الخميس، 27 فبراير 2020

من آيات العيش معا

من آيات العيش معا
حياة الشيخ الزوجية


الزوجة المثالية

    إن الذي لا تعلمه الأغلبية، أن الشيخ خالد بن تونس، تبقى حياته مثلا مبينا، وآية ساطعة في تجسيد أواصر العيش معا، فهو الذي قاده القدر إلى أن يختار لصحبته، وتكون رفيقة دربه، سيدة فرنسية كاثوليكية من منطقة نورمونديا، ودامت علاقتهما قرابة نصف القرن، كانت شاهدة على مختلف مراحل عمل و المشاريع المجسدة والأعمال المنجزة، وتداعيات الزمن بحلوها ومرها.

    كان الشيخ خالد بن تونس شاهدا في بداية شبابه على الحملة المغرضة التي شنتها سلطات الدولة الجزائرية ما بعد الإستقلال على التصوف والإسلام الروحي، فلاحقت والده الشيخ المهدي بن تونس، وترصدته أيما ترصد، حتى بلغ الأمر، أن زج به في السجن، وقبيلها بفترة زمنية قصيرة، فرّ الشيخ خالد بن تونس من الجزائر عابرا المغرب، مستقرا في فرنسا. حتى هو كان ملاحقا، وصدرت في حقه مذكرة توقيف. كان ذلك في شهر فبراير 1970. في باريس، وبدافع منه ونصيحة صديق، تمرس في التجارة وتخصص في الملابس الجاهزة. في فترتها تعرف على زوجته الأوروبية، التي كانت تجهل كل شيء عن الإسلام. يقول "فإن اللقاء سمح بأن نرى بصورة ملموسة، ما إذا كان بإمكان التقليدين التعايش معا، دون أن تبتر شخصية أي منهما"(1). سنة 1975، توفي الشيخ المهدي بن تونس، فقرر مجلس حكماء الطريقة العلاوية، أن يحمل رايتها الفتى خالد، نجل الشيخ المهدي بن تونس. واجه الأمر بالرفض في بدايته، ولكن العناية الإلهية، شاءت أن يرتدي هو ثوبها، فتعرض لأحوال رهيبة، تقوم بإعداده لتحمل ثقل الأمانة، فقد أخبر ببعض تفاصيلها، فيقول واصفا ".. يبدو لي أنني مجذوب نحو حقيقة أخرى. لم أعد أرى الوجوه أو أسمع صوتا. إني في حال آخر، في داخلي كأنني مقطوع عن بيئتي. صدري يحترق لا أعرف بأي نار، بفتح عيني، أرى المشهد كحلم لا أعرف أحد، سوى زوجتي"(2). مرة أخرى في هذا الظرف الغير عادي، برزت إلا زوجته في المشهد، وهذا تنويه ذو إشارة.  

    إنها السيدة ايفلين روب، المولودة سنة 1949، زوجة الشيخ خالد بن تونس، فقد ظلا معا لمدة 48 سنة من الزمان، وتوفيت مؤخرا يوم 16 02 2020، تاركة وراءها فراغا رهيبا. إنها امرأة عاشت في الظل، لا يلتفت إليها في التجمعات، كانت نعم المعين للشيخ في مسيرته، وسمحت له بأن يقوم بالذي قام به. وعليه، قال الشيخ خالد بن تونس "منذ البداية كان هذا الشيء مبني على صلة من التعاطف والمحبة والمودة.. هذا العيش معا الذي عشناه، تجسد في واقع الحقيقة، وأثبته الوقت". ويضيف "انتقلت إلى رحمة الله، وإلى جوار ربها. وتركت لنا هذا المثال، وعبرة، على أن الإنسان إذا مرّ من باب المحبة، يستطيع أن يعيش مع بعضه البعض بسلام وأمان واطمئنان". فضل الشيخ خالد بن تونس أن يحترم عزيزته الراحلة حتى الرمس الأخير، حيث صرح "أنني أخترت أن أحترم حتى النهاية. لم تطلب ايفلين مني مراسيم دفن داخل كنيسة. فقط احتراما لها واحتراما لعقيدتها". وينبه أن ذلك من أجل "إبراز وإعطاء درسا لنا جميعا، بمن فيهم أنا، أن ذلك ممكنا. يمكن أن نقيم مراسيم جنازة معا. نقوم بالعيش معا في الحياة، والعيش معا حتى الممات. لا يكون العيش معا إلا عندما نكون على قيد الحياة، بل يكون حتى المرافقة إلى الدار الآخرة".

    أراد الشيخ خالد بن تونس أن يقدم درسا تثقيفيا في أخلاقيات العيش معا في سلام، ويبرز سلوكيات مادة خصبة من ثقافة السلام فيما بني البشر، فكانت جنازة زوجته نعم العبرة. مشيرا إلى فعاليات الحفل الديني، عندما كان مقررا في الغد في الكنيسة، قال الشيخ أن "الحفل سيكون فريدا، وهو مندرج في هذا العيش معا، الذي انطلق من شخص واحد أو واحدة، وترك أثرا، يدل أن الأشخاص الذين يستطيعون تجاوز حدود الطابوهات والأحكام المسبقة، مفضلين صِلات المحبة والأخوة، سيقدمون لنا المثل"، "بأن ذلك ممكنا"، "عندما يختارون طريق هذا العيش معا في سلام، ويحققونه في حياتهم. لا نستطيع أن نعيش بمفردنا، نعيش دائما مع شخص أو أشخاص". جاءت الدعوة للحفل عامة باسم الشيخ زوجها، وصوفيا وعبد الغني ابنتها وصنوها، وزكريا وهدّي حفيديها، ومنويلا ودانيال، شقيقتها وشقيقها، لحضوره، يوم الجمعة 21 فبراير 2020. فقد أدخل جثمانها في تلك الصبيحة إلى كنيسة "نوتردام بون فواياج" بمدينة كان، وأقيم القداس، تخللته كلمات إشادة، عبّر بها بعض من أهلها وممن عرفوها، وصفوا خصال الفقيدة ومحاسنها العديدة، وختمت بالترنم بأبيات من الشعر الصوفي، جاد به بعض مريدين الطريقة العلاوية، وتلاوة جماعية لسورة الفاتحة. كان الحضور غزيرا بالكنيسة، شهده مؤمنون من معتقدات شتى، مسيحيين كاثوليك وأرثوذكس، ومسلمين ويهود وحتى البوذيين، كلّ أسهم بقراءة شهادته في الاحتفالية. كان الهدف أن يشترك أناس من طوائف شتى، ويحضرون جنازة جماعية، ولا ضير، حتى أنه وجد من يدخل الكنيسة لأول مرة. ثم نقل جثمانها إلى مقبرة بار سير لو، القريبة من بيتهم، أين صليّ عليها صلاة الجنازة، أمّهم في ذلك السيد الحسن الياسيني، مقدم الطريقة بالمغرب، ثم وريت الفقيدة التراب. لم تسمع طيلة مراسم الجنازة بالمقبرة، إلا أصوات حناجر الفقراء في أداء السماع الصوفي، ولم يتوقفوا عن الإنشاد حتى افترق الجمع. في الليل جرت أمسية روحية، وهو الجمع الذي حضره الفقراء، وحتى الضيوف من معتقدات أخرى، تخللته مذاكرة الشيخ القيمة. كان مهرجانا ما حدث، كما وصفه الشيخ خالد بن تونس، وقدم في الأخير تشكراته للقس غي، القائم بالكنيسة، كما قدم تشكراته، باسمه وباسم عائلته على رسائل التعزية والتعاطف والمؤاساة والامتنان، التي تلقونها بمناسبة رحيل السيدة العزيزة الغالية ايفلين روب.

                             الجمع الروحي

    قال الشيخ خالد بن تونس في الأخير "لنعمل بالوصية التي تركها الشيخ العلاوي:

خلي بالرحمة زودني  بعد موتي لا تنساها
ضني فيك لاتهملني   والدعا رب يرضاها.


خطبته

    كتب الشيخ خالد بن تونس رسالة تأبينيه في حق زوجته المتوفية، قرأها حفيده السيد هدّي سعيدان، في الكنيسة، تحت عنوان "جدتي"، إليكموها معربة.

    جدتي، في المرة الأخيرة التي حدثتك فيها، شجعتيني على العيش دائمًا سانحة اللحظة، وليكن ذلك أمرا بديهيا بالنسبة لك، وعلى الخصوص لا تلق بالا للتفاهات، التي تسمم الحياة. قلتِ لي لا تدع الوقت ينفلت منك. المهم هو التركيز واستثمار كل دقيقة من حياتنا، حتى لا نصاب بخيبة أمل في نهاية رحلتنا. أغتنم هذه اللحظة لأقدم شهادتي على الحياة الاستثنائية للزوجين اللذين شكّلتماه مع جدي، وأنا أقرأ الكلمات التي يخاطب هو بها، هذا الجمع ومحبوبته.

    كيف يمكن أن نلخص 48 سنة من الحياة المشتركة، مصير استثنائي لكائنين، تفرق بينهما كل الأفكار المسبقة والأعراف والتقاليد، وجمعهما الحب، متخطين بذلك الطابوهات والأفكار النمطية؟

    اخترتُ أن أخبركم عن لقائي بها، تلك اللحظة، أين جعلت المصادفة والضرورة، من بطاقة عمل مودعة في بار أوليمبيا، في إحدى الليالي في باريس، أن تسمح للمسماة ايفلين، بأن تعبر باب متجر الألبسة الجاهزة، الذي كنت أملكه مع شركائي، في 132 شارع سان دونيس، بحي سونتيي. أثناء الدردشة معها، انتهى الأمر بأن يُعرض عليها العمل، في فترة ما بعد الظهر. فقبلتْ، إذ لم يكن أمام ايفلين إلا بضعة أشهر، قبل المغادرة إلى إنجلترا.

    وعليه، كل مساء، عندما كنت آتي لجمع المداخيل، أقابل هذه الفتاة الشابة، مرتدية تنورة قصيرة، على موضة ذلك الوقت، حتى جاء اليوم الذي انتهى بي المطاف، إلى دعوتها لتناول العشاء في مطعم الأوبرا. في تلك اللحظة، ربما دون علمنا، نسجت الصلة التي تربطنا حتى اليوم. كان ذلك في فبراير 1972. لا داعي للتفكير بأننا سنستقر في الزاوية، المحل الذي يعيش فيه ويسكنه الصوفية.

    كان من غير المتصور في ذلك الوقت، أن وريث سلسلة روحية مسلمة صوفية، يتزوج من إمرأة غربية وفرنسية وكاثوليكية ونورمندية. بالاستماع إلى هاتف القلب، أعلم أني أخالف كلية تقليدي. ورغم ذلك، لا أتخيل أني سأعيش خلاف ذلك.

                              داخل الكنيسة

    لست أدري بعد، إلى أي حد سيكون لمثل هذا الإختيار من الأهمية لتحديد مصيري، و لا إلى أي حد، سيقدم قراري في الحفاظ عليه، إزاء وضد كل ما يقربني، في حقيقة الأمر، من جوهر العيش معا في اليومي.

    إستقرنا معا، أنا وايفلين، في شقة صغيرة. كان لنا من العمر 22 سنة. أعمالنا التجارية مزدهرة، وسنفتتح هذه السنة محلا ثانيا في شارع الدكتور جان بيار تيمبو، حيث سنتمكن أخيرا، من إيجاد مسكنا لنا بالطابق الذي فوقه. ولدت إبنتنا صوفيا في أبريل 1973.

    من خلال خرق الطابو، إني أفتح ثغرة، من خلالها سوف يقودني مساري إلى شق طريق جديد: اللقاء بين الشرق والغرب. إن الإنفتاح والدعم الذي تمثلهما ايفلين سوف يؤثران على كل الأمور الأخرى في وجودي.

    عندما قام أبي المهدي الشيخ المهدي برحلته الأخيرة إلى أوروبا في فبراير 1975، كان حينها ضعيفا بسبب الإحتجاز، وملاحقة الذين كانوا يريدون القضاء على الرسالة الروحية التي كان يجسدها. قبل أن يعود إلى مستغانم، ودون سابق إنذار، جاء متأخرا جدا في إحدى الليالي لرؤيتنا في المنزل في باريس. قلقت وسألته هل من أمر خاص. أجابني ببساطة "جئت لرؤيتكم". ثم طلب من زوجتي ايفلين أن تحضر له صوفيا، حفيدته، التي لعب معها مدة طويلة، وطلب منا أن نحضر له فنجان قهوة.. ثم أخبرني أنه زار لأول مرة ساحل كوت دازير، وأضاف "إنه مكان رائع للعيش".. نصحته بأن يغادر الجزائر، ويستقر على سبيل المثال في المغرب، أو أن يبقى مسافرا. "هذا شأن الشباب"، هذا ما أجابني به.

    لم أكن أعرف أنه كان اجتماعنا الأخير. في اليوم التالي، ذهب لرؤية والدّي إيفلين، ثم عاد إلى مستغانم، حيث توفي بعد شهرين، في أبريل 1975. "فاصطبر خلي و صابر و ارض بالذي رضينا، عساها تحلو المرائر فتحظى بما حضينا". كانت هذه آخر الوصايا الروحية، بعثها إلي، دوّنها بالقلم الرصاص، على ظهر ظرف، أعطاه لمقدم باريس، واري عمار ليسلمه لي. ثم عينني مجلس الحكماء خلفاً له، رغم رفضي. زج بنا، ايفلين وأنا، في عالم جديد. أمام هذه المهمة وهذه المسؤولية الساحقة، كانت ايفلين نعم المعين، لأن حياتنا انقلبت رأسا على عقب. قمت بتصفية جميع أعمالي، وخصصت كل وقتي في الحفاظ وتبليغ هذه الحكمة، وهذا التراث الروحي الألفي، الذي تركه أجدادنا.

    إن هذا العيش معا المعاش والمتقاسم داخل علاقتنا، قد تحول شيئا فشيئا إلى قناعة لا تتزعزع، وطريق محفوف بالمصاعب والأشواك المؤلمة، في اتجاه معاكس للأحداث التي تهز دائما عالمنا.

    ومع ذلك، سينتهي بيوم، هو 8 ديسمبر 2017، إذ تم التوصل إلى قرار الأمم المتحدة رقم 72/130، الذي كرّس اليوم الدولي للعيش معا في سلام، في 16 مايو من كل عام، والذي اعتمد بالإجماع من قبل 193 دولة عضو، خلال الجمعية العامة 72 لمنظمة الأمم المتحدة.

    في رسالته التي بعثها إلينا في 16 مايو 2019، رحب البابا فرانسيس بهذه المبادرة، وأعرب عن أمله في أن تسهم في "بناء الجسور بين الناس، في ظل احترام اختلافاتهم، وتوجيه الإهتمام للصغار والفقراء، وبالتالي تعزيز بروز أخوة عالمية حقيقية وحضارة المحبة".

    إلى شريكتي في العيش معا، رفيقة الظل، الصبورة ، الممتَعة والمنظِمة، التي عرفت بسحر حنانها، كيف تنسج شرنقة حامية، حول علاقتنا الحميمية، حتى أضحيت متحررا من كل هم، وأتمكن من الاضطلاع، و"أعمل ما علي عمله"، كما كانت تردده دائما.

    إلى محبوبتي، التي في ظلّها أمكنني تذوق فرحة العيش والراحة، والتي عرفتْ كيف تُحول هذه المزرعة القديمة النائية "مزرعة الشرق"، عند سفح الطريق إلى الجنة، حيث نقيم في بار سير لو، حولتها إلى ملجإ وواحة سلام، حيث يمكن للجميع أن يجد فيها محطة على مساره، يملؤها الهدوء والسكينة.

    وداعا يا محبوبتي، إنا لله وإن إليه راجعون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)   كتاب الشيخ خالد بن تونس "التصوف قلب الإسلام"، الصادر سنة 1996.
(2)   كتاب الشيخ خالد بن تونس "إرث الأخوة"، الصادر سنة 2009.

هناك تعليق واحد:

  1. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف