من أجل إسلام السلام لعام 2000

من أجل إسلام السلام


    خطبة الشيخ خالد بن تونس في الندوة الدولية "لقاء بين الإسلام والغرب"، نظمته جمعية "أراضي أوروبا"، برعاية اليونسكو، في باريس، يومي 12 و 13 يناير 2000.


1 - المقدمة: المستقبل المشترك، أو نهج الأمل.

   جاءت بادرة الندوة الدولية "من أجل إسلام السلام"، بسبب القلق الذي ينتابنا إزاء الأحداث المؤلمة التي تقع في الجزائر وغيرها. ونتيجة توترات القلق إزاء الخلط الكبير السائد حول مسألة، ما علاقة الإسلام بالإسلاموية، التي تضفي الشرعية على الإرهاب باسم الدين؟ لم تُدحَض هذه الحالة من القلق والارتباك، بل ازدادت في أعقاب الأحداث المأساوية التي نشهدها اليوم. من الواضح أننا ما زلنا غير قادرين على إيقاع التمييز بين الرسالة الدينية والروحية التي تلقاها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بين سنتي 609 و 632، والسياق السياسي والاجتماعي الذي يعيش فيه المجتمع الإسلامي، في فجر القرن الحادي والعشرين.

    إذا لم يتم فعل شيء، للفصل و تحليل المسائل السياسية والاقتصادية والعلاقات بين المجتمعات العربية -المسلمة والغربية، سيؤدي ذلك إلى ظهور تخوفات متنامية وسوء فهم متزايد، يضر الجميع.

    ومع ذلك يوجد في الإسلام بُعد سلام، بُعد روحاني، بُعد أنسي مجهول، وثراء استثنائي، كثير من معاصرينا يشككون في وجوده، مُشربة عقولهم بصور العنف، التي للأسف، تعبر العالم الإسلامي في زماننا. إن التغطية الإعلامية المفرطة للإسلام الأصولي، على وجه الخصوص، من قبل وسائل إعلام غربية تقودنا إلى طريق مسدود، وإلى إخفاء البعد الحقيقي والعالمي للرسالة المحمدية. غالبية الرأي الغربي، عندما سئلت عن الإسلام، أجابت بصفة غير متمايزة، أن هذا الدين غير متسامح وأصولي وعنيف.

    في هذا السياق، كيف نتفاجأ من شعور المسلمين، أنهم غير مرغوب فيهم، في حضن المجتمع الدولي، بينما أغلبيتهم (حوالي مليار ونصف المليار) تطمح للعيش في سلام مع بقية العالم؟ ولئن استمع إليهم وتم تفهمهم، ومدت يد العون لهم، حتى يتمكنوا من القيام بدورهم، بشكل كامل، ويحتلون مكانتهم التي يستحقونها، ضمن الأمم المعاصرة في القرن الحادي والعشرين.


2 - الطريق الوسط

     من الآن، نحن مضطرون لإبداء ملاحظة صعبة، سوف يتذكر التاريخ أننا جميعًا أهملنا الطريق الوسط وطريق الحكمة، التي تدعو الناس إلى الأخوة والعمل، لتحقيق العدالة والتسامح، والتعاون المتبادل بين الدول. دون أن ننسى الكرامة والازدهار لجميع الشعوب. إنها الطريق الوسط التي يدعونا إليها القرآن الكريم، عندما يقول "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا". الآية 143، من سورة البقرة. نحن شهود ومرايا لبعضنا البعض، بأفكارنا وكلماتنا وأعمالنا الإيجابية أو السلبية في الدنيا. وفي هذا الصدد، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم"(1). منذ بداية انتشار الإسلام، نُصب التركيز على جودة السلوك البشري، وليس على التطبيق الصارم للرسالة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات". يروي وابصة ابن معبد الأسدي، قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لَا أَدَعَ شَيْئًا مِنَ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي عِصَابَةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْتَفْتُونَهُ، فَجَعَلْتُ أَتَخَطَّاهُمْ، فَقَالُوا: إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: دَعُونِي أَدْنُو مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ قَالَ: "دَعُوا وَابِصَة، ادْنُ يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ لنَّاسُ وَأَفْتَوْكَ ثَلَاثًا"(2).


3 – الدين والسياسة

    لذلك، إن الاهتمام المتزايد في هذه الأوقات بالإسلام يتطلب توضيحات مناسبة ولازمة.

    إن  العلاقة بين الجانبين الديني والسياسي غير محددة بشكل جيد، ويساء تفسيرها. إذا قمنا بتحليل واضح، بدون تحيز، ماذا سنجد؟

     إن الإسلام موجود لتنوير وتعليم وإيقاظ ضمير الفرد، والمواطن ليقوم بدور نشط ومفيد في خدمة الجميع، وليس ليصبح عنصرا مدمرا لنفسه وللغير، باسم حقيقة يدعي امتلاكها. ويساعد الإنسان على تصور المجتمع البشري بإيجاب.

     يكمل الجانبان السياسي والديني بعضهما البعض، ويجتمعان في التربية المدنية للفرد. إذا كانت السياسة هي إدارة مدينة الناس، فالروحانية هي إدارة مدينتنا الباطنية. تلزمنا سلوك طريق الخير والوحدة والأخوة. لا تهدف إلى اقصاء البعد السياسي، هدفها بالعكس، إعطاءه معنى وإضفاء طابع الإنسانية عليه. في الواقع، كلما تسامت روحانيتنا وانفتح عقلنا واتسع مجال ضميرنا، كلما زادت قدرتنا على مراعاة الاحتياجات البشرية المختلفة، وثبتت محاربة الظلم.

    اليوم، من الواضح أن الدول التي تتبنى إسلاما أكثر إيديولوجيا مما يبدو روحيا، قد عكست المسألة. يتم التركيز على المبادئ الدينية، ويستثنى ضمير الفرد. كل إجراءاتها مرهونة بدوغماتية(3)، قيدت بذلك ضمير الفرد في غُلّ. انتهك ضمير المواطن. وأي جهد للتفكير والتفسير تم رفضه. أصبح المواطن غير قادر على المبادرة. في مقابل كل مسألة توجد إجابة جاهزة. يجب عليه أن يكتفي بالانصياع لمؤسسة رسمية "مؤدلجة"، قائمة لخدمة حكام عديمي الضمير. كل تجربة ترّقِ فردية أُنكرت.

    تغلق هذه العملية المجتمع في اضطراب عصبي جماعي، يبرر جميع الانحرافات، وجميع التجاوزات.


4 – قدسية الحياة

    يطرأ خلط كبير أخر، فبواقع أعمال المتشددين، يُقدَم الإسلام على أنه دين، يبدو لا يمنح حرمة للحياة، كما لو أن الوجود البشري ليس له قيمة. على العكس من ذلك، إذا رجعنا إلى مصادر التعليم المحمدي، نرى أن الإسلام أعطى مكانة معتبرة لحياة الكائن، كضمير، وأيضا لجميع المخلوقات. يدعونا القرآن عبر العديد من الآيات إلى اعتبار حرمة الحياة، "من قتل نفسا... كأنما قتل الناس جميعا". الآية 32 من سورة المائدة. حتى في الصراع، لا يسمح بإيذاء المسنين والنساء والأطفال ورجال الدين، وتجفيف الينابيع وقطع الأشجار وقتل الحيوانات وحرق الممتلكات.

    بالعكس، فإنه يوصى باحترام السجناء. في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان بإمكان هؤلاء شراء حياتهم بتعليم الأميين القراءة والكتابة. عند حدوث الفتن أوصى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالسلوكات الواجب القيام بها، فقد روى أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قوله "إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتن، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه. قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينجو إن استطاع النجا. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال :يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار".(4).

    وفي حديث سعد ابن أبي وقاص أضاف، قلت: يا رسول الله إن دخل علي بيتي، وبسط يده إلي ليقتلني، قال، فقال رسول الله "كن كخيري ابني آدم"، وتلا هذه الآية "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين". الآية 28 من سورة المائدة.(5).


5 – العقل كنُورِ

    قال علي صنو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليفة المسلمين الرابع "الروح حياة البدن، والعقل حياة الروح". منذ بداية الإسلام، كان دور العقل دورا قياديا. نزلت أولى الآيات القرآنية على محمد صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم". الآيات من 1 إلى 5، من سورة العلق.

    يتوجه تعليم هذه الآيات في المقام الأول إلى العقل، كعنصر استشعاري أساسي في الإنسان. تشكل القراءة والتعليمة جزء من القواعد، التي تعطي للعقل الأدوات، التي يتعرف من خلالها على ذاتيته. ومن خلال هذه المعرفة ينكشف لذاتيته، ويكتشف طبيعة وعواقب سلوكه. عندها، يكتمل مفهوم الدين، في كونه في الآن نفسه، صلة (قراءة ثانية) مع المطلق، وقراءة ثانية للآيات الربانية في أنفسنا ومن خلال الخليقة... هذا النص موجه للإنسان الموهوب الذكاء، والذي لفظاظته، يكشف الخفي، ويبيح أسرار الخليقة، التي فهم من خلالها علاقة الشرائع الأساسية، التي تحكم الحياة. وبالتالي، منذ بداية الإسلام، اتخذ العقل مكانة أساسية.

     تبرز الشريعة العقل، باعتباره العنصر الضروري لتحديد المسؤولية. علاوة على ذلك، شدد مؤسسو المدارس الفقهية في الإسلام على قيمة المعايير العقلانية، حتى لا تقرأ أو تطبق نصوص الشريعة، بدون تفكير مسبق. لذلك أسسوا الرأي كقاعدة للإجماع، لتوحيد الأراء، والقياس وسيلة المقارنة، والاجتهاد الذي يدعو إلى البحث والتفكير، لتلبية الاحتياجات المتغيرة للمجتمع. هذه المذاهب المختلفة التي تواجدت في العالم الإسلامي، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم، سمحت منذ البداية بازدهار الفكر وانفتاحه وتكييفه خلال العصر الذهبي للحضارة الإسلامية. لا عالم مهما بلغت مكانته، يستطيع أن يفرض أراءه على مجموع الأمة. شكل تنوع وجهات النظر والمذاهب الفقهية ثراء الفكر الإسلامي، الذي كانت قاعدته الذهبية "لا إكراه في الدين". الآية 256، من سورة البقرة. كيف أمكن، أن في القرن الثالث الهجري، في عاصمة العالم الإسلامي، بغداد، تمكنت الاتجاهات المختلفة، من أصحاب الرأي والفقهاء والمتصوفة، أن تتعايش وتتبادل وتتناقش بكل حرية؟ كان بيت الحكمة مفتوح للجميع، للفلاسفة المسلمين، والإغريق (أنصار نظرية أرسطو)، وأيضا لفلاسفة الفكر اليهودي والمسيحي، والزرادشيين وغيرهم. كان يمكن للجميع مناقشة وجهات نظرهم بكل حرية. دون أن ننسى الأندلس، حيث عرف التسامح والحوار بين الأديان زخما غير مسبوق. وكانت العلوم والمعارف في جميع التخصصات تلقن وتدرس، دون تمييز لعرق أو دين. وأخيرا، في أرض الإسلام تم تجديد الفكر اليهودي، من قبل الفيلسوف اليهودي، موسى بن ميمون، الذي درس في فاس (المغرب)، وكتب مؤلفه في مصر.


6 – التعصب مشكلة عويصة

    ينتهي حد التسامح حيث يبدأ التعصب، عندما يصبح الكائن  يشكل خطرا على الغير. نحن نعيش في عالم يقود فيه المتطرفون اللعبة. نرى التعصب بجميع أشكاله والعنف واللامبالاة وانتهاك حقوق الإنسان الأساسية... ناهيك عن الظلم وعدم المساواة، سواء على الأصعدة الاقتصادية والمالية والتكنولوجية، وأيضًا على الصعيد الفكري، حيث إلا الذين يحتكرون قوة المعلومات، لهم حق المواطنة. ومع ذلك، فإن اختلاف الرؤى والتفسير وتصور العالم هو بالنسبة للناس ثراء استثنائي. نحن مرايا لبعضنا البعض. لا يمكن لوجودي أن يثبت، إلا بوجود العلاقة بالغير. أنا بحاجة إلى الغير لأفكر وأتواجد، وباختصار، لأعيش. من خلال اختلاف تقاليده وعاداته، هذا الآخر ليس بالضرورة عدوي، حتى لو كان يفكر ويصلي ... بشكل مختلف عني. الغير موجود ليكشف لي عن ثروتي. إن التعصب اليوم مشكلة عويصة، يجب على الجميع أن يدركها، وينبغي معالجتها من خلال تأكيد هذه التعددية في الآراء، على المستويات الفلسفية والسياسية والدينية والروحية. إن القيام بذلك، هو تعلم التعرف على بعضنا البعض بشكل أفضل. إنها دعوة لاحترام الغير، والحفاظ على التراث العالمي للبشرية.


7 - القوة والحكمة.

    إن القوة المادية بدون حكمة سريعة الزوال، وإعادة قراءة تاريخ البشرية يثبت ذلك. في السياق الحالي، من الملح إعادة التفكير في هذا التوازن، لأن القوة بدون حكمة، كانت دائما للمجتمع أو الحضارة عاملا من اختلال التوازن والانحطاط.

    بمجرد أن يصل مجتمع إلى حد الهيمنة، ويفرض إملاءاته على الآخرين، فهذا يشير إلى بداية تراجعه. كلما أصبح أكثر قوة، ينبغي له أن يكون أكثر يقظة، حتى يكون عادلا، ويواءم علاقاته مع الآخرين. كيف يمكن موازنة القوة التي تؤدي تلقائيا إلى الهيمنة، إلى غزو الآخر؟ من خلال الحكمة، ثمرة التأمل الفكري والأخلاقي والروحي، ولكن على الخصوص، من خلال تحلي بالوعي والمحافظة على هذا القاسم المشترك الذي يربط بين الناس، ألا وهو الإنسانية. لا يمكن موازنة القوة الزمنية إلا بأنسية تتزايد باستمرار. يقودنا غياب الإنسانية دون هوادة إلى المواجهة والاضطراب والفوضى. وإنسانية أقل، تدفعنا إلى وحشية أكبر. ينبغي اليوم، أن يصبح المعنى والقيم الإنسانية في صميم اهتماماتنا. كيف نوقظ  في الإنسان حالة الضمير هذه، وكيف نطورها؟ لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال التمسك العميق بهذا الأصل المشترك، الذي هو الأخوة الآدمية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلكم من آدم وآدم من تراب". تأمر الحكمة الذين هم في قمة السلم (السياسي والاقتصادي والعسكري والعلمي)، والذين يمتلكون قوة تُخاطر بمصير البشرية، بتحقيق حال الأنسية، الأكثر شهامة والأكثر عدلا والأكثر شمولية.


8 - أركان الإسلام الثلاثة

الشريعة
    يرتكز الخلق على شرائع. إنها موجودة في كل مكان، سواء كانت قوانين (شرائع) علمية أو سياسية أو روحية ... بالنسبة للمجتمع المسلم، يكمن الخلل الحالي في أنه يوجد سوء فهم عميق للعلاقة بين الجانب الميتافيزيقي للشريعة، كمبدأ يحكم علاقة الإنسان بالله، والجانب الزمني للشريعة، الذي يحكم العلاقات بين الأفراد. واليوم، إن الشريعة كما هي مفهومة، لا ترتبط سوى بالعقيدة، وحجبت العلاقة والسلوك تجاه الآخرين. لا تواكب الاحتياجات الحقيقية، التي تتطلب تنمية المجتمع. ومع ذلك، في الإسلام، يرتبط البعدان. لا يسعنا الرد على هذه الدعوة للسمو للألوهية، إلا باحترام ومراعاة البعد البشري. ليست قيمة الشريعة سوى مجموع سلوك الإنسان تجاه أقرانه. خلاف ذلك، تصبح الشريعة في حد ذاتها موضع إكراه. تقطع نفسها عن الواقع، الذي جاءت لتنغمه، بينما من خلال تطبيق صفاته، مثل العدالة والحكمة والرحمة والمحبة وما إلى ذلك، ينكشف الله لنا. جاء في حديث قدسي، قوله تعالى "أحب عبدي وعبدي يحبني. إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة، فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا.."(6).

الإيمان
    لكن الإسلام يقوم على ثلاثة مبادئ: الشريعة (الإسلام)، والإيمان، والإحسان. إذا كانت الشريعة عبارة عن تقارب ينتهج من الخارج إلى داخل الكائن، فإن الإيمان هو نور ينيرنا من الداخل إلى الخارج. يقول القرآن  "هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور". سورة الأحزاب، الآية 43. يعطي هذا النور إمكانية رؤية وفهم ومعرفة العلامات الجلية الإلهية، من خلال كتاب الخلق. نحن بعيدون كل البعد عن هذه العقيدة غير المتسامحة العشوائية والمتعصبة، التي ترفض أي نقاش وأية تجربة وأي تفكير، ذلك الذي يغذي الكائن، ويوجهه للإحسان.

الإحسان
   إذا كانت الشريعة هي الإطار الخارجي الذي توجد فيه الرسالة المحمدية، والإيمان، النور الذي يأتي لتنويرنا داخليًا، على العلامات التي تشهد على هذه الحقيقة الإلهية في الخلق، فالإحسان هو ما يدعونا إلى عيش وتحقيق امتلاء الرسالة. إنها التجربة الحميمة والعميقة والحقيقية، التي تجعل منا شهودا أحياء ومميزين. يصبح هذا الإدراك فعالا فينا، لما تتخلله الرؤية والتأمل واليقين. لا وجود للشك. تُحول هذه التجربة الكائن جذريًا، في الطريقة التي يرى بها ويسمع ويتكلم ويفكر ويتصرف. إنها الصلة بجوهر الرسالة، التوحيد، نقطة الانطلاقة لكل تجربة، واستمرارية تطوره وغايته. يكتشف الإنسان الحقيقة الخفية المدرجة في الخلق، باتباع تقارب إيجابي للتيقظ، باشراك حواسه. يُعرّفه حديث نبوي على النحو التالي "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".. "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم". سورة الحديد، الآية 3. ونتيجة ذلك، تصبح التجربة اليومية علاقة دائمة، مشربة بالحضرة الإلهية.


9 – المستقبل المشترك أو طريق الأمل

    في السياق الحالي، هل يجوز الأمل في التجديد؟ أنا شخصياً ما زلت متفائلاً بشأن ما يحدث لنا. الأحداث المختلفة التي حدثت، هي دعوة إلى استجماع قوانا، ومراجعة طرقنا في الإدارة وبناء المستقبل معًا للأجيال القادمة.

    كيف يمكن لأي جماعة، مدفوعة بإيديولوجية، أن تكون اليوم قادرة على تعريض البشرية للخطر؟ ما الذي دفعنا إلى هذه الهشاشة؟ ينبغي على الجميع أن يحاولوا العثور على الجواب في أنفسهم.

    توجد العديد من الإجابات. أولا، الظلم السياسي والاقتصادي. كيف يمكن أن يمتلك 15٪ من سكان العالم (أوروبا، الولايات المتحدة، اليابان) ما يقرب من 60٪ من الثروة في العالم؟ قال الإمام علي "العدل صورة واحدة، والجوْر صور كثيرة، ولهذا سهل ارتكاب الجوْر وصعب تحري العدل".

    تضاف الكرامة إلى جهد العدالة. هل جميع الناس متساوون أمام القانون؟ هل الحياة في الشمال أغلى من الحياة في الجنوب؟ أينما كان، يجب احترام الجميع ومراعاة دينهم أو عرقهم أو لونهم أو لغتهم... هناك نصوص تضمن الحقوق الأساسية للناس، مصادق عليها من قبل جميع البلدان، ولكن نادرا ما تطبق. إن الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة واسعة. إذا أردنا بناء مستقبل مشترك من أجل رفاهية الجميع، فكيف يجب أن تتم هذه المشاركة؟ كيف يمكن لهذه الدول الغنية أن تشارك وتساعد الدول الأخرى، للانضمام إليها، في خدمة الصالح العام والمصلحة العامة؟ مع الاحترام الأكبر، للحق في الإختلاف. هل رفاهية الإنسان مادية فقط، وترتبط سوى بالاستهلاك والتنمية الجامحة؟ ألا يجب أن نجدد ونُعلم القيم النبيلة والعالمية لهذا الإرث المشترك للإنسانية؟


10ملاذ الله

    إن الإنسان هو الكائن الأكثر تعقيدًا، قادر على الإثنين، الخير والشر. يمنح الحياة والموت. هذا التناقض في البشر موجود منذ البداية. ما يميز الناس عن بعضهم البعض هو القوة الهائلة التي يمتلكونها على أنفسهم. والإنسان الذي لا يملك هذه القوة على نفسه غير ناضج. فكيف نتمكن من إدارة تناقضاتنا، الظل والنور...؟ إن الناس قادرون على القيام بأسوأ الانتهاكات، وقادرون أيضًا على القيام بأعمال رائعة، على المستويات الفنية والعلمية وغيرها. بعضهم قادر على حمل الأسوة البشرية إلى مستوى يتعارف فيه الناس ويتعاونون ويتحابون. بلغوا درجة من الرحمة، بحيث يمكنهم تخفيف عبء معاناة الآخرين. لنفكر في كبار الحكماء والأنبياء والفلاسفة وأصحاب النوايا الحسنة، الذين عملوا وتركوا أثارا على الذكريات، على مر القرون، وأحيانًا يصلون إلى حد التضحية بحياتهم، حتى لا تغرق البشرية في اليأس و الفوضى.

    لذلك، هناك حاجة ملحة لرؤية ظهور أشخاص، الذين هم الملاذ الحي للألوهية، الشهود بامتياز. إنهم ناقلو رسالة المحبة والتعاطف والأمل والرحمة. سيكونون مبشّري الأزمنة الجديدة، للرسالة المُخلصة، التي تظل بعصر تسود فيه العدالة، ويتوقف الإنسان عن السلوك العدواني اتجاه جنسه. قد يبدو هذا طوباويًا، ولكنه في الواقع هو التحدي الرئيسي لهذا القرن الجديد، من أجل بناء عالم، تسوى فيه الخلافات والتناقضات، وتكون الأخوة العالمية هي حجر الزاوية. وهذه الأخوة هي دائرة، يكون فيها كل فرد حلقة مكملة للآخر. في الدائرة، لا يوجد أول ولا آخر. كل فرد معني، فهو في الآن نفسه، الأول والآخر. آمل أنه في روح الوحدة هذه، ستلتقي البشرية، لتحقيق أفضل ما في مصيرها.

    أود أن أشكر الذين ساعدونا وشجعونا على عقد هذا الاجتماع. السيد كويشيرو ماتسورا، المدير العام لليونسكو، ومن خلاله جميع أعضاء هذه المنظمة. صاحب السمو الملكي حسن بن طلال، من الأردن، والسيد رحال، المستشار الدبلوماسي للرئاسة، ممثلاً لفخامة السيد عبد العزيز بوتفليقة، رئيس الجمهورية الجزائرية، وجميع المتحدثين، وكذلك رئيس وأعضاء "أراضي أوروبا"، الذين جعلوا من هذا المؤتمر قصة نجاح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب الشهداء العدول.

(2).أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب الشهداء العدول.

(3). الجزمية أو الدوغماتية هي حالة من الجمود الفكري، حيث يتعصب فيها الشخص لأفكارهِ الخاصة، لدرجة رفضهِ الاطلاع على الأفكار المخالفة، وإن ظهرت لهُ الدلائل التي تثبت لهُ أن أفكارهِ خاطئة، سيحاربها بكل ما أوتي من قوة، ويصارع من أجل إثبات صحة أفكارهِ وآرائهِ، وتعتبر حالة شديدة من التعصب للأفكار والمبادئ والقناعات، لدرجة معاداة كل ما يختلف عنها. وهي تعدّ حالة من التزمّت لفكرة معينة من قبل مجموعة دون قبول النقاش فيها أو الإتيان بأي دليل يناقضها لأجل مناقشته، أو كما هي لدى الإغريق الجمود الفكري. وهي التشدد في الاعتقاد الديني أو المبدأ الأيديولوجي، أو موضوع غير مفتوح للنقاش أو للشك.

    يعود أصل الكلمة إلى اليونانية، والتي تعني "الرأي" أو "المعتقد الأوحد". تمثل الاستبدادية والمعصومية والدمغية أو اللادحضية (الزعم بأن قولا معينا غير قابل للدحض بتاتا)، والقبول الخانع (من قبل الملتزمين) واللاشكية لب فكرة الدوغماتية. إن هذه الأفكار تستدعي عادة الانتقاد من قبل المعتدلين والمنفتحين. ولذلك تستخدم كلمة الدوغماتية غالباً للإشارة إلى عقيدة أو مبدأ لديه مشكلة الزعم بالحقيقة المطلقة، كما أن من سمات الدوغماتية هي القطع برأي أو معتقد، بغض النظر عن الحقائق أو ما يحصل على أرض الواقع، وهو ما يسمى في اللغة العربية بـ "التعسف". تستخدم كلمة دوغماتية، أيضا، لوصف الرأي غير المدعوم ببراهين. من ويكيبيديا.

(4). رواه مسلم، والبخاري إلى لفظ "الساعي إليها"، والترمذي بلفظ.

(5). سنن أبي داوود.

(6). قال تعالى "إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة". رواه البخاري. وفي حديث آخر، قال الله تعالى "من عادى لي ولياً فقد آذنته بحرب مني، وما تقرب لي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ومازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها وإذا سألني لأعطينه وإذا استغفرني لأغفرن له وإذا استعاذني أعذته". رواه البخاري وأحمد بن حنبل والبيهقي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق