معنى الصلاة

معنى الصلاة

 

   كجزء من الحوار بين الأديان، دعا مجتمع راهبات البينديكتين للوبيم، القريبة من مدينة بروج في بلجيكا، تلك المنطقة الناطقة باللغة الهولندية، الشيخ خالد بن تونس لحضور يوم دراسي حول روحانية الأخوية العلاوية، ولا سيما حول نشأة الصلاة في هذا الدين. تحدث الشيخ خالد بن تونس باللغة الفرنسية، وترجم الأب بنوا ستاندرت، راهب بينديكتي من دير سانت أندريه زيفينكركن المجاور، شهادة الشيخ بدقة بالغة إلى الهولندية. وتم عقد هذا اللقاء يوم 23 08 2008. أعطيت للشيخ الكلمة، فقال:

    بادئ ذي بدء، أشكر الله على إتاحة الفرصة لنا، كي نلتقي اليوم، في مكان الصلاة هذا، في بيت الله هذا، وأشكر الأب بينوا الذي كان الواسطة وحجر الزاوية لهذا الاجتماع، ثم جميع الأخوات اللواتي استقبلونا في هذا المكان، وخاصة الأخت كريستال.

    لذا، عندما نتناول موضوع الصلاة فإننا نتناول موضوع واسع للغاية. بدأت الصلاة منذ أن استوطن الضمير قلوب الناس، ظهرت الصلاة رمزياً في الجنة مع آدم عليه السلام. إذن، لقد ظهرت في قدس الأقداس، في المكان الفردوسي، الذي خلق الله فيه آدم. جاءت الكلمة التي نترجمها "prière" بالفرنسية، وإذا أردنا حقا إيجاد المعنى الأقرب للكلمة العربية، ستكون بالأحرى صلة "lien". إن الصلاة هي التوحد واستعادة الصلة بالله، إلى حد أن جدي الشيخ عدة بن تونس سمى الصلاة بالمفتاح الذي يفتح لنا الباب الذي يؤدي إلى الله. ولكن ينبغي أن ننظر إلى الصلاة من عدة مستويات. لقد أخبرنا الأب بينوا للتو أن الصلاة في الإسلام لها أهمية قصوى. تعتبر الصلوات الخمس القاعدة الثانية في الإسلام.

    إذا تحدثنا عن القاعدة الثانية للإسلام، التي تحض بأهمية لا جدال فيها، أود أن أتناولها على عدة مستويات. فالصلاة عبادة، والصلوات الخمس التي يجب على جميع المسلمين القيام بها خمس مرات في اليوم، طوال حياتهم، فرادى أو جماعة، في مسجد أو في محل، والأهمية التي تكتسيها في حضن المجتمع الإسلامي. لذلك سيكون هذا هو التعريف الأول، وسنحاول تناولها وتعريفها، وننظر في أهميتها وعواقب تركها. ثم لدينا صلاة القلب، وهي صلاة توجد على مستوى ثان، أعمق، أكثر حميمية، سنتناوله في المرة الثانية، وأخيرًا الصلاة بالروح.

    يمكنكم أن تروا أن الموضوع واسع، وآمل أن يكون لدينا الوقت الكافي للحديث عنه بشكل جيد، وإدراك المعنى، واستخلاص جوهره.

   

    ولكن قبل فتح النقاش، أردت أن أقرأ عليكم قصة، وجدتها في كتاب صغير، توضح نوعا ما وضعنا. لأنني أرغب ألا نهمش أنفسنا، بصفتنا رجال الصلاة، وقد يعتبر أن أهل الصلاة وأصحاب الروحانية منعزلين، يعيشون بعيدا عن واقع العالم. وباختصار، لأن القصة طويلة بعض الشيء، وأعطيها لمن يريد قراءتها كاملة، ولدواعي الإيجاز. تعلمون أن للصوفية قصصا طريفة، مع الكثير من المزاح، مع ما تتسم به من العمق والواقعية. يقوم شخصا بروايتها لنا، فيقول، كانت توجد ثلاثة جيوش، تتقاتل منذ ثلاثة أشهر، منها جيش ينتسب إلى الديانة اليهودية، وجيش للمسيحية، وجيش للإسلام. بدأت هذه المعركة التي تدوم ثلاثة أشهر تسئم الجنود  من جميع الأطراف، الذين لم يعودوا يؤمنون بوجود مخرج لهذه المعركة، وعندها إدراكا، كلّ في صفه، قاموا باختيار جندي واحد من الجنود الذين أبدوا أكثر وجاهة، وكانوا في نظرهم أهل تقوى وحكمة. اعتزل الجنود الثلاثة المعركة المستمرة، واعتزلوا في جبل، وقالوا فيما بينهم، سنصلي ونصوم، حتى يكشف لنا الله عز وجل مَن هي الطائفة التي على حق. بعدما مر عليهم أربعين يوم، عكفوا فيها على الصوم والصلاة، لم يتبق لهم ما يتقوتونه، فخلصوا إلى كل واحد منهم، أن يتعبد في ليلة بمفرده، حتى يرفع هذا الأمر، حيث لم يجدوا ما يأكلونه، والمعركة لزالت مستمرة، ربما يوجد فينا.. كل واحد يتعبد بمفرده، حتى يتواجد مخرج لهذه القصة. في الليلة الأولى اختاروا الحكيم اليهودي. الليلة سنرتاح وأنت من سيصلي. صلى اليهودي طوال الليل، وبأعجوبة، وجد في الصباح كلٌّ منهم رغيف خبز ساخن بجانبه. إنها معجزة، وجاءت من طرف اليهودي. من الواضح أن الدين الصحيح، وإنها الإجابة الإلهية، فبصلاة يهودي تحققت المعجزة. ولكونهم أهل حكمة أعطوا فرصة للمسيحي، أنت من سيقوم الليل ويصلي من أجلنا هذه الليلة. وفي الصباح تحققت المعجزة من جديد، كانت الأرغفة الثلاثة هناك محطوطة فوق الصخرة. كان من الواضح أن الله استجاب لليهودي في اليوم الأول، واستجاب للمسيحي في اليوم الثاني، وسيستجيب في اليوم الثالث بشفاعة صلوات الأخير، الذي كان مسلما. نحن أمام مفارقة. توصلوا إلى نتيجة، مادام أن الله سبحانه وتعالى استجاب لنا نحن الثلاثة، فلأنه يحبنا بالتساوي، لا يفضل أي أمة عن أخرى، وإن الذي سنقوم به هو أننا سننزل إلى أهالينا، ونشرح لهم هذه المعجزة، ونقول لهم أن الله يحبنا بدون تمييز، حتى يتوقفون ويحللون السلام. إذن علينا في الحين النزول وإخبار شعوبنا، ونحضهم على تحقيق السلام، مادام أننا محبوبين من إله واحد. قرر الحكماء الثلاثة النزول، وحمل الخبر السار إلى أهاليهم. للأسف، عندما سمع القادة رسالة  الأخوة والإحترام المتبادل، لم يتحملوا الخبر، زهقوا أرواح الحكماء الثلاثة، واستأنفوا فضاعتهم لسنوات. ها هي وضعية العالم، وواقع لا أحد منا يمكنه دحضه.

    تتمثل رمزية هذه القصة، في أننا في كل مرة، عندما تدعونا الحكمة إلى إدراك أواصر المحبة التي تجمع الإنسانية، نقوم بإقصاء الحكمة، وإذا صاغ قوله، فنحن نقتلها، ونقصيها من المدينة وقلوبنا، كما لو أنه محكوم علينا للأبد، أن نعيش في بؤس، ونعيش جو الصراع، وتهوين آفة العنف. الآن، لنرجع إلى الصلاة، وفي ماذا يمكنها أن تساعدنا؟

 

الصلاة الشعائرية

    قلت لكم سنتناول الصلاة على ثلاثة منظورات. في واحد منها هي شعيرة، وعمود الدين. أنتم تعلمون أن الصلاة في الإسلام مندرجة في الزمن الدوري، وتبدأ ببزوغ فجر اليوم، وتنتهي إلى ما وراء الغروب، عشاءا. نصلي الصلاة الدورية في أوقاتٍ جهرا، نقوم بقراءة آيات قرآنية، ونتوجه دائما من خلال الكلام المحض، والكلام المحض بالنسبة للمسلم هو كلام القرآن، بطبيعة الحال. لكي تكون الصلاة صحيحة تقرأ فيها آيات أو سور قرآنية. أحيانا جهرا وأحيانا سرا. إن أوقات الصلاة جهرا، هي دائما الأوقات في الزمن الدوري، التي تغيب فيها الشمس، وتكون عند بزوغ الفجر أو عند غروب الشمس أو عند مغيب الشفق من الليل، في هذه الأوقات نصليها جهرا، وهي صلاة الليل. وكذلك نصلي صلاة السر. وهنا توجد رمزية كاملة. لماذا هذا الفرق بين صلاة الليل وصلاة النهار؟ أما عن الرمزية، ذهب البعض في القول أن في النهار تكون الشمس بارزة والنور ساطع، وكل شيء يرى، وكل شيء جليّ بالنسبة لنا، والعالم مرئي، والصديق والأهل والحيوان والنبات والخليقة  كلها مرئية، فلا يساورنا الشك، وهي أوقات، قلوبنا لا يخامرها فيها الشك، ونكون متوغلين في الحقيقة الإلهية، حيث يكون الله سبحانه وتعالى بالنسبة لنا حقيقة جلية.  تنشأ هذه العلاقة في الحميمة، لا تحتاج إلى الجهر بها. أما بالنسبة لصلاة المساء، صلاة الليل، فهي صلاة الشك، وعندما ينتاب الشك قلوبنا، ويساورنا الشك، ونتساءل هل الله موجود؟ وإذا كان موجودا، هل باستطاعتي استعادة صلتي به؟ هل أملك أملا؟ فهو ينظر إلينا إذا كنا في حداد أو آلم بنا حزن، أو أصبتنا مصيبة، ولذا يقول بعض المعلمين، في هذه اللحظة، تقام الصلاة جهرا، عندما يكون الشك قد ساورنا، وعندما ينبغي علينا أيضا سحب طاقة أكبر، التي تمنحها الصلاة، لجعل الحضرة الإلهية أكثر طروءا، حتى ولو خامرتنا الظلمات. لنرى كيف تندرج الحضرة الإلهية في بعد مزدوج، في الزمن الدوري، في زمن نكون فيه مؤمنين، وزمن يكون فيه كل شيء بخير، وذلك الزمن الذي يساور فيه الشك، عندما تتواجد فترة فراغ في حياتنا.

    الآن، أنتم تعلمون أن من أجل الصلاة، وكي نتوصل إلى إقامة الصلاة، نمر بالوضوء. إن الوضوء في الإسلام، هو أن نأخذ الماء، ونمضمض الفم، وننظف الأنف والوجه، ونمرر اليدين على الرأس والأذنين، ونمسح الذراعين، الأيمن فالشمال، ثم القدمين اليمنى والشمال. هذا ما نسميه الوضوء الأصغر، ويوجد الوضوء الأكبر (الغسل)، وهو أن ننظف كامل البدن، كما لو نأخذ حماما، ولكن مع نية الطهارة. ليست مسألة نظافة، فنحن نتكلم عن شيء آخر، شيء من بعد آخر، وبالتأكيد له مفعول في النظافة، إذا تطهرنا. إذا كان الماء يزيل الأوساخ من البدن، فكيف يصبح وسيلة من خلالها، نخرج من الدنياوي لندخل الفضاء المقدس؟

    تتمثل رمزية الماء، في أن الماء في الإسلام وجميع الديانات الأخرى مرتبط بالحياة، لأن الماء هو أصل الحياة. إنه الحياة نفسها، بدونه لا تساوي شيئا. كما لو أن رمز الطهارة بالماء يضفي للإنتقال إلى ما هو ذي طابع مقدس، إلى هذه العلاقة بالمقدس، وطروء تجديد، وولادة من جديد، وإبداء الجاهزية، وإن الماء هو الذي يعطي الحياة. إذن، هي حياة جديدة توجد عند كل لقاء وكل صلاة. إنها علاقة جديدة وحياة جديدة.

    تكلمنا عن الوضوء بالماء، ولكن إذا غاب الماء، ماذا نفعل؟ بالصعيد الطاهر والصخر، يتم الوضوء، أو التيمم كما يسمى. عندما يغيب سائل الماء، ننتقل إلى المعدن. وهنا تظهر رمزية أخرى، حتى وإن عجزنا عن إيجاد الماء، تسري العملية حتى في العلاقة بالمعدني، تلك العلاقة الأولى القاحلة. والكوكب الذي لا يحوي على الماء، هو كوكب بدون حياة، فاليوم نعرف ذلك. الأمر ذاته، في حالة المعدني، في الحالة الباطنية التي نكون فيها، حتى في هذا المستوى، تنشأ هذه العلاقة، ولهذا تكلمت عن ذلك، للقول على سبيل المثال، أن المسلمين تاركي الصلاة، ولا يصلون، حتى في هذا الشأن، يوجد حد أدنى في هذه الصلاة، لا يقصون في الإسلام، لعدم استجابتهم لمتطلباته والقيام بها، يوجد هنا حد أدنى، يمكنهم من خلاله استدراك ذلك، حتى تبقى هذه الصلة دائما مبنية.

    نضرب مثال آخر عن الصلاة الشعائرية، فمن توقيت صلاة الصبح إلى توقيت صلاة الظهر، وقت الزوال، يقال أنه يمثل سن الشخص من الميلاد حتى يبلغ أربعين سنة، وبشكل ما تغطي هذه الصلاة جزء من عمرنا، جزء من زمن حياتنا، من الميلاد إلى أن يبلغ رشده. لا شأن للرشد بالبلوغ. يكون سن الرشد عند الأربعين. عند الأربعين سنة ينظر إلينا الله سبحانه وتعالى مع المزيد من الحث على المسؤولية، وتكون صلاة الزوال، صلاة الظهر، عندما لا يوجد ظل، وكما تعلمون أن في الساعات الشمسية، عند الزوال، إن كان عليها محور، لن يرى عليها ظل، فالشمس تغطي كل شيء.

    صلاة الظهر، الصلاة التي تجاز عندما لن يعد يوجد أي ظل، تعتبر عند غالبية أهل التحقيق المسلمين، أنها الفترة التي يدرك فيها الإنسان هذه الحقيقة، ويعي الألوهية، ويدرك ربه. تجيء بعدها الصلاة الوسطى، المسماة صلاة العصر، وعندها يتخطى الإنسان نفسه وأنانيته، ويتجاوز وهم الظهور ووهم السلطة، ويشعر أنه في منتصف عمره، ويتوجه نحو غروب الشمس، أي غروب شمس حياته، وأنه ينبغي عليه الإعداد للقاء في سكينة وسلام. وأخيرا تحضر صلاة المغرب عند مغيب الشمس، مغيب شمسنا، وتبلغ حياتنا نهايتها، ونكون مدركين أن حياتنا تؤول إلى نهايتها، ونجعل نصب أعيننا ذلك الأمر. ويزيد استعدادنا للصلاة الأخيرة في الليل، للذي لا نراه، للآخرة، فيما يوجد بعد الموت. يقوم الدين بتهيئتنا في الصلاة، في العلاقة المستمرة على الدوام، التي هي الآخرة، والذي لا نراه، بعد مغيب شمسنا، مغيب حياتنا.

 

صلاة القلب

    وهذا يؤدي بنا إلى الكلام عن صلاة القلب. ماهي صلاة القلب؟ وكيف نصلي صلاة القلب؟ هل هي مندرجة في الزمن؟ في الزمن الدوري؟ هل هي مستقلة؟ وهل هي ثابتة؟ وكيف نتوضأ لصلاة القلب؟ وكيف نستعد لها؟

    تعرفون الصلاة في الإسلام. هل أستطيع أن أنهض؟ (لاتخاذ وضعية القيام في الصلاة)، - أُجيب: تصرف وكأنك في بيتك -. عندما نصلي، نتوجه نحو مكة المكرمة، بالتحديد الكعبة المشرفة، ذلك المركز، والنقطة المركزية، التي يتوجه إليها جميع المسلمين في العالم. نقوم بالتكبير، ونقول الله أكبر، ونضع اليد اليمنى على اليسرى، في حالة قيام. لماذا نقول الله أكبر؟ نسبة إلى من؟ في البادئ، نسبة إلينا. فهو يحويني، ولا أستطيع أن أحويه، فهو قد يلقاني، وربما أنا ليست لي القدرة أن ألقاه. إذن هذه الإشارة وهذا الرمز هو كمناداة، كما لو أننا ننادي شيء ما ليأتينا، وهذا الشيء الآتي إلينا نقوم باغتنامه، وإنه تلك الحضرة الإلهية. إن ما هو عظيم، في أننا في اتخاذنا تلك الوضعية (وضعية القيام في الصلاة)، وطلبنا من طفل أن يرسم إنسانا، حسنا، فإنه يرسم الرأس والذراعين والبطن والرجلين. وإذا ميلناه نجد إسم رسول الله صلى الله عليه وسلم "محمد" مكتوب. ميم حاء ميم دال. أريد أن أريكهم جميعا. إنه إسم محمد، إذا كنتم تلاحظونه فوق رأسي. هنا يكمن الفرق. نفس الكائن. الكائن الذي هو نحن جميعا. الواحد قام به لمناداته، والآخر قام به ليلقاه. بالتأكيد، لا يستطيع البعض أن يعيش ذلك، لأننا لسنا في صلاة القلب. لا يستطيع أن يفهمه ويلقاه ويعيشه إلا الذين قاموا بالخطوة. ومن هنا تتجلى مدى الصعوبة في الإنتقال من الشعائري إلى الآخر. بطريقة ما، نحن مقيدين بالثقافة التي تحصلنا عليها. تفرض قوة علينا. إذا فهمنا العالم من خلالها، فسنقرأه من خلالها. فهي تشكل ذهننا، وتمنعنا من تخطي طور العقل، والتوجه نحو صلاة القلب، هذه الصلاة المحررة، حيث أن الكلمات والرموز والشرائع لن تبق لها أهمية، إذا استبطنت وعيشت بالقلوب، وهنا  يظهر الفرق بين الذي ألقى الخطوة نحو قلبه، والذي يبقى دائما بعيدا عن صلاة القلب هذه، وسيضل يُحكّم عقله لتصور الألوهية. تجبرنا صلاة القلب على تخطي المحظورات والعوائد والتعصب. فإنها تهدم الجدران التي تفصل بين الجزء المسمى النظري، والآخر، الذي من أنفسنا الحدسي والطموح. وتشرح صدورنا نحو بعد أكثر وسعا. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن الصلاة الطقوسية "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟"، قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس؛ يمحو الله بهن الخطايا". متفق عليه.

    أما عن صلاة القلب قال صلى الله عليه وسلم "صل صلاة مودع"(1). كأنك لن تصل صلاة بعدها. صلاة مودع، ونودع ماذا؟ نودع كل ما سكن القلب إلا الله. ونودع كل المحبة التي نكنها للدنيا وثروتها وشرفها وغرورها. لن يبقى شيء في قلوبنا، غادرها كل شيء، ونقول له مع السلامة، زحمتمونا بما يكفي. سيقول البعض كيف يمكن بلوغ هذه الصلاة؟ إنها مندرجة.. كلنا نملك قلوبا، وكل قلب ينبض توجد فيه الحضرة الإلهية. لا تقوم القلوب بالنبض إلا لوجود الحضرة الإلهية. وأقول أن هذه النبضات إشارات جلية على أن القلوب لا تعيش ولا تنبض إلا لتشير إلى لحظات حياتنا. وبإدراج لحظات حياتنا كما لو أنها طبعت في الأبدية الإلهية.. بطبيعة الحال، يبدو هذا الكلام غريبا لعالم اليوم، في عالم القرن الواحد والعشرين، عالم التكنولوجيا، وعالم العلم والمعرفة. يبدو غريبا عندما نواصل الحديث به، لأن اليوم من هم المعنيين به؟ هل ليزال يوجد أناس يؤثر فيهم هذا الحديث؟ إذ نحن في عالمنا منشغلين، من الصباح إلى المساء، ويتولانا بشكل ما زمن آخر، دائري آخر، طريقة أخرى لرؤية العالم، طريقة أخرى لعيشه، والصلاة ليس لها مكان في عالم اليوم، أصبحت شيء نادر، وحتى عندما تؤدى، لا يطرح السؤال، لماذا أديّت ولا كيف أديّت، أديناها وهذا كل شيء، لأنها أصبحت، وأقول روتينا. نحن نعلم أن صلاة القلب تضعنا في هذه الوضعية، حيث أن المرء الذي يمتلك الحضرة الإلهية في باطن نفسه، أينما يتولى فثم وجه الله، إذ أن كل الوجوه هي أوجه الله عز وجل، وكل المخلوقات هي مخلوقات الله عز وجل، وإذا كانت نظرتنا للغير بهذا الشكل، هل سيحصل ونبغضهم ونؤذيهم ونقتلهم؟ وبأي مبدأ؟ هذا الذي لا يطاق في عالمنا. توقظنا صلاة القلب إلى مفهوم مدرج في قلب كل كائن. كل فرد يملكه في نفسه، ونحن نتواجد في محيط لا يعمل على إيقاظنا، وإن الأمر يتطلب عمل تيقظ على مستوى الضمير، هذا الثراء الباطني، الذي يملكه كل فرد. فلأنها تزعج. في المقام الأول، تزعجنا لأنه حتى رؤية الغير بهذه النظرة، هو بالضرورة قبول التساوي معه، وفي هذا، نفسنا وأنانيتنا تكون قد مست، فلا نتقبل هذه الوضعية، نبلغ درجة تيقظ، يصبح عندها القلب حامل للحضرة الإلهية، ما يجعل جميع الوجوه تستنير، وتصبح واحد، في مبدأ التوحيد، وعندما أقول الوجوه، فنعني وجوه البشر، ووجوه الخليقة بأسرها. إذا كنا نحن بصفتنا أفراد، تنخرنا ذاتيتنا، ولا نتقبلها، فكيف تريدون الذين يقودوننا يقبلون بها؟ كل من قرأ القصة التي بدأتُ بها، يرى أن الذين قتلوا الحكماء، لم يقتلوهم لأنهم لم يحبونهم. يحبونهم بالتأكيد، ويحبون الخطابات، ولكن قالوا، إن نحن أحللنا السلام، فما هو مصيرنا؟ لن أبق قائدا، وهنا تكمن المشكلة. نحن مضللين. نحن الذين لزلنا نعتقد في صلاة القلب، نبقى مضللين، ولكن صدقوني، نستطيع قتل الحكماء، وليس الحكمة. تلك الإبراهيمية، كما سماها الإسلام، مندرجة في الإنسانية منذ فجر التاريخ، ذلك الدين الأولي الذي غذى الناس، سيبقى دائما حاضرا للأبد، لأنه يعطي معنى لما يجعل منا إنسانية. كل هذا سيفضي، وكل أقوالي ستفضي إلى تحلي بالوعي، يثبّت فينا، أن الأمل حي دائم، وأننا جميعا حاملي أمل، جميعنا مسيحيين ومسلمين، وغيرهم، نحن حاملي الأمل، ما دمنا نعتقد، وما دمنا قادرين على فتح قلوبنا لله. مما يعنيه فتحها على الجميع.

    إذن تخيلوا عالما يكون فيه الضمير الجديد والأمل الجديد هو الشغل الشاغل، فكم من نزاعات ستحل، وكم من مشاكل، وكم من جرائم ستجد لها حدا، وكم من سوء فهم، وغير ذلك، ستجد حلولا، إن نحن تيقظنا، وتيقظنا لأنفسنا، ونعتنق هذا البعد الجديد على مستوى الضمير، واعتقدنا فيه، وثبتناه في أنفسنا وفي أبنائنا وعبر جيراننا، بأنه موجود وحقيقي، ولسنا بحاجة سوى لرفع الحجاب، حجاب الأنانية الذي يعمينا، ولكن هذا ما سيدمر إقتصادنا، مادام أنه يقوم على الفائدة. كم تجلب صناعة الأسلحة اليوم في العالم؟ كم تجلب المضاربة الماليةّ؟ وكم تجلب التوترات والحروب؟ لهذا أو ذاك، ولهذا السبب أو ذاك، فهي تزعج.

    تبقت لنا على أما أعتقد خمس دقائق، ولا نستطيع أن نتناول في هذه الصبيحة صلاة الروح، وأعتقد أنه من الأفضل أن نترك فترة ما بعد الزوال لشيء هو أكثر عمقا، حيث نستطيع أن نجتمع، ونستعد أكثر لصلاة القلب، التي سنؤديها معا بعد لحظات، ونحاول جميعا، للذين يرغبون في تأدية صلاة القلب، أن يعطونها شكلا، ويكونون شهودا على الذين يحملونها حقا في قلوبهم، لا أطلب منكم أن تكونوا جميعا مسيحيين أو مسلمين أو هذا أو ذاك، أطلب منكم لحظة أخوة في حضرة الله. - واستُفسِر هل من خلاصة؟- قال: خلاصتي قلتها، اقتسام لحظة أخوة قائمة في الحضرة والمناولة الإلهية.

 

صلاة الروح

    سنحاول أن نتناول، دائما في محور الصلاة، صلاة الروح. بدأنا الصباح بالكلام عن الصلاة الشعائرية، الشعيرة الخالصة، ثم انتقلنا إلى صلاة القلب، وفي هذه الظهيرة سنتناول صلاة الروح. نعلم أن في الإسلام، توجد لدينا قواعد الإسلام الخمس، وهي الشهادة، وتعتبر القاعدة الأولى، وتعرف بشهادة الإقرار، والقاعدة الثانية هي الصلاة، التي نتكلم عنها اليوم، والثالثة الصيام، والرابعة الزكاة، والخامسة هي الحج. والقواعد الخمس تتجذر أو تستند على ما تسمى الأركان، هي الزوايا الثلاث التي ترتكز عليها القواعد الخمس. والأركان الثلاثة هي الإسلام والإيمان والإحسان.

    كل صلاة تتوافق مع ركن من الأركان. تتوافق الصلاة الأولى التي تكلمنا عنها مع الصلاة الطقوسية، مع الصلاة بحسب الشريعة. والثانية تتوافق مع حالة الإيمان. والثالثة مع حالة الإحسان. تتوافق الصلاة الشعائرية مع الشريعة، وهي في تناغم مع نصوصها. في الغالب لا ينظر المسلمون وغير المسلمون إلى الصلاة إلا للتي هي بهذه الصيغة، على النهج الشرعي، وهي تتوافق مع المستوى الأول والركن الأول، وهي الصلاة المرئية، والصلاة الشكلية، التي نراها في التليفزيونات، ونراها من خلال الصور. ولكن صلاة الإيمان، صلاة القلب، تتوافق مع القلب، وهذه غير مرئية، تقام في حميمية المرء. الشاهد الوحيد على صلاة القلب هو نحن، ومن إليه وُجهت. إن الصلاة الأولى، الصلاة الشعائرية، الصلاة الشرعية، تمنحنا البدن أو الشكل، والثانية تمنحنا النوعية، أي روح الصلاة ونوعيتها. في حين أن الصلاة الثالثة أو المستوى الثالث، الذي هو صلاة الروح، فهذه، تتجاوز إلى ما هو أعمق. إذا كانت الأولى في الشكل، والثانية في النوعية، فالثالثة في الرؤية والإنصهار. لا تبقى فقط على مستوى الشكل، ولا على مستوى النوعية، حتى لو كنا نملك إيمانا لا يتزعزع، فهي تقام في سعادة، في النظرة في الإله، في الصلة بالألوهية، وهي الإتحاد المطلق، ذلك الإنصهار وتلك الرؤية  في الإتحاد المطلق. مبدأ الإسلام الأول هو التوحيد، لا وجود للإثنينية. شخص يصلي له، وشخص يستقبل الصلاة، ولكن ثمة توحيد تام بين المبدأين. المحب والمحبوب يشكلان واحد. نجد أن الإسلام قد أخبر بهذا المبدأ الأساسي، لقوله تعالى "هو الأول والآخر والظاهر والباطن". الآية 3 من سورة الحديد. إنه المبدأ حيث يلتقي التسامي والملازمة، ويتكاملان. ليس أنه الإنسان الذي سيصبح ربا، ولكنه الله لم يزل باقيا فينا. وهو نفس مبدأ الشهادة أن لا إله إلا الله. نحن نرجع إلى المبدأ الذي به، جميع الشرائع الدينية والروحانية، وما نسميه الشريعة؛ لا تقوم سوى بجعل الأمر يبدو سطحيا، ولكنه جوهر  صرح الدين الإسلامي، أو ما يعرفه باسم الحنيفية. – وعندها سأله المترجم، ما الذي يعنيه؟ فرد الشيخ -. تكلم عنه القرآن كثيرا، وذكره في عدة آيات، وخصوصا قوله "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيمون الصلاة". الآية 5 من سورة البينة. من الصعب إيجاد كلمة مرادفة لحنفاء، أو ترجمة، ولكن قيل أن إبراهيم كان حنيفا، لقوله تعالى "لم يكن إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا". الآية 67 من سورة آل عمران. إنه حال، وليس كيفا يحدد دينا. ولكنه كيفا يحدد حال كينونة. إن الحنيف من فارق الكل، واعتزل الجميع. إذن هي هجرة كل ما ليس هو، وكل ما سوى الله. تقودنا صلاة الروح إلى ما تسميه إحدى الآيات بـ"الأمر". "يسألونك عن الروح قل إن الروح من أمر ربي". الآية 85 من سورة الإسراء. يقودنا هذا الإدراك من خلال صلاة الروح إلى عالم الإطلاق، وإنه من مستوى الإطلاق المحض. في حين أن صلاة القلب من العالم الملائكي والنوراني، وأن الصلاة الشعائرية  تتوافق مع العالم الظاهري. إنه كما لو أننا ننظر إلى إنسان، فنرى بدنه. إن أول ما نراه في المرء هو بدنه، ومن هذا البدن ينبعث ذكاءا وإرادة، وإذا تقدمنا أكثر، ونظرنا في عمق البدن، قد ينبعث إشعاعا، وفي هذا الإتجاه.. ذلك يعني أنه كلما اقترب إنسان أكثر من حد عالم الإطلاق والروح، في مطلقه، كلما فقد من مادته وخفّ، ولن يعد سوى غلاف جسدي يلمع، يقتات من نور الروح. وهؤلاء باقون حتى بعد فناء البدن، وهذا ما يذكرنا بعيسى عليه السلام، فهو يمسنا بالروح وليس ببدنه. كلما اقترب الفرد من هذه الحالة الروحية، كلما أصبح كما وصفه القرآن في سورة النور، الآية 35، في المثال الزاخر، الذي يصف فيه المولى عز وجل نفسه.

"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".

    هنا يصف لنا عملية، حيث يتجسد الله عز وجل، وتصبح المشكاة هي الكائن، أي القلب الذي يتحول إلى مصباح وكوكب يتغذى من هذه الزيت الأصلية، من هذا الرحم الأصلي، ويتحرر من المشرق والمغرب، ويبقى في الله ولله ومع الله. - قال الشيخ للمترجم، أعرف أن الأمر صعب، فرد المترجم، بمأنه جميل، فهو لا ينسى -. تعلمون أن عند هذا الحد تخون الكلمات والعبارات، وحتى البليغة، لأن المسألة هي مسألة تجربة، وشيء يعاش ويُتذوق. نصبح في الآن نفسه، الشاهد والمجرِب وموضوع التجربة، نكون الثلاثة في الآن نفسه. وهذا ما فسره لنا بعض المشائخ بقولهم "من عرف الله كلّ لسانه". والذي يعنيه أن ثمة شيء يتجاوز العبارة. وأيضا للحفاظ على ثراء وتنوع وخصوصية التجربة، وإنه الكائن يعيش في حميمية مع الله. كل كشْف عنها، لا يقوم سوى بإنقاص من حجم هذه التجربة، ويكبح تناغمها، ويحصرها، فهي لا تعاش سوى في حميمية الذات، وبموت النفس يولد المرء من جديد، وعندئذ، تصبح هذه التجربة بعثا. وهنا نجد هذا الحديث النبوي، عندما يقول "موتوا قبل أن تموتوا".

    كيف نموت قبل أن نموت؟ وما مدى مفهومية هذا المعنى؟ أمر محير. طالما كان للصوفية مناهج مضللة، مع العمل على الإيقاظ، ولإيقاظ الفرد يعملون على إرباكه وتضليله، وعبارة الموت العزيزة عليهم، وغالبا ما يتكلم المشائخ الصوفية عن موت النفس، وعن البعث هنا في الدنيا. أتكلم عن الحياة الدنيا. سأقص عليكم نكتة، لأننا أُخِذنا بعض الشيء في الروح، وبدأنا بعض الشيء في.. سأعود مع القليل من المرح للترويح.

   كان هناك شيخ مع تلامذته، وكان يدرّسهم هذه الفكرة وهذا المفهوم حول الموت قبل الموت، ما يعنيه رؤية الله في كل شيء، وعدم الخوف من أي شيء، وكل شيء منه، وكل شيء عائد إليه، وإلاهي، بشكل ما. وفي ساحة المكان الذي كان يلقي فيه درسه أو يقيم جلسته التعليمية، ها هو ثور ضخم يكسر الحاجز، ويهاجم المجموعة، ودفعة واحدة قال الشيخ لتلامذته تفرقوا واحذروا، فإنه يهاجمنا، ونهض هو الأول. وبطبيعة الحال، بعدما ما مرّ الثور، اجتمعوا وقالوا له، سيدي، منذ خمس دقائق، قلت لنا لا ينبغي الفرار، كل شيء آت من الله، قال نعم، ولكنني فررت منه إليه. بتسلقه شجرة. (ضحك). دائما، إنه الطريق الوسط الذي ينبغي البحث عنه على الدوام، طريق الحكمة هذه، التي تأمرنا، مع التوجه إلى الحق، فهي في ظاهرها، لم تكن أبدا ما نعتقد أنها عليه، لها وجوه عديدة، ولها أشكال عديدة، وفي هذا فهي مربكة. قدم الشيخ العلاوي، جدي الأول، مثالا، أعتقد أنه يقربنا نوعا ما من هذه الحقيقة. أخذ مثال الحروف والقلم والمداد، وقال أن أيّ حرف لا يأخذ شكلا إلا بواسطة القلم. نحتاج إلى قلم، قلم جاف، في السابق كانوا يستعملون قلم ريشة، والآن نحتاج إلى قلم جاف أو شيء يمكن أن يعطي للحرف بداية شكل، ونحن بحاجة إلى إعطاء هذا الشكل لخداع القلم، ومنه المداد، وبمجرد أن نضع القلم على دعامة أو ورق أو جلد أو شيء آخر، فنبدأ بالنقطة. في الحقيقة، كنا في بداية وجودنا نقطة. في الأصل، إن حقيقة كل حرف، إذا أردنا أن نرسم حرفا، فإنه يبدأ بنقطة، والحرف نفسه هو مجموعة متتالية من النقاط. – وكتب الحرفين الألف والباء العربيين -. ليست سوى نقاط متتالية، تشكل خطوط، وتشكل منحنيات، وغير ذلك. والخلق في ناظريه ليسوا سوى مجموعة حروف، بحكم رابطتها تتجمع. إذا أردنا كتابة كلمة "محبة"، يجب تجميع الحروف ميم، حاء، ياء، والتاء المربوطة. ترتبط هذه الحروف وتشكل كلمة. شكلت هذه الكلمة فكرة مفهومة. والمحبة التي كانت مستترة وباطنة أخذت شكلا. بمجرد أن تأخذ شكلا، وبمجرد أن تولد، ستتولى المشاعر التي تحملها، وتعلن أنها كائنة. والشيء العظيم أنه لكي تتواجد فإنها ستحرض مضادها "الكراهية"، وبهذا السياق نشأ الكون. وبالتالي، أنجبت الحروف كلمات، والكلمات مفاهيم، والمفاهيم نظريات وكتب وإيديولوجيات، وهكذا ودواليك. إن رغبة الأشياء في الإيجاد أفضت إلى أننا نحرّض مضادنا، وإنه صراع للأبد، يحافظ على الخليقة، في حركية ثابتة، ونعيش دائما في حركة ونشاط وإبداع. من ذا الذي يستطيع اليوم أن يرجع إلى النقطة، بدون أن يدمر كل ما يحمله، كل هذه المنصة التي تشكل الخلق؟ انظروا إلى كل الحكمة التي نحتاجها حتى ندعي أننا نمتلك الحقيقة؟ إذا قال أحدنا أنه يمتلك الحقيقة، سيدمر كل ما يحيط به. أعرف أن الذي أقوله يبدو غريبا، ولكن بتقطيع الحرف إلى نقاط، ماذا سيتبقى من الحرف، وماذا سيتبقى من الكلمة والمفهوم والدين والتنظيم الإجتماعي؟ ماذا لو فصلنا الذرات عن الماء؟ وماهي الذرات؟ يتكون الماء من نقاط، سماها العِلم ذرات، وهو يشكل جزيء HO، وأعطيناها علامات مميزة، ذرتا هيدروجين وذرة أوكسجين، وإذا فصلت ذرتي الهيدروجين عن ذرة الأوكسجين، لا تحصلون على الماء. ستدمرون تناغم يشكّل واقع، هو نفسه يعطي الحياة، وهكذا ودواليك. - قال متوجها للمترجم، سامحني بصدق، حتى أنا لا أفهم نفسي -(2). لهذا ترك جلال الدين الرومي جملة بسيطة، أحبِها كثيرا، قال، عندما يفتح المؤمن كتاب الله، ويقرأ كتاب الله، أي، وعندما يقرأ كتاب الله، وإنما كتاب الله يعني جميع الكتب. قال، عندما يفتح المؤمن كتاب الله ويقرأه، تسيل الدموع من عينيه، وعندما يفتح العارف كتاب الله ويقرأه، يكون في فرح. لم يقل لنا لماذا؟ أقترح أنه من أجل دعوتنا للتفكير. إن العارف عندما يفتح الكتاب ويقرأه، لا يرى سوى السعادة والرحمة، وربما، بطريقة ما، إنه اللعب الإلهي، وأن الله يستمتع في خلقه. إن الذي يبكي يقرأ القرآن في الدرجة الأولى، إنه يبحث عن دخول الجنة، أما العارف، فالجنة يعيشها، وتغمره سعادة لقاء الله، ولقاء الخليل. هنا يكمن الفرق. إن القراءة الأولى مثل الصلاة الأولى، نقوم بها مقابل جزاء وخوف من عقاب، ولكن الصلاة بالروح هي صلاة العبودية المستمرة ودوام الحمد.

    شكرا لكم على تحليكم بالصبر، والإستماع إليّ كل هذا الوقت، والآن، إذا كانت لديكم أسئلة، سنحاول الإجابة، وشكرا على تحليك بالصبر، والترجمة لي...

 

الإجابة عن الأسئلة

    سأبدأ بهذا السؤال. ماهي الصلاة على النبي والأنبياء؟

    على كل حال، في الإسلام عندما نقول اللهم صل وسلم، دائما نقرن الصلاة بالسلام. والمعنى هنا، أن بصلاة الله على النبي، في قولنا اللهم صل وسلم، فالقصد فيها اللهم "صِلْهُ"، وستبرز فكرة صلْه بوصلة "الصلة". مما يعنيه، أنه عندما يصلي الله على الكائنات، فهو يصلي عليها بالصلة التي  يعقدها معهم... ولهذا ينبغي أن نقرن الصلاة بالسلام، وذلك يفيد، أن دروب الله لا يجب أن تفني الكائن الذي هو نحن. سأقدم لكم صورة ستشرح، صورة يمكن لكل واحد منا أن يفهمها. أنتم تعلمون أن الحياة على الأرض لا يمكن تصورها إلا بوجود الماء والأوكسجين والكربون وغيرها، ولكن يوجد شعاع شمسي، وإذا كانت الشمس غير موجودة، فالحياة ستكون على الأرض مستحيلة، وماذا لو كان هذا الشعاع الشمسي يصلنا مباشرة، من دون أن تكون للأرض حماية محيطة، التي نسميها طبقة الأوزون. تمنح الشمس الحياة لجميع المخلوقات، ومن الله نطلب أن يمنحنا الحياة. وأن يمنحنا الحياة، فأجل. وهي تلك الصلة التي تعقد، وتَقترِن بها حماية، لأننا لا نستطيع تحمل قوته، قوة نوره.

    سؤال آخر، يقول هل صلاة الروح تنبع من أنفسنا أو تُنفخ فينا؟ يطرح هذا السؤال طوال الحياة. هل الحياة نبعت من أنفسنا أو نفخت فينا؟ على كل واحد منا أن يجيب على هذا التساؤل، من تجربته الخاصة. عندما نقول أنه نفخ، فذلك يعني أنه حدثت نفخة، شيء ما، نفخة تأتي من جهة أخرى. ولكن النفخة، مثل النفخة التي نفخت في بطن السيدة مريم، وأعطت ميلاد سيدنا عيسى، لم تتحقق، سوى أنه كان في الجهة الأخرى قبول، وتسليم للإرادة الإلهية. إذا كنا مستعدين لتلقي هذا النفخ الذي يضعنا في مستقر صلاة الروح، فأجل، نحن مثل السيدة مريم، قادرين على إنجاب الكلمة الإلهية.

    سؤال آخر حول حرية الإرادة (التخيير). عن الإرادة الحرة، التي يتمتع فيها الإنسان أو يتألم، ماهي مكانتها في منظور الخالق؟ أعتقد أن أينشتاين الذي يقول أن الله عز وجل لا يلعب بالنرد، والله عز وجل ليس بشخص يلعب بالنرد. لا نقيس المفاهيم الإنسانية على مستوى الألوهية. فهذا خطأ. وحرية الإرادة تجعلنا نكبر، ونصبح أكثر مسؤولية، وهي حرية أعطيت لنا لكي نتحرر، وليس من أجل أن ننخفض. حتى لا يجبر أي إنسان مهما كانت قوته، وبلغ علمه، وأيضا روحانيته، إنسانا آخر على اعتناق دينه وإيمانه وتبني أفكاره، لأنه جاء في القرآن الكريم "لا إكراه في الدين". لا نستطيع أن نكره أحد على تبني قناعاتنا. هذا السؤال هو بصدق واسع. إن حرية الإرادة هي وسيلة للقول للإنسان تواجد بنفسك، إني أثق فيك، خلقتك، ثق في نفسك، واجعل من الحياة الدنيا حياة كرم وجمال وعز ومحبة وأخوة، ولا تتحجج بالله أو كلام الله، لتشبع شهواتك.

    هل يمكن أن تذكر لنا كلمة عن الذكر؟ شكرا على تحياتك. نستطيع أن نصِل الذكر بصلاة القلب. كان علي أن أكلمكم عن الذكر، عندما تكلمت عن صلاة القلب. تتغذى صلاة القلب من الذكر، وهي التي تغذي تلك الطاقة الباطنية. قال تعالى "اذكروني أذكركم". للذكر قواعده ومهامه، ويجري وفقا لأسمائه تعالى وصفاته الإلهية. تكلمنا في الصباح عن اليهودية، التي تعدّ 13 إسما، وفي الإسلام عندنا 99 إسما، والمائة هو الذي نسميه الإسم الأعظم، الذي يبقى مجهولا، ولا يعرف أحدا كيفية ذكره، سوى الذين كشفها الله لهم. يبدأ الذكر دائما بواسطة العلاقة الموصلة بالأسماء الحسنى، التي تصبح طاقات تغذي القلب. ما الذي يعني ذلك؟ عندما نتكلم عن إسم الرحمن والرحيم، أو إسمه السلام، الذي هو من الأسماء الحسنى في الإسلام. والله هو المؤمن الأول، والمؤمن صفة إلهية، لهذا يمكننا أن نؤمن، ولأن الله يؤمن في نفسه. ويمكننا أن نتذوق أو نعيش الرحمة لأن الله هو الرحمن. توجد أسماء موكلة للإنسان، بشكل ما، يستطيع الإنسان أن يتحلى بها، وبها يتحقق. وتوجد صفات أخرى مطلقة محسورة لله تعالى، إلا للذين ماتوا قبل أن يموتوا، والأخرى هي هذا الشكل من الذكر، الذي يغذي به الذاكر باطنه، صلاته الباطنية، صلاة القلب هذه، والتي بواسطتها يتحصل على هذا النور، الذي يوسع ويسمو بضميره.

    في سؤال قيل فيه: في الصلاة لا نقرأ سوى القرآن، كيف تخلق قراءة القرآن صلة بين الله والكائن؟ في سياق كلامك عن الصلاة ذكرت الذي لا يصلي. هل يمكن أن يكون لنا سبيلين أو ثلاثة؟ في الأول لماذا نقرأ القرآن في الصلاة الشرعية؟ ولا تكون مقبولة إلا إذا قرأنا القرآن؟

    لم يقله الله سبحانه وتعالى في أي مكان، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم قاله البتة، فالفقه الإسلامي هو الذي أورده، ومعيار تم ضبطه، هذا ما جرى تاريخيا، وهذا في المقام الأول. في المقام الثاني، لتحديد هذا المعيار، انطلقوا من تحليل مفاده، أنه من أجل الصلاة، يجب النطق بكلمات تكون صافية خالصة، لأنها موجهة لله عز وجل. في الصلاة الشرعية، إننا نتحدث عن الصلاة الشرعية، الشكل الأول من الصلاة، التي تكلمنا عنه في الصباح، لأنهم يقولون، كل صلاة صادرة لله، تكون متعلقة بحال ضميرنا، وربما قد نؤديها بطريقة صبيانية، وقد تكون موجهة لله عز وجل، وتخل بجلال وجهه. إذن، ولتفادي أي مجازفة، نقرأ القرآن، لأنه كلام الله، وإذ أن الله سبحانه وتعالى يصلي على نفسه. ليس ثمة خطر يداهمنا. لسنا سوى الوسيلة التي يصلي بها على نفسه. لا أعلم إذا كانت الإجابة قد أقنعت الذي طرحها.

    عندما تتكلم عن الوضوء بالصخر أو الرمل، ماذا تقصد بالحد الأدنى لاستعادة الصلة؟ اشرح لنا أكثر هذا المنظور. قلنا أنه لكي تجوز الصلاة، نقوم بالوضوء، والوضوء هو وسيلة تطهير، يضعنا في موقف، يسمح لنا بالخروج من الدنياوي والتوجه نحو المقدس. نحن نعرف الأوضاع التي نعيشها، والفساد الخلقي الذي يعيشه الإنسان، وجعلت هذه الوسيلة للإنتقال والتجهيز، ولجعله في وضع يفي بشروط الصلاة. أتموضع في موقف يفي بشروط الصلاة. وذلك يعني أنه ثمة إرادة ونية، ويوجد شيء يجعل من صلاتي صحيحة، لأنني أتجهز لهذه اللحظة، وهي لحظة ليست مثل بقية اللحظات، والمقصود من ذلك، حاولت هذا الصباح شرحه، من أن الماء رمز الحياة، وإن فُقِد هذا الرمز، يجب أخذ آخر، أخذ الحالة المعدنية، أي هو الرمل، الذي يوحي إلى مكان صحراوي، وموضع لا ينبت فيه أي شيء، ويبقى الصخر صخرا، شيء قاسيا. من أي شيء، وبإرادتنا ونيتنا، نتحضر للدخول في الصلاة، ونعقد الصلة التي تجمعنا بالله. لا وجود لليأس. يبقى الأمل قائما على جميع المستويات.

    هل نستطيع أن نقول بأنه على أساس صلاة الإسلام أقوم أصلي صلاة الآخر، وأؤدي بها صلاتي، صلاة الروح، حتى ولو كانت صلاة لدين آخر؟

    (تعجب). المخاطر.. هنا، حقيقة نترك الطريق السيار، ونسلك الطريق بمنعرجاتها. ولكن قبل ذلك، ما معنى صلاتي، وما معنى صلاة الآخر؟ هذا يعني أن يوجد إلهي وإله الغير، وإذا وضعتم أنفسكم في موقف التوافق بين الأديان، لن نتقدم أبدا. بالعكس، إن المحبة  تُبادل بالحوار الصريح، بغية محبة الله، وأن تحب لغيرك ما تحب لنفسك، وأن لا تفعل بالغير ما لا تريد أن يفعل بك. هذا سلوك يسمو بنا جميعا. لا ينبغي أن نضع أنفسنا تحت ضغط تصرف نظامي، يفرض علينا أن نفعل هذا أو ذاك. إذا أردتم أن تؤدون صلاة القلب أدوها بجميع لغات العالم، مادام أنها لغة القلب، ليس لها شكل، وتؤدى في حميمية، قلت، أنها تكون في حميمية الفرد والله عز وجل، وإذا أردتم أن تصلون صلاة مسيحية، صلوا صلاة مسيحية، وفق العقيدة المسيحية والطقوس المسيحية، إذا أردتم أن تصلون صلاة إسلامية، صلوها طبق الشريعة الإسلامية. هذا لا يعني أنه محرم علي قراءة الصلاة الربية(3) كوني مسلما، ويمنع علي قول لا إله إلا الله، إذا كنت مسيحيا. إذا وضعنا أنفسنا في وضع صريح وأخوي، حيث يحترم كل فرد، ضمن اختلافه وطريقة تعبيره للإله، وصلاته له، وتمجيده إياه. لنتجنب، أقول هذا المطبخ، الذي من أجل أن نرضي الجميع، نخلط المطبخ الصيني بالمطبخ المغربي. يبقى المطبخ المغربي مغربيا والمطبخ الصيني صينيا. هكذا أنهي، حتى أوضح لهذا الشخص، الذي طرح علي هذا السؤال، وقد طرحته على نفسي، وحتى يعلم كل واحد منكم، أننا لسنا المسلمين والمسيحيين الأوائل، الذين اجتمعوا معا في محل، فإنه يجري على الدوام، وعلى الخصوص جرى في الدهور الأولى، أكثر مما هو عليه كائن الآن.

    استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة وفد مسيحي جاء من مدينة نجران، الواقعة جنوب الجزيرة العربية. وتتواجد  نجران حاليا بجنوب السعودية. أتوه بوفد يتقدمهم أسقف ليتفاوضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينظروا من هو هذا الرجل، وماذا يعلّم وأي دين يدعي وغيرها. تناقشوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي نهاية النقاش، قالوا له أننا لن نعتنق الدين الذي جئت به، ونكتفي بديننا، وجرى بينهم اتفاق، ولتزال الوثيقة المبرمة موجودة لدينا لحد اليوم، وهي رسالة كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المسيحيين. في الأخير طلبوا منه مكانا يقيمون فيه القداس، وليس أي قداس، كان قداس الفصح. في القديم كانت الأسفار طويلة الأمد، وقد طال سفرهم، أكثر من المتوقع. استلزمهم الأمر أداء قداس الفصح بالمدينة المنورة، وقال لهم رسول الله، أفضل مكان هو بيت الله. إذن مسيحيون صلوا صلاة الفصح، في أحد الأمكنة الأكثر تشريفا في الإسلام، في أول مسجد في الإسلام، وهذه حقيقة تاريخية، نقلها جميع المؤرخين. شيء آخر، إن أحد أكبر المساجد في العالم، وأحد أقدمها، بعد مسجد المدينة المنورة، وهو مسجد الأمويين بدمشق، هو اليوم مسجدا، ولكن من قبل ماذا كان؟ كان معبدا مكرسا لجوبيتر في العهد الروماني، وعندما انتشرت المسيحية في الشام، أصبح كنيسة، وبه دفن سيدنا يحيى، أو رأس سيدنا يحيى مدفون بهذا المسجد، وهو مكان شريف ومقدس بالنسبة للمسيحيين والمسلمين. عندما بلغ الإسلام الشام، اقتسمت الأمتين المسيحية والمسلمة هذا المكان، وكانوا يؤدون صلواتهم هناك، جاعلين منه في الآن نفسه، كنيسة ومسجد، ليس لعام واحد فقط، بل دام الأمر سبعين سنة، إنها الأمة الأولى، أريد القول، أولئك الذين كانوا قريبين من النبع، لم يكن بإمكانهم أن يرتكبوا عمل يستحق الشجب، واليوم بعض الميولات الإسلامية تمنع المسلمين من دخول الكنائس. طالما اعتبر الإسلام الكنيس والكنيسة والمعبد وكل محل مكرس لعبادة الله، أماكن جائز للمسلم دخولها، ويؤدي بها صلواته.

    أردت أن أنهي بهذه القصة، حتى تتمكنوا من البناء بناءا على وقائع تاريخية، حيث هذا اللقاء يندرج في الإستمرارية التاريخية لروح الحوار هذه، والأخوة المنسجة بين الأمتين، وشكرا جزيلا.

    إنه وعد ينبغي أن نفي به، إذن ينبغي أن نهي بصلاة، أعتقد أننا سنرتل سورة الفاتحة، حتى تفتح لنا هذا البعد والرحمة الإلهية.

    وقرئت سورة الفاتحة جماعة وجهرا.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1). عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، عِظْني وأوجز. فقال: إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودِّع، ولا تَكَلم بكلام تعذر منه غداً، واجمع اليأس مما في أيدي الناس". رواه أحمد.

(2). ليكن واضحا، أن الشيخ خالد بن تونس كان يتكلم، ويترك حيزا للمترجم، وذلك حتى يتضح سياق الكلام.

(3). الصلاة الربية هي صلاة مسيحية أوصى بها سيدنا عيسى عندما سأله تلاميذته كيف يصلوا وهي مذكورة في الأناجيل. وتعتبر الصلاة الأكثر انتشارا عند المسيحيين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق