الثلاثاء، 19 أكتوبر 2010

علاج النفس، الفصل السادس: الحالات الثلاث للنفس، قصة الخضر مع موسى


قصة الخضر مع موسى

    قد نظن أن هذا الكائن الذي بلغ هذا المقام، لا يقوم بأي إساءة في نظرنا، إلا أن الأمر ليس دائما كذلك. قد يقوم الكائن المطمئن بأفعال تبدو أنها فاضحة. يروي القرآن (الآية 68 من سورة الكهف)، بالتفصيل قصة تعلّم موسى من الخضر عليهما السلام. أين تظهر أفعال هذا الأخير غير مفهومة و مثيرة للإنكار. 

    "فوجدا عبدا من عبادنا أتيناه رحمة من عندنا و علمناه من لدنا علما قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا. قال إنك لن تستطيع معي صبرا و كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا. قال ستجدني إن شاء الله صابرا و لا أعصي لك أمرا. قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيئ حتى أحدث لك منه ذكرا. فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها. قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا. قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال لا تؤاخذني بما نسيت و لا ترهقني من أمري عسرا. فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله. قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئيت أمرا نكرا. قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال إن سألتك عن شيئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه. قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا. قال هذا فراق بيني و بينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطيع عليه صبرا". (الكهف، 65-78).

-         يغرق السفينة و معها الصياد الذي حملهما، موسى و هو، بدون ما يطالبهما بمقابل، و يعلم أنها مصدر رزق وحيد له و لعائلته، و كعرفان له قام بإغراقها.
-         يقتل طفل و يرتكب جريمة، إنه الأمر أكثر شناعة.
-         يبني طوعا حائط في قرية أبى أهلها أن يضيفوهما، أو حتى إعطائهما كأس ماء. انزعج موسى و لم يفهم أفعال رفيقه.
    بقراءة هذه الآيات القرآنية يتضح مفهومان يبدو أنهما متعارضين: الشريعة (القانون) مجسدة من طرف سيدنا موسى الذي يمثل العدالة الزمنية، و المعرفة اللدنية التي يملكها سيدنا الخضر. يتبع موسى بدقة أحكام الشريعة التي تحكم على الفعل الظاهري حسب البينة. أدان أفعال الخضر من وجهة نظر شرعية، لأن معرفته محدودة في عالم الملك، و الخضر يعمل و يتلقى علمه و معرفته من عالم الملكوت. لا يهدم من أجل التهديم، و لكن بالعكس لتوقي شر مستقبلي، قام بهذا التصرف. فهو يمثل طريق العارفين الذين يتصرفون بإدراك روحي، و لا تحدهم القوانين التي تدير العالم الأرضي. سيبين الخضر لموسى لاحقا أسباب و آثار أفعاله. لقد أغرق الخضر السفينة ليمنع ملكا، محاربا من الإستيلاء عليها، ليعبر بجيشه لغزو بلد مجاور. بإغراقها في مياه أقل عمقا أبعدها عن أعين الغزاة، و أنقذ كذلك البلد المجاور و حتى الصياد نفسه. إذ لم يدمجه الملك قهرا في جيشه. إضافة إلى ذلك، فسفينته بقيت مخفية، مع إمكانية التوصل إليها، و يمكن إصلاحها بعدما يرحل الملك و جيشه.

    أما فيما يتعلق بقتل الطفل، فهذا الفعل يبدو إجراميا و في غاية الخطورة. و رغم ذلك فللخضر أسبابه. فقد رأى في الطفل كل الشرور التي سيقوم بها بعد بلوغه.
    فأما الجدار المبني فقد كان يحمي تحت أساسه كنزا مخفيا ، يملكه يتامى. لم يكن يريد سيدنا الخضر للجدار أن ينهار ويكتشف القرويين الغير مضيافين، الكنز. بإعادة بناء الحائط أعطى لليتامى الإمكانية، بأن يسترجوا كنزهم بأنفسهم عندما يكبرون.

    تبين لنا هذه القصة، كم يجب أن نكون حذرين من المظاهر، و نتحفظ من كل حكم أخلاقي مسبق. لم تكن إدانة موسى للأفعال الثلاثة للخضر منصفة في الظاهر، إلا أنها أصبحت كذلك، لما تبينت له الغاية منها.
    لنذهب أبعد من ذلك في التوضيحات التي توفرها لنا هذه القصة، بالنسبة لتاريخنا، و للوضع الحالي للإنسانية. نجدها تمنح نظرة أخرى. هل يمكننا إنقاذ شخص من أي خطر مستقبلي، إن لم يكن لدينا علم يقيني أو معرفة تبصرية؟ هل يحق لنا التصرف بطريقة وقائية و نتسبب في أضرار أقل، لتجنب ضرر أكبر؟ نحن أمام وضعية تدعونا إلى حذر و يقظة كبيرين و وعي عالي، و أن نكون فيها، متحررين من أي مصلحة شخصية، لها طموحات مكسبية محضة.

    فالوضعية الثانية تقودنا إلى التفكير حول المصير المدخر لكائنات بريئة، و لكنها تعتبر خطيرة في عيون البعض. لتغليب مصلحتهم الخاصة و مصلحة المجتمع، يفضلون الحكم عليهم بالعقاب قبل الأوان أو القضاء عليهم. هكذا في كل زمان و مكان عذب أناس أناسا آخرين، بحجة أنهم لا يتقاسمون معهم نفس القيم و المعتقدات. و لكن على أي قانون، و أي علم، و أي حقيقة، يستندون الذين يقومون بإبادات و مجازر؟ قد يبدو العمل الإجرامي لسيدنا الخضر مثيرا للإنكار، في نظر المعيار الأدبي العام، إلا أنه يضع حقيقة الإنسان، أمام نقائصها وتناقضاتها. ففي تاريخ الإنسانية، كم من بذرة سيئة قلعت و حطمت، قبل أوانها من طرف أشخاص معجبين بأنفسهم، و عديمي الذمة، غير مترددين في استخدام مصطلح المصلحة و الإيديولوجية أو الدين و الجنس في سبيل ذلك؟ لا يحق لأي إنسان أو مؤسسة أن يدعي الحق، على حياة أو ممات أمثاله، مهما كانت الأسباب المقدمة.

    ختاما، فإن المشكلة الأخيرة المطروحة من طرف شخصيتنا اللغز، تكمن في الحرص على الحفاظ، على ممتلكات الأجيال القادمة، حتى و لو كانت أجيال اليوم، تتصرف بطريقة غير مسئولة. لنتيقن أن حكيمنا من خلال الدروس التي قدمها لموسى، لم يرد سوى جعلنا نفكر في أفعالنا و تصرفاتنا، في وضعيات تبدو لأول وهلة بائنة لشدة وضوحها، و نقوم معتقدين أننا نحسن صنعا، بارتكاب المتعذر إصلاحه. 

    ها هو المعنى الذي تدعو إليه الإشارة القرآنية: اجتناب القيام بأقبح الأعمال، مبرئين ضمائرنا، حتى نكون في سلام مع أنفسنا. لكن في مقام النفس المطمئنة، يزول منظور الشر من أصله.  يجب أيضا أن لا نخلط القضية، فإن الأمر لا يتعلق بأن نكون بمثابة شاهد محايد، عما يحدث من حولنا. يبقى العمل في الدنيا واجبا.
 "من رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه و إن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان". حديث شريف.

    لا يزال هذا الحديث جد معاصر، يجب تغيير دائما الظلم و المنكر، و لكن الأهم، هو كيفية القيام بذلك. فطريقة معاجة الشر هي التي تتغير. و من ثمة، يجب العلم، بأننا لا نعالج شرا بِشَرّ.و هذا صالح بالنسبة لنا، و كذلك بالنسبة للمجتمع و البيئة اللذين نعيش فيهما. لا يمكن تغيير المنكر باستخدام منكر مماثل. بل نلجأ إلى استخدام الخير، و لو كان هذا الخير يعتبر في وقت من الأوقات أنه شر.

   على ضوء هذه القصة القرآنية، يجب أن نتحفظ عن الإستنتاجات المستعجلة، و عن الإدعاء بأن الغاية تبرر الوسيلة. حسب معارفنا الحالية، لا شيئ يجعلنا نجزم بعدم وجود طاقة، غير متوقعة في الإنسان تجعله قادرا على اكتشاف الطبيعة المخفية للأشياء، ربما سيتبين لنا ذلك مستقبلا، في يوم من الأيام. قصة سيدنا الخضر لغزا، يدعونا إلى البقاء متواضعين، أمام الحقائق الجديدة التي هي في طريق الاكتشاف. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق