جريد ة لوموند، 03 08 2010 للكاتب هنري لنك.
الشيخ خالد بن تونس
كانت الرائحة مدوخة، رائحة البخور القوية، الممتزجة برائحة الحلوى العسلية و الشاي بالنعناع و أطباق التمر و أباريق الحليب التي كانت تتجول مابين الصفوف. كانت مدوخة كذلك الأنشاد و الصلوات و الأذكار و الإبتهالات إلى الله دون كلل، و هو ما ضل على مدى أكثر من ألف عام يربط المتصوف المؤمن بأسياده المتزهدين. كان الحضور يرددون مائة مرة نفس الشهادة " الله هو الله محمد رسول الله "، مائة مرة نفس الإستغفار، مرة سورة الواقعة، مائة مرة نفس الحمد و الشكر: " لله الحمد على أن هداني للطريق المستقيم ..." و في كل مائة، كان المقدّم يرفع المسبحة التي تتيح العد الروحاني و يعطي إشارة لتغيير الآية . و من حين لآخر كان يبلل شفتيه المتعبتين بقليل من الماء.
قبالته كان عشرات من الفقراء بجلابيبهم البيضاء – العباءات الجزائرية- متسمرين في صلواتهم، فيما الأطفال في الصفوف الأولى، يليهم الأكبر سنا ملتصقين بالحائط؛ أما النساء كن متواريات خلف مشربيتاهن. نظرات مذهولة و أيادي معقودة أمام الوجه أو على الصدر، أجساد ساجدة و راكعة و منحنية، كما لو كانت في باليه ميكانيكي. الفقراء ( فقراء بين يدي الله ) بمعنى الكلمة. يقول الرسول صلى الله عليه و سلم: " من تواضع لله رفعه ". ثم يستأنفون صلواتهم بقيادة أحد المنشدين: " إلهي إرض عني... إلهي إحميني من نفسي...من أحب الله و لم يحب رسوله، كيف يمكنه معرفته؟ "، ثم يعطي المقدّم الإشارة بالنشيد الأخير، ويطوي المصحف الكبير ذا الزخارف المذهبة. ينتهي الجمع ( حفل الصلوات و الأنشاد الصوفية، فينهض المشاركون و يتعانقون، قبل مغادرة المسجد. كل يوم جمعة تشهد زاوية مستغانم، في الغرب الجزائري، نفس الإحتفالية. الزاوية هي معبد الجماعة الصوفية بأكملها. و معنى الكلمة ( الملاذ )، أي مكان للصلاة و التأمل مفتوح في وجه كل من يود أن يجد لنفسه ظلة أو شيئا من الهدوء، أو أن يتصالح مع نفسه و أن يسوي خلافا. الزاوية تعني أيضا ( الركن ) الذي يلتقي فيه الروحي و الدنيوي، اللذان يتعايشان في الإسلام. تنتصب فوق زاوية مستغانم منارة باللونين الرملي و الأزرق، و هي توجد في قلب تيجديت، الحي الشعبي للمدينة، و شهدت في نوفمبر 1949 ميلاد خالد بن تونس، الإبن الأكبر لعائلة تضم أربعة عشر طفلا. و هو الآن السيد الروحي – الشيخ - الرابع و الأربعون لواحدة من أهم الجماعات الصوفية في العالم الإسلامي. إذ تعد عشرات الآلاف من المريدين في كل من الجزائر و المغرب و الشرق الأوسط و فرنسا، إلخ.
و هو مولود جديد، حمله أبواه على أطرف اليدين – كما يقضي بذلك التقليد في مرتفعات الظهرة حتى معسكر- في اتجاه مستغانم، المدينة الروحانية ذات ( العطور الزكية )، كما يدل على ذلك الجذران ( مسك ) و ( غانم ). تلقى خالد تعليمه الأصيل في المدرسة الصغيرة للزاوية، حيث درس القرآن الكريم و الشعر و النحو العربي، إلى جانب قليل من علوم الدين. و فيها ترعرع و تابع عن بعد مراحل حرب التحرير، كما ثار ضد مصير الدواوير التي مسحها الجيش من على الخريطة و حوّلها إلى أحياء هامشية. و يتذكر الشيخ فيقول : " كنا نتسلى بإلقاء الحجارة كانت بالنسبة لنا بمثابة إنتفاضة ". و في يوليو 1962، كان أول من رفع الراية الجزائرية فوق عمدية المدينة.
كانت مستغانم في شبه عرس، لكن على متن المراكب الصغيرة التي كانت تغادر الميناء، كان الشاب المراهق مغتما و هو يراقب الأروبيين يغادرون مع أثاثهم و لوحاتهم و كتبهم. إنه يؤمن بخطاب الجزائر الجديدة و بالغد المغرد، لكن أساتذته، الجزائريين منهم و المتعاونين، وضعوا بين يديه كتاب رأس المال لكارل ماركس و الشيطان و الإله لجان بول سارتر، في ظل الخواء الثقافي. احتج عمه قائلا: " هذا إلحاد " فرد عليه الشيخ المهدي ، أب خالد الشاب، " لا تقلق إنهم بصدد تلقيحه ". إلا أن الأمور أخذت منحى سلبيا. ففي أعقاب الإنقلاب الذي قام به هواري بومدين سنة 1965، اعتقل في فبرابر 1970 بمستغانم المهدي بن تونس، الذي كان وقتها ( شيخ ) و سيد الطريقة ( الجماعة ) العلاوية – نسبة إلى مؤسسها أحمد العلاوي ( 1869-1934 ) -، و وضع قي مكان سري تحت الإقامة الجبرية، في الطرف الآخر من البلاد.
بالنسبة لابنه خالد كان ذلك بمثابة عماد النار، اذ كان أبوه واحدا من أشد المناهضين للإيديولوجية الإشتراكية التي أتى بها النظام الجديد: " في وقت كانت فيه الجزائر بكاملها تلوذ بالصمت، كان هو يجرؤ على التكلم و التحدث بكل قوة في المساجد" . كانت ( جريمته ) أنه أراد تأسيس منظمة للشبيبة الصوفية. فتم تأميم أراضي زاوية مستغانم و مدارسها، و هاجم إصلاحيو الجزائر الجديدة إسلاما صوفيا كان يعتبر وقتها كقلعة للنزعة الإسلامية المحافظة. فأي خطأ في حق التاريخ، يقول بتنهد بن تونس الشاب، كي يرث الإسلام الدموي للتسعينات تلك الحقبة التي أرادت أن تفرض علمنة المجتمع بأكمله، و التي قامت في الواقع باجتتات شباب بكامله، حارمة إياه من تعليم ديني معتدل و من أي موروث مقدس، و كذا من التقاليد و التربية الصوفيين و من رموز الأولياء كما لا تزال تشهد بذلك كثرة الأضرحة التي تحيط بمستغانم.
غيّبت يد المنون القاسية والده في سن السابعة و الأربعين؛ كان ذلك في أبريل 1975. و كان الشاب خالد قد " قرر هجرة بلده بشكل نهائي " ليدير محلات لتجارة الألبسة في باريس. فحل بشكل مفاجئ بالجزائر لحضور عملية الدفن. كان شعره طويلا و كان يرتدي سروال دجينز و سترة جلدية. لكن الحدث نزل عليه كالصاعقة: بمجرد انتهاء الحفل التأبيني، استدعاه مجلس حكماء الجماعة إلى الضريح، ثم قام كل واحد منهم، رسميا، بإعادة مسبحته إلى الشاب اليتيم و مد إليه يده في إشارة لتجديد ( التعلق ) الذي كانوا أعلنوه أمام والده الراحل.
بتعبير آخر، جعلوا من خالد بن تونس و هو في سن الخامسة و العشرين، و دون استشارته، شيخهم الجديد. استثاره الأمر، فتذرع بقصور كفاءته، قاوم الدموع و السهاد. لكن بعد ثلاثة أشهر، استسلم و قبل أن يخلف الشيخين العلاويين المشهورين، عدة و المهدي، الذين مازالت الجماعة تردد كل يوم سيرتهما و أفضالهما. على بعد بضعة كيلومترات من مركز مستغانم، يعج وادي البساتين بشجر البرتقال و الرّمان، و تمتد على مرأى العين حقوله الملأى بنبات الوزال الأبيض. وتتباهى النافورات وسط الساحة الداخلية لإقامة شيدت على الطراز الموريسكي، بفسيفساء زرقاء و خضراء منحوتة يدويا، كان الشيخ خالد قد أمر ببنائها كمكان خلوة لأصدقائه و لكافة ( الساعين إلى الله ). و في تلك الإقامة، نطق صالح، و هو طبيب بأحد مستشفيات الجزائر العاصمة، بعبارات عودته للطريق. كان ابن أحد أصحاب الجماعة القدامى، و كان قد عاش عيشة هنية. يحكي هذا الخير قائلا: " كنت أود البرهنة على أن السمكة يمكنها أن تعيش خارج الماء. لكن، عندما تشملك الرعاية الربانية، فلا مجال للهروب ". عاد صالح إلى كتبه و كتابات والده و إلى دراسته على طريق التصوف. و في يوم من الأيام، إلتقى الشيخ خالد الشاب. يتابع صالح حديثه قائلا: " تغيرت حياتي في جزء من الثانية. أفهمني أن الله هو الحي، و أن علي أن أتخلى، كما فعل هو، عن كل ما كان قد مات بداخلي ".
من غير الممكن للمرء أن يفهم العلم الروحاني للصوفية دون الإمساك بمفتاح هذه العلاقة الفريدة، التي تكاد تصل إلى حد الإفتتان، و التي تربط الشيخ بكل واحد من مريديه. معظمهم هؤلاء ورثوا عن أبائهم تنشئة على الطريقة الصوفية. آخرون يأتون بعد أزمة داخلية عميقة تلّم بهم. لكن جميع الفقراء يتحدثون عن شيخهم كما لو كان فردا من أفراد أسرتهم و جزء من عملهم و من كل لحظة من لحظات حياتهم. يحكي رابح فيقول: " عندما رأيته للمرة الأولى، فكأني رأيت النبي شخصيا ". أما منير، فيسرّ في انتشاء: " لقد نقل إلي شيئا من كوكب آخر ". و حتى على الهاتف، كانوا ( يرونه ) كما لو كان أمامهم. فخلف شخصه، يكون الشيخ دائما حاضرا؛ لا يموت أبدا. إنه تجسيد لتربية تُتوارث جيلا عن جيل منذ أيام الرسول صلى الله عليه و سلم و صهره و ابن عمه علي كرم الله وجهه. و كما جاء في الحديث الشريف: " اعبد الله كأنك تراه، اذ لم تكن تراه فإنه يراك ".
ابتسم خالد بن تونس بهدوء أمام هذا التفاني. فهو يعيش عيشة إنسان عادي، دون تزهد خاص. لباسه على الطريقة الأروبية، دائم السفر، يعيش بين سياحتين ( زيارات تكون أحيانا بعيدة إلى المؤمنين )، و بين خلوتي وعظ ( خلوة روحية) وبين مسألتين يتعين حلهما. نجده يوما في باريس، يلقي محاضرة في جمع من القضاة، وفي التالي نجده في جلسة حوار فوق منصة مع مدير المركز الوطني للبحث العلمي. قال محذرا: " التكنولوجية من دون روحانيات سوف تقضي على الإنسانية ". إلتقى أفرادا من الكشفية الإسلامية و شارك في حفل للأطفال بمناسبة المولد النبوي، و هو ما كان النظام السابق يسعى إلى منعه. خطابه تجاه الجميع هو نفسه، ( تربية التيقظ ) هذه عزيزة على المتصوفة، و المراد منها توجيه ( مقدرات ) المريد و ( طاقاته )، شابا كان أم كهلا، نحو فيض من الوعي الكوني.
تتحرك النفوس، بما في ذلك داخل الجزائر الصاخبة، حيث تشهد الجماعات طفرة جديدة. الشيخ مقتنع بالنهج الحداثي لهذه الطريقة التي تجتذب المزيد من الناس نحو زاوية مستغانم: طلبة و أساتذة و علماء و مفكرين و مسؤولين سياسيين. طريقة تبدو في الظاهر طوباوية، لكنها تتخذ لها كـ ( دعامة )قدسية ( الحياة ). يقول الشيخ بحدّة: " من قتل نفسا بغير حق، كمن قتل الناس جميعا ". من الممكن تقديس الجدران و الحجارة، سواء في القدس أو غيرها، لكن ليس على حساب الدم.
إذا كان كل مخلوق مقدّس، فاحترام الجميع واجب. نحن بعيدون عن الدوغماتية الإسلامية. و يؤكد خالد في هذا الصدد: " ليست الحقيقة ملكا لأحد، نحن نرفض كل تقسيم فج بين من هو على صواب و من هو على خطأ، بين المؤمن و الكافر. في كل إنسان، ثمة فطرة أصلية. و التربية هي التي تجعل منه ما هو عليه. نحن لا نحكم عليه مسبقا و لا ندينه ". الصوفية مدرسة للتسامح و التواضع: " كل الأديان كعقد اللؤلؤ يربط بين أجزائه نفس الخيط الرباني ". و سئل الشيخ في جلسة نقاش عام بغرض نصب فخ له: " لكن هل للمسلم الحقيقي الحق في التحدث مع الشيطان؟ أ ليس عليه واجب الجهاد؟ " فأجاب بأن كلمة الجهاد، قبل ترجمتها إلى ( حرب مقدسّة )، فهي تعني مجاهدة النفس. و يضيف قائلا في تقوى: " خيمة إبراهيم كانت دائما مفتوحة للأجنبي ".
فإذا لم يكن المريد كاهنا منعزلا عن العالم، تكون كل لحظة من لحظات حياته ( مستنيرة ) بوجود الرحمن، إسم آخر من أسماء الله الحسنى. و هكذا نقرأ بالخط العربي على جدران مدرسة زاوية مستغانم، حيث يمكن تعليم كل طفل بحرية و بدون تفرقة، حديثا للرسول صلى الله عليه و سلم: " ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء ".أي بعبارة أخرى، إن حب ما هو رباني يمر عبر حب ما هو أرضي. كان الشيخ العلاوي، مؤسس الجماعة يقول: " إذا لم تجدوا الله بين البشر، فلن تجدوه في أي مكان ". و كان الشيخ عدة، صهره و خليفته، و الشاعر الكبير و النحوي و المتفقه، يخرج المنحرفين من سجن مستغانم لكي يعلمهم مهن الخبازة و الميكانيكا. و يؤكد الشيخ الحالي للجماعة العلاوية بابتسامة مهدئة: " لسنا ندّعي القدرة على تغيير العالم، لكن بإمكاننا تحسين عالمنا الداخلي ". لكنه مقتنع كأسلافه بأن روح التويزة ( التضامن الإجتماعي ) هذه هي أفضل الإسلام. فهو لم يقل غير ذلك للشاب الضائع في الضواحي، كما فعل ذات يوم سبت بغونيس في الضاحية الباريسية، رادعا إياهم عن أي انجرار إلى التمرد و إلى العنف باسم الإسلام الذي لا يعرفونه جيدا. قال مستفزا إياهم: "انظروا إلى أخواتكم و إلى إخوانكم الذين يتقاتلون و يتعاطون المخدرات. فلسطينكم و أفغانستانكم يوجدان هنا فيما بينهم ".
من بين المنابر التي يكتب فيها الشيخ خالد بن تونس ( شهادات مسيحية )، ( أخبار الأديان )، ( بانوراما )، ( إسلام فرنسا )...هو يكتب مقالات متنوعة حول مواضيع تتعلق بالإسلام و التصوف و الروحانيات، لكن يكتب أيضا عن الإيكولوجيا و دور المرأة وشتى المواضيع المجتمعة. و منذ أبريل 2000 و هو يشارك ككاتب في لجنة تحكيم جائزة الروحانيات التي منحت للمرة الأولى لقداسة الدلاي لاما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق