الخميس، 9 يناير 2014

إلى أين تتوجه البشرية؟


إلى أين تتوجه البشرية؟


نحن نعيش فترة صعبة، و في نفس الوقت مُخلِّصة بالنسبة للبشرية اللاحقة، لأنها مطبوعة بالتحول، و كل ما فيها يعاد فيه النظر. فالإلحاحية الوحيدة اليوم، هي أن لا يصل الإنسان إلى نقطة اللاعودة، فعليه أن يكف عن إتلاف الطبيعة، و عن تدمير نفسه بنفسه.

في وقتنا الراهن، تختار البشرية سبلا ملتوية، لكنها ستدرك عاجلا أم آجلا أن سعادتها، لا يمكن أن تكون مرتبطة إلا بالرجوع إلى الله الحق الأبدي، الرحمن الرحيم. و البشرية شبيهة بكائن بشري يعيش الإختبارات كي ينضج، و يدرك ماهو دوره، و هي لن تتوقف أبدا عن التطور، لأن هذا هو قدر الإنسان أيضا. 

... و يقال أن الوضع على الأرض في يومنا شبيه بما ذُكر: الهواء ينقل الأوبئة، و البحر ملوث، و اصطلام الأحراش بوحشية، و التجارب النووية و إذا ما استمر البشر هكذا، فإنهم سيطردون من جديد، لكن إلى أين يذهبون؟

إنه من المُلح التعقل و العودة على الأقل، إلى ما يجعل منا كائنات عادية، كائنات راقية و سعيدة، و مسؤولة حقا. و الإنسان يقول عن طيب خاطر، إنه حيوان راق. لكن ما الذي يسمح له بأن يثبت رقيّه هذا؟ يقول القرآن الكريم "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". سورة الحجرات، الآية 13. إذاٌ، فلنقترب من المركز الرباني، من ذلك الجزيئ من السرّ الإلهي الموجود في كل واحد منا. فمن الملح أن يَنبُثَ (1) كل واحد آنيته للعثور على المنبع، و من أجل العثور على الماء، يجب حفر البئر و إزالة الأحجار و التربة.

فعلى الإنسان أن يكف تدريجيا عن الرغبة في الإستغلال و التملك و التحكم بأي ثمن كي يعيش حياة أكثر بساطة و أكثر تعقلا. إن الكائن البشري ليس له سوى وهم التملك، لأن كل شيئ يأتيه من الله عز وجلّ، فعندما كان آدم يعيش في الجنة كان كل شيئي يأتيه، و منذ أن فقدَ ذلك المقام الفردوسي فإنه يشقى للتملك.
إذا كانت العصرنة قد جلبت لنا تقدما علميا و تكنولوجيا و طبيا، فإنها في المقابل لم تأت بأي شيئ، و لم تغير أي شيئ من مشكل الإنسان في علاقاته مع نفسه و مع أبناء جنسه. فالتحضر هو فن من العيش في انسجام مع الذات و مع الآخرين، ونبل في الطبع، و رقة في الروح، و صراحة في كل لحظة، و أخيرا هو صراع ضد ظلامية النفس العمياء، و ضد إنكار ذلك الجزيئ من السر الإلهي الموجود فينا. إن الإيمان و العلم و المعرفة ما هي إلا طريق واحد بعينه، فالإنسان يعاني و سيعاني بسبب نسيانه لذلك. 

إن الإنسان لا يحصد إلا ما زرع، و هذا صحيح أيضا بالنسبة للأمم و الحضارات، فإذا ما زرعت الغضب و العنف و الفساد، فستحصد عاجلا ام آجلا ما زرعته. انظروا كيف تنتهي حياة الطغاة؟ إنها في الغالب تنتهي في الدم. و انظروا كيف تنتهي حياة الذين دعوا إلى الخير و إلى المصالحة؟ حتى و لو اغتيلوا، مثل غاندي أو لوثر كينغ، فإن أسماءهم ستبقى منقوشة في الذاكرة الجماعية إلى الأبد، لكن أسماء مغتاليهم لا أحد يذكرها.
و ما زال الحديث يجري اليوم عن الحكيم بوذا (2).

و كذا الحديث عن سيدنا إبراهيم و سيدنا موسى و سيدنا المسيح عليهم السلام، لأن رسالتهم معاصرة على الدوام، و لأنهم زرعوا محبة الإنسانية، و ما زال يُحتفل بذكراهم، في حين أننا لا نعير أي إهتمام لذكرى أتيلا (3) أو هتلر.

فواجبنا اليوم هو أن نجيب بتواضع عن مشاكل الإنسانية. علينا أن نجد ما يسمح للإنسان بالعيش في انسجام مع عصره، لا في تناقض معه. إنه من السهل جدا رفض المجتمع و الإنطواء على النفس، و لكنني أشك أن يكون ذلك بناءأ، فما فائدة الإنغلاق في إيديولوجية أو فلسفة أو عقيدة طائفية تعيق و تجمد كل أشكال التطور؟
فالذي يركد و لا يواكب مسيرة الحياة، فإنه لا يجد أبدا أجوبة ملائمة للحاضر. فكل الأحداث الراهنة، سواء تعلق الأمر بالأصولية أو بالإرهاب أو بالتعصب ما هي إلا علامة للرفض و التقييد، و ركود العقليات، و خوف الإنسان تجاه مستقبله الغامض.

لقد ساهمت جميع الثقافات بنصيبها في بناء سعادة البشرية، كما ساهمت حضارتنا المعاصرة هي أيضا بحصتها، إنها تمثل الميراث العتيق للحضارات السابقة: الصينية أو الهندية أو المصرية أو الرومانية أو الإغريقية أو الهندوأمريكية...

أما فيما يخص الحضارة الإسلامية، فإنها تحتوي هذه الحضارات كلها. و على هذا، فإنها ليست أحسن أو أسوء من حضارة أخرى. و من المعاينة و لأجل خير البشرية، فهل نحن قادرون، من خلال تفكير صادق على إيجاد أرضية للتفاهم و أجوبة مطابقة للشرور التي نفرزها و التي تهاجمنا و تقوّض أسسنا؟

إذا لم يُقوّم الإنسان سلوكه على جميع المستويات – العلمية و الفلسفية و الإجتماعية و العسكرية و الإقتصادية – فإنه يسارع إلى التهلكة، و إن بقاءه، هو موضوع الخلاف، لأن الكرة الأرضية لم يسبق لها أن عرفت أبدا إكتظاظا و لا تلوثا بهذا الحجم من قبل.

إني، أقول للأفراد المهتمين بالروحانيات المتزايد عددهم "لا تهتموا بعدُ، بالروحانيات، بل بالإنسانية". فالخطر اليوم هو بالشكل الذي يحتم علينا أن نتوجه إلى الإنسانية، و إلى الإنسان الكامل.

ثم هناك المشكل بين الأغنياء و الفقراء، و كان دائما موجودا، و سيكون من الوهم القول بأن هذا المشكل يمكن حلّه كليا، لكن يمكننا أن نخففه بشكل كبير.

كيف يمكننا أن ننفق الملايير للقيام بحرب، أو لصنع الأسلحة، أو الإفلاس في الألعاب، و في نفس الوقت نجد أنفسنا عاجزين عن حل المشاكل، كالمجاعة و البؤس و التهميش في حين أن إمكانياتنا تسمح لنا بمعالجة ذلك؟
ما دمنا لم نُعلِم أطفالنا أن الحرب وباء و سخافة و لعنة على البشرية، و أن المُناضل الحقيقي هو الجندي الذي يجسد و يدافع من خلال التضحية بحياته عن الضعفاء و المضطهدين، و كذا عن كل القيم الإنسانية و العالمية للسلام و الوئام... مثل الفرسان و الساموراي و المجاهدين، و ما دمنا لا ندرك أن إنتاج و بيع الأسلحة المرعبة و المدمرة هو جريمة فإننا لا يمكننا القول بأن حضارتنا عصرية و متقدمة. في الحقيقة ليست سوى حضارة تعتمد على القوة على حساب الضعفاء، و على حساب الإنسانية، و إن عصريتها، ما هي إلا خدعة تكنولوجية تخفي طبيعتها الفوضوية ذات التوتر الشديد، و المجردة من محبة الإنسانية.

و أود أن أضيف، إن الذين يساهمون في خلق هوة بين الإسلام و الغرب يرتكبون خطأ فادحا، لأنهم يسعون لدى الجانبين في تغذية الكراهية و الغضب و الرغبة في الإنتقام. فلا أحد يمكنه أن ينكر وجود أكثر من مليار نسمة في العالم  الإسلامي بمشاكلهم الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية و السياسية. إن العالم الإسلامي لفي حاجة إلى المساعدة ليجد إستقراره و توازنه، و طريقه الوسط الحق. أما إبعاده أو عدم المبالاة به فهو أمر لا معنى له، لأن مستقبل الجميع مرتبط باستقراره و ازدهاره. فبالحوار و التعاون و الأخوة العالمية تتحقق الإنسانية أو لا تحقق.
و الإسلام يأخذ الإنسان كما هو، بتناقضاته، و أقول ببساطة و بدون رغبة في الإرشاد، فَلْنكن إنسانيين أكثر، و لنتعلم حتى نعرف بشكل أفضل أنفسنا باطنيا لنعود أكثر، شيئا ما إلى النموذج المثالي للإنسان الكامل.

يجب على سادتنا و علمائنا الإجتماعيين و فلاسفتنا أن يستلهموا من الآن فصاعدا من هذا البعد الإنساني بكل ما في الكلمة من معنى، و أن يفهموه جيدا من أجل مصلحة الجميع، كما يجب أن نكف عن صب الزيت على النار. لأن مصائب قوم ليست عند قوم فوائد، و إلا، فنحن لا نعمل إلا على خلق سعادة و سلام مصطنعين لا يدومان إلا لحظة، فلا نفاجأ إن حدثت من جديد عاجلا أم آجلا مصائب قوم لقوم آخرين. فمثلا المشكل المأساوي للمخدرات في الغرب، هو بمثابة معادلة نوعية للمواقف الإستعمارية و الحربية في الصين، و في بلدان أسيوية أخرى.

من المُلحِّ أن نتبنى سلوكا إنسانيا مسؤولا مع أنفسنا كما مع أولادنا و مع جيراننا و حتى مع أعدائنا أيضا، يجب أن نحاول تجسيد القيم العالمية من اجل تبليغها و الدفاع عنها لأنها مهددة للغاية. 

إن الأصولية لا توجد في العالم الإسلامي فحسب، و لكن حتى عند الآخرين أيضا، و هي تعبر عن الخوف و الجهل و عن فقدان المعنى، و هذه الأصوليات تأمل بانزوائها في التمكن من البقاء و في حماية نفسها من شرور العالم.

نحن ندعي أن حضارتنا المعاصرة بالنظر إلى تقدمها العلمي و التكنولوجي إلخ، هي الأكثر تألقا، ففي أي شيئ هي متألقة، إذا لم تستطع حتى تحقيق هذا البعد للإنسان الكامل؟ أ تكون أكثر تألقا بإنكارها للمشاكل الحقيقية للبشر، و بعجزها عن تغذيتهم على كافة المستويات؟ و متى لم يعد العقل سائدا في المجتمع، فإن الحكمة تبرحه عن قريب، و يضعف حينئذ الضمير، و يهذي المنطق.

إن الاشخاص الذين يقرأون الكتب، و يتعلمون التقنيات، معتقدين أنهم في سيكتشفون في يوم ما الملجأ الباطني، فهم مخطئون. و البعض يتأوهون في معاناتهم، و مع ذلك فإنهم لم يحاولوا أبدا، و لو ليلة، القيام بخطوة نحو البحث عن الحقيقة خارج ذواتهم، و خارج عالمهم الصغير.

كيف يتم إكتشافها؟ يتم عيشها في كل مكان، في حين أننا لا نكف عن إنكارها باعتدائنا و بكذبنا على الآخرين و على أنفسنا. 

إن الحقيقة تقتضي قبل كل شيئ الدخول في انسجام مع كل تناقضاتنا، و الأخذ بعصا الترحال. و الروحانية ماهي إلا تعبير عن البساطة و لا شيئ آخر، إنها توجد حيثما كان، عند الطفل و الشيخ و الجاهل و العالم. و التصوف يقتضي ببساطة، أن نتطور باطنيا، و أن نعكس هذا التطور.

و إذا كانت هذه الفكرة أو هذه المدرسة قد استطاعت أن تقطع الزمان و تصل إلينا سليمة، فهذا ليس لكونها لم تقاوَم و لم يقدح فيها، بل بالعكس فالكثير من الصوفية قد استشهدوا على أيدي أنظمة طاغية مرتابة، و على أيدي علماء مغترين بمعترفهم، و على أيدي نساك يظنون أن العالم على شاكلتهم، و على أيدي فقهاء منافقين يبيعون أنفسهم لمن يعطي أكثر، و على أيدي جهلة يصدقون الأكاذيب.

معاذ الله أن يكون التصوف محتاجا لأنصار، أو لمن يدافع عنه، و لا حتى بشكل قليل لمن يمجده، إنه طريق "الذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما". سورة الفرقان، الآية 63. هناك من يعنيهم الأمر و مَن ليسوا كذلك، قال مولانا رسول الله صلى الله عليه و سلم "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".

إن الإدعاء و الكبرياء هما اللذان يجعلان المرء دائما يقول "أنا أفضل من الآخرين، و إني أمتلك الحقيقة و لدي أفضل شيخ، و أفضل نبي، و أفضل ديانة". فلا يوجد إلا واحد أفضل "إنه الإله"، الذي لا يوصف و لا يدرك، و الذي يجب علينا قبل كل شيئ أن نتوجه إليه سبحانه.

نحن في التصوف نلتجئ إلى الله جل ثناؤه، ليسكن ضمائرنا و قلوبنا المفعمة جدا برغباتنا و شهواتنا، و حتى يمكن أن يسكنها الله سبحانه يجب أن تكون فارغة و مطهرة من جميع الرذائل المرتبطة بم يُتوهم معرفته، فالله عز و جل موجود بقرب المحتاجين إليه. و لإعانة أنفسنا على ذلك، فالصلاة ضرورية.

أنا لا أومن بالصدفة، و لكني أومن بالإرادة الإلهية، و كل واحد له إيمانه و عقيدته، و هذه الإرادة مختصة به سبحانه، للتلاقي فيما بين مختلف الديانات التي ليست وليدة الصدفة، كما يصرح بهذا القرآن الكريم " يا أيها إن خلقناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله أتقاكم" سورة الحجرات، الآية 13. نحن لسنا مختلفين من أجل التصارع فيما بيننا، و لكن من أجل التعارف، حتى نكون مرآة لبعضنا البعض، و حتى نغتني باختلافاتنا.

لقد وصلت البشرية إلى عتبة، فإما أن تعرف نفسها و تختار الرجوع إلى الوحدانية، و إما أن تسعى إلى التهلكة. و بما أننا بشر، فنحن إذا ما تغيرنا باطنيا، و إذا ما ألهم التسامح لقاءنا مع الآخرين، يمكننا تغيير المصير الحرج الذي يبدو أن البشرية تتجه نحوه. 

فعلى الغرب مثل الشرق أن يكفا، عن الإعتقاد أن ثقافتيهما فريدتان، لأنه توجد نماذج أخرى في عداد التراث الروحي و الثقافي للبشرية، فإذا ما حكمنا على الديانات و الثقافات و الأجناس الأخرى باسم ما نراه حقيقة قُدوسية ما، فقد يكون هذا بالنسبة لنا جميعا ضررا و خسارة لا تعوض، فالحقيقة الربانية ليست حكرا على أحد، إذ إنها ليست بشرية، بل ربانية، فيجب البحث عنها في كل يوم بقوة، و إحياؤها و تمجيدها من طرف الجميع، لأننا محتاجون إليها من أجل توجيهنا و هدايتنا.

و إذا أمكن القيام بالدعاء فلنسأل الله عز و جل، أن يسدد خطانا، و يجعلنا أكثر تسامحا، و أن ينزع الحقد من قلوبنا و يعوضه بالمحبة، و يذهب الغضب و يعوضه بحكمته، حتى يجعلنا أكثر وعيا بأنفسنا و بالآخرين، و يسمح لنا بمقاسة هذه الهبة التي تلقيناها، إنها هبة الحياة.

و هكذا، فالطريق الذي يوصل إلى الله الحق هو طريق الأمل و التسامح، و هو الذي يحمل في طياته الحياة الإنسانية القادرة لاستقبال "المُخلِّص- المسيح" عليه السلام، و كذا الساعة التي ينتصر فيها الحق على الباطل، و ينتصر الخير على الشر، و الكرم على الأنانية، و الصلاح على الفساد، و أخيرا تنتصر الإنسانية على الحيوانية، فالديانات كلها تبشر بهذه الساعة المسيحية و تنتظرها.

لكن، من منا سيتعرف على هذا المخلص و سيتبعه؟ و هذا ما جعل الشيخ الحاج عدة رضي الله عنه، يقول "إن الجماعة المهيأة لاستقبال المسيح عليه السلام، ستكون قد جردت نفسها من فكرة أناها. فلا يمكنها إذا أن تقول: أسرتي، أصلي، ديني. إنها زمرة الصالحين المطهرين".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). نبثَ فلان البئر، أي إستخرج ترابها.
(2). الحكيم بوذا، مؤسس الديانة البوذية في القرن السادس قبل الميلاد.
(3). أتيلا، كان ملك الهون، عاش في القرن الخامس الميلادي.

             الشيخ خالد عدلان بن تونس، "التصوف قلب الإسلام"، الطبعة الأولى سنة 1996.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق