الفصل الثالث عشر: تربية التيقظ

الفصل الثالث عشر

تربية التيقظ

    منذ نشأتها، كانت المجتمعات تعتمد دائمًا، على نقل التعليم. لم تتوقف أبداً، عن بناء الحضارات، على مر العصور، بفضل النقل المستمر، القائم على قيم ومبادئ، مادية أو روحية، وقيم طرأ عليها في الغالب التغير، ونالها التطور، وحتى أنها تراجعت.

    في الإسلام، فإن الإيصال (التبليغ، التمرير، النقل)، هو واجب كبير، لدرجة أن التغاضي عنه، يعتبر ذنبا. لهذا يقال أن يوم الحساب، من الأسئلة الأولى، التي يتم طرحها على الأب والأم، هي، ماذا قدمتم لأبناءكم؟
    قال رسول صلى الله عليه وسلم "العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة". ومن ثم، فإن من واجب المؤمن، أن يُبلّغ علما أو معرفة، أو يعلم حِرفة.  يمكن أن نعتبر بحق، أن التبليغ هو مساهمة روحية ودينية، ولكن أيضا اقتصادية وعلمية. لهذا السبب، طورت الحياة المدنية الإسلامية، أخوة كبيرة في تعليم المِهن. كل حِرفي، قبل وفاته، ينبغي عليه أن ينقل ما تعلمه لغيره، و كان في الماضي، كلما كان للحرفي، أكبر عدد من المتمرنين، كلما اعتبر من أهل الحرفة.

    يجب استعراض تربية اليقظة، على ثلاث مستويات. يعتمد المستوى الأول، على إدراكنا للجانب المقدس للحياة. و يعني العنصر الثاني العقل. وهل بدونه، كان سيتساءل الإنسان عن نفسه، و عن معنى حياته و مماته؟ عندما يصل العقل إلى النضج، يظهر عنده واجب تبليغ الطفل، معالم عقائدية و فلسفية و دينية، لبناء شخصيته، والإجابة عن الأسئلة الهامة التي يطرحها... إذا وهبنا الله العقل للتفكير، فيليق بنا أن لا نجعل منه حاجزا و عائقا. وبعدها تدخل التربية الروحية، التي تحصل عن طريق تعليم، يمنح الحرية، و يتيح قراءات مختلفة، ترافق كل سالك في رُقيّه، وحسب درجة نضجه.

قدسية الحياة
    كل حياة مقدسة، بمعنىٌ، أن لها الحق في الاحترام والكرامة.

    قال الله تعالى "من أحيا نفسا كأنما أحيا الناس جميعا". سورة المائدة، الآية 32.

    إذا كان للإنسان القدرة على تدمير أخيه الإنسان، فإن لديه القدرة أيضا على تغييرهم. لذلك من الضروري تعليمه، وتحسيسه بالمسؤوليات العظام، الملقاة على عاتقه، لحماية الحياة.

    عندما نقول "لا تفعل بالآخرين، ما لا تريد أن يفعل بك". من السهل سماع ذلك، ولكنه يتطلب الكثير. إن احترام الآخر والحياة، هو احترام المولى عز وجل. وهذا إثبات قاطع، على انتمائنا إلى الأسرة البشرية، وإلى مصير مشترك، يتعدى كل واحد منا. تلقينا هذه الهبة، ونقوم بدورنا بتمريرها، وبهذا تتوالى الأجيال. الحياة ثمينة جدا، فينبغي أن ننظر إليها، مع إيلاء الإعتبار في حرمتها، وعندها فلن تنتهك. يجب أن يقودنا هذا الإدراك، إلى موازنة علاقتنا مع سلسلة الخلق، والتي نحن آخر حلقة منها، كما وصفها الشيخ العلاوي، في مبحثه الثالث من أبحاثه الفلسفية "فأقول أن سلسلة الموجودات محكمة التناسق، وعليه فدخول الإنسانية في الحيوانية ضروري، أما دخول الحيوانية في النباتية، فيتضح من جهة مراعاة استعداد الجميع، لعوامل الطبيعة، زيادة على القدر المشترك، بين العنصرين في نحو النمو و الذبول و الحركة الإضطرارية... ليتحقق الإنسان أن لا شيئ يمتاز به عن موالده، إلا بما كان من قبيل اكتساب الفضائل، وقال الله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم". سورة الحجرات، الآية 13.

    وبالتالي، فإن مسألة أصل الإنسان وأصوله، لا تُطرح كمشكلة خارجة عن نفسه، تعود إلى فجر الزمان، بل كمبحث شخصي، يجب على كل فرد، أن يسعى وراءه. إنها إشكالية فردية، يمكن عندها، لكل شخص تفحص تصرفه و عواطفه، ليكتشف نوعية العلاقات، التي يتعطاها مع أصوله السفلية، و يفي بالتزاماته نحو عالم له حقوق اتجاهنا، في الحفاظ عليه وحمايته، بالتحلي بالفضائل.

من العقل
    قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم "اطلب العلم من المهد إلى اللحد". في معنى هذا الحديث، إن الحياة في مدتها ومراحلها المختلفة، ينبغي أن تكون مدرسة، ومحل للتعليم، والتحصيل المعرفي. وهاته، تتضمن إثراء مكاسبنا وتحسينها، لتعطي الإمكانية لقريحتنا، حتى توضح، وتستجيب للتساؤلات التي تلهمها الطبيعة وأحاسيسنا، وتثيرها علاقاتنا مع الآخر والأشياء. وهكذا، بعد يقظة الجوارح، تبقى المعرفة النظرية، دائما مطلوبة، لتعزيز المعرفة، وكذا التمكين من الظواهر المحسوسة، و إثراء العلوم الفكرية، وتوسيع حقل الإكتشافات والإنجازات العلمية و التقنية. يتعلق الأمر في الحد من الجهل، وتحرير الإنسان من تعلقه بعناصر وقوى الطبيعة، التي لا يفهمها ولا يستعيب الباعث إليها.

    يتمثل خطأنا نحن الوالدين أو المربين، في أننا نعطي التعاليم المذهبية أو الفلسفية، وذلك قبل الإنشراح الفكري للمتلقي. وبالتالي، فنحن نقوم بتمرير مذاهبنا وإيماننا، (سواء كان مسيحي أو مسلم أو يهودي أو آخر)؛ إلى شخص، لم يبلغ رشده كي يستوعبها. إن تراكم المعرفة، لا يمكنه أن يكون النور الوحيد، الذي يضيئ حسه النقدي، و يسمح له بالتقدم، وبناء حياته بهدوء.

    نحن ننقل إليه بكل بساطة، ميراث ثقافي أو فلسفي أو أخلاقي أو ديني، يسجنه في حقائق جاهزة، تؤدي دوما وللأسف إلى المواجهة، مع الذي يفكر بشكل مختلف عنه. أضف إلى ذلك، المصالح الشخصية، والتلاعبات الإيديولوجية، وبالتالي سيصبح النزاع و العنف، أمرا لا مفر منه.

    بوصفه محل الذاكرة والتفكير والترشيد، فإن العقل يسمح لنا، باكتساب وإثراء معارفنا. هذه هي ثروات المكتسب. ولكن إذا توقف عند الملاحظة المجردة للمظاهر، فقد يؤدي إلى حجب الفطرة(2). يواجه مجتمعنا اليوم، تحورا ومزجا ثقافيا مذهلا. يميل الشرق والغرب إلى الإرتباك. وتقوم العولمة بتوسيع شبكتها، ضاربة عرض الحائط، قيم مختلف الأطراف. ويبدو أن هذا هو الحكم السيادي، في التماثل والعولمة. بدلا من أن تقودنا نحو الوحدة، ستؤدي بنا هذه الدينامية إلى نهج مزدوج، وثنائي، ذو انتشار متنامي. وتخلق إشكالية عالم، قائم على المواقف والعداء.

   يـتكون هذا التنوع الذي نتصوره في جميع أنحاء العالم كما يبدو لنا، من مجموعة غير عادية، من مختلف الأنواع والألوان والأشكال. ولكن في الواقع، إذا ما لاحظنا بعناية، وحتى بنظرة علمية، نكتشف أن الحياة في حقيقتها السامية، واحدة. يتكون الكون من مادة واحدة بعينها، سواء كانت طاقوية أو مادية، حتى لو كانت تظهر لنا بأشكال متعددة. وجدت هذه الوحدة على أساس الخلق.

التوحيد
    فنحوه تقودنا تربية اليقظة الروحية هذه، المنسية اليوم، حتى في العالم الإسلامي، رغم أنها كانت هي المعبِر عن الرسالة الأساسية، للتوحيد. وسيؤدي بنا هذا السلوك شيئًا فشيئًا، إلى إيجاد هذا الأصل الأول، المدرج في أنفسنا وخارجها، وحدة كل شيئ، ووحدة الحي.

    فمن خلال تجربة حميمية، يستطيع المرء أن يحقق هذه الوحدة، منبع كل موجود، التي نحن لها وإليها راجعون.  يتحلل الغلاف الجسدي، ويلحق الحي المدرج فينا بالحي الأبدي. علاوة على ذلك، لا ينطبق هذا الأمر، فقط على الإنسان، بل يتعلق بكامل الخليقة، التي لا يمكنها الهروب من هذا القانون الأساسي، الذي يحكم الكون.

    تندرج "حقيقتنا الزمنية" في "الحقيقة المطلقة". لا نستطيع إستيعابها ولا فهمها، إلا من خلال تحقيق متسامي، يحرر الروح، ويسمح لها ببلوغ نظرة أخرى، قائمة على مفهوم التوحيد. هذا النبع، الذي ينبثق منه الحي الأبدي، ينادينا من خلال ألف تجل و تجلٍ، طوال التجربة القصيرة للحياة. ويدعونا إلى إدراك الحقيقة الكونية، التي تحتضن كل شيئ، عبر الأنانية التي تكتنفنا، والثنائية التي تطبعنا.


الرقم 7
    وقد لُخص موضوع التعليم، من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم في بضع كلمات واضحة للغاية، بحيث لتعليم أبنائنا، علينا أن نأخذ بعين الإعتبار، الرقم 7
.
    ماذا يعني هذا الرقم؟ فلكونه معلمًا عظيمًا، قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم فترة الطفولة والمراهقة، إلى ثلاث مراحل، كما يعبر عنها، في هذا الحديث النبوي "لاعبوهم لسبع وأدبوهم لسبع وصاحبوهم لسبع".(1)

    خلال السنوات السبع الأولى من الطفولة، يجب على الآباء الحرص، على أن يكون الطفل طفلا. عليه أن يلعب، ويطور خياله ويحفز فضوله. وسيسمح هذا، بتقارب الوالدين والأبناء، لأن اللعب يجعلهم مدركين لبعضهم البعض، وتنشأ الحماية والإعتبار والمحبة، التي يحتاج إليها الطفل، لكي يتطور. وبالتالي يتم تثبيت هذا التطور، منذ سن مبكرة، بواسطة التواصل، ومن خلال اللعب.

    بعد سن السابعة، تصبح الأمور أكثر جدية. ننتقل إلى مرحلة أخرى. توجد قطيعة، يجب أن يفهم الطفل، الحاجة إلى بذل جهد، للخروج من الطفولة، مع الحفاظ على الخيال. يبدأ في التفكير وحفظ المعارف، لبناء شخصيته. والسنوات السبع التالية، ستسمح له بتأكيد ذاته، ويدرك معنى المسؤولية، وقياس قدراته الفكرية والجسدية، حتى يستعيب معارف. ووفقا لنضجه، يجب أن يكون الطفل قادرا على توجيه طاقته، حتى يكتمل. ولهذا فهو بحاجة إلى سلطة استماع وتعاطف وتوجيه، تصاحبه دون أن ينتهكها، في أزمة مراهقته. من ناحية أخرى، ففي غياب التعليم، ونموذج يحمل القيم الإنسانية، ويترك الطفل يتدبر أمره بنفسه، فإنه يخاطر بالاستماع إلى أصوات، أولئك الذين يدعون إلى العنف والعدوانية، لفرض أنفسهم في المجتمع.

    إذا جمعنا 7 + 7 يعطينا 14 .في هذا العمر، تقوده التربية إلى الإدراك أنه كبير، وكونه ذكي ويتحدث عدة لغات، ويكتب ويقرأ ويرسم.. فإذا كانت هناك منافسة، فيجب أن تحفَز القريحة، لإعداده لسن الرشد والمسؤولية. إنه عمُر تعميق المعرفة وبناء الشخصية. ينبغي أن يصبح الآباء والأبناء، أصدقاء. تتغير اللغة، فالأب والأم والابنة والابن، يتكلمون على قدم المساواة، ووديا يأتمنون أسرارهم، وإذا كان الطفل يشعر بالحاجة إلى أمن أسراره، لدى شخص آخر غير والديه، فمن المؤكد أن المراحل الأولى من اللعبة و التعليم، لم تحترم.

    تبدأ المغامرة الإنسانية بما نتلقاه من آبائنا، وخاصة من أمهاتنا. هن اللواتي يحملننا ويلدننا. وهذا هو السبب، أن في تعاقب الأجيال، يكون دور الأم حاسم، في ترسيخ الثقة والأمل والشعور بالانتماء إلى الإنسانية، في ضمير الطفل.

دائرة اليقظة
    بعد اكتساب المعرفة، وبعد مواجهة مسؤوليات الحياة، يكون لا يزال يتعين عليه مواجهة الواقع، لبناء مشروع حياته. في هذا الإطار، يمكنه التوجه نحو التجربة المشتركة أو المتقاسَمة، في دائرة اليقظة للفضائل والجود. إنها أداة تسمح للجميع، بالتعبير عن إمكاناتهم وتطويرها، بروح من التكامل.

    يسهل هذا التآزر ظهور الإبداع، الذي يجلب الحلول والفوائد للجميع، لأنه، أكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة إلى منظور جديد لتوليد التغيير العميق في المجتمع ونقله. تواجه الإنسانية اليوم، مشاكل من جميع الأنواع، التي تؤدي إلى القطيعة، وربما الكارثة. يشهد الجميع يوميا، الأضرار الناجمة عن فقدان المعنى، في عالم، حيث أن ما خفي، والإفتقار إلى الروابط الإجتماعية، وفقدان الثقة في المستقبل والشعور بالفراغ والعجز؛ هو السائد.

    يستند عالمنا الحالي، على بنية تنظيمية هرمية، قائمة على معارضة بين القمة، المكونة من نخبة توزع السلطات والأصول، وقاعدة تعتمد على نفسها، لتجد نفسها في الغالب مخيبَة الآمال. سيولد هذا، تلقائيا عدم المساواة والصراع. وكبديل لهذا النظام الهرمي، تعترف دائرة اليقظة للفضائل والجود، بوحدة الإنسانية، كموضوع حي وقانوني، مسؤولة عن تنظيم العالم، لمصلحة الجميع. يتم استبدال المنافسة الوحشية، من خلال التعاون التضامني. وتفسح الفردية التدميرية المجال، للإيثار البناء والسخي بالخيرات. إنها قريحة جماعية، تعزز المعرفة المشتركة. لذلك، من الملح الانتقال، من ثقافة تقسم العالم؛ إلى قراءة إنسانية أخوية لمجتمعنا. إنه باب مفتوح للحوار، يرحب بجميع جوانب الحياة، ويصطحب إلى السلام. باختصار، فالأمر يعني، الانتقال من ثقافة "أنا" إلى ثقافة "نحن".

    يسمح لنا خطاب بعض قادة العالم، بقياس طريق المستقبل. وقال الجنرال ماكماستر، مستشار الأمن القومي، للرئيس دونالد ترامب، في بيان نشرته صحيفة "Wall street"، في 30 مايو 2017، ونقلته عنها مجلة "Le Monde diplomatique"، في يناير 2018 "إن الرئيس الذي أخدمه لديه رؤية واضحة، أن العالم ليس أمة عالمية، ولكنه حلبة، تنخرط فيها الأمم والجهات الفاعلة الاقتصادية، وتناضل من أجل الحصول على الفوائد. نجلب إلى هذه الحلبة، قوة عسكرية، وسياسة واقتصادية وأخلاقية، بدون منافس. وبدلاً من إنكار هذه الطبيعة الأساسية للعلاقات الدولية، فإننا نقوم بالإضطلاع بها".

    ربما كان هذا النموذج لدائرة اليقظة، طوبوية بالنسبة للبعض، ومع ذلك فقد تم تطبيقه بنجاح في مجالات متنوعة للغاية، مثل التكوين والتعليم والأبحاث التعليمية في الأوساط الأكاديمية. ناهيك عن العلاج النفسي، والطب، إلخ...

    وهو مدعوم على ثلاثة مستويات. الصدق، والخير والتواضع. الأول يتيح لنا التعبير عما نشعر به، والثاني يخلق مناخ من الثقة بين الجميع، وأخيرا يضعنا الأخير، في خدمة بعضنا البعض. تعزز هذه المجموعة التواصل، وتطور صفات ومهارات الجميع.

    في الدائرة، تكون كل نقطة من المحيط، على مسافة واحدة من المركز. هذا هو المكان الذي تتلاقى فيه جميع النقاط. إنه المُتلقِي والمُرسِل لمساهمة كل واحد. وهكذا، بخلاف الهرم، الذي يضع في معارضة، قمة مع قاعدتها، فإن الدائرة تنشئ موقعًا، يتسم بالمساواة، لجميع الأشخاص الذين يؤلفونها، موجهاً نحو مركز مشترك. ويضع في تآزر، التفكير والطاقات والعواطف والمعرفة ... لا أحد يملك كل شيئ، والجميع هو جزء لا يتجزأ منها. تتيح الدائرة رؤية مشتركة، توحد الروابط، وتغذي وتقوي الضمائر.

    تتفاعل الدائرة أيضًا مع جميع العناصر، على صورة كائن حي. والجميع شريك لهذه الديناميكية، لأن كل نقطة، في نفس الوقت، تكون في البداية والنهاية في المحيط، والأولى وأيضاً الآخرة، سواء حال مشاركتها أو جمودها.

    يكون الدخول في الدائرة بمحض الإرادة الحرة وتطوعا. وتجزي نية المشاركة فيها، بفترة صمت أو القيام بوساطة جماعية. إن هذه المرحلة مهمة، لأنها تسمح بالإدراك الكلي، بوجود هيئة جديدة، مشكلة من جميع الصلات، بين المشاركين. وتوسم الدخول في زمن مميز، للحوار والاستماع .وكما قال الشيخ العلاوي "وبهذا يتضح كون الفرد في المجتمع الإنساني، هو بمنزلة العضو في البدن".

حالة إنسانية
    الحاضر كذا المستقبل يهمنا جميعًا. لدينا الخيار. إما البقاء في الازدواجية، في المعارضة، أو اختيار مسار آخر، مسار الحوار والتضحية والمحبة والأخوة.

    كيف يمكننا أن نقدم بديلاً لعالم اليوم، الشديد الاضطراب والهائج، والذي يعد بمستقبل من العواصف، ومستقبل من الصراعات؟ نحن نعيش في هذا الكوكب الجميل، هذه الجنة، وواحة الحياة هذه، وسط فضاء مجَرِّي خالي، من حضرة فورية. لم نجد في أي مكان، مكانًا تكون فيه الحياة ممكنة، حيث أنبتت الحياة وأنتجت كيانًا استثنائيًا، هو الإنسان. ولكن بالنظر إلى تاريخه وكذا نبله، فغالباً ما يبقى ذئباً لأخيه وأخته... إن هذه الحيوانية التي تسكننا، تحيرنا وتستفسرنا عن معنى الإنسانية. نحن جميعا نولد كرجال ونساء، لكن قلة قليلة من الناس، تحقق حالة الإنسانية، والقليل منهم يصل إلى هذه المرحلة، ويصبحون حاملي الأمل ومبشرين، فلأن النفس النرجيسية تعيقهم. تحجب عنا حتى الآخرين. وهكذا نجد أنفسنا في المعارضة، في حين كان علينا أن نكون في تآزر.

    هيا لنجعل من اختلافاتنا تكاملاً وثراءا. مجتمعون من غير تشابه، ومجتمعون من أجل الجمع.    
 
    إنها دائرة من الإنسانية والأخوة، يجب تثبيتها في أنفسنا وفي العالم. وندرك في نهاية المطاف، أن من مصلحتنا، وإن الأمر الأساسي هو، مساعدة بعضنا البعض، حتى يثمر السلام ويينع الازدهار وتنجلي الكرامة للجميع، وتتفادى الإنحرافات والغيرة والنميمة. فالحياة هبة مقدسة، ينبغي فهمها على هذا النحو، وكل شيئ يبدأ بتربية اليقظة.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2). يشير مفهوم الفطرة، إلى حالة طبيعية أصلية، كما لو أن مولودا جديدا، يأتي إلى الدنيا بوعي عذري، "مسلما"، مستسلما لإرادة الله. وأكد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعدها، أن الوالدين هما من يجعل من أبنائهم يهودا أو نصارى أو مجوسا. فتعليم الوالدين والقيم النابعة من مجتمعنا، تُرسخ فينا نوعية الفطرة، وأصبحنا اليوم ما فعلته بنا الثقافة المحيطة، حتى ولو لم نشعر بعد بذلك. كل واحد يملك في فطرته، نفس الأمانة الأصلية، والتي هي مركز الكينونة، ومنها يتم بناء ذاتيتنا. إنها مبدأ التوحيد، الذي يجب أن يكون دوما حاضرا في ذهننا، وإليها ينبغي الرجوع، ببذل جهد، إن أردنا معرفة سر وجودنا. نفترض أننا نحن كذلك بذرة، قذفت في الحياة، بنفس الطريقة، التي نأتي بها إلى العالم. في أول خلية جنينية، نحمل معنا معلومة، وخلافا لبذرة الشجرة، فنحن بحاجة إلى العلاقة مع الآخر، لتطوير شعورنا، وبحاجة إلى العدو، كما إلى الصديق. لا يمكننا اجتناب علاقات التبادل، التي تساعد وتشيد ذاتيتنا، مهما كانت طبيعتها. وبالتالي، نُعرف الفطرة، بطريقة ما، أنها بذرة تحتوي في نفس الوقت، كل المعلومة، وكل الإرادة، وكل قدرة الكائن، الذي لم يتعرض لأي شيئ بعد. هذه البذرة موجودة في أعماق كل واحد منا، حتى قبل ولادتنا. إنها عذرية النفس البشرية.
الشيخ خالد بن تونس، في "Pour une cultyre de paix"، في "Education et vivre ensemble"، تحت إدارة مصطفى شريف. سنة 2016. وهو أيضا جزء من خطابه، في المؤتمر الدولي للأنوثة، سنة 2014، بمدينة وهران، في الجزائر.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق