الجمعة، 22 مايو 2020

رمضان لكل يوم موضوعه (4)

رمضان
لكل يوم موضوعه (4)





    كل يوم موضوعه، هي سلسلة من المواضيع، يحرص الشيخ خالد بن تونس أن يلقيها في دقائق معدودات، يوميا في هذا رمضان، ويقدمها لنا ملخصة التركيب، وموجزة التعبير، مليئة بالمعاني، يستعين بها السالك الماضي في سلوك دروب التربية الروحية. فهو يسعى على إتحافنا من دره النفيس، وكلامه الغزير المعاني، القليل المباني، الذي من حقه أن يكتب بماء الذهب على صفحات الذهب، ويمثل عصارة خدمة دامت أكثر من خمسين سنة، وتدوم بحول الله، في مجال التبليغ والدعوة إلى الله، مع ما عايشه من أحداث، ومرّ عليه من أحوال وتقلبات الزمان، وتحدّ إنسانية، يحرص كل الحرص على الأخذ يدها إلى بر الأمان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العبودية


السلام عليكم
    نواجه اليوم أزمات مختلفة، فأزمة نقدية أو مالية، وأزمة طاقوية، فأزمة أيضًا على مستوى الإحتباس الحراري، وأزمة غذائية، وفي نفس الوقت أزمة روحية، أزمة عميقة في جميع الأديان. وعند الحديث عن الإسلام، أقول أن الإسلام اليوم يمر بفترة خاصة للغاية، إن لم نقل صعبة. إن الإسلام التقليدي النابع من السنة والإجماع، دين أهل السنة والجماعة، ودين السنة والآراء المختلفة، الذي سمح للتنوع في الإسلام بالتعبير عن نفسه، وتبادل الأفكار، أصبح اليوم أكثر فأكثر معياريًا، أصبح يوجد زي يحدد الإسلام، ويوجد نظام غذائي، وكذا نمط معين من السلوك يُعرّف المسلم أو المسلمة، ونشعر بشكل متزايد أن المرء أصبح محاصرا في هذا الوضع، مكيفا، وحتى خاضعًا لموجة من الغلو والتقييس، ونهج الإسلام نحو عقيدة الجزمية(1)، وشيئا فشيئا يصبح الإسلام عملية ميكانيكية، نوعًا من الطعام الجاهز، للعيش الجاهز، والملابس الجاهزة، والصلاة الجاهزة بشكل ما، وكتقييد في نهج سلوك، بعيد تمامًا عن القيم الأساسية التي جاء بها الإسلام، هذا السعي الدائم في الله، وطلب رضاء الله، حتى يكون عبده. ما هي العبادة؟ إنها ليست شكلاً من أشكال الصلاة، فالعبادة سلوك باطني، مما يعني أن العبادة هي المحبة، ومحبة إلى ما لا نهاية، علاقة المحبة هذه، التي تربط المخلوقات بالخالق، والتي تربطنا نحن أيضًا بالخليقة التي تحملنا، بالأرض التي تبقينا نعيش عليها، وبالأفراد المتعددي الأفكار والفلسفات والأديان، وتنوع المنتجات، وتنوع الطبيعة، هذا الجمال الذي يُجسِد، والذي هو بالذات مرآة جمال الألوهية. إننا نبتعد أكثر فأكثر بتقييس، بالإسلام المعياري، الذي خلق بشكل متزايد تضييقا على حريات التعبير، وحرية الفرد، الذي أصبح فقط عضوًا مقيدًا بمجتمع فكري، وليس بمجتمع الحياة المشتركة، ورفع راية التفكير والتأمل.

(1). الجزمية أو الدوغماتية أو دوغمائية: هي تيار فكري، يشاهد على الخصوص في الفلسفة والسياسة. وتعتبر حالة من الجمود الفكري، حيث يتعصب فيها الشخص لأفكارهِ الخاصة لدرجة رفضهِ الاطلاع على الأفكار المخالفة، وإن ظهرت لهُ الدلائل التي تثبت لهُ أن أفكارهِ خاطئة، سيحاربها بكل ما أوتي من قوة، ويصارع من أجل إثبات صحة أفكارهِ وآرائهِ، وتعتبر حالة شديدة من التعصب للأفكار والمبادئ والقناعات، لدرجة معاداة كل ما يختلف عنها. وهي تعدّ حالة من التزمّت لفكرة معينة من قبل مجموعة دون قبول النقاش فيها أو الإتيان بأي دليل يناقضها لأجل مناقشته، أو كما هي لدى  الإغريق الجمود الفكري. وهي التشدد في الإعتقاد الديني أو المبدأ  الأيديولوجي، أو موضوع غير مفتوح للنقاش أو للشك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



العهد


السلام عليكم
    تكلمنا سابقا عن الأمة الوسط، كما أشار إليها القرآن الكريم، ولكنها الحقائق التاريخية، لأن هذه الأمة ولدت في موعد، بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، في السنة الأولى للهجرة، عندما دخل في سنة 622، يوم 16 يوليو، المدينة المنورة، ودعا سكان مدينة يثرب، كما كانت تعرف حينها، دعاهم إلى تصور ميثاق سياسي، ميثاق اجتماعي، سمح للجميع بالتعبير عن أنفسهم، ولكلٍ معرفة حقوقه، ولكلٍّ المطالبة بحقوقه، في نفس الوقت الإستجابة للواجب المتعلق بهذا العهد. لذا، فإن نشأة الأمة المحمدية الأولى، وهو الأمر الذي لا يذكر إلا ناذرا، تاريخيا نشأت في التنوع، كان يوجد مسلمين، مهاجرين وأنصارا، الذين هم سكان المدينة المنورة، والذين هاجروا إليها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا بعض العرب الذين لم يكونوا مسلمين بعد، وفي الآن نفسه القبائل اليهودية التي كانت تعيش في المدينة المنورة. وهذا العهد وهذه الصحيفة موجودة حتى يومنا هذا، وهي مصاغة من مواد، تحدد لكل طرف، يشكل هذه الأمة الأولى، هذه الأمة المحمدية، حقوقه وواجباته، وكان الجميع على قدم المساواة، المسلمين وغير المسلمين، وخاصة اليهود، الذين ذكر بالإسم قبائلهم وممثليهم، وكان لهم بالضبط، نفس حقوق ونفس واجبات بقية الأمة، ولاحقا انظمت الأمة المسيحية لنجران إلى هذا العهد. جماعة نجران كانت مسيحية، ويوجد لدينا هذه الرسالة أو هذه الوثيقة التي أعدها النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد نجران المسيحي، التي جمعت بن طرفين، والشيء الاستثنائي البارز، وهو أن في هذه المناسبة أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالقداس المسيحي الأول، وهي المرة الأولى التي شوهد فيها المسجد النبوي، يقام فيه قداس مسيحي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليلة القدر


السلام عليكم
    ليلة القدر، يوجد لها العديد من الترجمات بالفرنسية، تشير إلى هذه الليلة الرمزية، التي فيها نزل القرآن على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأول مرة في غار حراء، بالقرب من مكة المكرمة، على الجبل الذي كان يختلي فيه. تُنتظر هذه الليلة، بين اليومين، السادس والعشرين والسابع والعشرين من شهر رمضان، ويقول البعض أنها تكون في العشر الأواخر من شهر رمضان. إنها ليلة متميزة للمسلمين، وخاصة الذين لهم صلة، أكثر عمقًا وأكثر روحانية وأكثر حميمية، مع هذا التنزيل، إذ سيصلّون بكثرة ويتأملون بكثرة، لأن هذه الليلة بالنسبة لهم، هي الليلة التي تكون فيها السماء أقرب إلى الأرض، ونوعا ما، لحظة مميزة ونافذة مفتوحة على هذه الحقيقة السامية الإلهية. تنزلت كلمة الله إلى مستوى يدريه الإدراك البشري، وإلى مستوى طور العقل البشري. هذه الكلمة التي كانت في الأصل نور، لا صوت ولا حرف، أصبحت تشكل حروف وجمل، وتنزلت للتنوير، من خلال المفاهيم البشرية، الكلمة البشرية.. ستقوم الكلمة الإلهية بتبليغ وريّ وهداية وتخصيب ضمير الكائن. في هذه الليلة، بالنسبة للبعض، نكون أكثر قربا من هذه اللحظة، حيث وقعت هذه التجربة، لأول مرة، مع هذا الرجل المسمى محمد رسول الله. لذا، في هذه الليلة، يمكن لكل واحد منا، إن أراد، الوصول إلى الحقيقة الإلهية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإستعراض


السلام عليكم
    في هذا الشهر بالذات، وهو شهر رمضان، توجد ليلة، تسمى ليلة القدر، تلك التي تحدد مقدارا، وتعطي قدرا، وقيمة في الزمن. قال الله تعالى في سورة القدر، بعد بسم الله الرحمن الرحيم "إنا أنزلناه في ليلة القدر". ماذا تعرف عن ليلة القدر؟ "ليلة القدر خير من ألف شهر". اعطي مقدار لهذه الليلة، لهذا الزمن، الذي لا يحسب بالساعات، بل بالسنوات، مادام أن ألف شهر يساوي ثلاثة وثمانين سنة، أي مدة حياة طبيعية، يمكن أن يقال، أنها حياة إنسان اليوم. ماذا تعني هذه الرمزية؟ تدعونا هذه الرمزية إلى أمور أخرى، وهي أن في هذه الليلة "تتنزل الملائكة والروح بإذن ربهم"، وهي أيضا ليلة "سلام هي حتى مطلع الفجر". في الواقع، ألا يتحدث هذا المفهوم عن حياة الإنسان؟ وثلاثة وثمانون سنة تتلخص في ليلة واحدة. أليست ليلة استعراض؟ ألسنا مدعوين إلى ليلة لاستعراض حياتنا؟ ومحاولة ربطها إما بهذا الروح، ومنه ذلك السمو، حيث تم فتح باب، وإنهائها بمطلع الفجر، لأن 83 سنة هي فجر الحياة، وإنهائها بالسلام. ما يعنيه، التحلي بالسلام، وعيش هذا السلام بدراية، في علاقة مع هذا الروح الشامل، هذا الروح الذي في لحظة معينة، وفي وقت معين، يمنحنا من خلال حدوث تفاعل وانشراح للصدر، وبتأثير تنزل هذا النور، وهذه الكلمة، وهذه الحقيقة، ويدعونا إلى تجاوز الزماني، للذهاب إلى الزمن الشامل، زمن غير مقيد، زمن إنساني، (غير ذلك) المحجوز المحبوس في الزمانية، وفي الصعوبة التي نجدها في إدارة الزمن، وتصور أبديته.  ليلة تساوي ألف شهر، 83 سنة. وليتساءل كل واحد منا حول ما تبقى له ليعيشه، وليكتشف في نفسه ليلة قدره هذه. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفوز


السلام عليكم
    حسنا، هل يوجد نهاية لهذا التساؤل وهذا التفكير، حول شهر رمضان الذي ينتهي؟ وهل يوجد فحص نقوم به، واستنتاج نستخلصه؟ للذي سيعيش بشكل مكثف هذا الشهر، ويجعل منه خلوة، يختلي فيها، وطريقة للتخلص من العادات والآليات التي نعيشها كل يوم. ولا ننسى أن هذا الشهر، قال عنه الله تعالى أنه له. إذا كان لنا أحد عشر شهرًا، فإن هذا الشهر الخاص رمضان ينتظر كشهر الله تعالى، وهو يجازي به. لا نعرف جزاء هذا الشهر، وماهيته، لأن الله هو القادر أن يجازي كائنا، لأنه بطريقة ما، اكتسب فوزا على نفسه، فوزا على جوارحه. كيف نقاوم الجوع؟ كيف نقاوم العطش؟ كيف يغلب شهواته؟ فلأن لدينا قناعة، ولدينا إيمان، ونخضع لسلطة مستقلة عنا، تُملي علينا بطريقة ما، الطريق الواجب سلوكه، وأيضا يوجد لجميع الذين يصومون شهر رمضان في نهايته، هيئة فرحة باطنية، فنعلم أننا صمدنا، وتمكنا من خوض هذه المعركة، بشكل أو بآخر، حتى النهاية. نخرج متجددين، مع ثقة بالنفس جديدة. إذ سيضل الروح الكامن فينا دائما قادرا على الفوز على أنفسنا، ويمكننا دائما، بينما نستسلم في غالب الأحيان لشهواتنا، وغالبا ما نستسلم لرغباتنا، وغالبا ما نستسلم للمحيط، الذي يضعنا سواء في هذا الأمر أو ذاك، وهنا، قد صمدنا مدة شهر أو تقريبا، قد صمدنا، عرفنا يوم بعد يوم، عرفنا كيف نحافظ على هذا الميثاق، على هذه الأسوة، التي اتخذناها لأنفسنا. سأصبر لا يَعْدُ أنه سوى شهر، لا يَعْدُ أنه أقل من شهر، وسأصبر على كل حال، وفي النهاية، يوجد هذا الشعور وهذه الثقة، التي أعيدت إلينا، وأعتقد أن شهر رمضان موجود لدعوتنا للرجوع، ولاستعادة ثقتنا بأنفسنا.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عيد الفطر


السلام عليكم
    ها هو العيد قد هلّ علينا، عيد الفطر، هذا اليوم الذي يختتم، يوم الفرحة هذا، يوم الإقتسام هذا، يوم الكرم هذا، في هذا اليوم، حيث ينبغي على كل واحد منا أن يعيش لحظة سلام، سلام مع نفسه، سلام مع الغير، هذه اللحظة المنتظرة طيلة شهر كامل، ما دام أننا تحدثنا عن عرض شهر رمضان، وإنه اليوم بالضبط، الذي ستُحدِّث فيه هذه الفرحة عن نفسها، وتكون فيه المتعة، بطريقة ما. سنعيش معًا كعائلة وكإخوة. سوف نقتسمها في سلام، في هدوء، ثم في هذه اللحظة، يطرح علينا سؤال. إذا كان هذا الشهر قد عشناه بشكل فردي، في سلام وفرح، وانتهى في السلام والفرح والرخاء بالنسبة لملايين البشر، ماذا عن الذين يعانون من الجوع من قلة، ومن المحن والحروب، أولئك الذين تحملهم هذه الأرض، إخواننا البشر، كيف يعيشون هذا اليوم؟

    ومن هنا ينبغي أن نتحلى بضمير، بعد شهر كامل من الإمساك، لأننا عانينا الجوع والعطش، لكي نتموضع موضع الذي لم يأكل في هذا اليوم، ولم يجد ما يلبس هذا اليوم. وإنه تذكير، فهذا اليوم، يوم عيد، حقا، ولكنه أيضا يوم يدعونا إلى استخلاص نتائج وإجراء تقييم من حولنا، في عالم اليوم، في عالمنا، الذي يتجه بالأحرى نحو المواجهة، وعدم التفاهم، صوب الصراع، في هذا العالم الهرمي، حيث تسحق النخبة أصحاب القاعدة، ويعتريه التفاوت بين الأغنياء والفقراء، إذ أن الأغنياء يزدادون ثراءا، والفقراء يدقعهم الفقر، وعولمة تعامل بمعيارين، تدمر البعض لإثراء أقلية، كل هذه الأسئلة، العيد أيضا يطرحها علينا. إنه احتفال بالنصر الذي أحرزناه على النفس، وتحضير لمواجهة العام القادم، مع كل الصعوبات التي يمر بها العالم.

    عيد مبارك سعيد. أراكم قريبا إن شاء الله.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق