الجمعة، 15 أكتوبر 2010

علاج النفس، الفصل الرابع: تربية الجوارح، البعد المقدس للطعام

البعد المقدس للطعام

    إن مصطلح "جوارح" في اللغة العربية، كلمة محتملة المعنى، يمكن أن نمنح لها عدة ترجمات باللغة الأجنبية، الجرح، الجارحة أو الجراحة أو التجريح. يجب أن نشير إلى ازدواجية هذا المصطلح، الذي يرجع بنا في آن واحد إلى معنى الجراحة و الجرح. تسمح لنا الجوارح بأن نكون على اتصال بالعالم، و أن نشيد أنفسنا، إلا أنها في نفس الوقت، تخضعنا للضعف و تعرضنا للآلام و عنف الآخرين. نفس الشيئ بالنسبة للطعام الذي نتناوله، قد يزيدنا قوة، أو يسبب لنا المرض أو التسمم. لهذا نصح الرسول صلى الله عليه و سلم بالإعتدال في الطعام اليومي "إياكم و البطنة فإنها تقسي القلب".
    تجعلنا تربية اليقظة في حال من الحذر، يؤدي بنا إلى التفطن لما هو أحسن للجسم و للنفس. عندما نعتبر المعدة حاسة بحد ذاتها يمكن تربيتها، فإن علاقتنا بالطعام ستتغير كلية، و يصبح الطعام عندئذ مصبغا بالقداسة، حيث أنه سيدخل و يندرج في هذا المعبد الحي، الذي هو الجسم. في هذا النطاق، تدفع بنا حرمة هذا المعبد، إلى اختيار الطعام الأكثر نفعا له. إذا كنا نتوخى الحذر في طعامنا، ليس بسبب المحظورات أو المحرمات، أو لتسكين الجوع، و لكن لاجتناب إختلال في البدن، الذي هو قاعدة و مركز الضمير، الذي يسكنه. الطعام طاقة تغذي الجسم، و أيضا طاقة تبقي حالة شعورنا في كامل نشاطه
   يساهم أدب الطعام و الطهارة الذي أتى به الإسلام، في تربية اليقظة، و توليد شعور بقدسية الجسم. تعطي بعض التمارين النسكية، إنطباع أن الجسم نجس، و رغم ذلك يبقى دائما، مكان إقامة الروح الإلهية. سواء كان الجسم حيا أو ميتا، و كيفما كانت طبيعة أعماله، سيبقى رمزا للنفس و الروح اللتان تنشطانه. فالإعتداء عليه، يعد اعتداء على خليقة الله.
     تصبح حواسنا وسائل يتغذى منها كل كائننا. الإستماع إلى قطعة موسيقية، و تأمل منظر طبيعي، و شم شذى زهرة و استنشاق رائحة طبق شهي، هي كلها طرق لتغذية روحنا و بدننا. تغذينا الجوارح على الدوام بما هو حسي و كذلك بما هو لطيف. ليس الغذاء ما يمر بفمنا أو يملأ بطننا فقط ، بل هو تلك الطاقة التي نتحصل عليها بطرق و أشكال مختلفة. غالبا ما يكون تصورنا للطعام محددا، في حين أننا نتلقى الطاقة التي تبقينا على قيد الحياة، من عدد وافر من الأطعمة، بقدر ما هي أرضية، و فكرية، و غرامية، فهي روحية.
يقول الصوفية "من ذاق عرف". في حين يعتبر الغزالي، الذوق الروحي، بمثابة تحول المعرفة إلى حال نفسي، يعرف المرء الشيئ أولا في كليته، ثم يعرفه في جزئياته، من خلال التجربة و الذوق، و عندئذ تصبح معرفة الشيئ بالنسبة إليه، حال نفس قد امتزج بسره.
    ترتكز مقاربات أخرى للتربية على إفقار الملكات الحسية، بل و كبحها بنمط حياة أو سيرة أخلاقية تخضع الحواس لمعايير صارمة و موحّدة. لا ندرك إلى أي مدى يجعلنا هذا النوع من التربية، ليس فقط معرضين لهجوم العالم، بل و غير مستقرين نفسيا، سواء على مستوى الشخص أو المجتمع. ذلك أن الفرد، يصبح غير واثق بحواسه، مفضلا التمسك بمعتقدات أو بقواعد أو بسلوك، يفرض على الجميع نمطا موحدا للفعل و الفكر.
    في المقابل، فإن في التقليد الصوفي، يُعرف الحلال بأنه كل ما يقربنا، و يدفع بنا نحو اكتساب النور الفطري، عن طريق الحرية و المسؤولية. أما الحرام، فهو ما يعرقلنا و يقيدنا بتقاليد و أنماط إجتماعية، علمانية أو دينية، تبعدنا عن الله. ليست الحواس في حد ذاتها حسنة أو قبيحة، فهي ملكات، يجب أن تطور بتربية إيقاظ، حتى يستنير تمييزنا، و نعرف السلوكيات التي ترجعنا إليه سبحانه و تعالى، و نجتنب السلوكيات التي تصرفنا عنه.
     يجب العلم، أن النية، هي التي تسمح أصلا، بالتمييز و التوضيح بين الحلال و الحرام. و عليه تبيح لنا الشريعة، عند الضرورة تناول أشياء كانت محظورة بالأمس، أو الإفطار عند خوف المشقة، أو حتى التقصير في الصلاة عند السفر.
    تندرج هذه الحرمة في إطار التجربة المعاشة، و لا يقتصر معناها على المجال الأدبي أو الفقهي. يوجد فويرق مهم، تجدر الإشارة إليه. لا يمكن الإعتماد على قاعدة "للضرورة أحكام"، كي نتجاوز المحظورات، و نتعدى على المحارم. يمكن ربط هذه الملاحظة، فيما يخص تحريم المخدرات، على سبيل المثال، فالشريعة تمنع استهلاكها لأنها وسيلة لفرار الواقع، من خلال تذوق سعادة وهمية، مفسدة بذلك حالات الشعور، كما أنها مضرة بصحة الإنسان. و لكن، يمكن إستعمالها في بعض الحالات لعلاج أمراض، و تخفيف آلام حسية. انطلاق من هنا، يبقى صدق النية، في آخر المطاف، الصلة الأساسية التي تصلنا بحال القداسة، و يبقينا في علاقة دائمة بها.
    ما دامت حواسنا معرضة دائما لكل أنواع التجارب، يجب عليها أن تبقى دائما يقظة، لكي لا يذهب هذا التعرض هباءا. تشتغل حواسنا ليلا نهارا، و تتلقى معلومات باستمرار. لكننا لا ننتفع إلا قليلا من عملها، حيث أن أكثرنا،  يجهل وجود تربية إيقاظ في متناول الجميع. نظن أن الأمر يتعلق بتعليم صعب التحصيل لتعقده و تجرده. ننسى أن هذه الحواس مسترعاة في المقام الأول بالتجربة الروحية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق