الاثنين، 28 يناير 2019

مقام الوِلاية

مقام الوِلاية

    مذاكرة الشيخ خالد بن تونس بمناسبة أربعينية السيد مصطفى بوجميل رحمه الله.

    في سهرة يوم 26 01 2019 ببروكسل، أقيمت أربعينية وفاة السيد مصطفى بوجميل، أحد أتباع الطريقة العلاوية، حضرها جم غفير من مريدي الطريقة العلاوية، من أوروبا، وقد كان الشيخ خالد بن تونس حاضرا، رغم انشغلاته الكثيرة وارتباطاته المتعددة، فما كان منه، إلا أن شارك مريديه وأحبابه، السهرة الروحية، وقدم خلالها مذاكرة تأخذ بالقلوب والألباب، ذكر في مقدمتها مناقب الفقيد وحسناته، ثم قال:

   .... نتمنى من أبنائه وعائلته أن يستديموا وأن يحرسوا ويحافظوا ويُبلغوا ما تركه، تلك الخُلّة التي كان يتحلى بها، وهي الولاية. في هذا الطريق، طريق التصوف، غالبا ما تترجم الولاية، لسوء الحظ، بالقداسة (La sainteté)، فهي ليست الترجمة الصحيحة، الولاية هي (L’amitié)، أي "الخُلَّة"، والولي هو "الصديق الحميم" أو "الخليل"(1)، نترجمها بالقديس، فهم ليسوا رجالا أعلى من البقية، هم رجال أكثر قرب من الحق، أكثر قرب من الله عز وجل، وبهذا ظهر أهل الخصوصية. وهذه الوِلاية (بكسر الواو) تصبح وَلاية (بفتح الواو). حيث نحاول جميعا في هذه الطريق، كلٌ بطريقته، التقرب من هذا الحال، لنيل الرحمة والبركة بالله، ونكون من أهل الخصوصية، وهو ما أتمناه للجميع. تمتاز هذه الطريق بالحميمية والخُلة والمرافقة، وبتلك الأخوة. تؤدي بنا هذه الطريق إلى تقبل أنفسنا، وكذا قبول الآخرين. تعلمنا هذه الطريق أن قبل توجيه اللوم للآخرين، نقوم بلَوْمِ أنفسنا، وقبل تتبع أخطاء الآخرين، قم أنت بتصحيح أخطائك. إنها طريق الإعتدال، وتقودنا إلى عدم إلقاء أحكام، ولكن إلى التفهم. هذه الطريق تؤدي بنا إلى التفكير والعمل، من أجل الصالح الخاص والصالح العام. ومن ثم فإن للخلة والصداقة لله ثمن. ثمن الخدمة بهَون، دون ادعاء، ودونما افتخار، والإعطاء من غير انتظار مقابل. هذه هي الطريق التي تركها لنا أسلافنا ومشائخنا، والقليل من الناس يفهم لماذا بعد قرون وقرون، يبقى هؤلاء مبجلين وأيضا محبوبين وكذا محترمين. فلأنه شذى. فإن ذاكرتهم على أية حال، شذى يشمه محب هذه الخُلة، الساعي الحقيقي لمقام الولاية، هذه الخلة الربانية. فهذا يشم هذا الشذى. في عالمنا اليوم، حيث انعكست القيم، وفيه كل ما ليس له ثمن لا يأتي بربح، يعتبر (ما نحن بصدده) أمرا ثانويا. فنحن نقوم بمواصلة التفكير والبحث والتعلم، بعيدا عن المكتسبات، وبعيدا عن الأشياء المادية والأشياء النفيسة، التي تصنع قيمة الإنسان، وتصيغ عبقريته، ولكن في المنافع اللامادية ذات القيمة السيادية إلى حد الكفاية، وفي الإعتدال والأخوة والمصالحة والوساطة، وفي العمل، (نشحذ همتنا). تسمح لنا هذه القيم بالخروج من ضيق النفس والإنتماءات القبلية والدينية والتكيفات وكل ما يحبسنا. إن هذه القيم تحررنا وتدعونا إلى الإستقامة، وتفيدنا معنى الإستقامة، في حين أن عالم الأشياء المادية هو عالم الأفقية، والذي نربحه اليوم نخسره غدا، وما يبكينا اليوم يضحكنا غدا، وهو معنى الأفقية، فهي غير متناهية، والتجارب تتكرر حتى النهاية، حتى الموت. إن العمودية تدعونا إلى القيام بتلك الوثبة، ذلك الإدراك. (وعندها) تعاش العقبات بطريقة مغايرة، وينظر إلى النزاعات التي تواجهنا، إلى أنها أمورا إيجابية. من النزاع ينشأ الشيئ الحسن وليس الأسوأ. إذا عرفنا كيف نعمل حول هذه القيم، وما حوته من طيبة وكرم واعتدال، فإننا سنستفيد كثيرا من أنفسنا، ونقوم بمساعدة الآخرين، حتى يعيشوا معنا بشكل أفضل.

    أتمنى لنا جميعا وللآخرين، أن تتواصل هذه الثقافة وهذه تربية السلام للسلام إلى الأبد، وتنتقل من جيل إلى جيل، وتساعد أهل زماننا والأزمنة اللاحقة على البحث عن الولاية، والبحث عن هذه الخُلة الربانية لنا جميعا، وإذا كنا نحن بدورنا لم نصل بعد إلى مقام الولاية، بالتأكيد إلتقينا في حياتنا بمن بلغوه. إن أصدقاء الأصدقاء، لا يمكن أن يكونوا إلا أصدقائي. كان سي مصطفى بالتأكيد (واحد منهم)، وهو أيضا نال حظه من الولاية. إلتقى هو أيضا بالذين كانوا بدون شك، أخلاء الله.

    شكرا لكم جميعا لمجيئكم بكثرة، وشكرا لهؤلاء الأطفال، وأهاليهم، لتشريفنا، وتمكيننا من إرساء هذه الخلة، نحن جميعنا، في هذه الدنيا والآخرة. ليحفظكم الله ويحميكم. وبلغوا تحياتي لكل عائلاتكم، وإلى اللقاء قريبا، إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 (1). يستعمل الشيخ خالد بن تونس كلمة "L’ami de dieu " لترجمة "خليل الرحمن"، وهو الوصف الذي كان يمتاز به نبي الله، سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

الخُلَّة وهي الصداقة والمحبة التي تخللت القلب، فصارت خلاله، أي في باطنه. وخليل تعني الصديق الحميم، وهي أعلى درجات الصداقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق