الأربعاء، 9 مارس 2011

الإنتقال من ثقافة أنا إلى ثقافة نحن

الإنتقال من ثقافة أنا إلى ثقافة نحن


    بعد بسم الله الرحمن الرحيم

    سيداتي، سادتي مساء الخير، Guten Abend ـ ذكر التحية باللغة الألمانية ـ. سامحوني لا أتكلم لغتكم، أتمنى بشكل ما، أن ألمس قلوبكم، و يكون هذا اللقاء، لقاء تبادل و حوار خصب و بنّاء، في عالم يشهد تحولات كثيرة، و في بحث عن المعنى، و عن السلم و المستقبل، عالم بطبعه عنيف جدا.

    أولا، أقدم تشكراتي إلى البروفيسور الذي دعانا إلى الجامعة. فالذي أبدأ به هي جملة لرجل مشهور جدا، قال: " يبني الناس الكثير من الأسوار و قليل من الجسور ". سنحاول اليوم كلنا، بناء سور تفاهم، و سور أخوة و تبادل، يسمح لنا كلنا بأن نتعارف أكثر، لأن الإنسان مرآة أخيه. الغيرية. الآخر مرآتنا. لننظر بواسطته لأنه يمتحننا بنظرته و تساؤلاته، و بسبب إختلافه، و لأنه يتكلم و يأكل بشكل مختلف. فهو يستفهمنا عن ثقافتنا و كائننا.

    في عالم يشهد تحولات عميقة و تحد، و أزمات بيئية، و طاقوية، و إقتصادية، و التغيير المناخي، نحن على أبواب نهاية نظام، الكل يثبت أننا عند نهاية نظام، نهاية عالم، و بصدد ولادة آخر. كلنا في انتظار أن يبرز هذا العالم الجديد، عالم من أجل الحوار و الحضارة حتى تستمر الإنسانية على هذه الأرض.

    أتصور هذا الحوار الجديد في الخروج من ثقافة "الأنا" إلى ثقافة "النحن".

الشكل ( 1)

الشكل (2)

    إستعملت كل التقاليد الدائرة كمركز للوحدة، وحدة الكائن، و الأمة، و العالم. نجدها في كل الثقافات. لنرى الشكلان، ثقافة "الأنا" (الشكل 1)، و ثقافة "النحن" ( الشكل 2). ترتكز ثقافة الأنا على الهرم، في قمته أنا، السلطة التي توزع الثروات و المناصب و تعطي القرارات. في أسفله القاعدة التي تطبق و تطيع. ثقافة الأنا هي أخذ ورد بين القاعدة و القمة، بين الذين يريدون الوصول إلى السلطة و الذين يملكون السلطات، و يريدون الحفاظ عليها. ترتكز ثقافة الأنا على المواجهة، هذه حركيتها، بين الذين يريدون الإرتقاء إلى القمة، و أصحاب هذه الأخيرة، الذين يفعلون أي شيئ من أجل البقاء. هذه ثقافة قديمة، قِدم العالم، منذ أن وجدت الإهرامات حتى اليوم. لا نعرف غيرها. و رغم ذلك غمرت ثقافة النحن أحيانا الإنسانية، فقد وُجدت عند الحكماء و الأنبياء. هناك أسطورة لدى الإنسانية، لدى اليهود و النصارى و المسلمين، يأملون فيها بأسطورة أرض، و هي الحلم بالمُخلّص، و يعيش الكل في رفاهية و سلام، و في القسمة و المساواة. نجد هذه الأسطورة و هذا الأمل في كل التقاليد حتى الهندية، مثلا، أبوكاليبس (1) (نهاية العالم لدى اليهود و النصارى)، زمنها زمن التجديد، و ليس نهاية العالم.

    لننظر إلى ثقافة النحن، كيف تستوعب العالم و تتصور مجتمعا. تتكون الدائرة من مجموعة من النقاط تشكل محيطها. لهذه الحركية نقطة إتصال و إلتقاء، و كل واحد أينما تواجد من محيط الدائرة على علاقة بالمركز، و مساره نحوه. لدينا شيئ يجمعنا و يربطنا، يملكه الجميع و يؤيد حقيقتنا، حقيقة الدائرة. 

     عندما تتحرك الدائرة، كل نقطة في لحظة معينة من هذه الحركية ستتحمل ثقل بقية النقاط التي تكون المحيط. و هكذا بحركية الدائرة، كل واحد منا هو مدعو في الآن نفسه إلى المسؤولية و تحمل ثقل الكل. هذه النقطة التي تعطينا الحركية و تربط الكل هي على مسافات متساوية من الكل، بمعنى على مسافات متساوية من الكرامة و المساواة، و إلا فالدائرة ستنقطع. لا تشتغل الدائرة إلا إذا كانت كل نقطة على مسافة متساوية من المحيط إلى المركز. كل واحد في مكانه مهما كان أصله أو لونه أو فلسفته، لا أحد يملك المركز، نقطة الإرتباط التي تجمع الكل. كل شخص يقدم ما يستطيع تقديمه، و ينال  ما يحتاجه.

    أعطى الحكماء لهذه الدائرة، إسم دائرة الفضائل و الجود. و هذه قيم كونية. كما قلنا لا تشتغل الدائرة إلا بتساوي نقاطها بنفس بعد المسافة عن المركز، و كذلك بتواجد بين كل نقطة و أخرى إتصال، أي نسبة و تسامح و قبول و علاقة. إن حدث و لم تقم نقطة بدورها تنقطع الدائرة.

    نعيد. لكي تشتغل الدائرة، يجب أن تحترم القواعد. أولا يجب أن تكون النقاط على مسافات متساوية، و ثانيا كل نقطة هي في المقام، و الآن نفسه " الأول و الآخر "، و تضطلع بهذه الثنائية، و كل واحدة تملك فضائل تكون بها الأولى لأنها تقدم قيم، و لها آماني تكون بها الآخرة. كل شخص يمكنه أن يكون إيجابي أو سلبي، لا أحد دائم الإيجابية، يجب تقبل هذه المساواة التي بنا، أحيانا نصيب و أحيانا نخطئ، أحيانا نكون عنيفين و أحيانا نكون سمحاء، أحيانا نحسن و أحيانا نسيئ سواءا بالفكرة أو بالنية.

    لقد قلنا أن القاعدة الأولى بمسافات متساوية، و القاعدة الثانية على كل واحد أن يتقبل الآخر على حقيقة كائنه و لو كان مقابل له، لأنه بحاجة إليه و شريك، حتى تكون الحياة و تستمر الحركية. و من القواعد وجوب إحترام الآخر. الغيرية. لأنه موجود و إرادة إلهية، و عليه الإشتراك معه، و لو كان مضادا له. تقول الحكمة " لا تفعل بغيرك ما لا تريد أن يفعل بك ". هذا هو الأمر الأساسي، و المعيار الذي نتعامل به مع الآخر، و قاعدة كل تعليم.

    قد تقولون لي، هذا جميل، و لكنه طوباوي(2). بطبيعة الحال لدينا الخيار، مثل من قال " إن نهاية القرن العشرين هي نهاية التاريخ ". ما معنى نهاية التاريخ؟ بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي لم يعد يوجد إلا قانون واحد يسير العالم و يقوده، هو قانون السوق. أصبحت الديانات و الفلسفات و الإيديولوجيات شيئ من الماضي، و نرى الآن أضرار هذا القانون. تستفيد من هذا السوق الحر و المتوحش أقلية، أوصلت العالم إلى أزمة، هي الأسوأ في تاريخه منذ عشرات السنين. أو مع النظرية الثانية، التي أتت هي الأخرى من الولايات المتحدة لصامويل هونتينغون، بالنسبة إليه فإن العالم على مشارف صدام الثقافات و الحضارات(3). سيدخل العالم في حرب و صدام للحضارات، يتواجه فيه الغرب مع حضارة الشرق، الهند و الصين و خاصة الحضارة الإسلامية، و الحال أن فلسفة الدائرة تكلمنا عن إنسانية واحدة، و تذكرنا ببعدها العميق، و بالمستحقات و الفضائل الأصلية و الكونية، و القيم التي نقدمها لمركز موزع على الجميع. كل واحد منا هو كجسم الإنسان، تعمل فيه كل خلية لصالحها و لصالح الجسد كله. هذا يعني أننا حتى و لو كنا أنانيين سنساعد الآخر و نجعل منه شريكا، و يستفيد الكل.

    يدعمنا هذا في تنفيذ مهارة جماعية. كيف نوَحّد مهاراتنا و وسائلنا و معارفنا حتى يستفيد الجميع؟ كل شخص بمهارته و علومه يسمح للآخرين بالإستفادة، هذا ما نسميه المهارة الجماعية. لا تنسوا أن الإنسانية تتقدم منذ غابر الأزمنة ، و وصلنا اليوم إلى حالة فراغ و خلو و استفهام. بهذه النظريات و المفاهيم، و في عالم ينقلب نحو التشدد و التعصب و الطائفية و العنف و عدم التسامح، ماذا نقترح عليه بتنوعه مع احترام فردانية كل شخص، إذ كل واحد منا فريد و كائن كامل؟ كيف نحافظ على الفردانية مع الدعوة بالوحدة الجوهرية للإنسان و الإنسانية، و القيام بحريك مُنسّقِ مهارة جماعية، إذ تسمح لنا التكنولوجيا اليوم القيام بذلك؟ 

    بمقدورنا ربط و جمع مهاراتنا و جهودنا و معارفنا، فالذي ينقصنا هو أسوة. من أجل من نقوم بذلك؟ باسم من؟ الإيمان العقائدي نقص، و الإيديولوجيات قصيرة و في اضمحلال. إذن من سيحرك لدى الإنسان هذا الإيثار(حب الغير)؟ إننا في مواجهة أنفسنا، و أكثر فأكثر في العزلة. كل واحد منا في مواجهة حريته و مسؤوليته.

    الإنسانية في تقدم، فعندما نقرأ التاريخ، نجد أنها بدأت بمفهوم الإقليم. كانت المعلومة تغطي الإقليم و القبيلة، ثم أصبحت بلدا و مملكة، و بعدها أمة، و اليوم نحضر لتطور آخر، مثلا المجتمع الأوروبي و بلدانه السبعة و العشرين، الذين وضعوا قدرهم في قالب مشترك. تسلك الإنسانية عبر عصور، العصر الإبتدائي، و العصور الوسطى، و عصر الزراعة، و عصر التجارة، و وصلنا إلى عصر جديد، لا نعرف كيف نسميه، و لا كيف نحدده، فعلى مستوى الإقتصادي دعوناه بالكوكبة و العولمة. ينقص هذه الأخيرة روح و مَثل، بقيم تعطيها معنى. العولمة و الكوكبة مساومة، لا تقدم شيئ على مستوى الوجود و الحياة الباطنية، و ماذا عن المثل؟ لا تُنشئ الإنسان الباطني. حقا عولمته و جعلته مواطن عالمي بالإستهلاك. لم تأتي بقيم. و ما هو هذا الشيئ الزائد الذي نحتاجه لكي نتواجد؟ لهذا نرى أشكالا من الرفض و الخوف. لا نستطيع رفضها، و لكن هناك تخوف من هذا البسط، و تضييع المعالم  و الثقافة و الأصل، و الذوبان في الكتلة.

    إذا كان كل شيئ يخوفنا، فكيف لنا أن نتواجد؟ و إلا هذا الهروب، ليس إلى الأمام، بل إلى الوراء، أي نحو أسطورة التاريخ، يبني فيها كل شخص أسطورة أسلافه و مثاله. نفرّ إلى الماضي، و سيؤدي هذا إلى حالة إنطواء على النفس، إنطواء في الهُوّي(4)، و سندعي أننا مسيحيين، أو مسلمين، أو يهود، أو أنني ألماني أو من الغاليين،.... نُقدم إنتماء الهوي، و نعيش أسطورة أن الهوية تحمينا من العولمة. نبني أسطورة الأسلاف، في حين أن علينا أكثر من أي وقت مضى، التساؤل عن ماهية الإنسان؟ و من نحن؟  

    الإنسان قبل كل شيئ ضمير ( شعور). كلما تكثف و ازداد هذا الشعور فينا، كلما هدأ الإنسان في عواصف إمتحانات الحياة.

    بتنوعها في الألوان، و في الكثير من الأفعال، برزت كل الإنسانية من نفس المنبع، و نفس الجذر، مهما كانت أفريقية، أو أسيوية، أو أوروبية، أو من البيض، أو السود، أو الصفر، فنحن كلنا من نفس العائلة. إذن كيف يمكن أن نعيش حالة الشعور، ليس بالفكر فقط؟ هذا هو دور الروحانية.

    عن أي روحانية أتكلم؟ يتسائل كل  واحد منكم، أي روحانية؟ هي التي أنتجتها كل الإنسانية.

    تواجد الحكماء منذ أعرق العهود، و أقول كذلك أن الشعور تطور بحكمة الرجال الذين أنشأوا أول القوانين، و الذين حددوا قواعد و العلوم، و الذين ذكّروا الإنسان دائما بما هو أفضل له، و الذين حاولوا إفشاء الأخوة بين الناس، و للأسف لا يوجد في عصرنا تعليم هذه الحكمة التي تربط بين مختلف قراءات الحضارات. إذا أخذنا عقد أو مسبحة، سنرى لآلئ،  كل واحدة مختلفة عن الأخرى، لكلٍ لون، و لا أحد ينتبه للخيط الذي يربطها، و هو الروحانية التي تربط كل الحضارات و كل الجنس الإنساني. الخيط الغير المرئي الذي يربط كل لآلئ هذا التنوع و الثقافة البشريين.

    أقول، بكل بساطة أن كل واحد منا اليوم حر و مسؤول أمام قدرنا كلنا. كل واحد منا مسؤول عن الآخرين، مهما كانت جنسيتهم أو دينهم، و يتحمل مسؤولية عالم اليوم و الغد. و خاصة بأماكن المعرفة، التي تشكل و تصنع مستقبل الغد. تُدرس بها الجغرافية و الرياضيات و الديبلوماسية و فن الحرب، و لكن لا يوجد مكانا للحكمة. لم أرى حتى اليوم أي جامعة تدرس الحكمة. لم يُقم أي إستثمار في هذا الشأن للإستخلاص منها أفكارا و تصرفات، يمكن أن تساعدنا على التطور و الإرتقاء و التقدم لبناء مستقبل مشترك. خصوصا مفهوم الرحمة، الذي ينبعث من هذه الحكمة. لنتصور عالما يتعلم به أولادنا إنتاج الرحمة، و ليس زيادة النمو. يبدو ذلك جنوني. و لنتصور عند تعليم المعماري الهندسة المعمارية، نلقنها له بالرحمة، و لنتصور السياسي الذي يصدر القوانين، لنعلمه بوصفه سياسي، أن يصدر القوانين مقرونة بالرحمة. أصبح مفهوم الرحمة غريب. لقد نسينا أنها ليست مفهوم نظري، بل طاقة أنشأت العالم و الكون. للرحمن الرحيم إشارة مثل رحم المرأة. الرحم الإلهي كالرحم فينا. نفس الشيئ و نفس الكلمة.

    الوقت محدود. قبل أن أتلقى أسئلتكم، أريد أن أقول لكم شيئ واحد، لم آتي لذكر حقائق، أو أعطيكم دروس، جئت فقط لأشهد بأنه توجد لدى الإنسان طرق أخرى لرؤية العالم، و المخاطبة، و الحوار، و لبناء إنسانية لها معنى. شكرا لكم.

   
   ألقى الشيخ خالد بن تونس هذه المحاضرة بجامعة، بمدينة فيبورغ الألمانية في نوفمبر 2010. تلت المداخلة مناقشة، سؤال و جواب. ذكر الشيخ خالد بن تونس درسه باللغة الفرنسية، و ترجم إلى الألمانية السيد توفيق حرتيت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
 (1). أبوكاليبس، كلمة يونانية تعني رفع الحجاب أو الكشف، و هي السفر الأخير من الكتاب المقدس. يؤمن اليهود و النصارى بحدوثها في آخر الزمان.
(2). طوباوي: ما لا يوجد في أي مكان.
(3). بعد خروج هذه النظرية، أنشأ الشيخ خالد بن تونس نظرية "صدمة الجهل".
(4). الهُويّ: خاص أو متعلق بالهوية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق