خطبة الشيخ خالد بن تونس
بمؤتمر
الدولي للأنوثة
السلام رغبتي
بعد بسم الله الرحمن الرحيم
أصدقائي الأعزاء، أشكركم من أعماق قلبي، من
صميم الفؤاد أرحب بكم، في هذه الأرض المعطاءة، الجزائر، التي ترحب بكم اليوم، في
كنف السلام.
إن أكبر رغبة لدي، هي أن يكون هذا المؤتمر
الدولي للأنوثة، من أجل ثقافة السلام، بداية طريق، يقودنا إلى التحلي بالوعي، و
إدراك القيم الكونية للسلام و الأخوة.
السلام و الأمل للجميع
منصة المحاضرين،
بالمؤتمر الدولي للأنوثة.
السلام ليس كلمة فارغة، أو هو عبارة عن غياب النزاعات و
الحروب، أو وصفة سحرية، يستعملها البعض ضد البعض الآخر، لتبرير سيطرتهم. السلام هو
حالة كينونة، تُزرع في الضمائر و تُجنى منها، من أجل بناء حالة ذهنية ذاتية و
جماعية، تقوم بتغيير نظرتنا، و تصيغ عالما، لا يؤدي بنا، فيه العنف إلى القطيعة.
هو حلم، يقول البعض و طوباوية، و لكن ألا يتوقف تحدينا، بحق، على تحويل هذا الحلم
إلى حقيقة؟ هي مهمة تحدونا اتجاه القضايا العالمية، التي تهمنا، و تهم الأجيال
المقبلة. إنها ضرورة تقتضي، بناء الضمير و الصِلات الأخوية، التي تجمع الإنسانية.
هو التزام مواطنة، و رؤية مشتركة، و إرادة العيش معا، بشكل أفضل، و القيام بالتعرف
و التعارف، في مدننا و بلداننا و مجتمعاتنا و مؤسساتنا. إنه خلق نبضة،
لحركة موحِدة معترف بها، على المستوى الدولي. إنه تعزيز القيم الأساسية، التي يطمح
إليها، جزء كبير من الإنسانية: التعددية، الإنصاف، العدالة، قدسية الحياة، و
احترام البيئة، حتى يُعطى معنى لحياتنا. إنه التصرف بتآزر و تظافر الجهود،
بإجراءات ملموسة و إيجابية، من أجل ازدهار كل شخص، ضمن الإحترام الأخوي للإختلافات،
الكائنة على المستويات الفكرية و الإجتماعية و الثقافية و الروحية. إنه البناء و
العمل معا، من أجل بناء مستقبل مشترك "الواحد مع الآخر، و ليس الواحد ضد
الآخر".
حالة الإنسانية
إن
الحاضر، كما المستقبل يعنينا جميعا. لدينا الإختيار: إما البقاء في الإثنينية و
التعارض، مع تمثل خطر، أن نُعتبر في التاريخ، كائنات حقيرة و غير مكتملة، أو نختار
طريق آخر، طريق الحوار و التضحية و المحبة و الأخوة...
كيف يمكن
منح بديل، لعالم اليوم، المضطرب و الهائج، و الذي ينبئنا بمستقبل عواصف، و مستقبل
نزاعات؟ نحن نسكن هذا الكوكب الجميل، هذه الجنة، واحة الحياة، داخل فضاء مجرة
فارغ. لحد اليوم، لم نجد في أي مكان، محلا، الحياة ممكنة فيه، و أنبتت الحياة و
أجزلت عطاءا هائلا و معقدا، و على الخصوص، الكائن الإستثنائي: الإنسان. و لكن هذا
النبيل، في نظر التاريخ، هو ذئب لأخيه و أخته... هذه الوحشية التي تسكننا و
تقلقنا، تقوم بمساءلتنا، حول الحالة الإنسانية. وُلدنا جميعا، بصفتنا رجالا و
نساءا، و لكن القليل منا، يحقق حالة الإنسانية. و القليلون منا يبلغون مرحلة
يصبحون فيها، حاملي الأمل، يسلكون مسلك
الإيثار، بسبب أن النفس النرجسية، تعيقهم، و تحجبنا عن جوهر أنفسنا، و تؤدي بنا
إلى رفض الآخر. في نفس الوقت، نحن في التعارض، في حين كان ينبغي علينا، أن نكون في
تآزر. فرغم أنانيتها، فهي مفيدة بالنسبة إلينا. لنجعل من اختلافاتنا تكملة و إثراءا.
"الإجتماع، رغم عدم التشابه، و الإجتماع من أجل الإلتئام". إنها دائرة
الإنسانية و الأخوة، التي ينبغي أن نثبتها فينا و نؤكدها. كما تنص المادة الأولى
للإعلان العالمي حول حقوق الإنسان "يولد جميع الناس أحرارا، و متساوين في
الحقوق و الكرامة و الحقوق، و هم قد وهبوا العقل و الوجدان، و عليهم أن يعاملوا
بعضهم بعضا بروح الإخاء".
تربية اليقظة
منذ
البداية، بُنيت المجتمعات على التربية و نقل القيم، سواءا كانت هذه القيم مادية أو
أخلاقية أو روحية. على ممر العصور، لم يتوقف الناس عن بناء حضارات، بفضل توريث
مستمر، مؤسَس على القيم و المبادئ، التي غالبا ما طالها التغيير و التطوير، وحتى
المراجعة.
فاليوم،
إن مجتمعنا الوارث لهذا الماضي، يوجد في مواجهة مع تحور و مزيج ثقافي مذهل. يميل
الشرق و الغرب إلى المواجهة أكثر فأكثر. و عولمة مدت خيوطها... و على ما يبدو، فإن
سلطة التماثل و الكوكبة و الإستهلاكية، هي التي تسود.
بعيدا من
أن تدفعنا هذه الديناميكية، إلى الوحدة، فإنها تؤدي بنا نحو عالم إثنيني، مزدوج، و
أكثر فأكثر تشتيتا. و خلقت إشكالية عالم، مبني على التعارض و التنافر. و بعيدا عن
فضاء وحدة الوجود، التي تدعوننا إليها، القيم العالمية، الواردة في الحِكم و
الأديان، فإنها لا تسمح للإنسان بأن يعيش و يحصل، على هذه الوحدة من خلال الخَلق،
و أيضا بعيدا، من أن يحققها في نفسه.
هذا
التنوع الذي نراه في العالم، كما يظهر لنا، هو مكون من تشكيلة هائلة من الأنواع،
ذات ألوان و أشكال. و لكن في الحقيقة، إذا نظرنا إليها، عن كثب، بنظرة علمية، و
نظرة معجزة الحياة، فإننا نكتشف أن حقيقتها الجوهرية واحدة. كل الكون مخلوق من نفس
الجوهر، سواءا كان طاقة أو مادة، حتى و لو كان يظهر إلينا بأشكال مختلفة. هذه
الوحدة هي أساس الخلق. و إليها تقودنا تربية اليقظة الروحية، المنسية اليوم، حتى
في العالم الإسلامي، رغم أنها كانت هي الرسالة الأساسية، رسالة التوحيد. يقودنا
هذا السلوك، شيئا فشيئا، إلى إعادة إيجاد هذه الفطرة المندرجة فينا، و منها إيجاد
وحدة كل شيئ، وحدة الحي.
كل إنسان،
بإيفاء تجربته الخاصة، يمكنه أن يحقق هذه الوحدة، جوهر الإنسان و منبع كل موجود،
التي نحن لها و إليها راجعون. يتحلل الغلاف الجسدي، في العوالم المعدنية و
النباتية و الحيوانية، و لكن الحي الذي يكتنفنا، يلتحق بالحي الأبدي. و هذا لا
ينطبق فقط على الإنسان، و لكنه يعني جميع الخلق، الذي لا يمكنه الإنفلات من هذا
القانون الأساسي، الذي يدير الفضاء و الكون.
تندرج
حقيقتنا الزمنية في الحقيقة المطلقة. لا نستطيع إستيعابها و فهمها، إلا من خلال
تحقيق السمو، الذي يحرر الروح، و يسمح لها ببلوغ نظرة أخرى، لعالم مبني على
التوحيد. هذا النبع، الذي ينبثق منه الحي الأبدي، ينادينا من خلال ألف تجل و تجلٍ،
طوال التجربة القصيرة للحياة، و يقوم بدعوتنا، بعيدا عن الأنانية، و الإزدواجية
الظاهرة، إلى التحلي بالشعور، حول الحقيقة الكونية، التي تحتضن كل شيئ.
الإيصال الروحي في الإسلام
في
الإسلام، إن الإيصال (التبليغ/التمرير/النقل) هو فرض، إلى درجة لو أننا تقاعسنا عنه أصبح ذنبا. لهذا يقال، أن
يوم القيامة، إحدى الأسئلة الأولى، التي تطرح على الأب و الأم هي "ماذا قدمتم
لأبناءكم"؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "العلم فريضة على كل مسلم
و مسلمة". هو إذن، من واجبات المؤمن، أن يُبلّغ علما أو معرفة، أو يعلم حِرفة.
نستطيع الإعتبار، أن التبليغ هو بحق، في الآن نفسه، إسهام روحي و ديني، و أيضا
علمي و إقتصادي. لهذا السبب، طورت الحياة المدنية الإسلامية، أخوة كبيرة في تعليم
المِهن. كل حِرفي، قبل وفاته، ينبغي عليه أن ينقل ما تعلمه لغيره، و كان في
الماضي، كلما كان للحرفي، أكبر عدد من المتمرنين، كلما اعتبر من أهل الحرفة.
يجب
استعراض تربية اليقظة، على ثلاث مستويات. يعتمد المستوى الأول، على إدراكنا للجانب
المقدس للحياة. و يعني العنصر الثاني العقل. وهل بدونه، كان سيتساءل الإنسان عن
نفسه، و عن معنى حياته و مماته؟ عندما يصل العقل إلى النضج، يظهر عنده واجب تبليغ
الطفل، معالم عقائدية و فلسفية و دينية، لبناء شخصيته، و الإجابة على الأسئلة
الهامة التي يطرحها... وهبنا الله العقل للتفكير، فنحن مَن علينا، أن لا نجعل منه
حاجزا و عائقا. في الأخير تدخل التربية الروحية، التي تحصل عن طريق تعليم، يمنح الحرية، و يمنح
فرضية رؤية قراءات مختلفة، ترافق السالك في رُقيّه.
قُدسية الحياة
كل حياة
محرمة، بما لديها من الحقوق، في الإحترام و الكرامة. جاء في القرآن الكريم
"من أحيا نفسا كأنما أحيا الناس جميعا". سورة المائدة، الآية 32.
فمن الواضح أن الإنسان، يملك قوة كبيرة، للتدمير و التحويل و الترويض، على
الكائنات الحية، بمن فيها أقرانه. فمن الضروري أن يتلقى الإنسان تعليما، و يتم
تحسيسه، بمسؤولياته الكبيرة، من أجل حماية الحياة.
عندما
نقول "لا تفعل بالآخرين، ما لا تريد أن يفعل بك"، فإن هذا يبرز قيم،
تبدو لنا بسيطة. و لكن كم هي مطلوبة. إن احترام الآخر و احترام الحياة، هو احترام
المولى عز و جل. إنه الأمر اليقين، على انتمائنا للعائلة الإنسانية، و حقيق، أننا
نملك مصير مشترك، يتعدى كل واحد منا. تحصلنا على هذه الهبة، التي هي الحياة، و
نقوم بدورنا بتمريرها، و بهذا تتوالى الأجيال. الحياة ثمينة جدا، فعلينا أن نضعها
في خانة المحرمات، و عندها لا تنتهك حرمتها. ينبغي أن يؤدي بنا، هذا التحلي
بالوعي، إلى موازنة علاقاتنا مع سلسلة الخلق، التي نحن آخر حلقة منها، مثلما ذكره
الشيخ العلاوي (1869-1934)، في مبحثه الثالث من أبحاثه
الفلسفية "فأقول أن سلسلة الموجودات محكمة التناسق، و عليه فدخول الإنسانية
في الحيوانية ضروري، أما دخول الحيوانية في النباتية، فيتضح من جهة مراعات استعداد
الجميع، لعوامل الطبيعة، زيادة على القدر المشترك، بين العنصرين في نحو النمو و
الذبول و الحركة الإضطرارية... ليتحقق الإنسان أن لا شيئ يمتاز به عن موالده، إلا
بما كان من قبيل اكتساب الفضائل، و قال الله تعالى: إن أكرمكم عند الله
أتقاكم". و هكذا لن تطرح مسألة خلق الإنسان، كمشكلة خارجة عنه، تعود إلى غابر
الأزمنة، و لكن مبحث خصوصي، ينبغي على كل فرد تعقبه. و إنها إشكالية شخصية، يمكن
عندها، لكل شخص تفحص تصرفه و عواطفه، حتى يكتشف نوعية العلاقات، التي يتعطاها مع
أصوله السفلية، و يفي بالتزاماته نحو عالم، له حقوق اتجاهنا، حقوقا تستوجب الحفظ و
الحماية، عاملا بما لديه من فضائل.
العقل
قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم "اطلب العلم من المهد إلى اللحد". في معنى هذا
الحديث، تصبح الحياة في دوامها، و مختلف مراحلها، مدرسة و مكان الدراسات و جمع
المعارف. ترتكز هذه الأخيرة على إثراء اكتساباتنا، و تطويرها، حتى تستطيع قريحتنا
الإستجابة، للتساؤلات التي تلهمها الطبيعة، و أحاسيسنا، و تثيرها علاقاتنا مع
الآخر، و مع الأشياء. و هكذا، بعد يقظة الجوارح، تبقى المعرفة النظرية، دائما
مطلوبة، لتعزيز المعرفة، و التمكين من الظواهر المحسوسة، و إثراء العلوم الفكرية،
و توسيع حقل الإكتشافات و الإنجازات العلمية و التقنية. يتعلق الأمر في الحد من
الجهل، و تحرير الإنسان من التعلق بالعناصر و قوى الطبيعة، عندما لا يستعيبها أو
لا يفهم الباعث إليها.
يتمثل
خطأنا نحن الوالدين أو المربين، في أننا نعطي تعليما مذهبيا أو فلسفيا أو آخر، و
ذلك قبل الإنشراح الفكري للمتلقي. و بالتالي، فنحن نقوم بتمرير مذاهبنا و عقائدنا،
سواء كانت مسيحية أو مسلمة أو يهودية أو أخرى، نمررها إلى شخص، لا يملك النضج
الباطني حتى يستوعبها. إن تجميع المعارف، لا يمكنه أن يكون النور الوحيد، الذي
يُشرق الحس النقدي لدينا، و يسمح لنا بالتقدم، و بناء حياتنا بكل صفاء.
نحن ننقل
إليه فقط، ميراثنا الثقافي أو الفلسفي أو الأدبي أو الديني المنغلق، الحاوي على
حقائق جاهزة، تؤدي به إلى المواجهة، مع من لا يفكر مثله. أضف إلى ذلك، مصالحنا
الشخصية، و التلاعبات الإيديولوجية، و بالتالي يصبح لا مفر من النزاع و العنف.
بوصفه محل
الذاكرة و التفكير و العقلنة، فإن العقل يسمح لنا باكتساب المعارف و إثرائها، و
هذه هي ثروة المكتسب. و إن توقف عند الملاحظة البسيطة للظواهر، فإنه قد يخفي
الفطرة.
الفطرة
يشير مفهوم الفطرة إلى حالة طبيعية أصلية، كما لو أن مولودا جديدا يأتي إلى الدنيا بوعي عذري، في حال "مسلم"، مستسلما لإرادة الله. و أكد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعدها، أن الوالدين هما مَن يجعل من أبنائهم يهودا، أو نصارى، أو مجوسا. فتعليم الوالدين، و القيم النابعة من مجتمع ما، تُرسخ فينا نوعية الفطرة. و أصبحنا اليوم ما فعلته بنا الثقافة المحيطة، حتى و لو لم نشعر بذلك بعد. كل واحد منا يمتلك في فطرته نفس الأمانة الأصلية، و التي هي مركز الكينونة، و منها يتم بناء ذاتيتنا. هي مبدأ التوحيد، الذي يجب أن يكون دوما حاضرا في ذهننا، و إليها ينبغي الرجوع، ببذل مجهود، إن أردنا معرفة سر وجودنا.
نفترض أننا نحن كذلك بذرة قذفت في الحياة بنفس الطريقة التي نأتي بها إلى العالم. في أول خلية جنينية نحمل معنا معلومة، خلافا لبذرة الشجرة، نحن بحاجة إلى العلاقة مع الآخر لتطوير شعورنا، و بحاجة إلى العدو كما إلى الصديق، و بحاجة إلى الذي يرفضنا و إلى الذي يفتح ذراعيه لنا. لا يمكننا إجتناب علاقات التبادل، مهما كانت طبيعتها، بيننا و بين الآخرين، حتى يَجعل منا الذي تلقيناه، ما نحن عليه. نحن بحاجة في نفس الوقت إلى تنوع كل الكائنات لنُشيد ذاتيتنا. حتى الجنين في بطن أمه يشعر و يتعرض لإحساسات. إذا كانت أمه سعيدة فسيشعر بذلك. و بالتالي، نُعرّف الفطرة، بطريقة ما، أنها بذرة تحتوي في نفس الوقت كل المعلومة، و كل الإرادة، و كل قدرة الكائن الذي لم يتعرض لأي شيء بعد. هذه البذرة هي في أعماق كل واحد منا، حتى قبل ولادتنا. إنها عذرية النفس البشرية.
يقظة الجوارح
جوارحنا
مفاتيح ندرك بها العالم، و من تمّ نتلقى المعرفة. فهي تحدد جزئيا طريقة سلوكنا. إن
ما نلاحظه يتم تحليله و شرحه، و يُجعل منه مفاهيم، على شكل موسوعات، على ممر
القرون، ليصبح نظريات، تدرس، كونها مكتسبات. إن تصوراتنا هي مصدر تكيفاتنا. تتوقف
يقظة الجوارح على إدراك التداخلات، التي تنسج بيننا و بين العالم. و هذا يؤثر في
زيادة فطانة جوارحنا، و يجعلنا نعيش، شعور الفرد الأوحد، و أيضا بوصفنا
الواحد، الذي هو جزء من الكل.
إننا نساهم
بكل كياننا في الحي، و إننا نتألف كأي مخلوق من ماء و خلايا، و من جهاز عصبي، و
لحم، و طبعا من عناصر حية أخرى. قبل أن نعرف الموت نتلقى الحياة، و نريد الحفاظ
عليها و إطالتها، و أيضا منحها. تتجلى علينا الحياة فورا، و تتعرف علينا من خلال
الحواس أولا. بمجرد الكلام و البصر و اللمس، يظهر لنا، أننا على قيد الحياة.
يجعلنا التعاون الوثيق بين جوارحنا، في اتصال بالعالم، و من تم اكتشافه و التعرف
عليه. حول هذه النقطة، يقدم لنا الإسلام الباطني توضيحا مهما: مادامت جوارحنا هي
الأدوات الأولى لمعرفة النفس و العالم، فإنه بواسطتها ينبغي علينا، أن نتعلم،
كيفية البحث و إدراك المبدأ الذي يحرك كل شيئ. يصبح هذا ممكنا، إذا استشعرنا
الألوهية، في كل ما يرد إلينا.
فمن
الواضح، أننا، على العموم، نعتبر جوارحنا حجبا، تحول بيننا و بين العالم الخفي، في
حين أنها المنفذ الأول إليه. في الغالب، نجهل أن هذه العلاقة تتجلى في العالم
المحسوس، يوميا. و بالتالي، فإننا نعتقد أنها تقتصر على الحقائق المادية و
السطحية، و حتى الوهمية. تمر تربية اليقظة باهتداء الجوارح. في التصوف، ترتبط
تربية اليقظة بنهج الشريعة، التي لا تعني في الحقيقة، سوى الطريق الذي يؤدي إلى
النبع. فالمشكلة تكمن في التفسير الخاطئ الذي يمنح للشريعة. يُنظر إليها مجموعة من
الأحكام المرهِقة و المُقيِدة، ناسين، أنها وسيلة لتركيز جوارحنا، و إصباغها
بالروحانية، لإيصالها بالتدريج، إلى إدراك بكل لطافة، حقيقة المبدأ الأعظم. قال
أحد الصوفية:
أنظر جمالي شاهد في كل إنسان
كالماء يجري نافذ في رأس
الأغصان
تسقى بماء واحد و الزهر
ألوان
يأخذ
التصوف في نظرته إلى العلاج، بعين الإعتبار أهمية إيقاظ الجوارح، في شفاء النفس
البشرية. من الممكن ملاحظة لدى مريض، فقدان بعض الحواس أو اضطرابها. كيف يستطيع
المعالج أن يعلم المريض، أن يعلمه من جديد السمع و البصر و الإدراك و اللمس؟ يبدو
أن تحويل الجوارح، من أولويات المسيرة العلاجية. و لكن ماهي العلاقة بين الجوارح و
الحي؟ على سبيل المثال، عندما نتناول الماء و نشربه، فمن أجل أن نرتوي، و لكن إذا
استشعرنا في فعلنا و تحققنا بأن الماء حي، و أننا أحياء، و بحاجة لبعضنا البعض،
لوجود الحياة و استمرارها، سيكون الحي موجودا في كل ما نقوم به. حين نشرب و نأكل
باسم الله، نصبغ أفعالنا بالشعور، و نغذي في آن واحد، جسدنا المادي و جسدنا
الروحي.
القراءة بالمشاعر
كيف نُجنب
العقل، كي لا ينغلق في تصورات ذهنية مميتة أو إيديولوجية طائفية، تلعب على
العاطفة، و تسبب هذيان روحي؟ بمعرفتنا لهشاشة المشاعر الإنسانية، التي غالبا ما
تريد أن تتزاوج بحقائق جاهزة، و تتبنى سلوكا مُقلد و دنيئ، فإن التعليم التقليدي
يقترح في هذا البحث عن الذات، عدم التوقف عند القراءات بالجوارح أو بالعقل، و إنما
السعي دوما، بالتجرد و التأمل و اتخاذ المشاعر، في العمق في العلاقة مع الفطرة.
تاريخيا، تلقى النبي صلى الله عليه و سلم، في بدايته الوحي في غار حراء، بجبل النور،
الذي يعلو مكة، و هو المكان الذي اعتاد أن يقوم بخلواته به.
الخلوة،
هي إعداد مقابلة، النفس مع المولى عز و جل. يجد الذاكر نفسه منقطع عن أي إثارة، و
أمام إمتحان: كيف يمزق الحجب و يذهب المخاوف و الشكوك، و يولَد من جديد، و يوحِّد
الحقائق العديدة التي تزعجه و تسأله، اتجاه الحقيقة الوحدوية، التي تسكّن نفسه و
تقويها.
و مفهوم الغار يأخذ هنا بعدا، غير الذي يأخذه عادة. يتعلق الأمر بالمركز الذي يتم التلقين فيه، الغار في قلب الجبل، كما الفطرة موجودة في قلب الكائن. و هو المكان الذي يقوم عادة السالك فيه بالإنفصال عن العالم و الإعتزال، ليعود إلى ذاته و يسمو فوق المكان و الزمان، لا يشغله شيئ سوى الله. و في هذا الحين يصبح الغار قبرا للأنا و رحماً لميلاد الكائن الجديد. كل الديانات ظهرت
في الخلوات. لم تظهر اليهودية في كنس، و لكن عند لقاء موسى عليه السلام بالله عز
وجل، لما آنس نارا، و تلقى الألواح بجبل طور. أما بالنسبة للمسيحية، فهي أيضا لم
ترى النور في كنيسة أو كاتدرائية، و لكن أثناء الخلوة التي بها سيدنا عيسى عليه
السلام في الصحراء. أما البوذية، فولدت مع الأمير سيدهارثا(1)، تحت شجرة بودي، التي ترمز إلى المعرفة
المنجية، التي تحرر الإنسان من أوهامه. و أخير الإسلام، حيث بدأ نزول القرآن
الكريم، على سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم، بغار.
قال الله
تعالى "إقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. إقرأ و ربك الأكرم. الذي
علم بالقلم". سورة العلق. الآيات من 1 إلى 4.
جاء إيعاز الآية الأولى، وخصص
"بـ" ربك، بالباء، و ليس باسم الرب، لأن القراءة تصبح وحي منه إلينا. في
هذا الصدد، يقول سيدي أبو مدين (1126- 1198) في إحدى حكمه "اللهم فهمنا عنك، فإنا لا نفهم عنك
إلا بك". و أوضح الشيخ العلاوي "هذا المقام من أشرف المقامات عند
العارفين، خصوصا الدالين على الله، و هو المسمى عندهم بوحي إلهام... و بسبب فهمه
عن الله، ينزل الأشياء منازلها، و يوفي الأوقات مستحقاتها. و هذه السيرة هي
الفطانة".
و هذا شرط حتى يقوم الإنسان
بتجربة وحي الإلهام، و يصبح القناة التي تبين معرفة جوهر الحقيقة. قراءة الحياة به، ليس
نفيا للذات، بل بالعكس إثباتها بالكلية، و لكن به. كانت من قبل، إثبات مؤسس بوجود
الجوارح و العقل، اللذين ليسا سوى إدراكات محدودة، بقدر ما نملكه من الأنا الصغير.
و من الآن فصاعدا، ستفتح على الكوني، و سينبني إستشعارنا بالحياة على الحقيقة
نفسها. قال علي ابن أبي طالب "لا يعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف
أهله".
حتى الأفكار و النظريات الأكثر
حذقا، تبقى عاجزة عن الإلمام بالحقيقة الإلهية. بالمقابل، فإن القراءة الروحية،
تكون به، بـ"ربك"، عندما يكون هو نفسه الذي يتصرف فينا. تعني هذه
القراءة الباطنية أيضا، تحصيل ضمير، أكثر فطانة، و أكثر تطلبا، و أكثر جمالا و
أكثر كونية. عندما نقول قبل كل وجبة، الكلمة المقدسة "بسم الله"، نقولها
في الغالب، إعتياديا، بدون معرفة مغزاها. و الأمر سيان بالنسبة للعديد من السلوكات
الدينية، التي تبنت بتقليد محض، بعيدا عن أي اعتبار للمعنى العميق للشعائر. تشهد
هذه الحالة، أنه على الأرجح، أن التمرير لم يكن مضمونا، فلأن محتواه الروحي قد ضاع،
و يستوجب إعادة اكتشافه. لكي نعيش كينونات ما تتضمنه هذه الشعائر، يجب علينا
المرور بالتدريج، بالمستويات الثلاث للإدراك: الذي للجوارح، ثم بالعقل، و أخيرا
الوصول إلى القراءة بالفكر الأعظم "بربك".
توجد استمرارية بين القراءات
الثلاث، لهذا فإن نجاح الواحدة يتوقف على الأخرى. و إذا أخذنا هذا الأمر بعين
الإعتبار، فإننا سنحترم الحي في كليته، و أيضا يجب أن نعترف بوجود هذا الإسم
الإلهي فينا، أو نتقبل إمكانية قراءة ثالثة، و ننتقل إلى مرحلة وحي الإلهام، أو
أننا سننغلق في القراءة الأولى أو الثانية، و لن نعرف أبدا التجربة الوحدوية للحي
الحاضر فينا.
في كل مرحلة من المراحل، نتعرض
لبقايا أوهام، فنحن لا نعي بأن جوارحنا، كما هو العقل، هي إدراكات
معرفية محدودة. في المرحلة الثالثة تزول كل الأوهام، وتجري هذه المرحلة في تجانس و
سلام، به. عندما تفهم الروح عن الله، يستطيع الإنسان الوصول إلى نفسه.
رسالتنا الأمل
طريقنا السلام
إختيارنا العيش معا
يمكننا أن نطول في الشرح، و لكن
ما ينبغي لنا اليوم، هو التصرف. كيف يمكن أن نوظف معا، قواتنا و سلطاتنا و معارفنا
و أصولنا و إراداتنا؟ إذا لم يكن استثمارنا في مشروع، و القيام بتحد، و هو بناء
دار السلام، قواعدها هي في المقام الأول، ثقافة السلام.
باستطاعتنا:
بعمل مواطنة و شحذ التفكير المشترك،
واضعين ضمائرنا في تآزر، نقوم بإبراز فضائل و خصال كل واحد وواحدة، لتعزيز إنسانية،
بثقافة الصلة، و المواطنة المشبعة بالقيم الأساسية للعيش معا.
بناء الجسور. بتعبئة الشبيبة،
مستقبلنا في الغد، و دعوتها لنشر رسالة العيش معا، على المستوى العالمي، بواسطة
شبكات التواصل الإجتماعي، نقوم بتشجيع تبادل الأفكار البناءة، و نقل المهارات، من
أجل توريث رسالة أمل، و اتخاذ أسوة: العيش معا و العمل معا.
اقتناعا منا، بأن التنمية
المستدامة، تشجع السلام المستدام، فإننا ننظم أرضية حول البيئة، مشجعين
الحوار مع كل الجهات الفاعلة للبيئة. إبراز الصلة و الترابط الموجود بين الإنسان و
الطبيعة. دعوة الناس لإبلاغ، و تثقيف و تشجيع، الممارسات المبتكرة، من أجل رؤية
جديدة، من الممارسات الإقتصادية، تصبو إلى خدمة الإنسان، بدون الإضرار بتوازن
النُظم الإيكولوجية للكوكب.
دعوة للإغتراف في التراث المشترك
للحِكم الإنسانية، من أجل قراءة تاريخية، تبرز إسهاماتها في السلام و المحبة و
خدمة القريب. إعادة مراجعة النصوص المقدسة، و تسليط الضوء على طابعها العالمي.
التشجيع أيضا، المصالحة بين ثقافات و تقاليد العائلة الإنسانية، مع رعاية روحانية
حية، تمنح معنى للحياة.
جني المعرفة من خلال الفن و
الموسيقى، و المحافظة على التراث، و التعريف بتنوع هذه الترواث، و إيصالها إلى
الأجيال القادمة، حتى تعرف و تتمتع بالعبقرية العالمية للبشرية.
تشجيع المساواة و التناغم
بين الجنسين. لنتذكر أن بإضاءات الطاقة الأنثوية، التي تحمل في جوهرها السلام،
يمكن أن تتحقق المصالحة رجل- إمرأة، و يتكاملا في الوحدة و المساواة و التوصيل.
تشجيع معمار ذو محيا إنساني،
مبني على مفهوم العيش معا بشكل أفضل. خلق تصنيفات، و تعزيز بناء منازل و فيلات و
مدن، تعتمد على مفاهيم مبتكرة و بيئية، مع الحفاظ على التراث المعماري و المدني
الخاص بكل ثقافة، لأنسنة الحياة في المدينة.
الشيخ خالد بن تونس، عند الإنتهاء من خطبته.
إنشاء أكاديمية السلام،
باستطاعتها تشريع و تعليم بيداغوجيا، و طرق بديلة، من أجل تطوير ثقافة السلام،
داخل جميع أطياف المجتمع. و باسطاعتها أيضا، توحيد المبادرات التي تعمل في هذا الإتجاه،
و تمنح كل عام، جائزة دولية، لعمل أفضل تربية، تصبو
إلى العيش معا و ثقافة السلام.
تتخللنا هذه الثقافة في وقت
مبكر جدا. خلال مرحلتي الطفولة و المراهقة، و أطلب أيضا من الأمهات، اللواتي يلدن
الأمم و الشعوب، أن يرضعن أولادهن حليبا ممزوجا بثقافة السلام. و يقولن لهم، أن
مستقبل الإنسانية لا يمكن تصوره، إذا لم نترابط ببعضنا البعض. و لتسكن هذه الطاقة
قلوبنا، رغم ما يكتنفنا من تعارض و اختلاف. لنقوم باستعمال هذه الطاقة، و نسخرها
لصالح أنفسنا، و لصالح الآخرين. يوجد قاسم مشترك، ينبغي أن نعيه، و نكون شاهدين
عليه، و هو رسالة ثقافة السلام.
حاولنا على قدر مستطاع، تنظيم
هذا المؤتمر الرائع، و أشكركم كلكم، بدون إستثناء، و أبدأ بكل الذين أتوا من
الأركان الأربعة للعالم، و الذين ألقوا كلمة، و الذين سيلقونها من بعد. أشكر أيضا
المنظمين، الذين ناضلوا طوال سنة و نصف السنة، لإعداد هذا المؤتمر، و أشكر أيضا
سلطات هذا البلد، و رئيس الجمهورية، و الوزراء الذين حضروا معنا الإفتتاح. و أشكر
أيضا الجهات المانحة السخية. أنتم تعلمون، لولاهم لماَ أمكن إقامة هذا المؤتمر.
الكثيرون وضعوا ثقتهم فينا، رجالا و نساءا، و أتونا من كل مكان، من أوروبا و
أمريكا و الشرق الأوسط و آسيا و أفريقيا... أشكرهم كلهم بدون إستثناء. ليس لي سوى
القليل من الوقت لأمنحهم لكم، أصدقائي الأعزاء، و لكن اعلموا أن من أعماق فؤادي
أشكركم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). الأمير سيدهارثا،
هو الإسم الحقيقي لغوتاما بوذا، مؤسس الديانة البوذية. و تعني كلمة بودا المتنور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق