الجمعة، 15 نوفمبر 2013

النور


النور


قال الله سبحانه و تعالى.  
 " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم".
                                                                سورة النور. الآية 35.

   
 هذه الآية من أجمل آيات القرآن، ونص أساسي، لا يكفي كتاب لتفسيرها. الكلمة الجوهرية، النور. ماهو معناها الحقيقي؟
    النور ظاهرة جلية، يكفي النظر حول أنفسنا. بفضله كل شيئ مرئي و قابل للمعرفة. كل الكائنات الحية تتغذى منه. غيابه يجعل من الخليقة فوضى عارمة، و  عندها تستحيل الرؤية و تستحيل المعرفة، و لا يمكننا سلوك أي إتجاه.
    عند الإنسان، هذا النور هو نور العقل و الفكر. فبنور العقل يستطيع الإنسان المعرفة، إن فقده يفنى وجوده، كونه إنسان عاقل.
    إذا نظرنا إلى السماء، نظرة واسعة، و بسكينة، يمكننا أن نرى المليارات من الجزيئات الصغيرة المضيئة و الحية، الهابطة إلى الأرض على شكل رذاذ. تتكون هذه الجزيئات من المادة المشربة بالروح. الطبيعتان الحسية و الروحية، مرتبطتان، إرتباطا وثيقا.
     يأتي النور من الشمس و أيضا من الكون كله. حسب العلم، بدأ كوننا منذ خمسة عشرة مليار سنة، بالإنفجار الكبير. لا حياة بدون نور. لهذا السبب يوصَف الله أنه نور السموات والأرض. و منه  ينبعث (1). و يُنشِط كل الخليقة.
    بعدها، قارنه الله، بمشكاة. المشكاة هي مكان محفور في الحائط، كان فيما مضى، يوضع فيه المصباح الزيتي لإنارة الحجرة. النور في كل مكان، و لكن منبعه من داخل المشكاة، قلب الإنسان. لا نعني به القلب الحسي، و لكن القلب الروحي، المحل الأعظم للوعي. المحبة هي الوسيلة لاكتشافه. و لا يستطيع الإنسان أن يعرف المطلق إلا بقلبه.
    هذا النور النوعي في الإنسان هو نور الإيمان. بالإيمان يجري المسار الروحي، من النور الكثيف، الذي للحواس إلى النور الألطف، الذي للروح. هكذا يسير الإنسان بفضل نور العقل و الذكاء و الإيمان إلى أن يكتشف نور اليقين. بناء عليه، بفضل نور الإيمان، يتمكن الإنسان من بلوغ اليقين و يتحقق في المطلق.
    النور محتوى في مصباح، محمي بزجاجة، و يتلألا مثل نجم مضيئ. هذه الأخيرة ترمز إلى الإتجاه الواجب إتخاذه، كما كان يفعل جمّالي الصحراء، الذين يخطون طريقهم بالنظر إلى النجوم. وُصف هذا النور، كونه متواجد في مكان معين. إن الإيمان، هذا النور الذي يهدينا، غير مجرد.
    عندما نواجه المشاكل الناجمة عن عدم اليقين، نجد صعوبات في الفهم و التصرف. إذا طرأ تنوير باطني، فالحل يطرح نفسه و يُفرض. يغير هذا التنوير نظرتنا للعالم و يبطل أي تردد. يجعلنا سادة الموقف. النور الذي منبعه الله، هو منارة، تسمح بالمرور من الشك إلى التأكيد. من يرى لم يعد بحاجة إلى الإعتقاد.

لا شرقية و لا غربية
    زيت شجرة مباركة، الزيتونة، رمز النور و الكرم. هي لا شرقية و لا غربية. زيتها كوني. لا يخص شعب و لا تقليد نبوي معين. و هو الجواب على كل الذين يعلنون أنفسهم المختارين الوحيدين. قال الله، أنه لا يوجد شعب أو عرق فاضل يملك حصريا الحقيقة. هذه الأخيرة نقلت إلى البشر دون تمييز. و لكن نتيجة ضعفهم ينسبها البشر لأنفسهم و يحتكرونها، في حين أنها ليست ملكا لأحد، فهي كونية. هي النور الذي نَوّرَ المنظور الإنساني من خلال مختلف رسائل الوحي.
    التقليد الإسلامي مرتبط بالتقليد النبوي، الذي يبدأ بآدم، أول نبي تلقى الوحي، و إنتقل من خلال جميع الأنبياء إلى آخرهم محمد عليهم الصلاة و السلام.
    زيت شجرة الزيتون ينير بدون أن تمسه النار. لا يستطيع الإنسان الذي لم يتحقق بعد، رؤية هذا النور، فهو يرى ما يضيئه. لهذا السبب، كلما إقترب منه، إنفلت من بين يديه.

نور على نور
    ماذا يعني هذا المفهوم القرآني "نور على نور"؟ هل هو نور مضاعف بنفسه أو نور فوقي لا نستطيع إدراكه. إذا قدرنا أن سرعة الضوء 300000 كيلومتر في الثانية، كيف يمكننا تصور هذا النور الرباني، الذي تكلم عنه القرآن، كيف يمكنه أن يسكن قلب الإنسان و ينبعث منه؟ هذه الفكرة تتجاوز الفكر البشري، و لا تفهم إلا بالتجربة.
    بواسطة التحور، يدعونا الله إلى إغتنام السرعة الخاطفة لحضرته في آنيتها، و الطبيعة النسبية للخلق. في الواقع، يمكننا القول أن كل شيئ موجود و غير موجود. ماذا تمثل خمسة عشرة مليار سنة، نسبة للأبدية؟ هذه الآنية مقارنة به.
    هذه الآنية قوية، بقدر أن خمسة عشرة مليار سنة، ليست سوى نفَس في الأمر الإلهي "كن فيكون". سورة يس. الآية 82. هذا ما يفسر كلية حضوره. كل شيئ فيه، و لا وجود له إلا به.
    مقارنة بالله، الخلق نسبي. نحن مندرجون في أصله، و مع ذلك، نحن هنا و الآن. في البداية، ككل عنصر، نحن موجودون فرضيا. إستغرقنا وقتا طويلا حتى تشكلنا. كل شيئ كان موجودا قبلا، لحظة فيض الشرارة. وجودية كل شيئ موجود اليوم، كانت محتواة و مندرجة في أصل العالم، في النور. في المطلق، كان دائما كل شيئ موجودا. نحن من جانبنا الشهود الحاليين.
    إذا كنا أغنياء بهذا القدر من التاريخ الكوني الطويل، فأين نحن من الذي لله؟ هو من وراء الزمن، و وجوده لا يمكن أن يخضع. الألوهية مندرجة في كل شيئ و خارجه. الله نور على نور. هذا النور فائض و جوهري. لا يمكن إدراكه من قِبل المعقولات. قال الشيخ العلاوي في هذا الصدد: "من هو على صواب. الزهرة التي تتخيل الله كشذى أم أريسطو الذي يتصور الله أنه يفكر أزليا. أريسطو و الزهرة قاما بنفس النهج، أحدهما ألّه فكره و الآخر فوحانه. كلاهما على صواب، يؤكد الشيخ، لأن الله هو كل شيئ، و كل جزء من الخليقة لا ينفتح عليه إلا من زاوية صغيرة" (2). كل ما حدث منذ نشأة الخلق حتى اليوم، ليس في الحقيقة سوى وميض، و نحن جميعا نعيش آنية الله. كل ما نراه زائل إلا و جهه. "كل من عليها فان. و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام". سورة الرحمن. الآيتان 26 و 27.

القلب الروحي للإنسان
    تقول هذه الآية، أن الله نور و مصدر كل حياة، و يسكن القلب الروحي للإنسان. و بالتالي، كل إنسان يحمل في داخله هذا النور و يمتلك هذه الإمكانية، هذه القوة. إذا إكتشفها، سيجسد الإنسان الكامل، و يملأ وعيه الكون بأسره. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " للمرء همة لو تعلقت بالكون لجذبته" (3). يمتلك الإنسان كمونيا، حالة الوعي الكوني. هو إنسان بجسده و رباني بروحه. ذلك ما يؤكده الرومي بقوله "الإنسان برزخ بين النور و الظلام".
    المحبة انجذاب الواحد اتجاه الآخر، و وسيلة للسير نحو المركز الأعظم للوعي. عندما يتم اللقاء يزول كل شيئ، لا يبقى لا حبيب و لا محبوب، و لا ثنائية، و يبقى الوعي الأعظم بالإنحلال في الوحدانية.
    القلب الروحي هو الوعي الشامل الذي يُحوِل الإنسان. يقوده تطوره الروحي من حقل وعي ضيق، أناني، إلى مستوى يحتضن فيه الوعي كل الكون. نستطيع القول أن إنفتاحا قد تحقق، غمر الوعي في النور، إلى درجة أنه أصبح هو نفسه نور. تضخم حتى ملأ الكون كله، بدون كتلة و لا كثافة و لا زمانية.
    في إسرائه و معراجه، روى رسول الله صلى الله عليه و سلم مغامرة الوعي الذي يرتقي من سماء إلى سماء، و من فضاء إلى فضاء، حتى ما لا نهاية. إنفتح وعيه تدريجيا و عرض عليه كل الخلق. إلتقى بأنبياء و كائنات تسكن عوالم أخرى غير عالمنا، و تحاور معهم. بهذا التحول الجذري و الجوهري لطبيعته يصبح الإنسان معنيا كلية، ليس فقط بالمشكل الإنساني، و لكن بكل ما هو موجود فوق الأرض و خارجها. من خلاله، ينير النور، و على مراحل، كل الخليقة، كمطية الرسول صلى الله عليه و سلم، البراق (4)، الذي سافر به.
    حسيا، نحن محدودون، مادام حائط بسيط يوقف بصرنا، و لكن بالروح، يمكننا الإستماع إلى متحدث، و نكون في مكان آخر. إذا تيقظ الوعي، يمكنه الإنفتاح جيدا على ما وراء الحدود المادية. بالبصر و اللمس و الفكر.. أستشعر الأشياء، و أحدد موقعها و أتحاور معها. إذا كان فكري واعيا بهذا النور، سيتنوّر و يمكنه أن يبلغ نطاق كوني. أدنى بادرة يومية تندرج في حقيقة تتجاوز المادة. في هذه حالة الوعي، يكون الإنسان داخل و خارج المادة، في الآن نفسه. يصبح فائق، و يكون لفكره و عمله تداعيات غير متوقعة. نحن نعلم أن أدنى رفرفة فراشة، من المرجح أن تؤدي إلى عاصفة في جزء آخر من هذا الكوكب، و كلمة بسيطة مثل التي لغليلي "و بعد فإنها (الأرض) تدور"، يمكن أن تحدث تغييرا جذريا في النظرة للعالم. هذه المعرفة تسمح لي، أن أكون في كل مكان، في آن واحد. هنا و في أماكن أخرى. يصبح اليومي رحب و غير محدود. هو غير مؤسّس على حقيقة زمنية.
    الإنسان الكامل – مثل المعدني أو النباتي أو الحيواني – معني بكل الأحداث السعيدة أو الحزينة التي تمس الخلق، كما لو أن الكون يعزف سيمفونية، مع أدنى نوتة خاطئة يعكَر الإنسجام.
    و لكن كيف يرى من زهد الدنيا الآخرين؟ من حيث الوعي الرباني، فهو لا ينظر إليهم كأفراد، و لكن كوعي، أكثر أو أقل قوة، رحب أو محدود.
    كيف نبلغ هذا النور و نكون كلية مستنارين؟ إنه دور الوحي، نقطة تقاطع الأفقي مع العمودي. عندما يحقق الإنسان في نفسه الأفقية و العمودية، يبلغ التوازن المثالي. و يصير الإنسان الكامل. يعيش النسبي و المطلق في وئام.
    كل واحد منا، في بحثه عن الحقيقة، يمكن أن يصل تدريجيا، عتبة التوازن. نحن الوحيدون القادرون على تفتيح و انشراح الوعي الذي يتم تمحيصه و زيادته في العزلة.
    مثْل الشمس، حتى الحقيقة معمية، و لا يستطيع أي إنسان السير إليها مباشرة. رغم ذلك، فبها يكتشف دربه نحوها. وكل درب مختلف. هي تختلف وِفقا للمزاج و الإستعدادات و الذكاء و ميول و جهود كل شخص. في النسبي، طريق الحقيقة جمعي، و في المطلق هو واحد.
    عندما نسير عبر كل الصعوبات و الأخطاء و الإنحرافات و الشكوك و المخاوف، سوف نصل في النهاية إلى المنبع. دون ذلك، لا يمكننا أن نتحقق. هي تصرفاتنا و تجاوزاتنا من تقودنا نحوه. نحن نعيش فترات صعبة و سعيدة، و لحظات من الغضب و الضيق. هذه التجربة تتيح إكتشاف نور القلب، الذي وحده يمكن أن يدلنا على طريق الخلاص، و يقودنا لتمييز الحقيقة من الخطأ. عندما نسلك تشحذ البصيرة. إن أولئك الذين يعتقدون أنهم يقصدون التجربة الإلهية، من خلال تجاهل العالم، فهم في ظلال لأن الله موجود في الخلق. يُعرف بالبلاء و اليقين الناجم، يُبلينا كي يُعرف.

هداية الله
    فقط، إرادته من تهدينا إلى نوره. في الواقع، نرى البعض يسلكون طريق النور، و آخرين، للأسف يديرون له أظهرهم. هذا مصيرهم "يهدي الله لنوره من يشاء". الشخص الذي لديه الرغبة في الله، في الحقيقة تمّ إختياره من طرفه. هو من جذبه إليه. الرغبة الضامنة لهذا التطور، كانت بالفعل، قد سطرها القدر. كتب ابن عربي في هذا الصدد "قيل حسب الحديث التالي، إن الله عز و جلّ، خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ، فمن أصابه من نوره يومئذ إهتدى، و من أخطاه ظلّ. (إن الذين مسهم نوره، ظهروا على أرض الكائن و فضاء الوجود، كالغبار في حزمة أشعة الشمس)". نور الله يتكشف في كل الكائنات، مادام هو من يمنحهم الشكل و الوعي و الفكر. لا يُشعر برغبة الله، بنفس الطريقة، من قِبل الجميع، و البعض لا يمكنهم إختبارها. الله هو من يختار. هنا يكمن السر.
    تطرأ حالة الوعي كما يجب أن تطرأ. يحصل عليها البعض من خلال طريقة، و آخرين لا يحتاجون إلى أي دعم. مع الله لا توجد شروط، يفعل ما يشاء في خلقه. نحن جميعا فاعلين في هذا النور، و لكنه وحده من يعلم، مكانة و دور كل فرد.
    التعاسات و الأفراح، التي تمر بها البشرية، هي في الواقع ليست سوى وسيلة لإثباته، مادامت الحقيقة، أن هذا النور، قد خلقنا ليتجلى لنفسه "كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لاُعرف".(5)
    يليق بنا أن نبقى متواضعين أمام سر الحياة، حتى أخطاؤنا تنير طريقنا و تعطيه معنى. نعتقد أنها تبعدنا عن النور، و لكن بدلا من ذلك تكشفه، مادمنا لا نقدر الإبتعاد عنها. هو في كل مكان و فينا. فقط، في أوقات لا وعي، نعتقد أننا نبتعد عنه. على سبيل المثال، بعض الناس تندم على ارتكاب أخطاء. و الحال أنهم، كان يجب أن يمروا من هناك. ظاهريا، هذه الأخطاء مُدانة، و لكنها كانت لازمة ليسترد وعيه.
    سيئة يتبعها ندم، خير من حسنة تثير العجب. ينبغي أن نكون حذرين جدا قبل الحكم. قال ابن عطاء الله (1250- 1390) في هذا الصدد " يا إلهي لا تجعل من حسناتي أعمال تبغضها و اجعل من سيئاتي أعمال تحبها".
    جميع جهودنا في الممارسة و التأمل، قد تكون رضاء وهمي للفكر، و غذاء لكبرياء النفس. قال الشيخ العلاوي في إحدى حكمه " رُبّ صلاة بدون ركوع خير من ركوع بدون خشوع". خير سلوك، هو الممارسة في تواضع. فإنه يورث العيش في حضرة الله، و التفكير بأنه هو الوحيد القادر على هدايتنا إليه. ما دام هو من يلهمنا رغبة السير إليه.
    كل شيئ مصدره النفس لا يقوم سوى بتضليلنا. إنه لا يزال إفتراض أن نعتقد، ان الله يُكسب كما نكسب خبزنا، بفضل العبادة أو الدراسة أو من الكرم. إن الله لا يكسب. يُعرف في حالة تواضع و بساطة و إطلاق، لا يمكن أن نصل إليه بتقليد نسك آخرين، و التشبه بهم في ممارستهم الزهدية. هو الذي يلهمنا الرغبة و الوسيلة للسير إليه. قال الشيخ أبو سعيد (967-1049) (6) " (التقوى هي خشية أناه و فرار أناك، تصل إليه. ذاك هو طريق ربك، الطريق المستقيم. لا يوجد سوى هذا الطريق، و أي طريق آخر فهو مضلل. ليس طريق الذين يصومون و لا طريق الذين يصلون و لا الزاهدين و لا المتعصبين و لا الراكعين على الدوام. هي طريق نتحرر على طولها من أناه، و هو الطريق المستقيم إلى المولى عز و جلّ، إذا كنت تبحث عنه) ".
    و لكن عنذئد تقولون لي ، إذن لا ينبغي القيام بأي شيئ؟ حاولوا أن لا تفعلوا شيئا. و سترون أنكم لن تقدروا أن تفروا من إرادته. التدبير ضروري. أكثرنا حكمة "يسبح على ظهره"، و يسمح بأن يؤخذ، و هذا لا يعني أنه لا يقوم بأي شيئ. هو يعمل و يعتمد على الله.
    و هنا قصة توضح جيدا هذا الموضوع. كان أخوان يسهران بجانب أمهما، التي تعاني من مرض خطير. كل ليلة بالتناوب، يقوم أحدهما برعايتها في حين يقوم الآخر الليل. في إحدى الليالي، أصرّ أحدهما كي يقوم الآخر من جديد برعاية أمهما للليلة الثانية على التوالي، ليتفرغ هو لعبادة الله للليلة الثانية على التوالي. في منتصف الليل عندما كان العابد مستغرقا في صلاته سمع صوتا: نال أخوك العفو، من الآن مصيرك بين يديه. – كيف هذا؟ هو يخدم فانية، بينما كنت أنا في خدمة الأبدي. – لقد قمتَ محبة لله، و هي لا تنقصه. أخوك أنجز لأمك شيئا كانت حقا بحاجة إليه.
    الإذلال المفرط لإثبات بعض الأشياء للنفس و للآخرين، لا يعد من سيرة الطريق. إذا إعتقدت أنني استحق الله من خلال جهودي و قدراتي و تقواي، طريقي محكوم عليه بالفشل، هي النفس من نصب لي فخا. روي أن الرسول صلى الله عليه و سلم رأى أحد صحابته، يصوم على الدوام، ناداه و قال له "هل رأيتني أصوم هكذا. لمَ عذبت نفسك" (7).

الوعي الكوني
    في هذا الوعي الرحب، الآخر هو جزء مني، و أنا معني بأفعاله، كما هو معني بأفعالي. إذا حقق أحدنا شيئا إيجابيا، يكافأ و يسعد الجميع. إذا شعرت أنه من خلال أفعالي أحث الآخرين و العالم، سأتصرف بفطنة و يقظة. لم اعد أملك ضميري لوحدي، بل يملكه مجتمع، و شعب و حتى الإنسانية. إذن، لا أعمل لنفسي، و لكن للجميع و تصبح أفعالي أكثر دقة. ما تمّ إنجازه، لا يكون فقط من قِبلنا و خالصا لنا، و لكن يكون من طرف و من أجل الجميع. هكذا، ساهم رجال بشكل إيجابي في تطوير الإنسانية بكتاباتهم و إبتكاراتهم و حكمتهم و تعبدهم، بينما آخرون من خلال تصرفاتهم الضارة تركوا أثرا سلبي.
    جاء جميع الأنبياء و الرسل، جاءوا فقط، لرفع الوعي البشري إلى المستوى الكوني. الخطيئة الحقيقة للإنسان تكمن في أنانيته المتفاقمة. قال أبو العباس تاجة لابن عربي "(المعرفة هي النور الذي لا يمكن الحصول عليه من النور المنزل، الذي هو القرآن. مثلما نشعل مصباح من مصباح، نحصل على المعرفة من القرآن، نور إنطلاق من "نور على نور". أخبرنا الله أنه نور السموات و الأرض، حتى نقدر على سحب منه أنوارنا. يجب أن نبحث عن النور من منبعه الصحيح)".
    آية النور هي مفتاح للتحقق، و المعرفة و تعميق إدراكنا للمطلق. قال الخرقاني (8) "قذف الله منه – ما لا أعلم –في قلب الصوفي، و إذا كنت تطلب التجسيد، أُجيب فقط: النور".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). أي النور ينبعث منه.
(2). ذكره أوغيستين بيرك في كتابه "رحلة عبر أعمال الشيخ العلاوي" و الكتاب بالفرنسية:
 Voyage à travers l’œuvre de cheikh Alawi" 
(3). ورد هذا المعنى في حديث " لو كان العلم معلق بالثريا لتناوله قوم من أبناء فارس". أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة، و الشيرازي في الألقاب عن قيس ابن سعد.
(4). البراق هو إسم الدابة التي ركبها رسول الله صلى الله عليه و سلم، ليلة اُسري و أُعرج به إلى السماء. تجد كلمة بُراق معناها من فعل برق، أي لمع و تلألأ، و مثلها البَرْق الي يخطف الأبصار بوميضه.
(5). حديث قدسي.
(6). أبو سعيد أبو الخير من أشهر علماء النيسابوریین العارف المتصوف.
(7). فعن رجل من باهلة أنه أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنا الرجل الذى جئتك عام الأول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  لمَ عذبت نفسك ؟  ثم قال صم شهر الصبر ويوما من كل شهر قال زدنى فأن بى قوة  قال  صم يومين قال: زدنى قال صم من الحرم واترك. صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك و أشار بأصابعه الثلاثه فضمها ثم أرسلها.
رواه أحمد وابو داود وابن ماجه والبيهقى بسند جيد.
(8). هو أبو الحسن علي بن جعفر البسطامي الخرقاني الخراساني. ولد في مدينة خرقان من توابع بسطام سنة 351 هـ، و قيل سنة 352 هـ. توفي سنة 425 هـ ، و دفن بخرقان. كان من أصحاب أبي يزيد البسطامي. من كلامه "ليس الصوفي بمرقعته وسجادته ، ولا برسومه وعاداته بل الصوفي من لا وجود له".


   
   
   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق