الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

المعنى الحقيقي للإنسان الباطني


المعنى الحقيقي للإنسان الباطني


    في  يوم من الأيام طرح شخص هذا السؤال على جدي: « من أنت يا شيخ؟ ». فأجاب: « أنا واحد من الأخوة ».

    تطرح علينا اليوم، الأسئلة التي طرحت على كل الأجيال و الحضارات التي سبقتنا على هذه الأرض. في كل زمان تساءل الإنسان عن معنى الحياة: من أنا؟ لماذا أنا موجود؟ إلى أين سأذهب؟ و ماذا بعد الموت؟

    .... يوجه التقليد الصوفي الإنسان بكليته، في مسعى يسمو به، نحو التوحيد المجسَد بالإنسان الكامل... في التصوف، نضع رمزيا كل شيئ في دائرة. فالإنسان على صورة دائرة، كالكواكب في الكون. هذه الدائرة مكونة من قسمين: أحدهما ظاهر، جسدي، و الآخر روحي أو ميتافيزيقي، و يتواجد تناغم الكائن  في توازن الإثنين.

    يتكون القسم الجسدي من عدة مكتسبات آتية من أصولنا البعيدة: المعدنية، و النباتية، و الحيوانية. نحن ننتمي إلى هذه سلسة الخلق. لقد مررنا بداخلنا بهذه العوالم، التي تلعب – للعودة إلى مسألة المعنى- دور مهم جدا في حالنا و تصرفنا ( أنظر الشكل الموالي ). في بعض الأشخاص، تتجلى الحالة المعدنية في صلابة كبيرة، بينما تجعل منهم الحالة النباتية أشخاصا خاضعين للشهوة و الحاجة. يتحدد نمو النبتة بطلب الماء المغذي و الضوء. يمكن للنبات أن ينبت كليا بشكل عرضي، مكيفة بالإحتياجات التي تحركها. حتى الإنسان سيكون مكيفا هو كذلك برغباته، و حواسه، و باللمس، و الكلام، و المعدة، و الجنس، إلخ. يخضع لقوانينه الطبيعية التي وصلته من أصوله البعيدة. أما بالنسبة للحالة الحيوانية، أعتقد أنكم ترونها تتجلى كثيرا، و لا نحتاج إلى وصفها. العدوانية الثابتة، و الإنجاب، و القوة العنيفة، و القدرة العمياء، و الحياء، إلخ. هذه الخاصيات ناتجة عن الأصل الحيواني الموجود بنا، و بها يُكيَف تصرفنا. إذا فهمنا جيدا هذا القسم من الإنسان، إذن سنحاول إتزانه بالقسم الروحي الذي يأتي لتلطيف الحالات السفلية. هو من سيربي الإنسان، و يعطيه معنى حقيقي لمساره الإنساني. في هذا الطور يصف التعليم الصوفي عدة مراحل محتواة في هذا القسم الروحي. الأولى هي للفكر أو العقل. و هي مَن يسبب التساؤل فينا، و تحدث التمييز، و تجعلنا نختار، و نتصرف و نسمي الأشياء... كل هذا تنسيق العقل. أليس الفكر من دفعنا من أعماقنا إلى المجيئ اليوم هنا، للبحث و الإستماع، و تبادل الأفكار ليساعدنا على توضيح هذا البحث عن المعنى؟

    مع ذلك، فإن العقل نفسه لا يكفي، حتى و لو كنا نتمتع بوجوده. أليس هو من سمح بتمييز الإنسان عن الحيوان؟ ( و ماذا يعني الإنسان بدون العقل؟ ) في الحقيقة لا يكفي العقل لوحده، يستلزم أن يُرافق بشعور. و هذا ما يتطابق مع المرحلة الثانية. فهذا الشعور نفسه محتاج إلى اتجاه ليزداد و ينمو، محتاج إلى هداية، و معالم. هنا يتدخل التعليم الروحي الذي رافق الإنسانية منذ وجودها إلى اليوم. بتدخل الوساطة الإلهية، و عبر الأنبياء و الحكماء و الرسل بُلِغ تعليم إيقاظ، يغذي و ينمي ضميرنا الشخصي حتى يَبلغ الشعور الشامل ( الكوني )، المحيط الإلهي، مجال الروح المحض، الحاوي الكل. لمّا يصل الإنسان إلى المرحلة النهائية، يحقق كليته و توازن شخصيته.

    بسيط و سهل جدا تمثيله برسم، و لكن كيف نحققه في حياتنا؟ تكمن كل الصعوبة في التحرر من القسم المعدني، و النباتي، و الحيواني، و التغلب عليه، على هذا النحو. إن لهذا القسم الثقيل دور يلعبه، فهو غير مشؤوم، لكي نحطمه، لأننا سنفقد التوازن. إستدلالا بالضد، فإن بقاء المرء محبوسا في القسم السفلي، يوصل إلى إهمال الشيئ العزيز من أنفسنا، و يحطم المعنى الحقيقي للحياة. القسم المعدني مستقبِل (بكسر الباء)، و هو هنا ليُخصَب و يُحيَى مجددا بالقسم العلوي، الميتافيزيقي للإنسان.

    بهذه الطريقة لاستشعار الإنسان، يعلمنا التصوف أن السلوك يتم مرحلة بمرحلة حتى بلوغ الشعور الأعظم. ككل، في بداية الأمر، يحذرنا من أنه لا يسلك هذا الطريق إلا الأناس المتواضعين. يجب أن يتحلى الإنسان بالتواضع ... ضروري لكل سالك أن يكون صادقا في تصرفاته، و أفكاره، و أفعاله، و كلامه لكي يكتشف نفسه. بدون هذه الحالات الثلاث: التواضع و الأخوة و الصدق لا نستطيع أن نباشر بحثنا الداخلي، و الوصول إلى ما يسميه الصوفية التحقيق (الوصول). تتطابق ثلاث دوائر جديدة مع مختلف حالات الكائن.


    أولا، يوجد الذين يتواجدون على المحيط المطبوعين بالخمول. إن حدث و سقط إنسان أمام أعينهم، يبقون جامدين، و يتظاهرون بعدم رؤية شيئ. يقول أشخاص هذا الصنف دائما: « لست معنيا، لا أستطيع تغيير الأشياء ». هذه عبارة صريحة لعاجز. إنها الكائنات التي لا تتصرف بإرادتها، فهي خاضعة لإرادة آخرين. إنهم في الحالة المعدنية كالحجارة التي لاتتحرك من تلقاء نفسها، و تحتاج إلى من يتناولها لنقلها من مكان إلى آخر. بالمقابل يوجد من يتيقظ و يشعر بأن هذا لا يسير على ما يرام، إما أنا لست بخير أو المجتمع، و يتصرفون، « سأحاول القيام بشيئ ما ». و لكن هذا « شيئ ما » يصوره كل واحد حسب مفهومه، بطريقة فردية، و هذا ما يسبب تشويش فظيع. نريد التصرف و فعل الخير، و لكننا نقوم به بشكل أناني كبير. يضر هذا أكثر مما ينفع، نحن في حالة يسيطر عليها العالم النباتي فينا. آخرون، أكثر تطورا من هذا الصنف الثاني سيقومون بالعكس، بنضال في أحزاب أو حركات مختلفة. غالبا ما تحكم هذه الجماعة من الرجال ، و تسير الأحزاب السياسية أو الدينية. يفرضون أنفسهم على الشعب، زعما أنهم يحملون حقيقة ما.

    إذا كان الصنف الأول لم يتحرك، فالثاني تحرك في تشويش، و الثالث ضمن نظام محدود حسب إدراكهم. يوجد صنف آخر، أقلية. لا يتصرف هؤلاء إلا في الوحدة، تحركهم المحبة الإلهية المحمولة للخليقة كلها. إذن، ماذا يفعلون؟ و كيف يعيشون؟

    يمكننا تقسيم الطبع البشري إلى ثلاثة أصناف: في المقام الأول الأناسي الذين لا يعتمدون إلا على أنفسهم،  في المقام الثاني المؤمنين، بالمعنى الواسع للعبارة ( يُحمَل إيمانهم على ديانة، أو مادية، أوحتى الإلحاد ). يتصرف هؤلاء بالإعتماد جزئيا على أنفسهم، و جزئيا على ما يجعل موضوع إيمانهم. و أخيرا الصنف الثالث، و هم الحكماء و الأولياء، الذين لا يعتمدون في أي حال إلا على الله. في كل أفعالهم لا يطلبون العون إلا منه، و عندما نقول الله (الإله)، فلا يعني ذلك لهم تجرد، أو مفهوم فلسفي، أو ميتافيزيقي، نقصد هنا، أنهم يعيشونه في حضرة دائمة، و يستشعرونه عبر الخليقة كلها. هي حالة شعور مرننة مع الخليقة كلها. قبل نقل حجارة، أو غرس شجرة، أو قطف ثمرة، أو رؤية شروق الشمس، أو سماع غناء عصفور، أو شرب هذا الماء الصافي، أو تقديم مساعدة، لا يرون إلا هو، و لا يفعلون ذلك إلا من أجله. مهما كان الشخص أو المخلوق الذي أمامهم. لا يكون تصرفهم إلا في سبيل الله، و المحبة الإلهية. لا يشترطون إلا هذا. لا يريدون جاه و لا سلطان، فقط رضوان الله على أعمالهم، و كلامهم، و أفكارهم التي عبروا عنها. يقول الصوفية أن هذا المقام، لا يُبلغ إلا بتصفية تامة... مُنحت لنا الحواس، و لكنها بشكل ما ضامرة، من الضروري تربيتها لإيقاظها لتحسس أوسع، و أشمل، و تربية السمع و الكلام، و اللمس، إلخ، حتى لا تبقى حبيسة نفسنا و طبيعتها المادية، أو النباتية، أو الحيوانية. كما وصفها الصوفي عزالدين الإربيلي، صاحب روضة الجليس و نزهة الأنيس:

أ تكمل الفاني و تترك باقيا     مهلا و أنت بأمره لم تحفل
فالجسم للنفس النفيسة آلة     ما لم تحصله بها لم يحصل
يفنى و تبقى دائما في غبطة     أو شقاوة و ندامة لا تنجلي
أعطيت جسمك خادما فخدمته     و نسيت عهدك في الزمان الأول
أن تملك المفضول رق الأفضل     ملكت رقك مَعْ كمالك ناقصا

    إن المقصود هو التحرر، و تخفيف النزعة الثقيلة و المهيمنة للنفس. هي مسألة سمو: تحويل ما تحصلنا عليه، و ما نحن عليه لرفعه إلى مستوى الشمولية الذي يرمز إليه مركز الدائرة، أين تلتقي كل أشعة الدائرة و تتوازن، مهما كان إتجاهها، و حتى المتعارضة منها.

    أن تكون  لدينا صحة جيدة، و صافية بالمعنى الحقيقي للعبارة، هو أن لا نؤذي الآخر، و لا نجرحه، لا نعتدي على الطبيعة، و المحاولة قدر الإمكان، أن نعيش في هذه الحضرة، أين يكون أي فعل، و أي كلمة، وأي تصرف أقوم به مرافَق بالحضرة الإلهية. من هنا سيكبر شعوري شيئا فشيئا، و ينفتح فيما وراء الأفكار المتحصل عليها، وراء الأشكال، و الإعتقادات، و الفلسفات، لأن الكل يلتقي فيها. لا أحكم، أتروى. لا أتهم، أفكر. إبتداءا من هنا، سيولد لدينا تحديد، إرادة محرَكة بطاقة المحبة، تدفعنا من مرحلة إلى مرحلة، إلى تحقيق الإنسان الكامل.

    من ناحية أخرى، كل ما يهم الشخص يهم كذلك المجتمع. لهذا آخُذ صورة الدائرة.

    تتطابق الأولى، أي الدائرة المركزية مع « النظام الفلسفي ». هذا مركز ديناميكي، سيحرك النخبة ( الحكام و أصحاب القرار )، و يجعلها تميل نحو الوحدة، و يساعدها لتتناغم مع مختلف الشرائح التي تمثل المجتمع الإنساني. سيدفع هذا القلب ( المرموز بالدائرة المركزية ) في كل الجسم الإجتماعي قيم كونية منفتحة للحضارة. و إذا ضيعت هذا المركز، ومنه سبب وجودها، ستتحول إلى نظام سياسي، يعمل بقوانين مستأثرة بالمصالح الحزبية. إنها الدائرة الثانية المتطابقة مع النظام السياسي.


    يسبب هذا الإنقطاع مع مبدأ التوحيد التفرقة، و ستتمثل مثلا في معارضة الأحزاب السياسية. تجزئ هذه التفرقة المجتمع و تضعفه. عاجلا أو آجلا ستنهار الدائرة السياسية بدورها، و تترك مكانها لمبدأ أكثر سطحية، هو النظام الإقتصادي، المُصوَّر بالدائرة الثالثة. إذا، كان في البداية يتغذى النظام من شرعية ميتافيزيقية، مرتكزة على الوحدة، و منها توفرت المساواة، و القِسمة، و العدالة الشاملة، في الفترة الثانية، يصبح سلطة في يد جماعة على حساب الآخرين، و في الفترة الثالثة تحت سيطرة سلطة المال، يصبح على شكل سلاح في يد أثرياء يفضلون وجهة نظرهم على بقية المجتمع. إنه زمن الإنحطاط. بابتعادها التدريجي عن مبدأ التوحيد، ستنحل هذه الحضارة، و تنتهي بالإختفاء في ركود، كانت هي السبب فيه. تعتقدون أننا بصدد إنتهاج السياسة، و من المفروض أننا نتكلم عن الروحانية. هذا مقصود.

    هذا التعليم كوني، و تفرض علينا كونيته، التكلم في الوضع البشري بكليته. لا نستطيع أن نفصل في إطار الوحدة الظاهر عن الباطن. إذا كانت هناك أمراض في المجتمع، لنحددها و نبحث عن الحلول حتى نقدم مشاركتنا لسعادة و تناغم الإنسانية.

    في الواقع، كل إنحطاط يسبب نهضة، لا ننسى ذلك. ما دام اليوم أناس أكثر فأكثر يبحثون عن الحقيقة، هذه بشارة أمل جديد. 

    هل نستطيع النفي أننا في غمرة الإنحلال؟ واضح أن الذهنية المادية تسيطر على كل الإنسانية. أصبح الإقتصاد مقياس كل شيئ، لا يعتبر الإنسان إلا بثرائه النقدي. أليس هذا علة الأزمة العميقة التي نتواجد فيها؟
    يجبر كل هذا، الإنسان مهما كان، على التفكير في مستقبل الإنسانية. هل سنستمر في هذا الطريق بإنتاج نمو بدون نهاية، يدمر البيئة و الطبيعة، و كذلك الإنسان في أعز ما يملك؟ يجبر الخوف، و رفض هذه الوضعية على البعض الإنغلاق في مُثل عقيمة و خطيرة، لا تزيد إلا في الفتنة المكتنفة. و هكذا شيئا فشيئا يغادر السلم قلوبنا، و بيوتنا، و حياتنا، و بلداننا. هذه الحرب التي لا نسميها موجودة في كل مكان، هي هنا، و في أماكن أخرى، مختلفة فقط في الظاهر. 

    يولد هذا الضيق المتواصل فينا تمرد، و هذا التمرد يبعدنا أكثر فأكثر عن الوحدة ( التوحيد )، عامل التوازن و التناغم. فهي تدعونا إلى السلم و الحكمة للوصول إلى التحسس بأن ما في الآخر هو جزء من أنفسنا.


من "La quete du sens"، مجلة "Question de" رقم 119، ألبان ميشال، 2000.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق