الثلاثاء، 26 أكتوبر 2021

محاضرته بالذكرى العاشرة لمهرجان كان

محاضرته بالذكرى العاشرة

لمهرجان كان

 

 


    يومكم ويومكن سعيد

    في البادئ، أريد أن أشكر مدينة نيس التي سمحت باللقاء في هذا المكان الجميل جدا، على حافة هذه المدينة، على ساحل المتوسط، مهد الحضارات، ومشاركة هذه اللحظة، في ذكرى تهمنا جميعا، وخصوصا أهل كان، أولئك الذين كانوا الأوائل في الإيمان بهذه الفكرة وتبنّيها، وهذا منذ عشر سنين، رغم الصعوبات، ومحنة السنتين، وما تعرضنا له جميعا من حجر وتفرقة، في هذا العالم الذي في رمشة عين توقف، وها نحن اليوم في اندفاع جديد، وانطلاقة جديدة، بعد عشر سنوات من النضج. يندرج العيش معا اليوم إما في حقيقة جديدة أو طوباوية جديدة، لكم الحكم، وليحكم كلّ بنفسه، ويوجد معنا علميين، وأشكر جميع من قبِل المشاركة في هذا اللقاء، وإعطاءنا ايضاحات من أنوارهم، سواء في مجال اقتصاد السلام والرياضيات والعيش معا، وكذا الذكاء الاصطناعي وإضافاته ومساعدته ومساهمته في خلق صلات، وهي تلك الصلات الجديدة للعيش معا، التي ذكرتنا بها دومينيك، حيث يمكن للإختلافات أن تتسبب في إبطال كل شيء، ونجد أنفسنا بشكل ما، إما في وضع الرجوع إلى تخلفات الماضي أو الإنطواء، نتيجة التخوفات وسيطرة الشكوك، وأيضا بفعل سرعة التغيير الذي يطرأ علينا. لنقف جدار صد في وجه هذا التيار، ونحاول في قدر الإمكان، أن نرسم تخطيطا.

    يقتضي العيش معا في سلام والعمل معا في سلام الرجوع إلى القواعد الأساسية، وإعمال الفكر. كلنا درسنا في المدرسة، وكان درسُنا الأول تعلم الأبجدية. يوجد 26 حرفا في الأبجدية (اللاتنية)، أرى أنه يمكن لكل واحد هنا سردها بسهولة، وفي الضفة الأخرى من المتوسط توجد أبجدية أخرى، هي الأبجدية العربية، وتتكون من 28 حرف، وأن كل الأطفال في المدرسة، منذ الطور التحضيري أو منذ المدرسة الإبتدائية يعرفون على الأقل قراءة حروف الأبجدية، وستحضون بعد الظهيرة بورشة، قد توضح أكثر، وتضيف إلى أقوالي مفاهيم، وتفتح نقاشا مع المشاركين لتخصيب هذه الفكرة.

    إذن لنبدأ بتعلم حروف الأبجدية، كل حرف على حذى، بطبيعة الحال. نتعلم اكتشاف الأشكال، فلكل حرف شكله وبنيته، وأيضا هذه الحروف تتكلم، وتمتلك لغة. تتكلم ولها صوت. على سبيل المثال، الألف ليس كالواو ولا يشبه الباء. لكل حرف خصوصيته ويختلف عن الآخر، وتبقى هذه الحروف على خصوصيتها، وهي ليست سوى أصوات، وعندما تحدث المعجزة، أي عندما ترتبط، فنربط الميم بالحاء ويشترك معهما الباء والتاء المربوطة، وعندها نكتشف شيء يدهشنا. نكتشف أن الحروف المرتبطة والمتحدة، التي تقبل بأن تتحد، تُعطي معنى، ويضحى المعنى ظاهرا، ويرشدنا. تصبح محبة. ولكي يتواجد هذا المعنى سيحرض مضاده. وهذا يدل أنه إذا كانت توجد محبة، فإنه يوجد شيء آخر، يوجد مضادها، الذي سينبثق، ويقول انتظروا، انتظروا، نعم توجد المحبة، ولكن أنا كذلك أتواجد، وأسمّى الكراهية. ونحن نعرف كيف نستعمل الكراهية، وهي أيضا حروف.

   إن تعلم حروف الأبجدية 26 سيؤدي بنا إلى الفهم، بسيرورة إعطاء المعنى، مبتدئين بأنفسنا. لكل واحد منا إسم وهوية. يحمل إسم ويسمى السيد فلان. يُعرف باسمه ولقبه. نملك جميعا هوية. لنرى جميعا، ما هي الحروف التي نشترك فيها. ليرى كُلّ اسمه ولقبه، ويقول ما الذي يشترك فيه مع جاره. ما هو إسمي أنا؟ وما هو اسم الشخص الذي بجانبي، على يميني أو شمالي؟ أرى أنه بالتأكيد سنشترك في حرف أو حرفين، ونتقاسمها، وقد تكون ثلاثة. إذا ذهبنا أبعد، سنرى أن حرف الألف ممتد قائم، ويختلف عن الباء، الذي له هيئته الخاصة، وكذلك الشين، واللام إذا حاولنا تسقيم إنحنائه لا يصبح لاما، سيصبح ألفا. إن تقبل الحروف في مختلف أشكالها الأصلية هو الذي يصنع المعجزة، ويسمح لنا بكتابة وفهم الخليقة بإسرها. في حروف الأبجدية 26 يوجد إسمي وإسم جاري، وأيضا إسم الشمس والقمر والبحر والماء والشجر والبعوضة الصغيرة، والكون بإسره معروف في الحروف 26، وفي لغات أخرى في 28 حرف مثل العربية، وفي 22 حرف في العبرية، وتوجد لغات أخرى مثل السريانية وغيرها. يجب الأخذ شيئا ما بالحسبان كل أبجدية، وسنرى أنه كل من هذه الحروف يملك كلية المعرفة التي تلخص الكون بإسره، استنادا على واقع حقيقتنا ولغتنا الخاصة. يدفعنا ذلك إلى التفكير، في حال تقبلنا أنفسنا ضمن هذا الإختلاف التواجدي، ويكمن الإختلاف في تعدد الألسن والفلسفات والديانات وتنوع التعابير. تؤدي بنا الإختلافات إلى فهم هذه الخصوصية التي يتميز بها كل فرد منا، فيما تعطي الوحدة معنى. إنه العيش معا الذي يدفعنا إلى فهم الصلات التي تُوحدنا. وقد تسلك بنا هذه الصلات نحو بلوغ معرفة. معرفة النفس ومعرفة الغير ومعرفة بيئتنا. بلغت الإنسانية اليوم مبلغا، وقد سبق قول ذلك، لقد بلغنا درجة قطيعة، وعندما يقال قطيعة يقال أيضا تجديد..

    على المستوى الإقتصادي يكلموننا عن اقتصاد السلام، تحصلنا للتو على تقارب، وستقام ورشة بعد الظهر، ستوضح لنا بعض الأمور. إلى ماذا يدعونا اقتصاد السلام؟ إنه يدعونا إلى الإدراك بكل بساطة أننا لحد اليوم طورنا اقتصادا يرتكز على الفائدة فحسب، وينبغي الإنتقال من اقتصاد الفائدة نحو اقتصاد الرفاه. وما هو اقتصاد الرفاه؟ إن اقتصاد الرفاه هو الإقتصاد الذي حملنا طوال هذه القرون، بدون أن يُخلف نفايات. انظروا إلى اقتصاد الطبيعة، زوروا غابة، وانظروا ما تنتج الطبيعة، وما مصير المخلفات. نحن أول من أنتج بفضل حضارتنا مخلفات غير قابلة للتحلل، من مواد البلاستيك إلى المخلفات النووية. والطبيعة ليست ذكية مثلنا، بكل تأكيد، نملك ذكاءا خارقا، ولإثبات هذا الذكاء، تمكنا من اختراع الذكاء الإصطناعي، مما يعنيه أننا سلمنا بشكل كلي واستأمنا مستقبلنا لمجموعة البيانات الضخمة، لِآلات، للفرار من هذه المسؤولية. العيش معا شجعنا للتوجه نحن اقتصاد الرفاه هذا، نحو اقتصاد الطبيعة ووضع جميع تكنولوجيتنا، أين؟ أين وإلى أي وجهة؟ نحو إصلاح الأضرار التي تسببنا فيها في الأرض، هذه الجنة، وجميع الديانات تتكلم عن الجنة، وغالبا ما تتكلم عن جنة في الآخرة، ناسين أن الجنة الحقيقية، هي هذه التي استؤمنا عليها، هذه الأرض الهائلة، واحة الحياة هذه، ونحن لا نتكلم سوى عن لاوعينا وأنانيتنا، نحن بصدد تحويل هذه الأرض، لا أقول أن جميعكم على علم بذلك، كل عام يمر، والعملية تتسارع، بسرعة عجيبة، حيث تكاثر الإحتباس الحراري واتسع رقع تلوث البحار والأراضي.

    نحن نتقدم بأعين مغمضة نحو تخريب الأرض التي حملتنا، مع التجاهل أن الأجيال القادمة ستتعرض لمحن وعواقب، ستقودهم حتما إلى الشجار حول الماء والأرض والغذاء، ونحن نرى البحر الأبيض المتوسط، مهد الحضارات، الذي ظهر على ضفته العدد الأكبر من الديانات والفلسفات، فهو مثل الأم، التي أنجبت حضارات ونظريات فكرية. حول هذا البحر ظهرت الكتابة، هذه الأبجدية، التي يشكل كل منا منها حرفا.   

    إنه هذا الرجوع يكون نحو السلام الذاتي والسلام مع الغير والسلام مع الطبيعة، حتى مع الدواعي التي تنجر من الإختلافات، فإنها موجودة لتساعدنا على المضي قدما. إذا حدث خلاف، فليرجع كل واحد إلى خاصة نفسه، ويقول، نعم، على قناعاتي واعتقاداتي أن تتطور، لإيجاد اتفاق مع جاري. نعم يشجعنا هذا الرجوع على المضي قدما، وأيضا على إيجاد الطريق الوسط. في هذا الشأن لديكم ورشة بعد الظهيرة لتوضيح الأمر أكثر.

    بالنسبة لي هذه الذكرى، مع الموسم الأول، مثل الأفلام والمسلسلات، وسنخوض الموسم الثاني، وأرجو أن يفيدنا الموسم الثاني، مع وجود شخصيات ذات مستوى، وأريد أن أقول لكم، أننا البارحة شاهدنا فيلما "نحن جميعا"، الذي كان اكتشافا حقيقيا للذين شاهدوه بنيس، بسينما أكروبوليس، شاهدنا فيلما أين يتجلى العيش معا والعمل معا في وقائع الحياة اليومية، حول حوض البحر الأبيض المتوسط، وفي دول مثل السنيغال وأندونيسيا وصربيا والبوسنة، ولبنان البلد الذي تنهكه النزاعات، وكيف تدخل العيش معا والعمل معا لإصلاح الأضرار، وكيف أنه جرى لقاء بين الجلاد والضحية، ومن خلال العيش معا أعادوا بناء مجتمعهم. ومن هنا تكمن الأهمية في العيش معا والعمل معا، وأن على العيش معا أن لا يبقى طوباوية وحلم، ولكن عليه أن يدخل حيز التنفيذ، وعندها يصبح حقيقة، وعندها يصبح تلك الحقيقة التي نتقاسمها في هذا الصباح، والذي سنتقاسمه في هذين اليومين.

    شكرا جزيلا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق