الخميس، 2 ديسمبر 2010

إصلاح المقدس


إصلاح المقدس
  

    كيف نعيد المقدس بدون ما نحصره في المجال الديني؟ ليقال هذا بكل وضوح: المقدَّس (المحرَّم) فطري في الإنسان. يظهر أننا نسيناه، ما دمنا نربط المقدَّس بأحداث الروزنامة الدينية (أعياد، و أيام حرم، و أشهر حرم)، و أماكن مقدَّسة (القدس، و مكة، و كذلك بناراس حول نهر الغانج). يعتبر البعض أن كل ما يجري خارج هذه الأوقات، و الأماكن هو دنياوي. 

    ألا نقوم بالسباحة عكس تيار التاريخ، بدل أن نصلح القداسة في قلب الحياة الإنسانية، في حين تمس حركة عميقة و مستدامة، منذ قرون خاصة العالم المتحضر بهدف إبطال القداسة، بنهج عولمة إقتصاد السوق، أو بعملية الدمقرطة أو بعودة الأصولية، عندما تخلط بين المقدَّس و العدالة الدينية؟

    يمكن أن يعطي أثر نزع القداسة، بشكل تناقضي، دافعا للبحث الروحي. تترافق هذه العملية عند الإنسان بالتحرر كلية من كل أشكال الوصاية و التكيفات الثقافية، و تُحضِّره في حالة حرية، كي يكتشف طبيعته الأصلية (فطرته). 

    عن طريق الزهد تصبح قدسية الكائن عملية، و بالتالي ماهي الطرق ألتي يمكن سلوكها للعمل في اتجاه القداسة؟

السبيلان المقدسان: الفكر و الذكر
    في التقليد الصوفي، يُمنح الإنسانَ طريقين ليعيد المقدس إلى قلب وجوده. من ناحية الفكر الذي يُقدَم كمنهج للتفكير معمق للعقل. و من ناحية أخرى الذكر، ذكر الله تعالى. هما سبيلان مكملان للسلوك، و الإصلاح لدى الإنسان العلاقة مع هذا المقدس الموحد للكائن. لا ترتكز التربية في التقليد الصوفي على عمل الفكر فقط، بل تترافق في نفس الوقت بتلاوة الأذكار، و خاصة أسماء الله الحسنى. في غياب هذا التفكير و هذا الذكر صعب جدا، و حتى مستحيل الوصول إلى إتمام سير اليقظة. المقصود من هذه التمارين الروحية، إعادة تذّكر  هذه الحالة الباطنية و السابقة التي نساها الإنسان، و يريد أهل الذكر إيجادها، لكي يعيدوا عقدهم مع القِسم من أنفسهم ألذي يبقى محجوب عنهم . يجتهد هؤلاء ليعيدوا الإرتباط بالمقدس الحاضر، ليس خارج أنفسهم و لكن بقرارتها.
« و نحن أقرب إليه من حبل الوريد ». القرآن كريم.

    من المهم الإصلاح لدى الكائن، علاقته مع هذه الطبيعة الأصلية و الربانية التي جاء بها إلى هذا العالم. كيف نسمح للإنسان أن يتذكر و يرجع إلى هذه الحالة الأصلية المتواجدة دائما به، و لكنه قد نساها؟ يجب الملاحظة أن عبارة (إنسان) بالعربية توحي في نفس الوقت معنى أكثر روحانية، يربط التكيف الإنساني بحالة عادية للنسيان و اللاوعي. يتوافق هذا الشعور الأخير مع التعليم الصوفي بما أنه يدعونا إلى إعادة  تذكر حالة صفائنا الأصلية، و ذلك بسلوك طريق التفكير. إذن من الممكن إخراج الإنسان من حالة النسيان و الغفوة و جعله يتذكر ثانية طبيعته الأصلية بفضل التفكير و الحكمة و كذلك بفضل تربية اليقظة. إن الغناء و الموسيقى و كل ما يجعل النفس أكثر شعورا واستقبالا للنور الرباني في مختلف وضعياته، يشارك في عملية التذكر. و لكن هناك طريق آخر، هو طريق الذكر (ذكر الله):
 « أذكروني أذكركم ». القرآن الكريم.

 « نغنم وقتي اليوم نذكر بالنية            نحضر بالقلب و الضمير ».(1)

    بذكر أسماء الله الحسنى و صفاته تعالى، يمكن للإنسان أن يتأثر بالطاقة الاهتزازية التي تحملها (أسماء الله).... و يقوم مقامه، خليفة الله في الأرض.

التحلي بالمقدّس في أفعالنا
    نبلغ هنا نقطة رئيسية، من المعالجة الصوفية للنفس. يقود ذكر الله على الدوام الكائن إلى طريق علاج النفس و طمأنينتها. الذكر هو أهم وسيلة للتقرب من الله:
« إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، و إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، و إن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً،  وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً،  وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ». حديث قدسي.
    إذا تحلينا بالمقدس في كلامنا، و علاجنا، و تصرفاتنا، و أيضا في طريقة أكلنا، فإننا نرد إليه الإعتبار حولنا. سنصبح دائما أكثر يقظة، حتى تكون أفعالنا و أفكارنا أكثر أحقية و صوابا، و يحي فينا مبدأ التوحيد.
    يكون تقديس الكائن ممكنا إذا إلتحق طوعا بطريقة أصلية و ارتبط بأحد الرجال الممثلين لسلسلة تصل إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم و منه إلى التقليد الأول. لا يجب أن نبين الطريقة للذين لا يبحثون عنها.  هذا لا يمنع المعالجين النفسانيين من إعادة تعلم اليوم لغة تؤكد وجود المقدّس. فرويد أب التحليل النفسي، لم يكن يقطعه أي تشكك مع هذه الهيئة الطبيعية للإنسان، و قد كتبها في نصوصه عندما أرجع جوهر التمثيليات الدينية إلى أوهام مسلية أو إلى « تحقيق الرغبات الأقدم و الأقوى و الأكثر حرارة في الإنسان ».(2)
    إذا عكسنا العملية و أدخلنا المقدس في علاج، فلا نقصد من ذلك الإقتراح على الكائن أن يكون مسلما، أو مسيحيا أو لا أعلم، و لكن علينا التوقف عن إخفاء هذه الطبيعة الأساسية الروحية للإنسان. إذا لم يهتم أحد بما هو مقدس، و إذا كل المجتمع لم يتكلم عنه، فهذا سيزيد في عذاب الإنسانية . فنحن كلنا شركاء في هذا الإخفاء.
    يمكننا كلنا الشهادة، ليس شرطا بالكلام، بل بحضورنا فقط. حتى الشعور يمكن له أن ينتقل عن طريق الصمت بدون المرور بالتعليم الشفهي، فالغير يستطيع أن ينال الشعور المقدَّس بدون أن نوجه له أي كلمة، رغم ذلك فقد مُنحْ حال.

التيقض لقدسية الحياة
    تهدف المرحلة الأولى من التعليم الصوفي إلى إيقاظ و في أقرب وقت ممكن حواسنا على قداسة الحياة.
   « و لا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق ». القرآن الكريم.
    إذا بقيت هذه بعيدة عن فهمنا، بسبب عدم تلقينا تربية إيقاظ مناسبة، فسيكون من الصعب علينا، إدراك الإرتقاء الرباني. بواسطة عملية التيقض القدسي، سنشعر بالإحترام المستحق لكل كائن حي، بمأنه يحوي هوية و بصمة هذه القداسة.

    في المجتمعات التقليدية، ترتكز التربية على سلوكات مختلفة في الحياة اليومية، تبدو غريبة في  نظر الأجنبي، و تسمح للطفل منذ نعومة أظفاره باكتشاف الحقيقة الروحية المستورة في كل شيء. سابقا، عندما كان يجد أحدا قطعة خبز، يحملها و يضعها جانبا، فقد كان يعتبره مقدس. و كان يُنصح دائما عند الدخول إلى مكان، أن يكون بالرجل اليمنى. في الحقيقة هذه المبادئ ليست عوائق أو تصرفات خرافية، و لكنها وُضعت لجعل الإنسان أكثر شعورا بحركاته اليومية، نفس الشيء بالنسبة للوضوء. ما هو إلا طهارة الحواس، تسمح بتقديس جسدنا. الحواس هي المعنية بالأمر؛ الفم، و الأنف، و الوجه، و العينين، و الأذنين، و الرأس، و اليدين، و القدمين والجنس. سيطرأ تحوّل للحواس عندما يكون بمقدورنا مرافقة كل أفعالنا وحركاتنا بالشعور القدسي. كلما شجعنا يقظة حواسنا، كلما تحققنا كم هي الحياة مقدسة. تُعلمنا البيولوجية أن الجسيمات الحية الأولى ظهرت في الماء. فالقرآن يؤكد هذه الفكرة و يصرح أن الماء مصدر كل حياة.
« و جعلنا من الماء كل شيء حي ». القرآن الكريم.
    الماء في حد ذاته مقدّس، بما أنه يضعنا في علاقة مع الحياة. لهذا يمكن رؤية في الوضوء ألذي يسبق الصلاة شعيرة تسمح بالمرور من الحياة الدنيوية إلى الحياة المقدسة. كلما حسسنا الطفل بوجود الحي فيه، و في الحقائق ألتي تحيط به، كلما تطور حقل وعيه، بقدر تقوية أنسه بهذه الصفة الربانية. إن الغاية في تربية الإيقاظ لِما هو مقدّس، هي أن نُفهم الطفل بأن الحياة به و بنا كلنا و هي نفسها في القط و العصفور و الشجرة.
    تهدف التربية المنتشرة عموما اليوم على العكس، إلى تقوية الذاتية إلى حد قطع العلاقة مع الطبيعة. لعدم إحترامنا حرمة الطبيعة، حطمنا الحالة الروحية التي تحافِظ معها- أي مع الطبيعة- على علاقة توازن. المقدس غير موجود في مجتمعنا، لقد ابتعدنا عنه بتغطيته بحجب، كما يقول القرآن الكريم:
« و الأرض وضعها للأنام فيها فاكهة و النخل ذات الأكمام و الحب ذو العصف و الريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان ». القرآن الكريم.
    تقودنا تربية التيقض القدسي للحياة، إلى الشعور بالروابط التي تصلنا بالحيّ الذاتي، و بنوعية العلاقات المحافظة معه. عندما نأخذ وقتنا في ملاحظة عمل النملة، أو التمتع بالطيران العظيم و العابر للفراشة، أو الإستماع ليلا للغناء المطرب للعندليب، نتحقق أن مصدر الحياة يكمن في تنوع المظاهر.

التزود بالحمد
    إن تجسيد مفهوم المقدس فينا، هو إيجاد مصدر لا ينفد للطاقة و الإرضاء. تظهر هذه الأخيرة فينا، عن طريق تحول مفاجئ في كائننا بفعل سلوكاتنا، إذ كل ما سنقوم به يكون بالحمد. مجرد وضع مفهوم المقدس في قلب وجودنا، تتبدل نظرتنا للعالم و علاقتنا بالآخرين. فبالحمد و الشكر نستطيع الوصول إلى حالة تعبد دائمة.
« و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها ، و من آناء الليل فسبح و أطراف النهار لعلك ترضى ». القرآن الكريم.
    نرتبط بالمقدس ثم لا يبقى لنا إلا قول « بسم الله »، لأنه ليس نحن مَن يتصرف بل هو. فبه نتصرف.
« الله خلقكم و ما تعلمون ». القرآن الكريم.
    لنحرص على وضع المقدس في كل شيء. فالكل يتم بشكل آني في الحياة نفسها و في يومياتنا. كما قال الشيخ العلاوي في اللطفية:
         فامتــزج بدمــنا و لحمــنا        و العــروق العــظام و ما فيـنا
    هي حالة رحمة نشعر بها كما هي.

التواجد في اللحظة
    من الخطأ الاعتقاد أنه توجد تمارين و تطبيقات، لكي نكون على علاقة بالمقدس، في حين أن اللحظة هي التي تتحكم. إذا كنا نريد تطبيق وصفة فإننا ننهي لحظتنا وصدقنا و ندخل في روتين وعذر كاذب. هذه ليست طريقة للعمل، فدائما الوقت الحاضر هو الذي يتحكم و يقرر بالنسبة لحالة الوعي التي نتواجد فيها و الوضعية المصادفة. فعلا، فالمسألة هي أن نعرف أين نحن في العلاقة مع الله. أنحن قريبون، أم بعيدون، أم بين الاثنين؟ كلما زادت النفس المُحبة للسلام في الحمد كلما نالت أكثر.
 « لئن شكرتم لأزيدنكم ». القرآن الكريم.
     يُعامِل الله على النحو، كلما قدمنا أكثر كلما نلنا أكثر. ليكن واضحا، لا يكون هذا دائما بطريقة فورية، ذلك ما يؤكده القرآن:
 « إن الله مع الصابرين ». القرآن الكريم.
    في الواقع، فتعلم رؤية الأحداث المفاجئة و المضطربة التي تظهر بانتظام في وجودنا إشارات تقودنا نحوه، يتطلب صبرا و يقظة و إدراك. يرى التقليد الصوفي في كل إمتحان بركة و توجيه ممنوح للذي يبحث عن المطلق. لا بد من المقدرة على فهمه و تقبله  و البحث عن دلائله، حتى لا نستخلص منه تعليما سلبيا، و نشعر أننا مثقلين ظلما.

مجاوزة الحواس
    تلعب يقظة الحواس دورا مهما في إعادة إكتشاف قدسية كائننا. مع ذلك، فحواسنا هي في الآن نفسه، الوسيلة التي تكشف لنا تعقد الحقيقي، و حُجب تستر جوهر الظواهر. المسألة هي معرفة ما إذا كان بالإمكان، مجاوزة الحجب التي تشكل إدراكاتنا الحسية، لنشعر بحقيقة أخرى أقدس حُضِّرنا من أجلها. حقا، تسمح حواسنا الخارجية بالشعور السريع و الآني بما يحدث داخلنا و خارجنا. هي قنوات و مستقبلات تنتقل عبرها مختلف المعلومات. لكن لا يجب أن ننسى أنه توجد بنا إحساسات باطنية أو روحية، بإمكانها إلتقاط معطيات حساسة بدون أن تكون قد جمعت من قبل من طرف حواسنا العادية.
    مجاوزة الحواس هو التبليغ والتفاهم بدون كلام أو ببضع كلمات كما هو الحال في اللقاء المشهور بين ابن العربي وابن رشد. كان يرغب معرفة ما إذا كان الكشف و الإلهام الرباني يعطيان معرفة تقارن بالفكر النظري. دعى الفيلسوف الشاب ابن العربي كما كشف هذا الأخير ذلك لاحقا في فتوحاته المكية. عندما دخلت عليه قام الفيلسوف من مكانه... و أخيرا قبلني وقال لي: «نعم»، فأجبته «نعم». فسعد بذلك و تأكد أنني فهمته. و لكن بعد إدراكي لِما كان سبب فرحته أضفت قائلا: «لا». عندها إنقبض ابن رشد و تغير لونه و يظهر أنه شك فيما كان يعتقد.
مَن يكون في الطريق الوسط يشعر بحضرة إلهية في كل شيء.
« و هو معكم أينما تكونوا ». القرآن الكريم.
    ترتكز النظرة الصوفية لمعالجة النفس، على رد المقدس إلى الإنسان، و يكون ذلك آنيا، بدون اللجوء إلى حواسنا.
 «هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن». القرآن الكريم.
    إن أي محاولة لإعادة المقدّس فينا عن طريق التعليم أو بتقنية هو عبث، لا دروس دينية أو فلسفية تعلمنا تذوق هذا الحضرة الإلهية. هناك عامل مسبب و غير منتظر، هو أصل هذه التجربة العظيمة، إنه لقاء.

التواجد في الكونية
    لكي نثبت بفعالية أكبر في الفطرة و نجعل من هذه التجربة أكثر خصوبة و عمقا، يجب أن نرفع شعورنا إلى مستوى الكونية. ما دام الفرد في هذه الكونية فإنه يتلقى بوفرة طاقة من أصل مقدس.
    في الواقع، إذا انتقلنا فجأة من الكونية إلى خصوصياتنا، فإن الانتماء الديني، أو الفلسفي، أو المجتمعي، أو الإيديولوجي سيتفوق على الوحدة الإلهية. في هذه اللحظة الكل سيضيع. لكن الرباني يتغذى من الكل، حتى من الذين ينكرون الحقيقة أو يدحرونها بكل سوء. لا شيء يمنعنا من دراسة نظرية التحليل النفسي لفرويد و تطبيقها. لما لا؟ من هو فرويد؟ إنه هو:  إنه الرباني الذي يتكلم اليوم عبر هذا أو ذاك. نحن في بلد، و الحمد لله كل واحد يمكنه أن يختار دينه.
  « لا إكراه في الدين ». القرآن الكريم.
    لا يمكننا إكراه أحد. و أكثر من هذا ما دام القرآن يؤكد:
 « إنك لا تهدي من أحببت ». القرآن الكريم.
    من نحب قبل كل شيء؟ عموما، نحب الأشخاص الذين يقربوننا. أولادنا مثلا .عندما يقول القرآن :إنك لن تهدي من أحببت. هذا يعني أننا لا نستطيع جعله يعتنق الدين. لنتأمل هذا التعليم حتى لا تكون الحرية في المجال الديني خالية من معناها.

التصرف في الحضرة الإلهية
    يسري مفهوم الهداية خارج إطار التعليم. فالله هو الذي يتصرف دائما، بواسطة أفعالنا و أفكارنا. لسنا إلا جزء من الكل خاضع لإرادته. ما دمنا نؤمن به ، و لدينا هذه الرابطة المحددة بـ « هو معكم أينما تكونوا » القرآن الكريم، فإن لهذه الحضرة معنى و حقيقة بداخلنا. تصبح الثقة بهذه الحضرة و اليقين الذي نملكه فاعلين. لا يعني هذا، أن كل المشاكل ستحلّ من تلقاء نفسها، و لكن اللاحقة منها ستقوي و تؤكد هذا الحضور فينا. بالنسبة للسالكين بهذا الطريق، فالامتحانات بالصعوبات و الآلام التي تنجم عنها لا تختفي و لكنها تصبح وسائل و نقاط دفع تغدي الكائن و تكونه مُعرفة له حدوده حتى لا تصاب نفسه بالكبرياء. أبدى الذين حافظوا على هذا التقليد حيا، صدقا كبيرا، حتى في الأوقات الصعبة، لأنهم كانوا يتقبلون أن الكل صائر على « مراد الله ». لقد عشنا كلنا أوقاتا نوعا ما مفضلة و ممتعة ، شعرنا فيها أننا محمولين بيد العناية الإلهية، التي تجعل حضورنا ملموسا بتحقيق لنا مشاريع أو بإيجابات إيجابية حين نيأس من بلوغها.

مقام العبودية
    إذا قبلنا بأن نصبح قناة تظهر بها إرادة الله في خلقه، فإننا نتقبل الارتقاء إلى ما يسمى في الطريق الصوفي بمقام العبودية. المقام الذي يسجل كمال التحقيق الروحاني. يميز التصوف عدة مقامات، و مقام «عبد» هو للصفوة و الأولياء، و يفوق مقام الرسلية. من المهم معرفة هذه المفاهيم لنتمكن من مقارنة التعليم الصوفي بالتعاليم التقليدية الأخرى. عندما يصلي المسلمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون:
 « اللهم صلي على سيدنا محمد عبدك و رسولك ».
    يبدأون بإعطائه لقبا أكبر شرفا ألا و هو العبودية. و الرسلية تأتي من بعده. كل الأنبياء هم عباد الله. يسبق هذا التمييز دائما مختلف الصفات المعينة الموصوفين بها، كما تشهد هذه الآية من القرآن.
« و اذكر عبادنا إبراهيم و إسحاق و يعقوب أولي الأيدي و الأبصار ». القرآن الكريم.
    لا نعي دائما أهمية هذه الصفة في التحقيق الروحي، في حين أنها المقام الأعلى و الأقرب إلى الله. كلما طورنا فينا هده الحالة في الخدمة كلما عشنا في أنس الله. أن يكون المرء عبد الله، فذلك يعني أنه لا يملك نفسه، هو ملك لخالقه. يكون هذا الانتساب واع و طوعي مميز من حالة العبودية، ألتي يكون فيها مسلوب من حريته و تفكيره. عكس ما نعتقد عادة، فإن مقام العبودية هو مقام المتحررين، و يمثل الإنسان المتخلص من مختلف أشكال المراودات السلبية (الجاه، و المال، و الشرف الخ...)، و المساهم مع الإرادة الإلهية. ينشىء هذا المقام لدى الإنسان المحقق نقطة توازن تبقيه بمسافة متساوية من مختلف الحقائق المتعارضة ، مهما تكن هذه الأخيرة إيجابية أو سلبية. عبودية الله هي حالة الذي كسّر السلاسل التي تربطه بكل أنواع الطمع و الرق التي تفرضها الحياة الأرضية.  

الإنسان، عبد الله
    مرة أخرى، فإننا لا نقصد إقتراح وصفات علاجية عجيبة ، بل الشعور بالآخر و العالم  في حالة كينونة جديدة. عندما يتموضع المعالج في حالة العبودية، فإنه يتواصل جيدا مع مريضه، إذ ينشئ شروط إستماع حقيقي و تبادل صادق.
    إذا اعتبرنا الكائن عبدا لله، سيختفي حينئذ آنيا ألف حجاب بيننا و بينه. من يتبنى هذا القصد يلتمس الآخر في أعماقه . يستطيع أن يقوم بهذه التجربة أي شخص. و يمكن أن يكون فخا إذا لم نقم بذلك بصدق، و اتخذناه لعبا. حالة العبودية المعاشة حقيقة، تكشف الذي يأتي إلينا بنوايا قد تكون سيئة. هي تجربة للحياة، بشرط قبول إستقبال الآخر بقيامنا بخدمته.
« و عباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ». القرآن الكريم.
     إذا حرصنا على أن نحيا في عقلية الآخر و هو مثلنا عبد الله، الرحمان ، ينشأ بيننا و بينه حوار محترم صادق و مثمر. هذا صالح للشخص و الجماعة. إذا توجهنا إلى جمهور مثلا، و اعتبرنا أن كل شخص عبد لله، فإن الاتصال سيكون على مدى آخر. كل شيء يتعلق في الحقيقة بحالة شعورنا: إذا كنا نحن عباد الله، سنرى الآخرين عباد الله.
    .... يجب أن نكون قادرين على أن نكون عباد الله، و ذلك بقيامنا بخدمة قريبنا. لنضع في أذهاننا، إننا لا نعطيه أبدا ما يمنحه الله لنا. حقا هذا لا يعني أننا لا نقوم بجهد ونعمل بصدق لتطوير نوعية علاقتنا.
     ليس الله  بظلام يهدد بجعل المخلوقات الإنسانية في حالة عبودية. لو كان هذا هو الحال، لم يكن ليعطيهم الحرية على العصيان والتمرد عليه. هذا أيضا نتيجة رحمته تعالى، أصبح للإنسان القدرة على التقرير بنفسه.

حالة العبودية: رحمة إلهية
    قد تعطي حالة العبودية إنطباع أنها مخصصة لصفوة مُطلعة، بما أن الأمر يتعلق بأعلى مقام تحقيق روحاني. هذه الطاقة التي لا تنفذ هي شبيهة بمطر غزير يتساقط باستمرار و بدون تمييز على كل الخلائق. إذا خُلق الإنسان ليقوم بحريةٍ، عبادة خالقه، تظهر هذه الإمكانية إرادته الرحيمة و ليس عذابه.
 « إن كل من في السموات و الأرض إلاّ آتي الرحمن عبدا ». القرآن الكريم.
    سنفهم المعنى عندما تعمل النفس على تحوّلها. محبة النفس هي محبة المخلوق الرباني الذي هو نحن. ومن يكره نفسه، في الحقيقة يكره خالقه. من الضروري الحفاظ على توازن صحيح بين محبة الذات و محوها. إن التحدي هو القدرة على عيش التحدي، و يوميا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). من ديوان الشيخ العلاوي، قصيدة الذكر اسباب كل خير.
(2). فرويد. مستقبلُ وَهْمٍ. الفصل1، المقطع 4.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق