الخميس، 21 نوفمبر 2013

سيدنا نوح عليه الصلاة و السلام

سيدنا نوح عليه الصلاة و السلام

قال الله تعالى: " إنا أرسلنا نوح إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم. قال يا قومي إني لكم نذير مبين. أن اعبدوا الله و اتقوه و أطيعون. يغفر لكم من ذنوبكم و يؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون. قال رب إني دعوت قومي ليلا و نهارا. فلم يزدهم دعاءي إلا فرارا". سورة نوح، الآيات من 1 إلى 6.

الدعوة إلى عبادة الله
    سيدنا نوح هو نذير الطوفان، وعد قومه مغفرة من الله، و لكنه أيضا حذرهم من كارثة هائلة، مع أجل محدد، إن هم لم يقوموا بواجباتهم. بقدر ما يصر الإنسان على سلوك غير مسؤول يعرضه للخطر، و لا يرجع إلى الطريق السوي و  الكوني، يعرض نفسه لمستقبل مؤلم للغاية.
    بقي نوح و رسالته حيَّين مدة تسعة قرون و خمسين سنة، هذا ما يعني ثلاثون جيل. هذا يعني أن الأجيال الأخيرة حذرت مباشرة من العذاب الهائل. للأسف، حاد الشعب عن الجادة، و أصم للنداء، و عصى شعيرة العبودية.
في الواقع يبدأ هذا النداء باحترام متبادل بين الأفراد. كما أن خشية الله ليست من غضبه و لا من لهيب جهنم. إنها قبل كل شيئ، هي تخوف من إلحاق الضرر بالآخر و الخليقة. إذن رسالة نوح هي أيضا معاصرة، كما كانت في عصره.

الآذان الصماء
"و إني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم و استغشوا ثيابهم و أصروا و استكبروا إستكبارا. ثم إني دعوتهم جهارا. ثم إني أعلنت لهم و أسررت إسرارا". سورة نوح، الآيات من 7 إلى 9.
    إذا خاطبنا اليوم نوح، فإنه سيقدم جردا بجميع المخاطر التي تمس الأرض، و معها الإنسانية. الإكتظاظ السكاني، الإكثار الكيميائي و النووي، الإبادات الجماعية، إزدراء الأطفال، تدمير الغابات، و التلاعب الجيني. إنه يدعونا إلى إحكام العقل، قبل نقطة اللاعودة.
    كما في عهد نوح، لا يريد البشر سماع الرسالة. الملوثون يدرون أنهم مخطئون، يتصامون(1)، للحفاظ على نفوذهم و مصالحهم. إنهم يعارضون أي نوع من الحجج، لكي لا يسمعوا ناقوس الخطر، في حين أنهم يدركون تماما خطورة المشكلة. إذا كان خطاب غير صحيح، أستطيع معارضته. و أما إذا كان كذلك، فالنذل و الجاحد يفضلان تسديد آذانهم. و لكن عصرنا بخلاف عصر نوح، ففيه لوسائل الإعلام دور، إلى درجة أنه من المستحيل معها التظاهر بالجهل.
" استغشوا ثيابهم ". يدل على أنهم يعتصمون وراء أنظمة إقتصادية أو إيديولوجية أو فلسفية، و لكي يرفعوا صفة الجرم عنهم، يتهمون الآخر أو سلطة عليا.
" ثم إني أعلنت لهم و أسررت إسرارا". لو كان نوح من بيننا، لحاول تحسيس أصحاب القرار، بخطورة الوضعية، و الحاجة الملحة للعمل قبل فوات الأوان.

عالم أفضل
"فقلت إستغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. و يمددكم بأموال و بنين و يجعل لكم أنهارا". سورة نوح الآيات من 10 إلى 12.
    يكشف القرآن كيف يحاول بعدها نوح، إقناع القادة لتغيير مواقفهم. يدعوهم للعودة إلى عبادة الله و احترام الطبيعة و محبة القريب، و يعدهم عالم أفضل. الآيات 13 و 14 تؤكد هذه الفكرة. "ما لكم لا ترجون لله وقارا. و قد خلقكم أطورا".
   يكابر الإنسان و يصدق قوته و قدراته في تحسين العالم، باكتشافاته العلمية و التكنولوجية الجديدة، و الحال أن الله يذكر، أنه ليس سوى جزء صغير من الكون، خُلق على أطوار متعاقبة. هذا تحذير لكبريائه، كي يرده إلى المزيد من الحكمة، و السلوك الجدير بالثقة، و إلى الكرم السخي لله تعالى، الذي يعطي دائما أكثر، لأنه هو الأكبر و الأعلم.
    الآياتان التاليتان، تضفيان معنى جديد لهذه الهداية "ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا. و جعل القمر فيهن نورا و جعل الشمس سراجا". سورة نوح، الآياتان 15 و 16.

    أيام الله، يتوافق كل يوم منها مع سماء، و كل سماء تتوافق مع طور. الشمس هي الحياة و الحقيقة. فهي ترمز إلى الرسول. القمر رمز الحكمة، يمثل الحكيم اليقظ. نهتدي به في الظلمة، لإيجاد طريقنا. و هكذا، فإن السماء دائما مضاءة، و لم يترك الإنسان بدون هداية.

حلقة السلسلة
"و الله أنبتكم من الأرض نباتا. ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا. و الله جعل لكم الأرض بساطا. لتسلكوا منها سبلا فجاجا". سورة نوح، الآيات من 17 إلى 20.
    هذا المقطع، يستحضر الأصل المشترك للإنسان و الخليقة. نخضع لنفس السيرورة، لأننا سوى حلقة من السلسلة، و بدون شك، هي الأضعف و الأخيرة بعد المعدني و النباتي و الحيواني. و لكن هذه الحلقة، هي في نفس الوقت، الأقوى، لأنها تحمل في نفسها المبدأ العملي للروح، الذي يميزها عن باقي الخليقة. حتى و لو أنه حيوان مفكر، فلن يبقى، أقل تعلقا، ببعض الجوانب، كالمعدني و النباتي و الحيواني، التي لا يسمو عليها إلا بتلك الحضرة الإلهية (أسماء الله الحسنى التي خص آدم بها)، فهي تُحْييه و تغذي شعوره.
    فوض الله إلى الإنسان التمتع الكامل في الأرض، التي بسطها تحت قدميه، مثل البساط الأحمر، تحت أقدام الملوك. رسم له طريقا ملكيا واسعا، مطبوعا بالتسامح و الأخوة و المشاطرة. و لكن الإنسان، باعتقاده، أنه يمكنه العمل بشكل أفضل، يتيه في دروب ضيقة و ملتوية. يبتعد عن الطريق الكوني للمشاطرة، و يتورط في نظم سياسية و إقتصادية و إيديولوجية مصطنعة، في كثير من الأحيان، هي غير قابلة للتنفيذ، و حتى أنها كارثية.

الأصنام الجديدة
"قال نوح رب إنهم عصوني و اتبعوا من لم يزده ماله و ولده إلا خسارا. و مكروا مكرا كبارا. و قالوا لا تذرن ءالهتكم و لا تذرن ودا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا". سورة نوح الآيات من 21 إلى 23.
    الإنسان منجذب نحو الخيرات المادية العاجلة و الزائلة، و أصم و مناهض لهذه الرسالة. يزدرئ الثروات النبيلة والروحية، التي هي رأس ماله الأثمن، و التي تجعل منه كائنا فذا، و يبتعد عنها. هنا يكمن ضعفه. كما كان في الأمس، فهو يصر على عبادة الأصنام نفسها، السلطة، و الشرف، و المال، و المنزلة، و الجنس. منذ نوح، حدث تغيير ضئيل للإنسان. فهو قادر على البراعة التكنولوجية، و لكن في الروح لم يتغير. هو أعمى و منخدع بنظام فيه، الربح السهل و سُعر الإستهلاك، هما السادة. مكيفا بهذا الستار، يريد دائما المزيد و على الفور. إنه مستعد لإيذاء الآخرين، للوصول إلى أهدافه و إرضاء شهواته. إذا لم يشعر بهذا السراب، و هذه القيم الكاذبة، عاجلا أم آجلا، سيدفع الثمن، إلا إذا قرر في موجة من الحكمة، البدء في الإستماع إلى رسالة التسامح و الصبر و القيم الحقيقية، التي يخاطبه بها نوح، بدون توقف، من خلال الوحي.
    إذا كان يبدو أنه لم يطرأ أي تغيير على المجتمع البشري، و عند كل ولادة يتكرر السيناريو الآدمي و يدوم، فإن الخليقة و الإنسان، مع ذلك، في تغير ثابت. غير أن مصير العالم يتلاعب في تلك المبارزة الدائمة، بين أولئك الذين يحملون الأمل و يعيشون رسالة نوح، من خلال الإنفتاح و المسالمة الباطنية، و أولئك الذين تحملهم، رغباتهم و عطشهم الذي لا يروى، للملذات المادية.
    مواجهة لهذا التناقض العميق، لا يزال خطاب نوح يتوجه للجميع، و لكل واحد. الإنسان الإجتماعي حر في خوض أو عدم خوض معركته الباطنية (الجهاد الأكبر)، من أجل رفض نظام يراه ضارا، و يختار طريق الصفاء و السلام و التسامح و الإخاء، في تناغم بين الطبيعة و رضاء إحتياجاته. يمكنه أن يتوصل إلى ذلك بتطور متحكم فيه، و تكنولوجية مسخرة لرفاهية الجميع، و عِلم غير مشروط على الربح، و لكنه يقوم على الأخلاق.
    إنه أكثر من أي وقت مضى، فإن العجل الذهبي (2)، هو موضوع عبادة، من خلال مختلف رموزه و تمثيلاته. السعفة الذهبية بالنسبة للسنيما، القرص الذهبي بالنسبة للموسيقى. أما عن الفن، فقد نقض المقدس، و أصبح مادة للمضاربة. الملعب أيضا، لديه أصنامه، تقدر قيمتها بالملايين. أنا لا أنكر قيمة الرياضة، و لا نفعها في انشراح الإنسان. و لكن للأسف، أخشى أنها تنحرف لتصبح ذريعة للسلطة. يكفي إلقاء نظرة على المليارات المخصصة للألعاب الأولمبية، التي يفترض أنها ترمز للأخوة بين الشعوب، بينما يعيش ثلثي سكان العالم في المجاعة. هذه المليارات المنفقة من أجل لحظات قليلة من الإحتفال و العرض، أ لم يكن من الأفضل إستعمالها، إن كانت تسمح، في الري و العلاج و الزراعة و التعليم؟ إنها ليست ثورة في العالم، و لكن محاولة للعودة إلى وجهة نظر أكثر توازنا، و تصرفا أكثر إنسانية و أكثر تضامنا.
    الثورة الحقيقية تكون أولا داخلية و صامتة. بهذا الثمن سوف تؤتي ثمارها للبشرية جمعاء. للإنسان إحتياجات، و من المفيد، أن يجلب له التقدم، حياة أفضل. لكننا ينبغي علينا العمل على القضاء على خطر التحذيرات، من الإستهلاك المتفرد، الذي ولد، لسوء الحظ، قلقا عميقا، إرتبط بنسيان القيم العميقة، مثل النزاهة، و الآداب، و الأخوة، و المساعدة، و المشاطرة.
    فقط، قيم الذات الإلهية، يمكن أن تقودنا إلى التساؤل المشرق، عن أعمالنا "هل أنا في انسجام مع الخليقة؟". هي(3) شهادة حية على حضرته، و تدعونا في كل لحظة. إذا كنا في كل عمل، و كل مشروع نُحضّره، نأخذ بعين الإعتبار الألوهية، سنتموضع في منظور كوني، لا يتضرر فيه أي شخص. لأن الله كلي الحضور، و يحرك أيضا الإنسان، كما الحيوان و القمر و الشمس، و جميع المجرات في هذه الحركة الرائعة و المتناغمة، التي هي الحياة.

ناقوس الخطر
"و قد أضلوا كثيرا. و لا تزد الظالمين إلا ضلالا. مما خطيئتهم أُغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا. و قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا. ربّ اغفر لي و لوالدي و لمن دخل بيتي مؤمنا و للمؤمنين و المؤمنات. و لا تزد الظالمين إلا تبارا". سورة نوح، الآيات من 24 إلى 28.

    كانت كلمات نوح و حسرتاه مضنية، و لكن الفساد تطور إلى حد لزم معه التضحية بالقسم الأكبر من الإنسانية لإنقاذ التي يمكنها أن تعيد تعمير الأرض، و تعيش مغامرة إنسانية جديدة، أكثر عدلا، و أكثر كونية، و تمتاز بروح المشاركة. و قد كان الطوفان.

    يكفي اليوم أن يضغط شخص غير مسؤول على زر ليطلق كارثة نووية. لنستمع إلى هذه الآية و نتفكر فيها مليا، لأن هذا الدعاء الأخير لنوح لهو خبر ساخن و ناقوس خطر للإنسانية و الكوكب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). يتطارشون، وهو من الطرش، أي فقدان السمع.
(2). العجل الذهبي، صنم صنعه السامري للإسرائيليين خلال غياب سيدنا موسى عندما صعد جبل الطور و دخل الخلوة.
(3). أي القيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق