الخاتمة
إن السلام
هو قيمة لا تقدر بثمن، وواقع لا مفر منه. في الواقع، من لا يرغب أو لا ترغب، في
العيش في عالم يسوده السلام؟ هل لا يزال ينبغي الاستثمار، في علاقتنا مع
الآخرين، والحيازة من أجلها الوسائل، والإهتمام بشأنها يوميا؟ وعندئذ كيف ننقل إلى
أطفالنا ثقافة سلام؟
لا يتم التعبير عنه بمجرد كلمات، أو محض تمنيات،
ولكنه يشكل واقعا ملموسا. ينبغي أن يكون وسيلة لتحويل ضمائرنا، لإضفاء الطابع
الإنساني على العالم ومناغمته. لذلك لا يمكن أن يكون هناك مستقبل، ما لم نتحول نحن
الدينيون و اللادينيون، المؤمنون وغير المؤمنين، إلى شهود وحاملي السلام.
تبدأ
هذه الثقافة مبكرا جدا، وتندرج في التعليم. يمكننا التحدث لفترة طويلة، ولكن
اليوم، يجب علينا أن نتصرف. كيف نجمع إمكاناتنا وصلاحياتنا وإرادتنا؟ أي انجذاب سيسمح
بالتغلب على، ضعفنا وشكوكنا وعدم اليقين الذي يكتنفنا؟ كيف نعطي معنى لحياتنا؟
كيف نجد الطاقة اللازمة، في مواجهة الإمتحانات، التي نخضع لها جميعًا، في اللحظة
الختامية، لحظة الموت..... كيف نستجيب لها؟ هذه الأسئلة تهمنا جميعا. في ماذا
أفادت حياتي؟ ما الذي قدمته لنفسي وللآخرين؟ أي أثر وأي شهادة، سأتركها من بعدي؟ هل
نحن قادرين على تحقيق شيئ ما، ورسم مسار؟ ماهي غايتنا؟ ما هي الحقيقة الموجودة
فينا، بعيدا عن أدياننا واختلافاتنا ومعارضاتنا ومواجهاتنا؟ هذا هو السؤال الذي،
أود طرحه هنا، لكُنّ ولكم جميعا.
أطلب
من الأمهات اللواتي يلدن الأمم والشعوب، أن يرضعن أبنائهن، بحليب ثقافة السلام. ويقولون
لهم أن المستقبل الإنساني، لا يمكن تصوره، إلا إذا ترابطنا، ببعضنا البعض. إن هذا الأمل
الذي يسكن القلوب، لا يمكنه أن ينطفئ في كل نفس بشرية، والذي يحمل مستقبل الإنسانية.
لذلك دعونا نستخدم هذه الطاقة، ونستفيد منها، ويستفيد منها الآخرين. ونتجنب
التقديم لأطفالنا سم التفوق والإقصاء والشقاق والازدراء، فلأن الجنس البشري، يحمل
معه الترياق، للجروح التي تصيبه. ونتجنب الذين يدعون إلى الكراهية والعنف، ويتصدون
لوحدة العائلة الإنسانية وللأخوة.
أنشأنا
أكاديميات حربية، ولكن ليس أكاديميات السلام. درّسنا فن الحرب والاستراتيجية
العسكرية، ولكن هل نُدرس السلام؟ حضرت العديد من المؤتمرات والمحاضرات حول هذا
الموضوع، وأثيرت المسألة، وفي نهاية المطاف لُخصت، في إدارة الصراعات. ولذلك فمن
الضروري، أن نضع الإصبع على الحرج، للحد من هذا الشر. إن الصراع أشبه بمرض. ونحن
بحاجة إلى الوقاية، حتى لا يتحول إلى وباء. ومن هنا، جاء على سبيل المثال، اقتراح
إنشاء كراسي السلام، في أرقى الجامعات في العالم، وإدخال ثقافة السلام، في جميع
المدارس والبرامج التربوية.
إذا
كان السلام، من وجهة نظرنا، ذا قيمة لا تقدر بثمن، فقد حان الوقت بأن يكرس في مدننا
والمرافق العالمية، حيث ينال حقه في التعبير عنه ومناقشته، بكل حرية، من أجل ربطه
بالاحتياجات الملموسة للمجتمع، على المستويات الاجتماعية والفنية والسياسية
والاقتصادية والدينية والروحية. إن أماكن الحوار والحكمة، دُور السلام هذه، ستكون
في خدمة الصالح العام، والأخلاقيات الشاملة، التي تدافع عن الحق في الكرامة،
والاختلاف من أجل التعايش المتناغم، لتنوع الأسرة البشرية ومجتمع العيش معا.
ينبغي
إذن، الانتقال من ثقافة "أنا- نفسي"، إلى ثقافة العيش معا. ثقافة الضرورات،
القائمة على قيم جديدة، وهذا هو السبب في أننا في أزمة. يقتضي هذا التجديد وضع سير
عملنا، موضع التساؤل، وتحرير معتقداتنا ومُثلنا. يكون عمل الجميع، من أجل الصالح
العام، و مصلحة المجتمع البشري.
في
أوقات الأزمات، لكي ننتقل من العالم القديم إلى العالم الجديد، ينبغي أن نتخلص من هذه
النفس، التي تغلق على المحبة والسلام والرحمة، الكامنة في قلب المرء. فمن الملح أن
نجني وننفخ حولنا، هذا الضمير لـ "نحن"، هذا الضمير لـ "الكل".
إن العيش معا
هو حالة كينونة، وطريقة أخرى لرؤية العالم وتصوره. إنه دعوة جميع رؤساء الدول
والبرلمانات والمؤسسات الدولية، إلى الإختيار، بشكل نهائي، بعيدا عن المصالح
الحزبية، في أي مكان وفي أي وقت؛ السلام والكرامة لكل إنسان. وهو حق كل فرد في
التعبير عن نفسه والعيش الكريم، وليكون أخًا وأختًا لأقرانه. وهو حظر وللأبد، للحروب والصراعات
التي تضر بالإنسانية، والشروع بداية، على سبيل المثال، في الاحتفال باليوم الدولي لعيش معاً في سلام.
(انظر الملحق)(1). نلاحظ أن في 8 ديسمبر 2017، في دورتها 72 أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبمبادرة
من الجمعية الدولية الصوفية العلاوية، المنظمة غير الحكومية الدولية، عيسى؛ يوم 16 مايو، "يوما دوليا للعيش معا في
سلام". حدث استثنائي، لقد تم تبني هذا القرار بتوافق الأراء وبالإجماع، من
الدول الأعضاء البالغ عددها 193 دولة.
إن العيش معا، هو أن نشجع في مدننا وبلداننا،
الالتزام المدني، برؤية مشتركة لمصيرنا المشترك، وأن نسمح لمؤسساتنا بالانضمام،
إلى حركة معترف بها دوليا. وأن نمنع التطرف والإرهاب اللذين يرتعان على أرضية المظالم
وعدم المساواة، من خلال الجمع بين الأمن والعيش معا. وأن نعزز التنمية المستدامة،
من خلال اقتصاد تضامني يأخذ في الاعتبار احتياجات المعوزين، من أجل رفاه الجميع. وأن
نوفر التعليم الذي يحافظ على ثراء التنوع الثقافي، للروابط الاجتماعية، من أجل عيش
معا أفضل. وأن نعطي روحا للعولمة. وأخيراً، في عالم آخذ في التحور، حيث تُحدث
التكنولوجيا ثورة في العلاقة بين البشر وبيئتهم، نسهر على الحفاظ على جوهر الكائن:
فضائله وجوده. مستقبله يتوقف على ذلك.
وفقًا
للتقرير الخاص، بالتحضير للقمة الأولى للعمل الإنساني، التي نظمتها الأمم المتحدة
في اسطنبول، من 23 إلى 26 مايو 2016(2) "نحن نشهد زيادة في عدد الصراعات
التي طال أمدها، والتي يتعذر الفصل فيها، على نطاق عالمي، تؤدي إلى أزمات إنسانية،
متزايدة الخطورة ومتنامية، ومعاناة إنسانية مستمرة، واضطرابات سياسية، وخسائر
اقتصادية ومالية معتبرة، وتشريد السكان، وتدفقات اللاجئين الضخمة. يتم تقليص دور
المجتمع الدولي في إدارة الأزمات، بصورة دائمة. لم تعد هذه الأخيرة الإستثناء،
ولكن يبدو أنها أصبحت القاعدة، ولا يمكن لأي متدخل حلها بمفرده. بعدما انخفظت في
سنوات التسعينات، وبداية القرن الواحد والعشرين، ارتفع عدد الحروب الكبرى من 4 في عام 2007 إلى 11 في عام 2014. وبلغت التكلفة الاقتصادية والمالية للصراع والعنف 14300 مليار دولار، أي 13.4
% من قيمة الإقتصاد". نضيف إليها الأعمال
الدرامية، والصدمات النفسية الإنسانية، ولا ننسى الضغينة، التي تنتقل أحيانا من
جيل إلى جيل. لذا، مهما قلنا أو فعلنا، فإن السلام سيكون أقل تكلفة بالنسبة
للبشرية.
لنتذكر
الوقائع. إن التكاليف البشرية والاقتصادية الرهيبة، التي خلفتها الحرب، تؤدي بنا
إلى طرح هذا السؤال الأساسي والشرعي والمعقول، ألم يحن الوقت اليوم، للنظر في
نتائج هذا السباق المجنون والمميت، الذي يزرع الفوضى والخراب. ألم تأتي اللحظة
المناسبة، لكي تنهض الإنسانية جمعاء، جماعيا وفرديا، وتعلن رفضها واشمئزازها حيال
أولئك الذين، بدافع المصالح السياسية أو الاقتصادية، يدعمون ويغذون الصراعات
المدمرة في العالم؟ في نفس التقرير، أشار الأمين العام للأمم المتحدة، السيد بان
كيمون "أن ثلث الحروب الأهلية الحالية، تتدخل فيها جهات خارجية، التي تدعم
على الأقل، أحد أطراف النزاع. هذا التدويل للحروب الأهلية، سيجعل هذه الأخيرة أكثر
فتكا وأطول أمدا. بين عامي 2012 و 2014، ازداد عدد قوات حفظ السلام، غير الأمم المتحدة، بمقدار 60 %. ويعمل ما يقرب من ثلثي قوات حفظ السلام، وما يقرب من 90 % من
البعثات السياسية الخاصة للأمم المتحدة، في بلدان منكوبة بالصراعات الشديدة، أو تعمل لحسابها. ويستخدم أكثر من 80 % من
التمويل الإنساني، الذي طلبته الأمم المتحدة لتلبية الاحتياجات، في حالات الصراع".
لذلك، ما الذي سيتبقى للأمم المتحدة، كوسيلة لتعزيز السلام والتنمية؟ متى سنخرج من
هذه الحلقة المفرغة، التي تتلخص فيها مساهمة جميع دول العالم، في الإلتفاف حول
تفاهات.
على
كل واحد منا، أمام ضميره، أن يقيس مدى الكارثة، التي تهددنا جميعًا، بدون استثناء،
اليوم وغدًا. وليتساءل من المستفيد من هذا الوضع؟ إذا كان السلام هو عامل من عوامل
الرخاء الذي لا يمكن إنكاره، لدى أكبر عدد، فإن الحروب الحزبية لا تقوم إلا بإثراء
أقلية، وتحافظ عليها وتنعمها بالرخاء، على حساب المصائب التي تخلفها. على كل واحد وواحدة
منا، أن يختار صفه.
لماذا يردد المسلمون كثيرا، كلمة السلام،
ولماذا ينهون صلواتهم بالسلام؟ وعندما نلتقي ونحيي بعضنا البعض، فالبسلام. تتكرر
هذه الكلمة بشكل عادي جدا وتلقائي، حتى أنها فقدت معناها. في الواقع، يشك القليل
منا، في أنه عند نطق هذا الاسم، تنفتح آفاقاً داخلية وخارجية، في أفئدتنا، فيما
يتعلق بالبيئة المحيطة. إذا أعطينا للإسم الإلهي السلام، المكانة التي يستحقها، سواء
في تفكيرنا كما في علاقتنا بالآخرين... وإذا فكرنا وحاولنا استخراج معناه العميق وجوهره،
سنرى أنه مفتاح، يقدم رؤية أخرى للعالم. عالم من السلام، وفكرة تشكل حياتنا.
بعد
التفكير مليا، إذا تطرقت إلى كل الصعوبات التي تصادفني في الحياة اليومية، والأفكار
السلبية أو الإيجابية، وإذا أدخلت فكرة السلام في علاقاتي، وأن هذا المفهوم يمكن
أن يكون له وزن حقيقي في سلوكي، سوف تتغير الأمور بالتأكيد. تأخذ بعدا آخر، كبعد
الجمال، وخصوصا السكينة، سواء في الشارع أو المدينة، في العمل كما في المنزل.
قال الله تعالى "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى
الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا". سورة الفرقان، الآية 63.
لا تعني
الرؤية التصديق. ولا التصديق يعني المعرفة. والمعرفة لا تعني الإلمام بكل المعارف.
على الرغم من أن الأديان لها وجهة نظر مختلفة عن المجتمع، إلا أنها تشترك في
الأرضية المشتركة لثقافة السلام. يجب أن يكون لدى المرء قناعة راسخة، إيمان قوي،
كمؤمن، في أن هذا الإثبات يتوافق مع الحقيقة. ينبغي أن يستند هذا الإيمان، على
المعرفة القائمة على الكائن، وليس على المظهر. بمعنى أن أولئك الذين يحملونها يجب
أن يعيشونها، وينفخونها من حولهم. لا يمكننا نقل شيء راسخ في الفؤاد. نستطيع
التعبير ونقل الواقع المعاش، الذي تحقق، ويتخلل الضمير بشكل كلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق