الأحد، 12 مايو 2019

التربية في ثقافة السلام لدى الأطفال

التربية في ثقافة السلام لدى الأطفال




    ألقى الشيخ خالد بن تونس يوم 2 مايو كلمة مفيدة، في ندوة دولية، في طبعتها العاشرة جرت، حول حقوق الطفل والمعتقدات الدينية، اهتمت بمواضيع الإستقلالية والتعليم والتقليد، أقيمت يومي 2 و 3 مايو بمدينة جنيف.

    كان يهدف اللقاء إلى إبراز عدة  مناحي لحق الطفل حيال المعتقدات، وتحليل الحجج حول هذا الموضوع القليل المعالجة، في العالم الأكاديمي والمهني، وتعزيز الحوار والمعرفة حول حق الطفل في الحرية الدينية، ورفع الوعي حول موضوع الطفل كصاحب حقوق. وأيضا تسليط الضوء على الممارسات الجيدة، في حالات التوتر بين حق الوالدين في التعليم الديني، وحق الطفل في تقرير مصيره.

    في هذا السياق من العمل، جاءت كلمة الشيخ خالد بن تونس في الندوة، حيث قال:

سيداتي سادتي صباح الخير.

    أولا لي الشرف، أن أتقاسم هذه اللحظة معكم، وأشكر المنظمين على تفكيرهم فينا، بصفتنا منظمة غير حكومية، للمشاركة في هذا النقاش الثري. بالتأكيد استفدت منه كثيرا، وعلى الخصوص ما دمنا سنتكلم عن التربية في ثقافة السلام، وهذا هو الموضوع الذي يشدني شخصيا، ومن أجله  تكرس منظمتنا غير الحكومية وقتها وتخوض التجارب على الميدان. أهتم كثيرا بالشباب، وخاصة على مستوى الكشفية، في فرنسا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا وبلدان أخرى، في المغرب وأماكن أخرى. كيف نوصِل ثقافة السلام هذه لأطفالنا، ما دمنا نتكلم عن حقوق الطفولة؟ والطفولة هي رأسمال إنسانيتنا، اليوم. نعلم جميعا أن أطفال اليوم هم كبار الغد. كيف نُعِدّهم لتحديات عالم في أوج تحوراته؟

    كان لي ملاحظة على سبيل المثال في هذه الصبيحة، على مستوى معاني الكلمات، حتى معنى الكلمات ينفلت منا، لنفس الكلمات معاني مختلفة. هل كلمة إنسانية تعني شيئ ما لنا اليوم؟ وهل نشعر جميعا أننا معنيين بهذا الموضوع، الذي يبقى رغم ذلك موضوعا فلسفيا وطوباويا؟ هل نحن إنسانية أو إنسانيات؟ هل أطفالنا الذين سنمرر لهم هذه الرسالة، سيكونون منتمين إلى جسد يسمى الإنسانية، ويشكلون خلايا مجموع جسد، ويكون كل عضو على قدم المساواة، من الكرامة والإحترام، والنفع الذي يجلبه في خدمة هذا الجسد، الذي يسمى الإنسانية؟

     فقد استثمرنا في ثقافة السلام. نريد توضيح الأمور، مهما كانت قليلة. كيف نقربها؟ فلأنه يوجد خلط تام، بين الهوية والدين والثقافة. يوجد تداخل، جعل الكثيرين يرون الدين علامة للهوية، أو ثقافة تسمح لي بمعارضة الآخر، وخلق حدود بيني وبين الآخر. كيف نحسب أمورنا، حتى نربي طفلا، بين ما هو نوعي، وما هو حصري، وما هو جامع؟ عندما يتكلم طفل عن والديه، فبالنسبة إليه أمه وأبيه، وكذا داره ومدينته، وبلاده ودينه وغير ذلك، وكل هذا حصري بالنسبة إليه، ويراه ملك له. كيف نوصِل إليه الرسالة الأخرى، تلك الرسالة الجامعة، ونقول له نعم، هذا جزء منك، ولكنك تنتمي أيضا إلى عالم وكون وجسد يسمى الإنسانية، وكوكب يسمى الأرض، وأنه فيك -أو هذا "أنت"- مندرج في الكل.

    إذن توجد أشياء، هي بالنسبة لنا حصرية، فلأنني أحمل إسما ولدي عائلة وجنسية وأباء ونسب، ولكنني أنتمي إلى الإنسانية، ولدينا نفس الحامض النووي، ونملك نفس الأصل، ورغم ذلك، ففي هذه القيمة المشتركة، توجد بالتأكيد إختلافات، وهذه الإختلافات، ينبغي أن نراها كثراء، نراها كموجب، وليس كسالب. إذا جمعنا اختلافاتنا، نتمكن جميعا من الاستفادة من بعضنا البعض. وإذا وضعنا ثقافاتنا ومعارفنا وكفاءاتنا وموسيقانا، وكل ما هو خصوصي، نضعه جميعا معا، نستطيع التوصل إلى أفضل نتيجة، تعم فائدتها الجميع. هذا هو التآزر بين الناس، وهو ما يدفعنا إلى العمل حول هذا الجامع، الذي يجمعنا.

    ماهي القيم الأخلاقية والروحية التي تربطنا؟ وإنه ليوجد خلط كبير بين الديني والروحي. إن الروحي شيئ يغذي الروح، والديني، جرى تبيانه آنفا، يضعنا في وضعية نوعية، في ثقافة نوعية، مع مبادئ نوعية ومعتقد نوعي، في حين أن الروحي قد يؤدي بنا إلى تجاوز هذه الحدود. فنحن بحاجة إليه. لكل دين شريعته، ولا نريد خلق دين جديد، بالقضاء على الشرائع والمعتقدات، ولكن انطلاقا من شريعة ومعتقد، نذهب للقاء الآخر، وهنا لا توجد سوى وسيلة واحدة، وهي السمو بالروح، وما يعنيه السمو بالضمير، والعمل على انشراحه. أتكلم دائما عن الأطفال. قمنا بتجارب؛ على سبيل المثال عن طريق الكشافة الشباب، والتخييم في نفس المخيم، حيث تواجد فيه، الكاثوليكيين والبروتستانت والبوذيين واليهود ومسلمين، وقد كانت المخيمات ثرية جدا وأكثر حركية، فلأنه عمّ جو من الثقة، بين هؤلاء الشباب، وكنا نشعر أنهم كانوا أكثر ارتياحا في نوعيتهم وأصليتهم، كما لو كانوا سوى مسلمين، أو فقط بين مسيحيين. يعني هذا أن الآخر يفرض عليّ أن أعرف نفسي، وأن فكرة العيش معا تقودنا أولا إلى الباطن، أي داخليا بين الجماعات التي تشكل نفس الدين، وإلى التفاهم بشكل أفضل، والتعارف بشكل أفضل، بيني وبين الآخر المختلف.

    سأذكر لكم أمثلة دقيقة. كما تعلمون، توجد في الإسلام مدارس مختلفة. لدينا أهل السنة والشيعة، وفي الشيعة توجد عدة ميولات، وعند السنة عدة مذاهب، ولدينا الخوارج، ونسميهم عندنا في الجزائر الإباضيين. كان العيش معا في الجزائر وسيلة للتقريب بشكل أفضل، بين المجتمع السني والمجتمع الإباضي. وفي لبنان سمح هذا العمل، على مستوى العيش معا في سلام والعمل معا، على سبيل المثال، لمجتمعات في بعلبك، حيث أقدم المجتمع الكاثوليكي والدروزي والشيعي والسني على الإحتفال بهذا اليوم معا. إن الذي نتمناه هو أن نجعل من هذا اليوم، الذي أصبح يوما دوليا، بقرار الأمم المتحدة، الصادر في 8 ديسمبر 2017، يوما وحدثا حقا، ولكن أيضا بداية، وشيئ يدفعنا إلى التساؤل عن كيفية بناء هذه التربية لثقافة السلام، وبدونها أعتقد أننا جميعا نلاحظ مرد العالم. لا نكون من منذري أهوال آخر الزمان، ولكننا نتوجه صوب الإنحراف. عندما نرى أن الإعتداءات تصيب أماكن العبادة، في الأماكن التي نأتيها للصلاة، في أماكن العبادة، التي نأتيها من العادة، بحثا عن الطمأنينة. وإن هذه الأماكن مستهدفة. يوجد أمر غير طبيعي، ككون هذا الجسد الذي هو الإنسانية مصاب بمرض، يتفاقم شيئا فشيئا إلى حد الخطورة، ونزاعات سياسية تتحول إلى نزاعات عقدية، يوجد انحراف، وهذا الإنحراف إذا نقلناه إلى أبنائنا، رغم كل الحقوق التي يمكن إدراجها في مواثيق العالم، فلا فائدة ترجى من ذلك تماما. إذا لم يمارس جهد حول التربية لثقافة السلام، وإذا لم يتمكن طفل من أن يميز بين "الأنا"، ذاك الشخص الذي يمثله هو، و"النحن"، الذي يصله بروابط متينة بإخوانه. أعتقد أننا نتواجد عند حدود تأرجح، يمكن أن يسبب حسب رأيي كوارث ذات أبعاد عالمية.

    أنا من الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، ولدي جزء من أوروبا، وجزء من الشرق الأوسط ومن شمال أفريقيا. وألاحظ التدهور عند هذا المستوى. على مستوى مفاهيم الإنسانية، وحول ما يجمعنا. كل الديانات، وخصوصا السماوية منها، سواء كانت اليهودية والمسيحية والإسلام، تدّعي أن لها جَد، ربما هي أسطورة، ولعلها أسطورة تجمعنا. لدينا آدم حقيقي. وهي أسطورة تجمعنا وتجعل منا عائلة. كيف أننا في القرن الواحد والعشرين، ولم نعرف لحد الآن، كيف نصالح بين هذه العائلة الإنسانية؟  تطرح أمامنا مسائل، ولا نستطيع الفرار من هذا التحدي، بغض الطرف، ونقول الذي قيل منذ سنين، أن الديني لم يعد له وجود. نسينا أننا نحمل إرث ثقافي ثقيل، سيكون له عواقب على مستقبلنا، إذا لم نتوصل إلى إعادة ربط الصِلات والقيم التي تجمعنا. عندما نرى اليوم شبابا يتظاهرون في أكابر العواصم العالمية، يتحدون الكبار، قائلين لهم نريد تغييرا، يتحدون لإنقاذ الأرض، وإنقاذ النظام البيئي؛ أعتقد أن هذا يستدعينا، وعلى كل حال، أصحاب القرار، والسياسيين والإقتصاديين والعلميين.

   نعلم أن الجبال الجليدية تذوب، وبشكل ما، فإن صورتنا الشخصية هي التي تذوب. انتقلنا إلى مرحلة، حالت الإنسانية بدورها إلى الإنحلال، عن مبادئ وقيم، جعلت منها إنسانية. لدينا مرآتنا، وعندما نرى أنواع بأكملها تنقرض، سواء كانت نباتية أو حيوانية، وحشرات تختفي أمام أعيننا، خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا، وأننا نواصل قدما، بدون أن يثار لدينا تساؤل، أرى أننا نمضي في شكل من أشكال السير أثناء النوم. بلغت نفسنا مبلغا أعمتنتا فيه.  إننا نفكر في كسبهم في 2023 و 2025، ونحن هنا بصدد جر أذيال الهزيمة، بتحويل جنة إلى نار. ليس لنا سوى كوكب واحد في المجموعة الشمسية، لم نستطع إيجاد الحياة فيما عداه، والكوكب الوحيد بتنوعه، لا نقوم فيه إلا كمفترسين، يعملون على تدميره، ونعتقد أننا سنغزو مواقع النجوم، في حين أن واحة الحياة هذه، التي سنتركها لأبنائنا تموت. أي تبريرات نستطيع أن نقدمها للأجيال المقبلة. غدا على الأرجح، سنقف أمام محكمة، محكمة الإنسانية وهذه الأجيال. كيف سيحاكمون إنسانيتنا، إنسانية اليوم؟ إذن ينبغي العودة نحو هذه المسؤولية. لدينا مسؤولية عالم اليوم وعالم الغد. تكلمنا هذا الصباح عن التبليغ، وعن واجبات والتزامات التبليغ. ولكن نبلغ ماذا؟ وإذا بلّغنا أفكار وقيم تقتل، ستكون لنا مواجهة مع ضميرنا، وأيضا مع التاريخ. أعتقد أنه من واجبنا، بصفتنا آدميين الإستثمار في ثقافة السلام هذه، وفي تربية السلام هذه، وهذا قد سمح لنا، على سبيل المثال، في الجزائر في الثامن من شهر ديسمبر الماضي، بالقيام لأول مرة في بلد عربي ومسلم، تطويب 19 دينيا مسيحيا، وافتتاح كنيسة للسيدة مريم، في أعالي جبل، في مشهد جميل، في واحدة من أكبر مدن الجزائر، وهي مدينة وهران، مدينة مليوني ساكن. إنه العيش معا الذي مكننا، وهذا القرار الذي سمح لنا، بتحقيق هذا. وهذه أثيوبيا التي عاشت حروب طويلة مع جارتها، قد أنشأت ولأول مرة في التاريخ وزارة للعيش معا في سلام(1). لدينا رواندا، استفادت بقرار الأمم المتحدة، لهذا اليوم للعيش معا، من أجل المصالحة بين قبيلتي الهوتو والتوتسي(2). إذن ينبغي علينا القيام بشيئ ما في الملموس، شيئ محسوس، قد يستجيب لطلب ورغبة أكثر فأكثر إلحاحا، على مستوى الضمائر. نتكلم كثيرا، ولكننا نعمل قليلا. لا أدعي أن الآخرين لا يفعلون شيئا، بعيدا عن ذلك، توجد الكثير من المبادرات، ولكن لو حبذا لو كان لدينا إطارا، يسمح لنا بوضع هذه الطاقة في تآزر، وكل من يعمل في هذا المنظور، يقدم أفكار وقرائح ومعارف وعلوم، حتى تنبني دار السلام هذه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). أنشأت شهر أكتوبر 2018 أثيوبيا، أول وزارة في العالم، أطلقت عليها إسم وزارة السلام. قال رئيس وزراء البلد، السيد أحمد  لنواب البرلمان "المشكلة الرئيسية في هذا البلد هي الافتقار للسلام. هذه الوزارة (وزارة السلام) ستعمل جاهدة على أن يسود السلام". كما تجدر الإشار إلى مبادرة الصلح مع الجارة إريتيريا، التي تمت في شهر أبريل من نفس السنة، مما فتح البلد على نفسه الباب على مصراعيه، ليعيش تودد العيش معا في سلام.
    جاءت هذه الوزارة بعدما مر هذا البلد، بموجة من العنف في الداخل ومع الجيران، فيما مضى، ويحاول الإستقرار بقوة ثابتة. قدمت بعض التوضيحات عن خصوصيات هذه الوزارة، وقالت الحكومة، إن وزارة السلام الجديدة ستشرف على أجهزة المخابرات والأمن.

    واستحدثت الهيكلة الجديدة وزارة السلام لأول مرة، التي اُختيرت لها رئيسة البرلمان السابقة، مفرحات كامل بصلاحياتٍ واسعة، لتكون مشرفة على جهاز الاستخبارات والأمن الوطني (NISS)، ووكالة أمن شبكة المعلومات ( INSA)، ولجنة الشرطة الفيدرالية، إلى جانب مركز الأمن والمعلومات المالية، ومعهد الدراسات الاستراتيجية للعلاقات الخارجية الإثيوبية، والإدارة الرئيسية لشؤون الهجرة والجنسية. هذه الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها مفرحات كامل، جعلت الكثير من المواطنين يقولون إنها ستكون أقوى امرأة في البلد.

(2). شهدت رواندا، البلد الأفريقي، حربا أهلية مريرة، في بداية التسعينات، يغذيها الحقد القبلي، بين قبلتين رئيسيتين في البلد، هما الهوتو والتوتسي، وأقل ما نقول، أنه في غضون شهور، قتل ما يربو عن مليون شخص، بلغت الأمور من الفظاعة، حتى كان التوصل إلى صلح يفضي إلى السلام، أمر عظيم.   




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق