد معتنقيه، أصبح يوما بعد يوم أكثر أسيويا. والمستقبل يكمن في تحالف الجماعات البشرية المنتمية إلى حضارات مختلفة، المدعوة إلى إقامة ميثاق، يوفر لها مجال عمل جماعي يخدم الأهداف النبيلة ويحقق التطلعات الإنسانية، من خلال إرساء السلام والاستقرار والوئام. إن إنسان الغد مدعو لتأسيس حضارة جديدة، تجمع بين كل الحضارات وكل الثقافات، تحترم الاختلاف الذي هي جزء من النظام الطبيعي، والثراء الذي يأتي من تنوعها. يتطلب تحقيق هذا المشروع الحضاري الكثير من الجهد والصبر على طريق العمل المشترك. لأن أقوياء هذا العالم لا يشاركون هذه الرؤية وسوف يمنعونها بكل الوسائل من أن تتحقق. لكنني آمل ألا يؤدي هذا بأي حال من الأحوال إلى تقويض إرادة الورثة الحكماء للتقليد العالمي الذين سيبذلون كل الجهود اللازمة لإنسانية اليوم وغدًا. معًا، الواحد مع الآخر، وليس الواحد ضد الآخر، سيبنون عالم الغد. من هذا ستتولد دراية ومهارة إجتماعية تربطان السماء بالأرض، والعمودية بالأفقية، وتصالحان الإنسان مع الإنسان، والناس مع بيئتهم. على الأقل آمل ذلك.

    آمل أن يكون هذا المؤتمر أول لبنة توضع في تشييد هذا الصرح.

 

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق